ومن أظهر مظاهر عدله ومساواته أنّه عليه السلام في عصر حكومته وولايته، حضر مجلس القضاء، وجلس مع يهودي عند القاضي، فقد روى ابن وكيع في "أخبار القضاة": بإسناده عن معاوية، عن ميسرة، عن شرى، قال: لمّا توجّه عليّ عليه السلام إلى قتال معاوية افتقد درعاً له، فلمّا رجع وجدها في يد يهودي يبيعها بسوق الكوفة، فقال عليه السلام: 'يا يهودي، الدرع درعي، لم أهب ولم أبع'؟ فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال عليه السلام: 'بيني وبينك القاضي'.
إلى أن قال: قال عليه السلام: 'هذه الدرع درعي لم أبع ولم أهب'، فقال لليهودي: 'ما تقول؟'. قال: درعي وفي يدي، قال شريح: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنه؟ قال: 'نعم، الحسن ابني وقنبر يشهدان أنّ الدرع درعي'. قال شريح: يا أمير المؤمنين، شهادة الابن للأب لا تجوز. فقال عليّ عليه السلام: 'سبحان اللَّه، أرجل من أهل الجنّة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة'.
فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدّمني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، أشهد أنّ هذا الدين على الحقّ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك ليلاً، وتوجّه مع عليّ عليه السلام يقاتل معه بالنهروان، فقتل. [ أخبار القضاة 200:2].
روى ابن شهر آشوب عن "حلية الأولياء" و"نزهة الأبصار" أنّه مضى عليّ عليه السلام في حكومة إلى شريح مع يهوديّ، فقال لليهوديّ: 'الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب'. فقال اليهودي: الدرع لي وفي يدي، فسأله شريح البيّنة، فقال: 'هذا قنبر والحسين يشهدان لي بذلك'.
فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز لأبيه، وشهادة العبد لا تجوز لسيّده، وإنّهما يَجرّان إليك. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك - يا شريح - أخطأت من وجوه: أمّا واحدة فأنا إمامك، تدين اللَّه بطاعتي، وتعلم أنّي لا أقول باطلاً، فرددت قولي، وأبطلت دعواي، ثمّ سألتني البيّنة فشهد عبدي، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّة فرددتَ شهادتهما، ثمّ ادّعيت عليهما أنّهما يَجرّان إلى أنفسهما، أما إنّي لا أرى عقوبتك إلا أن تقضي بين اليهود ثلاثة أيّام! أخرجوه، فأخرجه إلى قبا، فقضى بين اليهود ثلاثاً، ثمّ انصرف، فلمّا سمع اليهودي ذلك، قال: هذا أمير المؤمنين جاء إلى الحاكم والحاكم حكم عليه، فأسلم، ثمّ قال: الدرع درعك، سقطت يوم صفّين من جمل أورق [ الأورق من الإبل: جمل في لونه بياض إلى سواد، وهو من أطيب الإبل لحماً لا سيراً وعملاً].
فأخذتُه. [ المناقب لابن شهرآشوب 105:2، والبحار 56:41، فقد مرّ صورة اخرى في فصل 'علي "ع" و العدل'].
أقول: هذا العمل من عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو حاكم المسلمين في ذلك العصر، يدلّ على الديمقراطيّة الكاملة في حكومته، فهل يمكن أن يُرى مثل هذا في عصرنا هذا في بلاد العالم المدّعي للديمقراطيّة؟
أرسل عليه السلام كتاباً إلى عمر بن أبي سَلَمَة الأرحبي يوبّخه فيه لشدّته مع أهل الذمّة من دهاقين [ الدهاقين: جمع دهقان، رئيس القرية أو الإقليم، وتُطلق على التجّار وأرباب الأملاك].
فارس، جاء فيه: 'أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وَقَسْوَةً، وَاحْتِقَاراً وَجَفْوَةً، وَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلاً لَأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقْصَوْا وَيُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسَ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُهُ بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ، وَدَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ وَالْإِدْنَاءِ، وَالْإِبْعَادِ وَالْإِقْصَاءِ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ'. [ راجع شرح ابن أبي الحديد 137:15، وشرح نهج البلاغة للخوئي 322:18، و نهج البلاغة الكتاب 19].
عن الفاضل البحراني في شرحه على نهج البلاغة ذيل الخطبة، قال: والمنقول أنّ هؤلاء الدهاقين كانوا مجوساً، ولمّا شكوا إليه غلظة عامله، فكّر في اُمورهم، فلم يرهم أهلاً للإدناء الخالص لكونهم مشركين، ولا إقصاءهم لكونهم معاهدين، فإنّ إدناءهم وإكرامهم خالصاً هضم ونقيصة في الدين، وإقصاءهم بالكلّية ينافي معاهدتهم، فأمره بالعدل فيهم، ومعاملتهم باللين المشوب ببعض الشدّة كلٌّ في موضعه، وكذلك استعمال القسوة مرّة والرأفة اُخرى، والمزج بين التقريب والإبعاد لما في طرف اللين والرأفة والتقريب من استقرار قلوبهم في أعمالهم وزراعاتهم التى بها صلاح المعاش، وما في مزاجها بالشدّة والقسوة والإبعاد، من كسر عاديتهم، ودفع شرورهم، وإهانتهم المطلوبة في الدين، واستلزام ذلك نهيه عن استعمال الشدّة والقسوة والإبعاد في حقّهم دائماً، واللين والرأفة والإدناء خالصاً، واستعار لفظ الجلباب لمّا أمره بالاتّصاف به، وهو تلك الهيئة المتوسّطة من اللين المشوب بالشدّة بين اللين الخالص والشدّة الصرفة'. [ شرح نهج البلاغة لفاضل البحراني 398:4].
أقول: نستنتج من مجموع الفصل أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يغفل عن مراعاة حقوق أهل الذمّة من اليهود والنصارى والمجوس الّذين كانوا تحت ذمّة الإسلام رغم قصر فترة حكومته الّتي دامت خمس سنوات، انقضت بالاختلافات الداخليّة والمنازعات مع المارقين والقاسطين والناكثين. وهذا يدلّ على تصرّف ديمقراطي عادل لم تصله أو تطبّقه أرقى النظم الّتي تدّعي الديمقراطيّة في الوقت الحاضر، آملين من الحكومات الإسلاميّة ومحبّي الإسلام العزيز أن يجعلوا من تصرّف أمير المؤمنين عليه السلام في حكومته قدوةً لهم لكي ينبّهوا غير المسلمين لعدالة وسماحة ديننا الحنيف، وعندما يُدركون ذلك عمليّاً يتوجّهون بقلوب عاشقة ملؤها الحبّ والإخلاص للإسلام العزيز، والسلام.
عن عليّ عليه السلام، قال: 'دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا عليّ، إنّ فيك من عيسى مثلاً، أبغضته اليهود حتّى اتّهموا اُمّه، وأحبّته النصارى حتّى أنزلوه بالمنزل الّذي ليس به'.
فرائد السمطين للجويني 173:1، الحديث 134
كان عليّ عليه السلام مظهر العدالة، مظهر صفات اللَّه، وكان جامعاً للصفات الحسنة، فهو مغيث الفقراء وسندهم، وهو حاكم المجتمع العادل، كان يقسّم ما في بيت المال بالسويّة مساوياً بين أسودهم وأبيضهم، عربهم وعجمهم، ساداتهم ومواليهم.
كان عابد الليل، وشجاع النّهار.. كان شجعان ذلك العصر يخضعون له ويركعون أمامه ويهابونه، ورغم شجاعته هذه فإنّه كان يئنّ لبكاء اليتيم، ولا يتمالك نفسه أمامه.. كان عليّ عليه السلام ثابتاً على الصراط المستقيم، متفانياً في سبيل اللَّه، ولا تأخذه في اللَّه لومة لائم.
لقد كانت كلّ صفات جلاله وعظمته هذه تبهر عيون الناظرين، وتسلب لباب المتفكّرين فيه، فغبطه ضعاف الإيمان، وأوغل جماعة منهم في الانحراف عنه والبغض له، حتّى شهروا السيوف بوجهه وقاتلوه، وأشعلوا نيران الحروب ضدّه، وغلا فيه آخرون كانوا لم يعرفوا اللَّه حقّ معرفته، فاعتقدوا بأنّ عليّاً عليه السلام هو اللَّه!
لم يكن عليّ عليه السلام هو اللَّه، وإنّما كان عبداً من عباد اللَّه الصالحين، وإمام المسلمين، وحجّة اللَّه ربّ العالمين، عاملاً بكتاب اللَّه المبين، وسنّة النبيّ صلى الله عليه و آله، لا يعصي اللَّه ولا يخالفه، يكرم العباد الّذين اتّقوا، ويغلظ على المارق والنكاث والقاسط كما وصف القرآن مولاة النبيّ الأعظم وأصحابه 'أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ' [ سورة الفتح: 29].
فإذا رأى الغالي يقول فيه ما ليس فيه يستتيبه، فإن لم يتب عاقبه أشدّ العقوبة، هكذا كان حال مع الغلاة.
قال ابن أبي الحديد في سبب نشأة الغلاة: وبمقتضى ما شاهد النّاس من معجزاته وأحواله المنافية لقوى البشر، غَلَا فيه مَن غلا، حتّى نُسِب إلى أنّ الجوهَر الإلهي حلّ في بدنه، كما قالت النصارى في عيسى عليه السلام، وقد أخبره النبيّ صلى الله عليه و آله بذلك، فقال: 'يهلك فيك رجلان: محبٌّ غالٍ، ومبغضٌ قالٍ'.
وقال له تارة اُخرى: 'والّذي نفسي بيده، لولا أنّي أشفِق أن تقول طوائف من اُمّتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم، لقلت فيك مقالاً لا تمرّ بملأ من النّاس إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة'. [ شرح ابن أبي الحديد 4:5، ذيل خطبته عليه السلام: 58 و 59].
أقول: لمّا أخبر الإمام عليه السلام بملأ من أصحابه في الخوارج قبل وقوع الحرب، وقال: 'مَصارِعُهُم دُونَ النُّطْفَةِ "ماءِ النّهر"، واللَّهِ! لا يُفلِتُ مِنْهُم عَشَرَةٌ، ولا يَهلكُ مِنكُمْ عَشَرَةٌ'. [ شرح نهج البلاغة: الخطبة 59].
قال ابن أبي الحديد: ووقع الأمر بعد الحرب بما قاله عليه السلام من غير زيادة ونقصان، وذلك أمرٌ إلهيٌّ عرفه من جهة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله،وعرفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من جهة اللَّه سبحانه، والقوّة البشريّة تقصر عن إدراك مثل هذا، ولقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره. [ انظر شرح ابن أبي الحديد 4:5].
قال الشارح المعتزلي: وأوّل من جهر بالغلوّ في أيّامه عليه السلام عبدُاللَّه بن سبأ، قام إليه وهو يخطب: فقال له: أنتَ، أنتَ، وجعل يكرّرها. فقال له: 'ويلك! مَن أنا؟'. فقال: أنت اللَّه، فأمر بأخذه و أخذ قومٍ كانوا معه على رأيه.
وروى أبو العبّاس أحمد بن عبيداللَّه، عن عمّار الثقفي، عن عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي، عن أبيه وعن غيره من مشيخته، أنّ عليّاً عليه السلام قال: 'يهلك فيّ رجلان، محبّ مُطرٍ يضعني غير موضعي، ويمدحني بما ليس فيَّ، ومبغض مفتر يرميني بما أنا منه بري ءٌ'.
وقال أبو العبّاس: وهذا تأويل الحديث المروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله فيه، وهو قوله صلى الله عليه و آله: 'إنّ فيك مثلاً من عيسى بن مريم، أحبّته النصارى فرفعته فوق قدره، وأبغضته اليهود حتّى بهتت اُمّه'. [ شرح ابن أبي الحديد 5:5].
وفي الوسائل: عن رجال الكشّي، بإسناده عن عبداللَّه بن سنان، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: 'إنّ عبداللَّه بن سبأ كان يدّعي النبوّة، وكان يزعم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو اللَّه - تعالى عن ذلك - فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام فدعاه فسأله فأقرّ، وقال: نعم أنت هو، وقد كان اُلقي في روعي أنّك أنتَ اللَّه وأنا نبيّ. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'ويلك، قد سخر منك الشيطان، فارجع على هذا - ثكلتك اُمّك - وتب'، فأبى، فحبسه، واستتابه ثلاثة أيّام فلم يتب، فأخرجه فأحرقه بالنّار. [ وسائل الشيعة 554:18].
نقل الشارح المعتزلي عن أبي العبّاس، قال: وقد كان عليّ عليه السلام عثر على قوم خرجوا من محبّته باستحواذ الشيطان عليهم، إلى أن كفروا بربّهم، وجحدوا ما جاء به نبيّهم، واتّخذوه ربّاً وإلهاً، وقالوا: أنت خالقنا ورازقنا، فاستتابهم وتوعّدهم، فأقاموا على قولهم، فحفر لهم حفراً دخّن عليهم فيها، طمعاً في رجوعهم، فأبوا، فحرقهم بالنّار، وقال:
'ألا تَرَوْن قَدْ حَفَرْتُ حفَراً*** إنّي إذَا رأيْتُ أمراً مُنْكَرا
أوقدت ناري ودعوتُ قنبرا
وروى أصحابنا في كتب المقالات: أنّه لمّا أحرقهم صاحوا إليه: الآن ظهر لنا ظهوراً بيّناً أنّك أنت الإله؛ لأنّ ابن عمّك الّذي أرسلته قال: 'لا يُعذِّب بالنّار إلا ربُّ العالمين' [ شرح ابن أبي الحديد 5:5].
وفي "الوسائل": عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهماالسلام: 'أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا فرغ من أهل البصرة أتاه سبعون رجلاً من الزطّ، فسلّموا عليه وكلّموه بلسانهم، فردّ عليهم بلسانهم، ثمّ قال: إنّي لستُ كما قلتم، أنا عبد اللَّه مخلوق، فأبوا عليه، وقالوا: أنتَ هو. فقال عليه السلام: لئن لم تنتهوا وترجعوا عمّا قلتم فيّ وتتوبوا إلى اللَّه لأقتلنّكم، فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا، فأمر أن تحفر لهم آبار فحفرت، ثمّ خرق بعضها إلى بعض، ثمّ قذفهم فيها، ثمّ خمّر رؤوسها ثمّ اُلهبت النار في بئر منها ليس فيه أحد منهم فيدخل عليهم الدخان فيها فماتوا'. [ وسائل الشيعة 553:18].
وفي "شرح ابن أبي الحديد": عن عليّ بن محمّد النوفلي، عن أبيه، عن مشيخته: أنّ عليّاً عليه السلام مرّ بهم وهم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال: 'أسفر أم مرضى؟' قالوا: ولا واحدة منهما، قال: 'أفمن أهل الكتاب أنتم؟'، قالوا: لا، قال: 'فما بال الأكل في شهر رمضان نهاراً؟!'، فقالوا: أنتَ، أنتَ! لم يزيدوه على ذلك، ففهم مرادهم، فنزل عليه السلام عن فرسه فألصق خدّه بالتراب، ثمّ قال: 'ويلكم! إنّما أنا عبدٌ من عبيد اللَّه، فاتّقوا اللَّه وارجعوا إلى الإسلام'، فأبوا، فدعاهم مراراً، فأقاموا على أمرهم، فنهض عنهم ثمّ قال: 'شدّوهم وثاقاً، وعلَيَّ بالفعلة والنّار والحطب'، ثمّ أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل أحدهما سَرَباً [ السرب - بفتحتين -: الحفير تحت الأرض].
والاُخرى مكشوفة، وألقى الحَطب في المكشوفة، وفتح بينهما فتحاً، وألقى النّار في الحطب، فدخّن عليهم، وجعل يهتف بهم، ويناشدهم: 'ارجعوا إلى الإسلام'، فأبوا، فأمر بالحطب والنّار، وألقى عليهم، فاحترقوا، فقال الشاعر:
لِترَمِ بِيَ المنيةُ حيثُ شاءت*** إذا لَم تَرمِ بي الحُفرتَين
إذا ما جُشّتا حطباً بنارٍ*** فذاك الموتُ نقداً غيرَ دَينٍ
قال: فلم يبرح واقفاً عليهم حتّى صاروا حُمَماً. [ شرح ابن أبي الحديد 6:5].
وروى محبّ الدين الطبري بسنده عن عبداللَّه بن شريك العامري، عن أبيه، قال: اُتي عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقيل له: إن هاهنا قوماً على باب المسجد يزعمون أنّك ربّهم، فدعاهم، فقال لهم 'ويلكم، ما تقولون؟'. قالوا: أنت ربّنا وخالقنا ورازقنا.
قال: 'ويلكم، إنّما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعته أثابني إن شاء اللَّه تعالى. وإن عصيت خشيت أن يعذّبني، فاتّقوا اللَّه وارجعوا'، فأبوا فطردهم، فلمّا كان من الغد غدوا عليه، فجاء قنبر، فقال: واللَّه رجعوا يقولون ذاك الكلام، قال: 'أدخلهم علَيَّ'، فقالوا له مثل ما قالوا، وقال لهم مثل ما قال، وقال لهم: 'إنّكم ضالّون مفتونون'، فأبوا. فلمّا أن كان اليوم الثالث أتوه، فقالوا له مثل ذلك القول، فقال: 'واللَّه! لئن قلتم ذلك لأقتلنّكم أخبث قتلة'، فأبوا إلا أن يموتوا على قولهم، فخدّ لهم اُخدوداً بين باب المسجد والقصر، وأوقد فيه ناراً، وقال: 'إنّي طارحكم فيها أو ترجعون'، فأبوا، فقذف بهم فيها. [ ذخائر العقبى: 93].
و فى الاحقاق عن كتاب "البدء والتاريخ" في بيان الفرق، قال: وفرقة تغلو غلوّاً شديداً، وتقول قولاً عظيماً، وهم أصحاب عبداللَّه بن سبأ، يقال لهم: السبأئيّة، قالوا لعليّ عليه السلام: أنتَ إله العالمين، أنتَ خالقنا ورازقنا، وأنت محيينا ومميتنا، فاستعظم عليّ عليه السلام ذلك من قولهم وأمر بهم فاُحرقوا بالنّار، فدخلوا النّار وهم يضحكون ويقولون: الآن صحّ لنا أنّك إله؛ إذ لا يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار، وزعم إخوانهم بعد ذلك أنّهم لم تمسّهم النّار، وإنّما صارت عليهم برداً وسلاماً، كما صارت على إبراهيم عليه السلام وعند ذلك قال:
'إنّي إذا رأيت أمراً منكرا*** أجّجتُ ناراً ودعوت قنبرا'
[ عن الإحقاق 646:8].
وفي "فرائد السمطين": بسنده عن عثمان بن المغيرة، قال: كنت عند عليّ بن أبي طالب عليه السلام جالساً، فجاءه قوم فقالوا: أنتَ هو! قال: 'مَن أنا؟'، فقالوا: أنت هو، قال: 'مَن أنا؟'، قالوا: أنت ربّنا! فاستتابهم فأبوا ولم يتوبوا، فضرب أعناقهم، ودعا بحطب ونار فأحرقهم وجعل يرتجز ويقول:
'إنّي إذا رأيت أمراً منكراً*** أوقدتُ ناري ودعوت قنبرا'
[ فرائد السمطين 174:1، ح 136].
ما جرى على عبداللَّه بن سبأ ونهاية أمر الغلاة
[ اعتبر كثير من المحقّقين والباحثين - منهم السيّد المرتضى العاملي والدكتور طه حسين المصري - أن عبداللَّه بن سبأ مجرّد اُسطورة لا وجود لها، وضعها المخالفون لعليّ عليه السلام للنيل منه ومن شيعته، ونسبة نشوء التشيّع إلى عبداللَّه بن سبأ، ولكن بعض المحققين كابن ابى الحديد، اعتبر عبداللَّه بن سبأ و قال: انّه رأس الغلاة و قال فيه ما قال فى المتن عن أبي العباس.
]
في "شرح ابن أبي الحديد": عن أبي العبّاس، قال: ثمّ إنّ جماعة من أصحاب عليّ، منهم عبداللَّه بن عبّاس شَفَعُوا في عبداللَّه بن سبأ خاصّة، وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنّه قد تاب فاعفُ عنه، فأطلقه بعد أن اشترط عليه ألا يُقيمَ بالكوفة، فقال: أين أذهب؟ قال عليه السلام: 'المدائن'، فنفاه إلى المدائن.
فلمّا قُتل أمير المؤمنين عليه السلام أظهر مقالته، وصارت له طائفةٌ وفرقةٌ يُصدّقونه ويتّبعونه، وقال لمّا بلغه قتلُ عليّ عليه السلام: واللَّه! لو جئتمونا بدماغه في سبعين صُرّة، لعلمنا أنّه لم يمت، ولا يموت حتّى يسوق العربَ بعصاه، فلمّا بلغ ابن عبّاس ذلك قال: لو علمنا أنّه يرجع لما تزوّجنا نساءه، ولا قَسَمْنا ميراثه.
قال أصحاب المقالات: واجتمع إلى عبداللَّه بن سبأ بالمدائن جماعة على هذا القول، منهم: عبداللَّه بن صبرة الهمداني، وعبداللَّه بن عمرو بن حرب الكندي، وآخرون غيرهما، وتفاقم أمرهم، وشاع بين النّاس قولهم، وصار لهم دعوة يدعُون إليها، وشُبهة يرجعون إليها، وهي ما ظهر وشاع بين النّاس من إخباره بالمغيّبات حالاً بعد حال، فقالوا: إنّ ذلك لا يمكن أنْ يكون إلا من اللَّه تعالى، أو مَن حَلَّتْ ذاتُ الإله في جَسده.
ولعمري إنّه لا يقدر على ذلك إلا بإقدار اللَّه تعالى إيّاه عليه، ولكن لا يلزم من إقداره إيّاه عليه أن يكون هو الإله، أو تكون ذات الإله حالّة فيه، وتعلّق بعضُهم بشبهة ضعيفة، نحو قول عمر، وقد فقأ عليّ عليه السلام عين إنسان ألحدَ في الحرم: ما أقول في يد اللَّه، فقأت عيناً في حرم اللَّه!
ونحو قول عليّ عليه السلام: 'واللَّه! ما قلعتُ باب خيبر بقوّة جسدانيّة، بل بقوّة إلهيّة'.
ونحو قولِ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لا إله إلا اللَّه وحدَهُ، صَدقَ وعده، ونصر عَبده، وهزم الأحزاب وحده'، والّذي هزم الأحزاب هو عليّ بن أبي طالب؛ لأنّه قتل شجاعهم وفارسَهم عَمراً، لمّا اقتحموا الخندق، فأصبحوا صبيحة تلك الليلة هاربين مغلوبين من غير حربٍ سوى قتل فارسهم. [ شرح ابن أبي الحديد 6:5].
سيرة عليّ مع المخالفين من عمّاله و ولاته
قال عليّ عليه السلام: 'أيّما والٍ احتجب عن حوائج النّاس احتجب اللَّه عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هديةً كان غلولاً، وإن أخذ رشوةً فهو مشرك'. عقاب الأعمال للصدوق: 310
كلمة في سيرة عليّ مع المخالفين من عمّاله
كان عليّ عليه السلام حاكماً بالحقّ عادلاً، وما الحكومة لديه إلا أمانة وليست مسرحاً للاستغلال وآلة لتحقيق المآرب، فهو يخاطب الأشعث بن قيس عامله على أذربايجان، ويقول: 'وإنّ عملك ليس لك بطعمة، ولكنّه في عنقك أمانة'. [ شرح نهج البلاغة لفيض الإسلام: 830، الكتاب 5].
ومن المتيقّن أنّ عليّاً عليه السلام كان ينصب الولاة من أجل خدمة المجتمع وإدارة النظام الإسلامي على أحسن وجه، والرأفة بالرعيّة وتأمين الرفاه لهم، ولم يكن عليّ ليأخذ القرابة بنظر الاعتبار، أو ينصب فلاناً بدافع العلاقات العائليّة والرحميّة أبداً...
لم يكن يتّبع الألاعيب السياسيّة وسيلة لبقائه في الحكم أطول مدّة ممكنة، ولم يكن يتأثّر بالشائعات والأوضاع المفتعلة، ولم يستسلم أمام الضغوط، وإنّما كان يجعل اللَّه نصب عينيه، ولا يفكّر إلا في مصلحة الرعيّة، فعندما يرى أنّ المصلحة تقتضي عزل معاوية فإنّه يصدر الأمر بعزله بالرغم من ممانعة من حوله وطلبهم منه إبقاءه في منصبه، فهو لم يرضخ لمطالبهم حتّى وإن أدّى الأمر إلى اشتعال نار الحرب وأدّى ذلك إلى مقتله. فهو كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حقه: 'عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ'. فحيثما كان الحقّ كان عليّ، بل حيثما كان عليّ كان الحقّ، فلم يكن يرضى أن يظلم حاكم الرعيّة، وما أن يعلم أنّ حاكماً قد ظلم في حكمه حتّى يعزله عن الولاية والحكومة، وربّما وبّخه على فعله، وقد يحبسه ويعزّره، ليعلم جميع الحكّام في البلاد الإسلاميّة أنّ عليّاً لا يرضى إلا برضى اللَّه، وما يؤمّن مصلحة المجتمع ولا يحبّ غير ذلك.
وترى حاله يتغيّر في بعض الأحيان إذا ما سمع بأنّ أحد عمّاله قد ظلم، فيتوجّه إلى اللَّه تعالى طالباً منه العفو والمغفرة، وأنّه لم يرسله ليظلم النّاس إنّما بعثه ليعدل بينهم.
كان عليّ عليه السلام عادلاً، وكان يتّخذ قراره بما يناسب حجم مخالفة عمّاله، فإذا رأى أنّ هذه المخالفة بسيطة قد يكفيها التذكير والموعظة فعل ذلك، كما فعل ذلك مع عثمان بن حنيف، حيث اكتفى بإرسال كتاب له، وإن كان البعض يرى أنّه عزله عن منصبه.
وإذا ما اتّبعت الحكومات الإسلاميّة - الّتي تدّعي التزامها بالإسلام - سيرة عليّ عليه السلام مع المخالفين من عمّاله فيثيبوا العامل الخدوم، ويعاقبوا المخالف المؤذي للنّاس، فإنّ المسلمين لا يبقون اُسارى رتابة الدوائر، حيارى لا يعرفون ماذا عليهم أن يفعلوا، وما هو الطريق الواجب اتّباعه لتتمّ معاملاتهم، ولما سارت اُمورهم بهذا البطء.
كان عليّ يأمر عمّاله بالرأفة ويحذّرهم من الخيانة
روى العلامة الزمخشري في "ربيع الأبرار" قال: وقال عليّ عليه السلام لعامله: 'انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَلَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً، وَلَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ، فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ، ثُمَّ امْض ِ إِلَيْهِمْ بَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَلَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ، ثُمَّ تَقُولَ: عَبَادَ اللَّهِ، أَرْسَلنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ، لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ، فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا، فَلَا تُرَاجِعْهُ، وَإِنْ أَ نْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ، فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَإَنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ، فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَلَا عَنِيفٍ بِهِ. وَلَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَلَا تُفْزِعَنَّهَا، وَلَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا'.
و روى الزمخشري أيضاً: وقال عليه السلام للأشتر حين ولاه مصر: 'وَاجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَواضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدَ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ، حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ [ التعتعة في الكلام: التردّد فيه من حصر أو عيّ، والمراد غير خائف].
فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: 'لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ'. ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ [ العِي - بالكسر -: العجز عن النطق].
وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ [ الضيق: ضيق الصدر لسوء الخلق].
وَالْأَنَفَ [ الأنف - بحركة - الاستنكاف والاستكبار].
يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ [ أكناف رحمته: أطرافها].
وَيُوجِبُ لَكَ ثَوابَ طَاعَتِهِ'. [ ربيع الأبرار 78:3].
في "نهج البلاغة": من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قومٍ من أهلها فمضى إليها: 'أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْفٍ: فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ. وَمَا ظَنَنْتُ أَ نَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ، وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ. فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنَتَ بِطِيب وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ.
أَ لَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ؛ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَ لَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ. فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً'.
إلى أن قال: 'وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ. وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ - وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ الَْيمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْص ِ، وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ - أَوْ أَبِيِتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى، أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ*** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تحِنّ إلى الْقِدِّ
أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْش ِ!' الحديث. [ نهج البلاغة: الكتاب 45].
وفي تعليقة "إحقاق الحقّ" روى عن الهمداني في "ذخيرة الملوك": أنّ عليّاً عليه السلام عزله عن الحكومة. [ الإحقاق 549:8، وقد مرّ بيان معاني كلمات الحديث في فصل: "عليّ عليه السلام والعدل"، فراجعها].
فتأمّل في هذا الكتاب الشريف، وانظر إلى سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في مطعمه وملبسه حينما كان متصدّياً للولاية العامّة، وكانت في قبضته الأموال العامّة وبيت مال المسلمين، وانظر إلى أنّه مع كون المسافة بين الكوفة والبصرة مسافة بعيدة، ولم تكن توجد في تلك العصور ما يوجد اليوم من أجهزة الاتّصالات، كيف كان أمير المؤمنين يتطلّع على أحوال اُمرائه وعمّاله، وكيف كان يناقشهم في اُمور جزئيّة تبلغه عنهم.
في "الفصول المهمّة" لابن الصبّاغ المالكي: بسنده عن سودة بنت عمارة الهمدانيّة "رحمة اللَّه عليها": أنّها قدمت على معاوية بعد موت عليّ عليه السلام، فجعل معاوية يؤنّبها على تعريضها [ كذا في المصدر، والظاهر أنّه: تحريضها].
عليه في أيّام قتال صفّين ثمّ إنّه قال لها: ما حاجتك؟ فقالت: إنّ اللَّه تعالى مسائلك عن أمرنا، وما فرض عليك من حقّنا، وما فوّض إليك من أمرنا، ولا يزال يقدم علينا من قِبلك من يسمو بمقامك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف، ويذيقنا الحتف، هذا بُسر بن أرطأة قد قدم علينا فقتل رجالنا، وأخذ أموالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فإن عزلته عنّا شكرناك، وإلا فإلى اللَّه شكوانا.
فقال معاوية: إيّاي تعنين، ولي تهدّدين بقومك! لقد هممت - يا سودة - أن أحملك على قتب أشوس فأردّك إليه، فينفّذ حكمه فيك، فأطرقت - سودة - ثمّ أنشأت تقول:
صلّى الإله على جسم تضمّنه*** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلاً*** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
فقال معاوية: مَن هذا يا سودة؟ فقالت: هذا واللَّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا، فجار علينا، فصادفته قائماً يريد صلاة، فلمّا رآني انفتل من صلاته، ثمّ أقبل علَيَّ بوجه طلق، ورحمة ورفق، وقال: 'لك حاجة؟'، فقلت: نعم، وأخبرته بالأمر، فبكى، ثمّ قال: 'اللّهمّ أنت الشاهد علَيَّ وعليهم، إنّي لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقّك'، ثمّ أخرج من جيبه قطعة جلد وكتب فيها: بسم اللَّه الرحمن الرحيم 'قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ' [ سورة الأعراف: 85].
وإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملك حتّى نقدم عليك مَن يقبضه، والسلام'، ثمّ دفع إلَيَّ الرقعة، فجئت بالرقعة إلى صاحبه، فانصرف عنّا معزولاً.
فقال معاوية: اكتبوا لها بما تريد، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية. [ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي:129، وسفينةالبحار 671:1،و راجع الاستيعاب بهامش الاصابة 48:3].
و قد ذكرنا هذه القصة في فصل 'عليّ عليه السلام و اعانة المظلوم و اغاثة الملهوف' و في فصل 'عليّ عليه السلام و اصحابه الكرام' كما سيأتي.
اخذه الهدية من عامله وجعلها في بيت المال
روى ابن وكيع في "أخبار القضاة" بسنده عن عليّ بن ربيعة: أنّ عليّاً عليه السلام استعمل رجلاً من أسد يقال له: ضبيعة بن زهير، فلمّا قضى عمله أتى عليّاً بجراب فيه مال، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ قوماً يهدون لي حتّى اجتمع منه مال، فها هوذا؟ قال: فإنكان لي حلال أكلته، وإنكان غير ذاك فقد أتيتك به؟ فقال عليّ عليه السلام: 'لو أمسكته لكان غلولاً'، فقبضه منه وجعله في بيت المال. [ أخبار القضاة 59:1].
روى ابن الاخوة في "معالم القربة في أحكام الحسبة"، قال: يحكى أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء ساعةً من نهار ثمّ عزله، فقال له: لِمَ عزلتني، فواللَّه ما خنت ولا خوّنت؟ قال عليه السلام: 'بلغني أنّ كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك'. [ معالم القربة في أحكام الحسبة: 203، نقلاً عن الإحقاق 548:8].
في "مستدرك الوسائل": أنّه عليه السلام استدرك على ابن هرمة خيانةً، وكان على سوق الأهواز، فكتب عليّ عليه السلام إلى رفاعة: 'فإذا قرأت كتابي هذا فنحِّ ابن هرمة عن السوق، فأوقفه للنّاس واسجنه، وناد عليه واكتب إلى أهل عملك لتعلمهم رأيي، ولا تأخذك فيه غفلة ولا تفريط فتهلك عند اللَّه عزّ وجلّ من ذلك، وأعزلك أخبث عزلة، واُعيذك باللَّه من ذلك، فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن فاضربه خمسة وثلاثين سوطاً، وطُف به في الأسواق، فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهده، وادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، ومُر به إلى السجن مهاناً مقبوضاً، واحزم رجليه بحزام، وأخرجه من وقت الصلاة، ولا تحل بينه وبين مَن يأتيه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش، ولا تدع أحداً يدخل إليه ممّن يلقّنه اللدد ويرجيه الخلاص، فإن صحّ عندك أنّ أحداً لقّنه ما يَضرُّ به مسلماً فاضربه بالدرّة واحبسه حتّى يتوب، ومُر بإخراج أهل السجن إلى صحن السجن ليتفرّجوا غير ابن هرمة، إلا أنّ تخاف موته، فتخرجه مع أهل السجن إلى الصحن، فإن رأيت له طاقة أو استطاعة فاضربه بعد ثلاثين يوماً خمسة وثلاثين سوطاً بعد الخمسة وثلاثين سوطاً الاُولى، واكتب إليَّ بما فعلت...'. [ مستدرك الوسائل 207:3].
سيرة عليّ مع التجّار و أصحاب الحرف
عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول على المنبر: 'يا معاشر التجّار، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، واللَّه للربا في هذه الاُمّة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا أيمانهم بالصدق. التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلا مَن أخذ الحقّ وأعطى الحقّ'. الكافي 150:5
نبذة من الأخبار الواردة في مدح التجارة
اعلم أنّ التجارة شغل شريف لكونها وسيلة لتبادل الموادّ الأوّليّة والمنتجات الصناعيّة والمحاصيل الزراعيّة والحيوانيّة، وهذا التبادل ركن الحياة الاجتماعيّة ونظام الحيويّة المدنيّة، ولذا وردت في مدحه أخبار كثيرة، وحُثّ عليها في الشرع الإسلامي وذمّ تاركها، ونشير هنا إلى نبذة من الأخبار في المقام رعاية للاختصار:
1- في "الخصال": بسنده عن عبدالمؤمن الأنصاري، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: البركة عشرة أجزاء، تسعة أعشارها في التجارة، والعُشر الباقي في الجلود'. قال الصدوق: يعني بالجلود: الغنم. [ الخصال 445:2، باب العشرة، ح 44، وسائل الشيعة 3:12].
2- وفي "الوسائل": عن عليّ عليه السلام في حديث الأربعمائة، قال: 'تعرّضوا للتجارات، فإنّ لكم فيها غنىً عمّا في أيدي النّاس، وإنّ اللَّه عزّ وجلّ يحبّ المحترف الأمين، المغبون غير محمود ولا مأجور'. [ وسائل الشيعة 4:12].
3- وفي "الكافي": عن الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللَّه'. [ الكافي 88:5].
4- وفيه أيضاً: عن فضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي قد كففتُ عن التجارة وأمسكت عنها. قال: 'ولِمَ ذلك، أعجز بك؟ كذلك تذهب أموالكم، لا تكفّوا عن التجارة، والتمسوا من فضل اللَّه عزّ وجلّ'. [ الكافي 149:5، ووسائل الشيعة 7:12].
وكفى في فضل التجارة أنّها كانت شغل النبيّ صلى الله عليه و آله قبل أن يبعث نبيّاً عليه السلام، فقد سافر إلى الشام في التجارة مع عمّه أبي طالب ثمّ صار عاملاً لخديجة بنت خويلد، وسافر إلى الشام للتجارة مرّة اُخرى، وقد اُعجبت بتجارته وأمانته، فطلبت منه أن يتزوّجها.
عهده إلى مالك الأشتر في أمر التجّار وأصحاب الحرف
حينما ولي عليّ عليه السلام الحكومة توجّه إلى أهل السوق والتجّار وذوي الصناعات، يوصيهم بما هو من صحيح واجبهم، وكذا يوصي ولاته برعاية حقوقهم، والمنع عن الخلاف، وفي عهده عليه السلام المعروف إلى مالك الأشتر النخعي، قال: 'ثُمَّ اسْتَوْص ِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً: الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَالْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ [ المضطرب بماله: المتردّد به بين البلدان].
وَالْمُتَرَفِّقِ [ المترفّق: المكتسب].
بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ، وَأَسْبَابُ الْمَرَافِقِ [ المرافق: ما ينتفع به من الأدوات والآنية].
وَجُلابُهَا مِنَ الْمَباعِدِ وَالْمَطَارِحِ [ المطارح: الأماكن البعيدة].
فِي بَرِّكَ وَبَحْرِكَ، وَسَهْلِكَ وَجَبَلِكَ، وَحَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ [ لا يلتئم النّاس لمواضعها: أي لا يمكن التئام النّاس واجتماعهم في مواضع تلك المرافق من تلك الأمكنة].
النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَلَا يَجْتَرِؤُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بِائِقَتُهُ [ البائقة: الداهية].
وَصُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ. [ الغائلة: الشرّ].
وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ. وَاعْلَمْ - مَعَ ذلِكَ - أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً، وَشُحّاً قَبِيحاً [ الضيق: عسر المعاملة. الشحّ: البخل مع حرص، فهو أشدّ من البخل].
وَاحْتِكَاراً [ الاحتكار: حبس الطعام والمنافع عن النّاس عند الحاجة إليها، ولا يسمحون به إلا بأثمان فاحشة].
لِلْمَنَافِعِ، وَتَحَكُّماً [ التحكيم في البياعات: التطفيف في الوزن والزيادة في العسر].
فِي الْبِيَاعَاتِ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ. فَامْنَعْ مِنَ الْاحْتِكَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - مَنَعَ مِنْهُ. وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً: [ أي لا ضيق فيه ولا حرج].
بِمَوَازِينِ عَدْلٍ، وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ. [ المتباع هنا: المشتري].
فَمَنْ قَارَفَ [ قارف: أي خالط، قارف الذنب وغيره: إذا داناه ولاصقه].
حُكْرَةً [ الحُكرة - بالضمّ -: الاحتكار].
بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ، وَعَاقِبْهُ فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ'. [ شرح نهج البلاغة لفيض الإسلام: 1008، الكتاب 53].
نظرة في عهده إلى الأشتر النخعي
وقد وصف عليّ عليه السلام في عهده إلى الأشتر، التجّار بما لا مزيد عليه من خدمتهم في المجتمع الإنساني، وحمايتهم للمدنيّة البشريّة، فقال:
أولاً: 'والمضطرب بماله'، أي مَن يجعل ماله متاعاً يدور به في البلاد البعيدة، يقطع المفاوز، ويعرّض نفسه للأخطار ليوصل حوائج كلّ بلد إليه.
وقال ثانياً: 'فإنّهم موادّ المنافع وأسباب المرافق'، فقد اهتمّت الدول الراقية والشعوب المتقدّمة في هذه العصور بأمر التجارة، وأدركوا حقيقة ما أفاده عليه السلام في هذه الجملة القصيرة قبل قرون طويلة من أنّ التجارة مواد المنافع. وقد أبلغ عليه السلام في ما أفاده بما للتجارة من الأهمّية في أمر الاقتصاد، حيث جاء بكلمة الموادّ جمعاً مضافاً مفيداً للعموم، وبكلمة المنافع جمعاً معرّفاً باللام مفيداً للاستغراق، فأفاد أنّ كلّ مادّة لكلّ منفعة مندرجة في أمر التجارة، فالتجارة تحتاج إلى ما يتّجر به من الأمتعة، وإلى سوق تباع فيه تلك الأمتعة، ثمّ يؤخذ بدلها متاع آخر، ويبدّل بمتاع آخر، فيستفاد من هذه المبادلات كلّها أرباحاً.
وقد بلغت أهمّية التجارة في أعصارنا الحاضرة حدّاً بحيث صارت محوراً للسياسة العامّة للدول الكبيرة، وصار حمل مواردها من النفط والذهب والفضّة والمحاصيل الزراعيّة إلى البلاد الاُخرى أساساً لسياستها، ومثاراً للحروب الهائلة، ومداراً للمعاملة مع الشعوب، وسبباً للتسلّط على الشعوب المستضعفة.
وقد نبّه عليّ عليه السلام في عهده على أنّ الروابط التجارية سبب استقرار السلم والصلح بين أفراد الاُمّة والمجتمع وبين الشعوب، فقال عليه السلام: 'فإنّهم سلم لا تخاف بائقته، وصلح لا تخشى غائلته'، فيا لها من جملة ذهبيّة حيّة في هذه القرون المعاصرة، حيث يتعطّش العالم إلى استقرار السلم العالمي بين الشعوب، ولا يخفى أنّه فسّر البائعة بالداهية، وهذا يعني أنّ التجارة الحرّة السالمة ليس فيها دهاء ومكر وسوء قصد من قبيل الاستعمار والتسلّط، بل فيها صلح ليس وراءه مضرّة وهلاك.
وأمّا أمره عليه السلام بتفقّد أحوال التجّار والإشراف عليهم، فهو تتمّة لوصيّته بهم بالخير ولحماية رؤوس أموالهم من التلف، والسرقة من قِبل اللصوص، وهذه توصيته بإقرار الأمن في البلاد وفي طريق التجارة بحراً وبرّاً، وقد التفتت الاُمم الراقية إلى ذلك، فاهتمّوا باستقرار الأمن في البلاد والطرق، وبحفظ رؤوس الأموال التجاريّة عن المكائد والدسائس المهلكة لها.
ثمّ نبّه عليه السلام في عهده إلى خطر في أمر التجارة يتوجّه إلى عامّة النّاس المحتاجين في معاشهم إلى شراء الأمتعة من الأسواق، وهو مرض الشحّ والبخل وطلب الادّخار والاستكثار من المال، الكامن في طبع كثير من التجّار، فإنّه يؤول إلى الاستعمار والتسلّط على اُجور الزرّاع والعمّال، وقد ينتهي إلى أن يؤخذوا عبيداً وأسرى لأصحاب رؤوس الأموال، فوصفهم بقوله عليه السلام: 'أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً'، أي حبّاً عظيماً لجلب المنافع وازدياد صيد الأموال المختصّة به، وربّما بلغ حدّ الجنون ولا يكتفي بالمليارات. 'وشحّاً قبيحاً' يمنع من بذل ما يزيد على حاجته، ولا يقدر على حفظه وحصره لعامّة النّاس.'واحتكاراً للمنافع' بلا حدّ ولا حساب، فيكون حاله كجهنّم كلّما قيل لها: هل امتلأت؟ تقول: هل من مزيد. 'وتحكّماً في البياعات: أي يؤول ذلك الحرص الجهنّمي إلى تشكيل الشركات الجبّارة، فيجمعون حوائج النّاس بمكائدهم وقوّة رؤوس أموالهم ويبيعونها بأيّ سعرٍ أرادوا، وبأيّ شروط خبيثة تحفظ مزيد منافعهم، وتقهر النّاس وتشدّد سلاسل مطامعهم ومظالمهم على أكتافهم، ولذا استنتج عليه السلام من ذلك مفسدتين مهلكتين:
الاُولى: قوله: 'وذلك باب مضرّة للعامّة'، وأي مضرّة أعظم من الأسر الاقتصادي في أيدي أصحاب رؤوس الأموال مصّاصي دماء النّاس.
الثانية: قوله: 'وعيب على الولاة'، وأيّ عيب أقبح من تسليم الاُمّة إلى هذا الأسر المهلك. فشرع عليّ عليه السلام في بيان كيفيّة محاربة هذه المفاسد بقوله: 'فامنع من الاحتكار' المنع من الاحتكار للمنافع والبضائع، يعني كما لا يجوز احتكار البضائع طلباً لزيادة الربح، فكذا لا يجوز احتكار المنافع المقصود منه الحرص على أخذ الأرباح والمنافع من التجارات زائداً عن المقدار المشروع على الوجه المشروع، بحيث يؤدّي هذا الحرص والطمع إلى تشكيل الشركات والقيام بالاحتكارات الّتي شاعت في هذه العصور، ومال إليها أرباب رؤوس الأموال الهامّة في الشركات النفطيّة والمعدنيّة.
والشاهد على عدم جواز أخذ المنافع من خلال انحصار الأموال في الشركات، ما رواه في "الكافي" بإسناده عن أبي جعفر الفزاريّ، قال: دعا أبو عبداللَّه عليه السلام مولىً له يقال له مصادف، فأعطاه ألف دينار، وقال له: 'تجهّز حتّى تخرج إلى مصر، فإنّ عيالي قد كثروا'، قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فسألوهم عن المتاع الّذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامّة، فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء ، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً. فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلى المدينة فدخل مصادف على أبي عبداللَّه عليه السلام ومعه كيسان كلّ واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك، هذا رأس المال، وهذا الآخر ربح. فقال عليه السلام: 'إنّ هذا الربح كثير، ولكن ما صنعته في المتاع؟'، فحدّثه كما صنعوا وكيف تحالفوا.
فقال عليه السلام: 'سبحان اللَّه، تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلا ربح الدينار ديناراً'، ثمّ أخذ عليه السلام أحد الكيسين، وقال: 'هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح'. ثمّ قال: 'يا مصادف، مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال'. [ فروع الكافي 161:5، والتهذيب 13:7، ووسائل الشيعة 311:12].
فيستفاد من هذا الحديث أنّ التجّار قد فرضوا أمراً في معاملتهم مع أهل مصر، وهم محتاجون إلى المتاع، فأخذوا منهم مائة في المائة من الربح، فلمّا اطّلع الإمام عليه السلام على عملهم لم يتصرّف في هذا الربح لأنّه مأخوذ من أرباب الحاجة إلى متاع بالتحالف وإيجاد الانحصار، وهذا هو عين ما يستعمله أصحاب الشركات ورؤوس الأموال في هذا العصر، وهو ما عبّر عنه عليّ عليه السلام باحتكار المنافع والتحكّم في البياعات.
لقد تبيّن بما ذكرنا أنّ توصيته عليه السلام مالك الأشتر بالتجّار وذوي الصناعات إذا كان عملهم سبباً للصلح وإرفاق النّاس في الأسواق، وأمّا إذا كان عملهم موجباً للظلم وجلب المنافع واحتكارها، فللحاكم المنع عنهم حتّى لا يتضرّر العامّة ولا يعاب على الولاة.
مراقبته السوق ونصيحة الباعة برعاية الموازين الشرعيّة
1- في "الكافي": بإسناده عن أبي حمزة، رفعه، قال: 'قام أمير المؤمنين عليه السلام على دار ابن أبي معيط، وكانت يقام فيها الإبل، فقال: يا معاشر السماسرة [ السمسار: الّذي يتوسّط بين البائع والمشتري، وأيضاً مالك الشي ء وقيّمه].
أقلّوا الأيمان، فإنّها منفقة للسلعة، ممحقة للربح'. [ الكافي 162:5، ووسائل الشيعة 309:12].
2- وفيه أيضاً: بإسناده عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول على المنبر: 'يا معشر التجّار، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، واللَّه للربا في هذه الاُمّة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا أيمانكم بالصدق [ وفي الفقيه: 'صونوا أموالكم بالصدقة'].
التاجر فاجر، والفاجر في النّار، إلا من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ'. [ الكافي 150:5، ووسائل الشيعة 282:12، قوله: 'الدبيب': المشي الخفيف، و'الصفا': الحجر الصلد].
3- وفي حديث آخر عن عليّ عليه السلام أنّه قال: 'مَن اتّجر بغير علم ارتطم في الربا، ثمّ ارتطم'، قال: وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: 'لا يقعدنّ في السوق إلا مَن يعقل الشراء والبيع'. [ فروع الكافي 154:5، ووسائل الشيعة 283:12].
4- وفيه أيضاً عن جابر، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: 'كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة عندكم يغتدي كلّ يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدرّة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمّى السبيبة، فيقف على أهل كلّ سوق، فينادي: يا معشر التجّار، اتّقوا اللَّه، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم، وارعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول: قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المتباعين [ واقتربوا...: أي لا لا تغالوا في الثمن فينفروا].
وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وانصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا: 'وأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا النّاس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين'، فيطوف في جميع أسواق الكوفة، ثمّ يرجع فيقعد للنّاس'. [ الكافي 151:5، ووسائل الشيعة 283:12، و نحوه في أمالي الصدوق - المجلس الخامس والسبعون: ح 6].
وزاد الشيخ المفيد في آخره: 'وكان إذا نظروا إليه قد أقبل إليهم، قال: يا معشر النّاس، أمسكوا أيديهم وأصغوا إليهم بآذانهم، ورمقوه بأعينهم حتّى يفرغ عليه السلام من كلامه، فإذا فرغ قالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين'. [ أمالي المفيد: 197 - المجلس الثالث والعشرون، ح 31].
5- وروى أبو إسحاق الثقفي الكوفي في "الغارات": بسنده عن أبي حصين، عن مختار التمّار، عن أبي مطر، وكان رجلاً من أهل البصرة، قال: كنت أبيت في مسجد الكوفة، وأبول في الرحبة، وآكل الخبز بزق البقال [ وفي البحار: 'وأخذ الخبز من البقال'].
فخرجت ذات يوم اُريد بعض أسواقها فإذا بصوت بي، فقال: 'يا هذا، ارفع إزارك فإنّه أنقى لثوبك واتّقي لربّك'. قلت: مَن هذا؟ فقيل لي: هذا أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب، فخرجت اتّبعه وهو متوجّه إلى سوق الإبل، فلمّا أتاها وقف في وسط السوق، فقال: 'يا معشر التجّار، إيّاكم واليمين الفاجرة، فإنّها تنفق السلعة وتمحق البركة'. ثمّ أتى سوق الكرابيس، فإذا هو برجل وسيم، فقال: 'يا هذا، عندك ثوبان بخمسة دراهم؟'، فوثب الرجل فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فلمّا عرفه مضى عنه وتركه، فوقف على غلام، فقال له: 'يا غلام، عندك ثوبان بخمسة دراهم؟'، قال: نعم، عندي ثوبان، أحدهما أخير من الآخر، واحد بثلاثة والآخر بدرهمين. قال: 'هلمّهما'، فقال: 'يا قنبر، خذ الّذي بثلاثة'. قال: أنت أوْلى به - يا أمير المؤمنين - تصعد المنبر، وتخطب النّاس.
فقال: 'يا قنبر، أنت شاب ولك شِرّة [ شرّة الشباب: حرصه ونشاطه].
الشباب، وأنا أستحيي من ربّي أن أتفضّل عليك؛ لأنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: ألبسوهم ممّا تلبسون، وأطعموهم ممّا تأكلون'، ثمّ لبس القميص ومدّ يده في رُدنه [ الردن - بالضمّ -: أصل الكمّ].
فإذا هو يفضل عن أصابعه، فقال: 'يا غلام، اقطع هذا الفضل'، فقطعه، فقال الغلام: هلمّه أكفّه يا شيخ، فقال: 'دعه كما هو، فإنّ الأمر أسرع من ذلك'. [ الغارات 105:1].
6- وفي "الاستيعاب": عن أبحر بن جرموز، عن أبيه، قال: رأيت عليّ بن أبي طالب عليه السلام يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريتان مئتزراً بالواحدة ومرتدياً بالاُخرى، وإزاره إلى نصف الساق، وهو يطوف في الأسواق، ومعه درّة، يأمرهم بتقوى اللَّه وصدق الحديث، وحسن البيع، والوفاء بالكيل والميزان. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 48:3].
7- وفي "كشف الغمّة": عن المختار بن نافع، عن أبي مطر، قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: 'ارفع إزارك فإنّه أتقى [ كذا في المصدر، ولعلّه تصحيف: 'أنقى لثوبك'].
لثوبك، وأبقى لك، وخذ من رأسك إن كنت مسلماً'، فمشيت خلفه وهو مؤتزر بإزار ومرتدٍ برداء ومعه الدرّة كأنّه أعرابي بدويّ، فقلت: مَن هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريباً بهذا البلد؟ قلت: أجل، أنا رجل من أهل البصرة. قال: هذا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، حتّى انتهى إلى دار بني أبي معيط وهو سوق الإبل، فقال: 'بيعوا ولا تحلفوا، فإنّ اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة'.
ثمّ أتى أصحاب التمر، فإذا خادم تبكي، فقال: 'ما يبكيك؟'، قالت: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم فردّه مواليّ، فأبى أن يقبله، فقال له عليّ عليه السلام: 'خذ تمرك وأعطها درهمها، فإنّها خادم ليس لها أمر'، فدفعه، فقلت: أتدري مَن هذا؟ فقال: لا، فقلت: هذا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، فصبّ تمره وأعطاها درهمها، وقال: اُحبّ أن ترضى عنّي يا أمير المؤمنين. فقال: 'ما أرضاني عنك إذا وفيتهم حقوقهم'. ثمّ مرّ مجتازاً بأصحاب التمر، فقال: 'يا أصحاب التمر، أطعموا المساكين يربو كسبكم'.
ثمّ مرّ مجتازاً ومعه المسلمون حتّى أتى إلى أصحاب السمك، فقال: 'لا يباع في سوقنا طاف'، ثمّ أتى دار فرات، وهي سوق الكرابيس، "فأتى شيخاً" فقال: 'يا شيخ، أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم'، فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، ثمّ أتى آخر فلمّا عرفه لم يشتر منه شيئاً، فأتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم ولبسه ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول في لبسه: 'الحمد للَّه الّذي رزقني من الرياش ما أتجمّل به في النّاس، واُواري به عورتي'. فقيل له: يا أمير المؤمنين، هذا شيء ترويه عن نفسك، أو شيء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟
قال عليه السلام: 'بل شيء سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقوله عند الكسوة'، فجاء أبو الغلام صاحب الثوب، فقيل له: يا فلان، قد باع ابنك اليوم من أمير المؤمنين قميصاً بثلاثة دراهم، قال: أفلا أخذت منه درهمين؟ فأخذ منه أبوه درهماً، وجاء به إلى أمير المؤمنين وهو جالس على باب الرُّحبة ومعه المسلمون، فقال: امسك هذا الدرهم يا أمير المؤمنين. قال: 'ما شأن هذا الدرهم؟'، قال: كان ثمن قميصك درهمين، فقال: 'باعني رضاي وأخذ رضاه'. [ كشف الغمّة - باب المناقب 219:1، ونحوه في البداية والنهاية 4:8، نقلاً عن الإحقاق 663:8].
8- وروى أبو إسحاق الثقفي الكوفي في "الغارات": عن أبي سعيد، قال: كان عليّ عليه السلام يأتي السوق فيقول: 'يا أهل السوق، اتّقوا اللَّه، وإيّاكم والحلف، فإنّه ينفق السلعة، ويمحق البركة، فإنّ التاجر فاجر إلا مَن أخذ الحقّ وأعطاه، السلام عليكم'، ثمّ يمكث الأيّام، ثمّ يأتي فيقول مثل مقالته، فكان إذا جاء قالوا: قد جاء المرد شكنبة [ حيث إنّ كثيراً من تجّار الكوفة كانوا من رجال الفرس، ولذا يقولون بالفارسيّة: 'مردى كه شكم دارد'].
فكان يرجع إلى سرُته فيقول: 'إذا جئت قالوا: قد جاء المرد شكنبة، فما يعنون بذلك؟'، قيل له: يقولون قد جاء عظيم البطن، فيقول عليه السلام: 'أسفله طعام، وأعلاه علم. [ وفي الخصال 189:1: في حديث سئل عن كبر بطنه عليه السلام، فقال: 'وأمّا كبر بطني، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علّمني باباً من العلم، ففتح لي ذلك الباب ألف باب، فازدحم العلم في بطني، فنفجت عنه عضوي'. نفجت: عظمت وارتفعت].
[ الغارات 109:1].
9- روى أبو إسحاق الثقفي الكوفي أيضاً: بسنده عن الحارث بن عبداللَّه الأعور الهمداني، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه دخل السوق فقال: 'يا معشر اللحّامين، مَن نفخ منكم [ النفخ في اللحم: يحتمل وجهين: الأوّل: ما هو الشائع من النفخ في الجلد لسهولة السلخ، والثاني: التدليس الّذي يفعله بعض النّاس من النفخ في الجلد الرقيق الّذي على اللحم ليرى سميناً، وهذا أظهر].
في اللحم فليس منّا'، فإذا هو برجل مولّيه ظهره، فقال: كلا والّذي احتجب بالسبع، فضربه عليّ عليه السلام على ظهره، ثمّ قال: 'يا لحّام، ومَن الّذي احتجب بالسبع؟'، قال: ربّ العالمين، يا أمير المؤمنين، فقال له: 'أخطأت ثكلتك اُمّك، إنّ اللَّه ليس بينه وبين خلقه حجاب، لأنّه معهم أينما كانوا'، فقال الرجل: ما كفّارة ما قلت يا أمير المؤمنين؟ قال: 'أن تعلم أنّ اللَّه معك حيث كنت'، قال: اُطعم المساكين؟ قال: 'لا، إنّما حلفت بغير ربّك'. [ الغارات 111:1].
10- و رواه أيضاً: بسنده عن النعمان بن سعد، عن عليّ عليه السلام، قال: كان عليّ عليه السلام يخرج إلى السوق ومعه الدرّة فيقول: 'إنّي أعوذ بك من الفسوق، ومن شرّ هذه السوق'. [ المصدر المتقدّم: 113].
11- عن عليّ عليه السلام أنّه مرّ بجارية تشتري لحماً من قصّاب وهي تقول: زدني، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'زدها، فإنّه أعظم للبركة'. [ الكافي 152:5، وكنز العمّال 38:4، ح 93، وفيه: فقال عليه السلام: 'زدها فإنّه أبرك للبيع'].
12- وفي "الوسائل": عن أبي البختري، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه: أنّ عليّاً عليه السلام كان ينهى عن الحكرة في الأمصار' الحديث. [ وسائل الشيعة 314:12].
أقول: ولذلك كان يعاقب المحتكر بالعقوبة الشديدة.
13- روى ابن حزم في "المحلّى": بسنده عن أبي الحكم: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام أحرق طعاماً احتكر بمائة ألف. [ المحلّى 65:6، نقلاً عن الدراسات 266:2].
14- وروى فيه أيضاً: عن حُبيش، قال: أحرق لي عليّ بن أبي طالب عليه السلام بيادر بالسواد كنتُ احتكرتُها، لو تركها لربحتُ فيها مثل عطاء الكوفة. [ المحلّى 65:6، نقلاً عن الدراسات 266:2].
سيرة عليّ في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر
قال عليّ عليه السلام: 'لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيوَلّى عليكم أشرارُكم، ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم'.
شرح نهج البلاغة لفيض الإسلام: 968، الكتاب 47
كلمة في أهمّية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الّتي حثّ عليهما القرآن والسنّة، بل عليهما يبتني بقاء أساس الدين واستمرار الرسالة النبويّة وحفظ نظام المسلمين، وهذه الفريضة شُرّعت لجميع المسلمين وهي باقية إلى يوم القيامة، وقد اعتبر جميع المسلمين مسؤولين إجمالاً عن تطبيقها ونشرها وحفظها، ومن هنا كان على الاُمّة الإسلاميّة وخصوصاً إمامها وممثّلها أن تراقب بكلّ وجودها أوضاع المجتمع، وأن تجدّ في نشر المعروف وبذر الخير، وتعمل على قلع جذور الشرّ وإنكاره.
وقد بلغت هذه الفريضة من الأهمّية حدّاً جعلها أمير المؤمنين عليه السلام فوق الجهاد وجميع أعمال البِرّ بمراتب، فقال عليه السلام في نهج البلاغة: 'وَمَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عِنْدَ الْأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِلا كَنَفْثَةٍ [ النفثة - كالنفخة -: يراد ما يمازج النفس من الريق عند النفخ].
فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ. [ بحر لجّي: كثير الموج].
وَإِنَّ الْأَمْرَ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ، وَأَفْضَلُ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إَمَامٍ جَائِرٍ'. [ نهج البلاغة لفيض الإسلام: 1253، الحكمة 366].
وعدّهما عليه السلام في موضعٍ آخر من نهج البلاغة من شعب الجهاد، فعن أبي جُحيفة، قال: سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: 'أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ، ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ، ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ؛ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً، وَلَمْ يُنْكِرْ مُنْكَراً، قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلاَهُ أَسْفَلَهُ، وَأَسَفَلُهُ أَعْلَاهُ'. [ المصدر المتقدّم: 1254، الحكمة 367].
والسرّ في ذلك أنّ قوام كلّ الفرائض وبقاءها رهن بإقامة هاتين الفريضتين، مضافاً إلى أنّ الجهاد كفاح خارجيّ، ولا أثر له ولا أهمّية ما لم يصلح الداخل، فالواجب أوّلاً تطهير الداخل وإصلاحه ثمّ الإقدام على إصلاح الخارج. [ انظر: دراسات في ولاية الفقيه 215 - 213 :2].
وقد وردت آيات وأخبار كثيرة في فضل هذه الفريضة وأهمّيتها، نذكر منها
1- قوله تعالى: 'وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ'. [ سورة التوبة: 71].
فالحكم في الآية عامّ لكلّ مؤمنٍ ومؤمنة، ولا يحتاج إلى الإذن من الحاكم، وهو في هذا كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والظاهر من الولاية في الآية: 'بَعْضُهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ' أنّها سلطة الشخص وأولويّته، فاللَّه تعالى بولايته العامّة على عباده جعل لكلِّ مؤمن ومؤمنة حقّ الولاية والسلطة على غيره، ليكون له حقّ الأمر والنهي، غاية الأمر أنّ الولاية لها مراتب، والولاية في الآية محدودة بمقدار جواز الأمر والنهي، والظاهر منها هو الأمر والنهي بالقلب واللسان لا باليد وما فوقها.
2- قوله تعالى: 'كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلْنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرَهُمُ الْفَاسِقُونَ'. [ سورة آل عمران: 110].
والظاهر أنّ الخطاب للمسلمين، والمراد بالنّاس جميعُ النّاس من المسلمين وغيرهم، والإخراج في قوله تعالى: 'أُخْرِجَتْ' هو الخلق والإظهار، والمعنى - واللَّه العالم -: أنّ المسلمين بما هم مسلمون خير اُمّةٍ خُلقت واُخْرِجَت لنفع المجتمعات البشريّة، وملاك كونهم خيرُ الاُمم: نشرهم للمعروف، وردعهم عن المنكر، وإصلاحهم المجتمعات.
روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'أنتم وَفّيتُم سبعين اُمّة، أنت خيرُها، وأكرمها على اللَّه'. [ تفسير مجمع البيان 486: 2].
3- قوله تعالى: 'التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ'. [ سورة التوبة: 112].
فالموضوع في الآية جميع المؤمنين وليس جمعاً خاصّاً منهم، كما يظهر ذلك من الآية الّتي قبلها، أعني قوله تعالى: 'إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ'. [ سورة التوبة: 111].
لكن بعد تحقّق الأوصاف المذكورة من التوبة والعبادة والحمد والركوع والسجود، يأمر وينهي، فهذه ثلاثة آياتٍ ظاهرة في كون الفريضة المذكورة، فريضة عامّة كسائر الفرائض، ولا تشترط بشروط ولا تحدّ بحدود، وحدودها صرف الإنكار بالقلب عند مشاهدة المنكر، وإظهاره باللسان فيما يجب الأمر به أو النهي عنه.
أمّا إذا توقّف على الضرب والجرح وما فوقهما فالظاهر أنّه لا يجوز، وعلى الأقلّ فهما لا يجبان إلا مع إذن الحاكم المسلّط على الاُمور.
ويستفاد من بعض الآيات كون الوجوب فيها يتلعّق بجمع خاصّ، منها:
4- قوله تعالى: 'وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ'. [ سورة آل عمران: 104].
فالمستفاد من الآية أنّه يجب على جميع المسلمين السعي في تحديد جماعة خاصّة من المسلمين لهذا الشأن، ويؤيّد ذلك بعض ما ورد في الاحاديث كما سيأتي.
5- قوله تعالى: 'الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللَّهِِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ'. [ سورة الحجّ: 41].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الآية يتوقّفان على القدرة والتمكّن لا مطلقاً، وهذه القدرة يتمتّع بها جماعة خاصّة لا عامّة المسلمين.
6- قوله تعالى: 'الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ'. [ سورة الأعراف: 157].
فهذه الآية دالة على وجوب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر لمن يتبع النبيّ صلى الله عليه و آله.
1- في موثّقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سمعتُه يقول وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجبٌ هو على الاُمّة جميعاً؟ فقال: 'لا'.
فقيل له: ولِمَ؟ قال: 'إنّما هو على القويّ المُطاع العالمِ بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الّذي لا يهتدي سبيلاً إلى أيٍّ من أيٍّ - يقول: من الحقّ إلى الباطل - والدليل على ذلك كتاب اللَّه: 'وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ'، فهذا خاصّ غير عامّ.
كما قال اللَّه عزّ وجلّ: 'وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ' [ سورة الأعراف: 159].
ولم يقل على اُمّة موسى ولا على كلّ قومه، وهم يومئذٍ اُممٌ مختلفة، والاُمّة واحد فصاعداً، كما قال اللَّه عزّ وجلّ: 'إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للَّهِِ' [ سورة النحل: 120].
يقول: مطيعاً للَّه عزّ وجلّ، وليس على مَن يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له ولا عدد ولا طاعة'.
قال مسعدة: وسمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: وسئل عن الحديث الّذي جاء عن النبيّ صلى الله عليه و آله: 'إنّ أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند إمام جائر' ما معناه؟ قال: 'هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا'. [ وسائل الشيعة 400:11].
2- ومنها: ما في "نهج البلاغة": عن محمّد بن جرير الطبري، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، أنّه قال: سمعت عليّاً عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: 'أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّهُ مَنْ رَأَى عُدْوَاناً يُعْمَلُ بِهِ وَمُنْكَراً يُدْعَى إِلَيْهِ، فَأَ نْكَرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَبَرِى ءَ؛ وَمَنْ أَ نْكَرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ أُجِرَ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبهِ؛ وَمَنْ أَ نْكَرَهُ بِالسَّيْفِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ الظَّالِمِينَ هِيَ السُّفْلَى، فَذلِكَ الَّذِي أَصَابَ سَبيلَ الْهُدَى، وَقَامَ عَلَى الطَّريق، وَنَوَّرَ فِي قَلْبِهِ الْيَقِينُ'. [ نهج البلاغة: الحكمة 373].
والظاهر أنّ هذا الحديث في مقام بيان مراتب هذه الفريضة في الفضل والأجر.
3- ومنها - وهو من الأخبار الجامعة - ما رواه في الوسائل، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'لا تزال اُمّتي بخيرٍ ما أمروا بالمعروف ونَهوا عن المُنكر، وتعاوَنوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعتْ منهم البركات، وسُلِّط بَعْضُهُم على بعض، ولم يكن لَهُم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء'. [ وسائل الشيعة 398:11].
4- ومنها: ما جاء في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام قبيل وفاته: 'لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيُولّى عليكم أشرارُكم، ثمّ تدعونَ فلا يُستجاب لكم'. [ نهج البلاغة: الكتاب 47].
5- وفي "الوسائل": عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: 'كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إذا اُمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من اللَّه تعالى'. [ وسائل الشيعة 394:11].
والسرّ في ذلك أنّ الاُمّة الإسلاميّة إذا راعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واهتمّت بصلاح المجتمع صارت اُمّة صالحة والعلاقات بينها وثيقة، وكانت كالبنيان المرصوص يدعم بعضه بعضاً، وعندئذٍ ترأسها فئة منها صالحة عادلة لا محالة، وأمّا إذا لم تهتمّ بهذه الفريضة، واتّكل كلّ واحد على الآخر، واتّبع ما يشتهيه ويهواه، صارت اُمّة مشتّتة متفرّقة متباغضة، يلعن بعضها بعضاً، فيغتنم الأشرار والكفّار هذه الفرصة فيترأّسون عليها، ويغتصبون حقوقها وذخائرها وإمكاناتها، كما هو المشاهد في أعصارنا في أكثر البلاد الإسلاميّة، ولا يرفع عنهم السوء والشرّ بالدعاء إلا أن يغيّروا ما بأنفسهم: 'إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ'. [ سورة الرعد: 11].
والحديث المأثور عن أمير المؤمنين عليه السلام يرفع القناع عن هذه الحقيقة، ففي "الغارات": بسنده عن شهر بن حوشب أنّ عليّاً عليه السلام قال لهم: 'إنّه لم يهلك مَن كان قَبلَكُم من الاُمم إلا بحيث ما أتوا من المعاصي، ولم ينههم الربّانيّون والأحبار، فلمّا تمادوا في المعاصي، ولم ينههم الربّانيّون والأحبار عمّهم اللَّه بعقوبة، فأمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الّذي نزل بهم، واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُقرّبان من أجل، ولا ينقصان من رزق، فإنّ الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كلّ نفسٍ بما قدّر اللَّه لها من زيادة أو نقصان في نفسٍ أو أهلٍ أو مالٍ. فإذا كان لأحدكم نقصان في ذلك وهو يرى لأخيه عفوة [ العفوة: خيار الشي ء].
فلا يكوننّ له فتنة.
فإنّ المرء المسلم ما لم يفش دناءة يظهر فيخشع لها إذا ذكرت وتغرى بها لئام النّاس، كان كالياسر الفالح ينتظر أوّل فوزة من قداحه يوجب له بها المغنم، ويذهب عنه بها المغرم، فذلك المرء البري ء من الخيانة ينتظر إحدى الحسنيين؛ إمّا داعي اللَّه فما عند اللَّه خيرٌ له، وإمّا رزق من اللَّه واسع، فإذا هو ذو أهلٍ ومالٍ ومعه دينه وحسبه، المالُ والبنون حرثُ الدُّنيا والعملُ الصالح حرثُ الآخرة، وقد يجمعهما اللَّه لأقوام'. [ الغارات 79:1].
وعلى هذا يجب على كلّ مسلم السعي في نشر المعروف وإشاعته وقطع جذور المنكر والفساد، والسعي في إقامة الحدود الإلهيّة بقدر المُكنة والقدرة، غاية الأمر أنّ القيام بهذا العمل إذا استلزم الجراح فإنّه مشروط بإذن الإمام والحاكم، فيجب الاستئذان منه وإيقاع العمل تحت إشراف حكمه لئلا يلزم الهرج والمرج والاختلال.
ولو فرض ضعف الحكومة وقلّة أعوانها وجب إعانتها ومساعدتها في نشر المعروف ودفع المنكر، ولو فرض عدم وجود الحكومة الحقّة العادلة وجب على الجميع السعي إلى تحقيقها لذلك، ولو بتشكيل دويلة صغيرة في منطقة معيّنة، فلا يجوز للمسلمين أن يقعدوا في بيوتهم ولا يبالوا بما يقع في مجتمعهم من الفحشاء والفساد وإراقة الدماء، وغصب الأموال، وهتك النواميس، وهضم الكفّار والصهاينة لحقوق المسلمين والمستضعفين بحجّة أنّ رفع هذه المفاسد كلّها من وظائف الحاكم. [ راجع: دراسات في ولاية الفقيه 219:2].
والتحقيق أنّ هذه الفريضة من نوع الواجبات الكفائيّة، أي أنّها متعلّقة بكلّ واحد من المكلّفين بحيث لو أخلّ بامتثالها الكلّ لعوقبوا على مخالفتها جميعاً، وتسقط عنهم لو أتى بها بعضهم.
وبعدما مرّ منّا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نرجع إلى أصل البحث وهو سيرة عليّ عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نماذج ممّا برز من صور أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
في "التراتيب الإداريّة" للكناني، عن مسند عبد بن حميد، عن مطرف، قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: 'ارفع إزارك فإنّه أنقى لثوبك وأبقى له'، فمشيتُ خلفه وهو بين يدي مؤتزر بإزارٍ، مرتدٍ برداءٍ ومعه الدرّة كأنّه أعرابيّ بدويّ، فقلت: مَن هذا؟ فقال لي رجل: هذا عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام حتّى انتهى إلى الإبل، فقال: 'بيعوا ولا تحلفوا، فإنّ اليمين تنُفق السلعة، وتُمحق البركة'، ثمّ أتى إلى أصحاب التمر فإذا خادمٌ يَبكي فقال: 'ما يُبكيك؟'، قال: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم فردّه علَيَّ مولاي، فقال له عليّ عليه السلام: 'خذ تمرك وأعطه درهمه، فإنّه ليس له من الأمر شيء '، فدفعه. [ التراتيب الإدارية 289:1، نقلاً عن دراسات في ولاية الفقيه 269:2، ورواه في الغارات 104:1، وكنز العمّال 183:13، ح 36547، عن مطر مع تفاوت. ط. مؤسّسة الرسالة].
انه يمشي في الأسواق و يضرب بها المطفف
وفي "دعائم الإسلام": عن عليّ عليه السلام أنّه كان يمشي في الأسواق وبيده درّة يضرب بها مَن وجد من مُطففٍ أو غاشٍّ في تجارةِ المسلمين. قال الأصبغ: قلت له يوماً: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين، واجلس في بيتك؟ قال: 'ما نصحتني يا أصبغ'.
وكان يركب بغلة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الشهباء ويطوف في الأسواق سوقاً سوقاً، فأتى يوماً طاق اللحّامين، فقال: 'يا معشر القصّابين، لا تعجّلوا الأنفس قبلَ أن تزهق، وإيّاكُم والنفخ في اللحم'.
ثمّ أتى التمّارين، فقال: 'اظهروا من ردي ء بيعكم ما تظهرون من جيّده'.
ثمّ أتى السمّاكين، فقال: 'لا تبيعوا إلا طيّباً، وإيّاكم وما طفا'.
ثمّ أتى الكناسة وفيها من أنواع التجارة من نخّاس، وقمّاط، وبائع إبل، وصيرفيّ، وبزّاز، وخيّاط، فنادى بأعلى صوت: 'يا معشر التجّار، إنّ أسواقكم هذه تحضرها الأيمان، فشوبوا أيمانكم بالصدقة، وكفّوا عن الحلف، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى لا يقدّس من حلف باسمه كاذباً'. [ دعائم الإسلام 538:2].
علي يأتي في السوق و يأمر التجار بالتقوي و ترك الحلف في المعاملة
وفي "الغارات" و "المستدرك": عن أبي سعيد، قال: كان عليّ عليه السلام يأتي السوق فيقول: 'يا أهل السوق، اتّقوا اللَّه، وإيّاكم والحلف، فإنّه يُنفق السلعة، ويُمحق البركة، فإنّ التاجر فاجر إلا من أخذ الحقّ وأعطاه، السلام عليكم'، ثمّ يمكث الأيّام، ثمّ يأتي فيقول مثل مقالته، فكان إذا جاء قالوا: قد جاء المرد شكنبة، فكان يرجع إلى سرّته فيقول: 'إذا جئت قالوا قد جاء المرد شكنبة، فما يعنون بذلك؟ قيل له: يقولون: قد جاء عظيم البطن، فيقول: 'أسفله طعام، وأعلاه علم'. [ الغارات 110:1، ومستدرك الوسائل 463:2].
والمستفاد من الحديث أنّ عليّاً عليه السلام حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لم يكن أهل السوق يخافون منه؛ لأنّهم وثقوا بعدله، وأمنوا سطوته.
وفي "الوسائل": عن حبابة الوالبيّة، قالت: رأيتُ أمير المؤمنين عليه السلام في شُرطة الخميس ومعه درّة لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجرّي والمارماهي والزمّار، الحديث. [ وسائل الشيعة 332:16].
يودب من زاحمه في الوضوء مخافة التلف و الغرامة
وفي "الكافي": بإسناده عن رَزين، قال: كنتُ أتوضّأ فى ميضاة الكوفة فإذا رجل قد جاء فوضع نعليه ووضع درّته فوقها، ثمّ دنا فتوضّأ معي فزحمته، فوقع على يديه فقام فتوضّأ، فلمّا فرغ ضرب رأسي بالدرّة - ثلاثاً [ الكافي 268:7، ووسائل الشيعة 583:18].
- ثمّ قال: 'إيّاك أن تدفع فتكسر فتغرم'، فقلت: مَن هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين عليه السلام، فذهبت أعتذر إليه، فمضى ولم يلتفت إليَّ.
أقول: لا شك ان ضربه ثلاثاً كان ضرباً خفيفاً لا شديداً و كذلك ضربه القاص فى المسجد في الحديث التالي كان ضرباً خفيفاً.
وفيه أيضاً: عن هشام بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'إنّ أمير المؤمنين عليه السلام رأى قاصّاً في المسجد فضربه بالدرّة وطرده'. [ المصدر المتقدّم: 263، ووسائل الشيعة 578:18].
أقول: القاصّ: مَن ينقل القصص، وهذا العمل كان متفشّياً في مساجد المسلمين في زمان الخلفاء السابقين، حيث يلقي القاصّ بعض القصص القديمة والخياليّة، وممّا لا فائدة فيه، ويصرف النّاس عن أداء واجباتهم ونوافلهم، ولهذا نهى عنه أمير المؤمنين عليه السلام عمليّاً بالضرب وطرده عن المسجد.
وفيه أيضاً: عن السكوني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'اُتي أمير المؤمنين عليه السلام برجلٍ نصراني كان أسلم ومعه خنزير قد شواه وأدرجه بريحان، قال: 'ما حملك على هذا؟'، قال الرجل: مرضتُ فقرمت [ قرم إلى اللحم: اشتدّت شهوته له حتّى لا يصبر عنه].
إلى اللحم، فقال عليه السلام: 'أين أنت من لحم المعز، وكان خلفاً منه؟'، ثمّ قال: 'لو أنّك أكلته لأقمت عليك الحدّ، ولكن سأضربك ضرباً فلا تعد'،فضربه به حتّى شغر ببوله. [ الكافي 265:7، ووسائل الشيعة 580:18. شغر الكلب: إذا رفع أحد رجليه ليبول].
تاديب العابث بعورته و تزويجه من بيت المال
قال عليه السلام في كتابه لمالك الأشتر المنصوب الى حكومة مصر: 'فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعارٍ لا تُجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به وعاقبه من غير إسراف'. [ نهج البلاغة: الكتاب 53].
تاديب النصراني الذي أسلم ونهيه عن أكل لحم الخنزير
وأمر أيضاً رفاعة قاضيه على الأهواز بالنهي عن الاحتكار، وذكر له أنّ مَن ركبه فأوجعه وعاقبه بإظهار ما احتكر. [ دعائم الإسلام 36:2].
توصية ولاته برعاية الحقوق و ترك الأحتكار
وفي كتاب "المُحلّى" لابن حزم، عن حُبيش، قال: أحرق لي عليّ بن أبي طالب عليه السلام بيادر بالسواد كنت احتكرتها، ولو تركها لربحتُ فيها مثل عطاء الكوفة. [ المحلّى لابن حزم 65:6، نقلاً عن الدراسات 366:2].
وفيه أيضاً: بسنده عن أبي الحكم: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام أحرق طعاماً احتكر بمائة ألف. والظاهر أنّ هذه القضيّة نفس الّتي قبلها مع اختلاف في الراوي.
أقول: لا يخفى ان احراق الطعام غير مطلوب و لعل عمله عليه السلام في المورد في قضية خاصة و لجهة خاصة، أو لعل من جهة تخويف المحتكرين في الكوفة حتى لا يجترأ أحدٌ بالاحتكار، واللَّه العالم.
احراق بيادر المحتكر لتنبيه الآخرين
عن العلامة المطرز في "المداخل في اللغة": قال ابن الأعرابي ومنه خبر عمر بن الخطّاب أنّه كان يطوف بالبيت فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، إنّ عليّاً لطم عيني؟ فوقف عمر حتّى جاءه عليّ عليه السلام فقال: يا أبا الحسن، ألطَمتَ عين هذا؟ قال: 'نعم، يا أمير المؤمنين'، قال: ولِمَ يا أبا الحسن؟ قال: 'لأنّي رأيتُه ينظر إلى حرم المسلمين في الطواف'، فقال له عمر: أحسنت، ثمّ أقبل على الملطوم، فقال له: وقعت عليك عينٌ من عيون اللَّه تعالى.
قال أبو العبّاس ثعلب: فسألت ابن الأعرابي عنها، فقال: خاصّة من خواصّ اللَّه تعالى، ووليٌّ من أوليائه، وحبيب من أحبّائه. [ المداخل في اللغة: 69، نقلاً عن الإحقاق 664:8].
لطم عين من ينظر الي النساء في البيت
و في الكافي عن طلحة بن زيد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إن اميرالمؤمنين عليه السلام أتى برجل عبث بذكره، فضرب يده حتى احمرّت، ثمّ زوّجه من بيت المال. [ الكافي 265: 7].
فان عليّاً عليه السلام كما يقام على الامر بالمعروف و النهي عن المنكر فيعالج اصل المشكل بالطرق الصحيحة و العقلائية كما فى الحديث فانّه كما يضرب يد العابث بذكره، ثمّ يزوّجه من بيت المال حتى لا يكرر العمل في الخارج.
علي و إعانة المظلوم و إغاثة الملهوف
عن عليّ عليه السلام: 'ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف'.
وقال: 'أفضل المعروف إغاثة الملهوف'.
مستدرك الوسائل 409:2
كلمة في سيرته في إعانة المظلوم وإغاثة الملهوف
لقد كان لعليّ عليه السلام في أيّام خلافته - كباقي حياته المباركة - من الصفات ما لم يكن في عالم الوجود إلا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإذا نظرنا إلى تاريخ النماذج البشريّة العُليا، والحكومات العادلة في التاريخ، فلا يمكن أن نقف على مَن تمتّع بتلك الصفات الّتي تمتّع بها عليّ عليه السلام في أيّام خلافته.. نعم، يمكن أن نرى بعض الخصائص في بعض الحكّام العادلين، لكن لا يمكن أن نرى ما كان لعليّ عليه السلام على مدى سنوات حكمه الخمس من كلّ تلك الفضائل والآثار النفيسة الّتي خلّفها في اُسلوب حياته وسلوكه، بحيث طغى نوره في كلّ خصلة حميدة، ومن هنا كان عليّ عليه السلام قدوة لكلّ إنسان عادل وحاكم مقسط.
إنّ إحدى خصائص عليّ عليه السلام البارزة هي كونه مرجعاً للقضاء والفصل في المنازعات الّتي كانت تقوم في أيّام حكومته، وكان يأخذ بحقّ المظلومين بنفسه، ويتابع مشاكل النّاس، بل وقد يقوم بأعمال البعض بنفسه إن سنحت له الفرصة.. وربّما خرج يتمشّى جنب داره حيناً، واُخرى يمشي في الأسواق ليعظ النّاس، ويجلس ثالثة في المسجد لينصُر مظلوماً ويأخذ بحقّه من الظالم، وقد يذهب بنفسه مع المظلوم من أجل حلّ معضلته، ولم يكن الحرّ والقرّ، أو الليل والنهار ليقف عائقاً بوجه عليّ عليه السلام، وهو يؤدّي أعماله هذه، فهل سنجد في زاوية في العالم أو على صفحة من صفحات التاريخ حاكماً كعلي عليه السلام نذر نفسه لخدمة النّاس، ويُرى في كلّ مكان من أماكن المجتمع، لا يخشى غدر الخائنين وكيد الأعداء، ويقف إلى جانب المظلوم ضدّ الظالم بكلّ قوّة؟ ولا عجب من ذلك، فهو الّذي يقول: 'كونوا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً'، لا شكّ في أنّنا سوف لا نجد مثيلاً له، ولم يرَ التاريخ نظيراً له.
هيهات أن يأتي الزمان بمثله*** إنّ الزمان بمثله لعقيم
موارد ممّا ظهر من إعانة المظلوم وإغاثة الملهوف
كان عليّ عليه السلام في مدى حكومته وحين قدرته معيناً للمظلوم، مغيثاً للملهوف، وخصماً للظالم، والموارد الّتي شهدت وتشهد بأفعال عليّ عليه السلام هذه كثيرة، فقد أشرنا إلى بعضها في طيّات الفصول المختلفة، ونحن نشير هنا إلى صور منها على سبيل المثال.
اعانته المرأة الّتي اشتكت زوجها
ذكر الشيخ المفيد في "الاختصاص": بسنده عن ابن دأب، قال: ذكر الكوفّيون أنّ سعيد بن القيس الهمداني رآه - يعني أمير المؤمنين عليه السلام - يوماً في شدّة الحرّ في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين، بهذه الساعة؟
قال: 'ما خرجتُ إلا لاُعين مظلوماً، أو اُغيث ملهوفاً'، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قُلبها لا تدري أين تأخذ من الدنيا حتّى وقفت عليه، وقالت: يا أمير المؤمنين، ظلمني زوجي وتعدّى علَيَّ، وحلف ليضربني فاذهب معي إليه، فطأطأ رأسه ثمّ رفعه وهو يقول: 'لا واللَّه، حتّى يؤخذ للمظلوم حقّه غير متمتّع [ تعتعته: حرّكه بعنف وقلقله، وتعتع في الكلام، أي تردّد فيه من عيّ].
وأين منزلك؟'، قالت: في موضع كذا وكذا، فانطلق معها حتّى انتهت إلى منزلها فقالت: هذا منزلي، قال: فسلّم، فخرج شابّ عليه إزار ملوّنه، فقال: 'اتّق اللَّه، فقد أخفتَ زوجتك'، فقال: وما أنت وذاك، واللَّه! لاُحرقنّها بالنّار لكلامك.
قال: وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرّة بيده، والسيف معلّق تحت يده، فمن حلّ عليه حكم بالدرّة ضربه، ومَن حلّ عليه حكم بالسيف عاجله، فلم يعلم الشابّ إلا وقد أصلت السيف، وقال له عليه السلام: 'آمرك بالمعروف، وأنهاك عن المنكر وتردّ المعروف، تب وإلا قتلتك'.
قال: وأقبل النّاس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين عليه السلام حتّى وقفوا عليه، قال: فاُسقط في يد الشاب [ فاسقط في يد الشاب: على المجهول، أي ندم على فعله].
وقال: يا أمير المؤمنين، اعف عنّي عفا اللَّه عنك، واللَّه لأكوننّ أرضاً تطأني، فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول: 'لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ' [ سورة النساء: 114].
الحمد للَّه الّذي أصلح بي بين امرأةٍ وزوجها، يقول اللَّه تبارك وتعالى: 'لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً'. [ الاختصاص للمفيد رحمه الله: 157، ونحوه في مناقب ابن شهرآشوب 106:2، وبحار الأنوار 58:41].