وفي "المناقب": نظر عليّ عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة، فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها، فقالت: بعثَ عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقُتل، وترك علَيَّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء ، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة النّاس، فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلمّا أصبح حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال: 'مَن يحمل وزري عنّي يوم القيامة؟'، فأتى وقرع الباب، فقالت: مَن هذا؟ قال: 'أنا ذلك العبد الّذي حمل معك القربة، فافتحي، فإنّ معي شيئاً للصبيان'.
فقالت: رضي اللَّه عنك، وحكم بيني وبين عليّ بن أبي طالب، فدخل وقال: 'إنّي أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين، وبين أن تعلّلي [ علّله بطعام وغيره: شغله به]
الصبيان لأخبز أنا'.فقالت: أنا بالخبز أبصر، وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان فعلّلهم حتّى أفرغ من الخبز، فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخته، وجعل يلقّم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئاً، قال له: يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا مرّ في أمرك، فلمّا اختمر العجين، قالت: يا عبد اللَّه، سجّر [ سجّر التنور: ملاه وقوداً وأحماه]
التنور، فبادر لسجره، فلمّا أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: ذق - يا عليّ - هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى، فرأته امرأة تعرفه، فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين! قال: فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا أمير المؤمنين. فقال عليه السلام: 'بل واحيائي منك - يا أمة اللَّه - فيما قصّرت في أمرك'. [ المناقب لابن شهرآشوب 115:2، والبحار 52:41].وفود سودة بنت عمارة الهمدانيّة على معاوية
كانت سودة شاعرة وذات بيان، وفدت على معاوية ودخلت عليه، فقال لها معاوية: كيف أنتِ يابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال لها: أنتِ القائلة لأخيك:
شمِّر كفِعْل أبيك يابن عُمارة*** يومَ الطِّعان ومُلتقى الأقرانِ
وانصُر عَليّاً والحسين ورَهْطَه*** واقصِد لِهندٍ وابنها بهوان
إنّ الإمام أخو النبيّ محمّد*** عَلَم الهُدى ومَنارة الإيمان
فَقُدِ الجيوشَ وسِر أمام لوائه*** قُدُماً بأبيضَ صارمٍ وسِنانِ
قالت: نعم إي واللَّه، ما مثلي مَن رغب عن الحقّ، أو اعتذر بالكذب. قال: ما حملكِ على ذلك؟ قالت: حبّ عليّ واتّباع الحقّ. قال: ما حاجتك؟ قالت: هذا بسر بن أرطأة قدم علينا من قِبلَكَ، فقَتَلَ رجالنا، وأخذ مالنا، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعة، فإمّا عزلته عنّا فشكرناك، وإمّا لا فعرفناك.
فقال معاوية: إيّاي تُهدِّدين بقومك! واللَّه! لقد هممت أن أرُدَّكِ إليه على قتب أشرس [ القتب: الإكاف الصغير على قدر سنام البعير، وأشرس: صفة لموصوف محذوف، وهو البعير، أو الأشرس: الخشن الغليظ، وتكون صفة للقتب].
فيُنفّذ حُكمه فيك، فسكتت ثمّ قالت:
صلّى الإله على جسمٍ تَضَمَّنه*** قبرٌ فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالفَ الحقّ لا يبغي به بدلاً*** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا
فقال معاوية: مَن ذلك يا سودة؟ فقالت: واللَّه هُوَ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: وما صنع بك حتّى صار عندك كذلك؟ قالت: قدمتُ عليه في رجل وَلاه صَدَقاتنا، فكان بيني وبينه ما بين الغثّ والسمين، فأتيتُ عَليّاً عليه السلام لأشكو إليه، فوجدتُه قائماً يُصلّي، فلمّا نظر إلَيَّ، انفتل من الصلاة، ثمّ قال لي برأفةٍ وتعطّف: 'ألك حاجة؟'، فأخبرته الخبر، فبكى ثمّ قال: 'اللّهمّ إنّك أنتَ الشاهد علَيَّ وعليهم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقّك'، ثمّ أخرج من جيبه قطعةً كهيئة طرف الجراب فكتب فيها: بسم اللَّه الرحمن الرحيم 'قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثُوا فِي الْأَرْضِ مُفسدينَ بقيةُ اللَّه خيرٌ لكم إنْ كنُتمُ مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ' [ اقتباس من سورة الأعراف: 85 والشعراء: 183].
إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتّى يَقدم عليك من يقبضه منك، والسلام'، فأخذته منه يا معاوية، ما خزمه بخزام ولا ختمه بختام.
فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها، والعدل عليها، فقالت: ألي خاصّة، أم لقومي عامّة؟ قال: وما أنتِ وغيرك؟ قالت: هي - واللَّه - إذن الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً وإلا أنا كسائر قومي، قال: هيهات، لَمظَّكم [ التلمّظ: التذوّق، وتتبّع بقيّة الطعام في الفم باللسان].
ابن أبي طالب الجرأة، وغرّكم قوله:
'فلو كنتَ بوّاباً على باب جنّة*** لقلت لهمدان ادخلوا بسلام'
ثمّ قال معاوية: اكتبوا لها ولقومها بحاجتها. [ راجع من أعلام النساء 270:2، والعقد الفريد 102:2، وكشف الغمّة 230:1، وسفينة البحار 176:1. و قد ذكرنا قصة وفودها عند معاوية في فصل 'سيرته "ع" مع مخالفين في عمّاله' و فصل 'عليّ "ع" مع اصحابه الكرام'].
وكم له "صلوات اللَّه عليه" من الآثار والأخبار والمناقب الّتي لا تُستر أوَ يُستر وجه النهار؟ والمفاخر الّتي يتعلّم منها من فخر، والمآثر الّتي تعجز من بقي كما أعجزت من غبر.
علي و المروءة و العفو في حكومته
قال جورج جرداق المسيحي: مروّة الإمام عليّ عليه السلام أندر من أن يكون لها مَثَلٌ في التاريخ، و حوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ.
الإمام عليّ "ع" صوت العدالة الإنسانية ج 4 ص 100
الانتقام: هو أن يأتي المرء بمثل ما فُعل به أو بأزيد منه، وإن كان محرّماً ممنوعاً في الشريعة في بعض الاُمور؛ إذ ليس كلّ انتقام بجائز، فلا يجوز مقابلة الغيبة بالغيبة، والبهتان بالبهتان، والفحش بالفحش، والسعاية إلى الظلمة بمثلها، وهكذا في سائر المحرّمات.
وأمّا العفو فهو ضدّ الانتقام، وهو إسقاط ما يستحقّه من قصاص أو غرامة، أو دية، والآيات والأخبار في مدح العفو وحسنه كثيرة، فمن الآيات قوله تعالى: 'خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ' [ سورة الأعراف: 199].
الأخذ بالشي ء هو لزومه وعدم تركه، فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه، والاغماض عن حقّ الانتقام الّذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض، وأمّا ما اُضيع فيه حقّ الغير بالإساءة إليه فليس ممّا يسوغ العفو فيه؛ لأنّه إغراء بالإثم وتضييع لحقّ الغير بنحو أشدّ، وإبطال للنواميس الحافظة للاجتماع، ويمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم والإفساد بل جميع الآيات المعطية لاُصول الشرائع والقوانين. فالمراد بقوله: 'خُذِ الْعَفْوَ' هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخص النبيّ صلى الله عليه و آله، وعلى ذلك أنّه لم ينتقم من أحد لنفسه قطّ. وقوله: 'وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ' والعرف هو ما يعرفه العقلاء من السنن والسير الجميلة الجارية بينهم بخلاف ما ينكره المجتمع وينكره العقل الاجتماعي من الأعمال النادرة الشاذّة، ومن المعلوم أنّ لازم الأمر بمتابعة العرف أن يكون نفس الآمر مؤتمراً بما يأمر من المتابعة، ومن ذلك أن يكون نفس أمره بنحو معروف غير منكر، فمقتضى قوله: 'وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ' أن يأمر بكلّ معروف، وأن لا يكون نفس أمر بالمعروف على وجه منكر. وقوله: 'وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ' أمر آخر بالمداراة معهم، وهو أقرب طريق وأجمله لإبطال نتائج جهلهم وتقليل فساد أعمالهم، فإنّ في مقابلة الجاهل بما يعادل جهله إغراء له بالجهل والإدامة على الغيّ والضلال. [ راجع في هذا المجال: تفسير الميزان 396:8].
و من الأحاديث ما يلي
وفي تفسير الدرّ المنثور: أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ مكارم الأخلاق عند اللَّه أن تعفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك، ثمّ تلا النبيّ صلى الله عليه و آله: 'خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ'. [ تفسير الدرّ المنثور 154:3].
قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في خطبة: 'ألا اُخبركُم بِخَير خلائق الدنيا والآخرة؟ العَفو عمّن ظلمك، وتصل من قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء من حرمك'. [ اُصول الكافي 107:2].
وعنه أيضاً: 'عليكم بالعفو، فإنّ العفو لا يزيد العبد إلا عِزّاً، فتعافُوا يعزّكم اللَّه'. [ المصدر المتقدّم: 108].
وقال عليّ عليه السلام: 'شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو، والعدل'. [ غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي 186:4، ح 5769].
وعنه أيضاً: 'قلّة العفو أقبح العيوب، والتسرّع إلى الانتقام أعظم الذنوب'. [ المصدر المتقدّم: 505، ح 6766].
وعنه أيضاً: 'العفو زكاة القدرة'. [ المصدر المتقدّم 230:1، ح 924].
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: 'الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة'. [ اُصول الكافي 108:2].
كلمة في عفو عليّ ومروءته مع أعدائه
قال جورج جرداق المسيحي: كلّ ما في الطبيعة كان يعصف بالثورة إلا وجه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقد انبسط لا يحدّث بانتقام، ولا يشير إلى اشتباك، فإنّ العُوّاد وقفوا بباب الإمام وكلّهم جازع متألّم باك يدعو إلى اللَّه أن يرحم أمير المؤمنين فيشفيه، ويشفي به آلام النّاس، وكانوا قد شدّوا على ابن ملجم، فلمّا أدخلوه عليه قال: 'أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه'. [ الإمام عليّ عليه السلام صوت العدالة الإنسانيّة 1004:4].
وقال أيضاً: ومروءة الإمام أندر من أن يكون لها مثل في التاريخ، وحوادث المروءة في سيرته أكثر من أن تعدّ. منها: أنّه أبى على جنده - وهم في حال من النقمة والسخط - أن يقتلوا عدوّاً تراجع، وأن يتركوا عدوّاً جريحاً فلا يسعفوه، كما أبى عليهم أن يكشفوا ستراً، أو أن يأخذوا مالاً.
ومنها: أنّه صلّى في وقعة الجمل على القتلى من أعدائه وسأل لهم الغفران، وأنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الّذين يتحيّنون الفرص للتخلّص منه - وهم عبداللَّه بن الزبير ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص - عفا عنهم وأحسن إليهم، وأبى على أنصاره أن يتعقّبوهم بسوءٍ وهم على ذلك قادرون، إلى آخر كلامه.
ومنها: أنّه ظفر بعمرو بن العاص، فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته، ويستمرّ في مؤامرته ضدّه؛ لأنّ عَمْراً"عمروعاص" هذا رجاه على اُسلوب خاصّ "يعنى بكشف عورته حين المحاربة" أن يعفو عنه، وقد أصبح ذو الفقار فوق هامته... [ المصدر المتقدّم 82:1].
قال العقّاد في بيان مروءته عليه السلام: ويزيدها تشريفاً أنّها ازدانت بأجمل الصفات الّتي تزيّن شجاعة الشجعان الأقوياء، فلا يعرف النّاس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات الّتي طبع عليها عليّ عليه السلام بغير كلفة، ولا مجاهدة رأي، وهي التورّع عن البغي، والمروءة مع الخصم، قويّاً أو ضعيفاً على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدوّ بعد الفراغ من القتال.
فمن تورّعه عن البغي مع قوّته البالغة وشجاعته النادرة، أنّه لم يبدأ أحداً قطّ بقتالٍ وله مندوحة عنه، وكان يقول لابنه الحسن: 'لا تدعونّ إلى مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإنّ الداعي إليها باغٍ، والباغي مصروع'.
وعلم أنّ جنود الخوارج يفارقون عسكره ليحاربوه، وقيل له: إنّهم خارجون عليك فبادرهم قبل أن يبادروك، فقال: 'لا اُقاتلهم حتّى يقاتلوني.. وسيفعلون'.
وكذلك فعل قبل وقعة الجمل، وقبل وقعة صفّين، وقبل كلّ وقعة صغرت أو كبرت، ووضح فيها عداء العدوّ أو غُمض.. يدعوهم إلى السلم، وينهى رجاله عن المبادأة بالشرّ، فما رفع يده بالسيف قطّ إلا وقد بسطها قبل ذلك للسلام.
وساق الكلام إلى أن قال: وأمّا مروءته في هذا الباب، فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مُدبراً أو يجهزوا على جريحٍ، أو يكشفوا ستراً، أو يأخذوا مالاً، وصلّى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على السواء، وظفر بعبداللَّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهم ألدّ أعدائه المؤلّبين عليه، فعفا عنهم ولم يتعقّبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدّة، فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سؤاته اتّقاءً لضربته.
وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة وهم يقولون له: ولا قطرة حتّى تموت عطشاً.. فلمّا حمل عليهم وأجلاهم عنه سوّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيّدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفيّة أم طلحة الطلحات: أيتم اللَّه منك أولادك كما أيتمتَ أولادي. فلم يردّ عليها شيئاً ثمّ خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يردّ عليها، قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين، أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فانتهره وهو يقول: 'ويحك، إنّا أمرنا أن نكفّ عن النساء وهنّ مشركات، ألا نكفّ عنهنّ وهنّ مسلمات'، ثمّ ودّع السيّدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالاً وأرسل معها من يخدمها ويخفّف بها.
إلى أن قال: وهذه المروءة كانت سنّته مع خصومه، من استحقّ منهم الكرامة ومن لم يستحقّها، ومَن كان في حرمة عائشة، ومن لم تكن له قطّ حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مُقاتل في وغر القتال. [ عبقرية الإمام عليه السلام لعباد محمود العقاد: 18].
فقد مرّ منّا موارد في سيرته من عفوه و مرؤته في فصل 'سيرة على عليه السلام مع معارضيه في الحكومة' و نذكر هنا موارد من سيرته في عفوه تكميلاً للبحث.
رجل اتّهم عليّا بالكفر وعفا عنه
في "نهج البلاغة" أنّه عليه السلام كان جالساً في أصحابه فمرّت بهم امرأة جميلةٌ فرمَقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'إنّ أبصار هذه الفُحُول طَوامِح [ طوامح: مرتفعات].
وإنّ ذلك سببُ هِبابِها' [ الهباب: الهيجان].
فإذا نظر أحدُكم إلى امرأةٍ تُعجِبُه فليلامس أهلَه فإنّما هي امرأةٌ كامرأته'. فقال رجل من الخوارج: قاتَلُه اللَّه كافراً ما أفقَهَه! فوثَبَ القَومُ لِيقتلُوهُ، فقال عليه السلام: 'رويداً إنّما هو سبُّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذَنبٍ'. [ نهج البلاغة: قصار الحكم 420].
عفوه العامّ عن أعدائه في حرب الجمل
وأمر عليّاً عليه السلام بعد غلبته على القوم في حرب الجمل منادياً فنادى: 'لا تتّبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تدخلوا الدور، ولا تزرؤوا سلاحاً وثياباً ولا متاعاً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن'.
ثمّ دخل عليه السلام البصرة يوم الاثنين بعد الوقعة بثلاث، فانتهى إلى المسجد فصلّى فيه، ثمّ دخل البصرة فأتاه النّاس.
قال المفيد في هذا المجال أنّه عليه السلام بعد حمد اللَّه والثناء عليه، قال: 'أمّا بعد، فإنّ اللَّه ذو رحمة واسعة، ومغفرة دائمة، وعفو جمّ، وعقاب أليم، وقضى أنّ رحمته ومغفرته وعفوه لأهل طاعته من خلقه، وبرحمته اهتدى المهتدون، و قضى أنّ نِقمته وسَطواته وعقابه على أهل معصيته من خلقه، وبعد الهدى والبيّنات ما ضلّ الضالّون، فما ظنّكم - يا أهل البصرة - وقد نكثتم بيعتي، وظاهرتم علَيَّ عدوّي؟'.
فقام إليه رجل، فقال: نظنّ خيراً، ونراك قد ظفِرت وقدرت، فإن عاقبتَ فقد اجترمنا ذلك، وإن عفوت فالعفو أحبّ إلى اللَّه تعالى.
فقال عليه السلام: 'قد عفوت عنكم، فإيّاكم والفتنة، فإنّكم أوّل الرعيّة نكث البيعة، وشقّ عصا هذه الاُمّة'، قال: ثمّ جلس عليّ عليه السلام للنّاس فبايعوه. [ الارشاد 257:1].
قال ابن أبي الحديد المعتزلي في "شرح نهج البلاغة": وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف وشتموه ولعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتّبع مولٍّ، ولا يُجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم ولا سبى ذراريهم ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، ولكنّه أبى إلا الصفح والعفو وتقيّل سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة، فإنّه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس. [ شرح ابن أبي الحديد 23:1].
عفوه عن المحاربين ومنهم مروان بن الحكم
في كتاب الإمام عليّ عليه السلام عن الشيخ المفيد عن هاشم بن مساحق القرشي، قال: حدّثنا أبي: أنّه لمّا انهزم النّاس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم، فقال بعضهم لبعض: واللَّه ظلمنا هذا الرجل - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام - ونكثنا بيعته من غير حدث، واللَّه لقد ظهر علينا فما رأينا قطّ أكرم سيرة منه، ولا أحسن عفواً بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، تعالوا حتّى ندخل عليه ونعتذر إليه فما صنعناه.
قال: فصرنا إلى بابه فاستأذناه، فأذن لنا، فلمّا مثلنا بين يديه جعل متكلّمنا يتكلّم، فقال عليه السلام: 'انصتوا أكفكم، إنّما أنا بشر مثلكم، فإن قلتُ حقّاً فصدّقوني، وإن قلتُ باطلاً فردّوا علَيَّ، اُنشدكم اللَّه أتعلمون أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قُبِضَ وأنا أوْلى النّاس به وبالنّاس من بعده؟'، قلنا: اللّهمّ نعم. قال: 'فعدلتم عنّي وبايعتم أبا بكر فأمسكتُ، ولم اُحبّ أن أشقّ عصا المسلمين، واُفرّق بين جماعاتهم، ثمّ إنّ أبا بكر جعلها لعمر من بعده، فكففتُ ولم أهج النّاس، وقد علمتُ أنّي كنت أوْلى النّاس باللَّه وبرسوله وبمقامه، فصبرتُ حتّى قُتِل، وجعلني سادس ستّة، فكففتُ ولم اُحبّ أن اُفرّق بين المسلمين، ثمّ بايعتم عثمان، فطغيتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي، وأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر، وفيتم لهما ولم تفوا لي، وما الّذي منكم من نكث بيعتهما، ودعاكم إلى نكث بيعتي؟!'.
فقلنا له: كن - يا أمير المؤمنين - كالعبد الصالح يوسف إذ قال: 'لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ' [ سورة يوسف: 92].
فقال عليه السلام: 'لا تَثْرِيبَ عَلَيكم اليوم، وإنّ فيكم رجلاً لو بايعني بيده لنكث بإسته'، يعني مروان بن الحكم. [ انظر كتاب الإمام عليّ للرحماني: 487، رواه عن الجمل أو النصرة في حرب البصرة: 222، و203].
من وصاياه لاُمراء الجنود في صفّين بالمروءة
وكتب عليه السلام إلى اُمراء الجنود: 'من عبد اللَّه عليّ أمير المؤمنين، أمّا بعد، فاعزلوا النّاس عن الظلم والعدوان، وخذوا على أيدي سفهائكم، واحترسوا أن تعملوا أعمالاً لا يرضى اللَّه بها عنّا فيردّ علينا وعليكم دعاءنا، فإنّ اللَّه تعالى يقول: 'قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ'. [ أعيان الشيعة 477:1].
القتال على ماء الفرات، وعند غلبته لم يمنع أعداءه الماء
قال ابن أبي الحديد: ولمّا ملك عسكر معاوية عليه الماء وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم عليّ عليه السلام وأصحابه أن يسوّغوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا واللَّه ولا قطرة حتّى تموت ظمأً كما مات ابن عفّان، فلمّا رأى عليه السلام أنّه الموت لا محالة، تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتّى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلان لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعم الماء - يا أمير المؤمنين - كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب، فقال: 'لا واللَّه لا اُكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك. [ شرح ابن أبي الحديد 23:1].
ملكنا فكان العفو منّا سجيّة*** فلمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا*** فكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ
[ الإمام عليّ للرحماني: 482].
مروءته مع ابن ملجم اللعين لمّا ضربه
ومن كلامه قُبيل موته وصيّته: 'وصيّتي لكم أن لا تشركوا باللَّه شيئاً، ومحمّد صلى الله عليه و آله، فلا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذمّ [ خلاكم ذمّ: عداكم وجاوزكم اللوم بعد قيامكم بالوصيّة].
أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم، إن أبق فأنا وليّ دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبّون أن يغفر اللَّه لكم، واللَّه ما فجاءني من الموت واردٌ كرهتهُ، ولا طالعٌ أنكرته، وما كنت إلا كقارب [ القارب: طالب الماء ليلاً ولا يقال لطالبه نهاراً].
وَرَدَ، وطالب وَجَدَ، وما عند اللَّه خير للأبرار'. [ نهج البلاغة للفيض: 865، الكتاب 23].
وفي "البحار": فلمّا جي ء بابن ملجم عنده عليه السلام، فقال الحسن عليه السلام: 'الحمد للَّه الّذي نصر وليّه، وخذل عدوّه'، ثمّ انكبّ الحسن على أبيه يقبّله، وقال له: 'يا أباه، هذا عدوّ اللَّه وعدوّك قد أمكن اللَّه منه'، فلم يجبه وكان نائماً، فكره أن يوقظه من نومه، فرقد ساعة ثمّ فتح عينيه وهو يقول: 'ارفعوا بي، يا ملائكة ربّي'.
فقال له الحسن عليه السلام: 'هذا عدوّ اللَّه وعدوّك ابن ملجم، قد أمكن اللَّه منه، وقد حضر بين يديك'. قال: ففتح أمير المؤمنين عليه السلام عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلّق في عنقه، فقال له بضعفٍ وانكسار صوت ورأفةٍ ورحمةٍ: 'يا هذا، لقد جئتَ عظيماً، وارتكبتَ أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنتُ لك حتّى جازيتني بهذا الجزاء؟! ألم أكن شفيقاً عليك، وآثرتك على غيرك، وأحسنت إليك، وزدت في إعطائك؟ ألم يكن يقال لى فيك كذا وكذا، فخلّيت لك السبيل، ومنحتك عطائي، وقد كنت أعلم أنّك قاتلي لا محالة؟ ولكن رجوتُ بذلك الاستظهار من اللَّه تعالى عليك، يا لكع وعلّ أن ترجع عن غيّك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقيّ الأشقياء'.
قال: فدمعت عينا ابن ملج لعنه اللَّه تعالى، وقال: يا أمير المؤمنين، أفأنت تنقذ من في النّار؟ قال له: 'صدقت'، ثمّ التفت عليه السلام إلى ولده الحسن عليه السلام وقال له: 'ارفق - ولدي - بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في اُمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً'.
فقال له الحسن عليه السلام: 'يا أباه، قد قتلك هذا اللعين الفاجر، وأفجعنا فيك، وأنت تأمرنا بالرفق به؟'.
فقال له: 'نعم - يا بنيّ - نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقّي عليك فأطعمه - يا بنيّ - ممّا تأكله وأسقه ممّا تشرب، ولا تقيّد له قدماً، ولا تغلّ له يداً، فإن أنا متُّ فاقتصّ منه، بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة وتحرقه بالنّار، ولا تمثّل بالرجل، فإنّي سمعتُ جدّك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وإن أنا عشتُ، فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفواً وكرماً'. [ البحار 287:42].
وفي "نهج البلاغة" أكّد أيضاً على مراعاة الموازين الشرعيّة والاحتراز عن المثلة حيث قال في مرضه الّذي توفّي فيه: 'يا بني عبدالمطّلب، لا ألفينّكم [ لا ألفينّكم: لا أجدّنكم، نفي في معنى النهي].
تَخُوضون [ تخوضون دماء المسلمين: تسفكون دماءهم].
دماء المسلمين خَوضاً، تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تَقْتُلُنَّ بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ مِن ضَربتِهِ هذه، فاضربوه ضربةً بضربةٍ، ولا تُمَثّلوا [ من التمثيل، وهو التشويه بعد القتل أو قبله بقطع الأطراف مثلاً].
بالرَّجُل، فإنّي سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'إيّاكم والمُثلَة ولو بالكلبِ العَقُور'. [ نهج البلاغة: الكتاب 47].
في بعض الموارد لا يجوز العفو والمروءة؛ لأنّ الترحّم على الظالم مع إمكان استمرار ظلمه إعانة على الظالم، وجور على المظلوم، ولذلك نراه في صفّين قتل المقبل والمدبر وأجاز على الجريح على خلاف سنّته في الجمل.
قال صاحب الجواهر: لمّا هزم النّاس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السلام: 'لا تتّبعوا مولّياً، ولا تجهزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن'، فلمّا كان يوم صفّين قتل المقبل والمدبر، وأجاز على جريح، فقال أبان بن تغلب لعبد اللَّه بن شريك: هاتان مختلفتان، فقال: إنّ أهل الجمل قتل طلحة والزبير، وإنّ معاوية كان قائماً بعينه وكان قائدهم.
وذكر سبباً آخر يتعلّق بموقف الحكّام بعده من شيعته، ويؤيّده بعض الروايات، منها ما رواه في "الدعائم" عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: 'سار عليّ عليه السلام بالمنّ والعفو في عدوّه من أجل شيعته، لأنّه كان يعلم أنّه سيظهر عليهم عدوّهم من بعده، فأحبّ أن يقتدي من جاء بعده به فيسير في شيعته بسيرته ولا يجاوز فعله'. [ جواهر الكلام 330:21، كتاب الجهاد. وراجع: وسائل الشيعة 55:11].
وروى أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام: 'لولا أنّ عليّاً عليه السلام سار في أهله حربه بالكفّ عن السبىّ والغنيمة لَلَقِيتْ شيعته من النّاس بلاءً عظيماً'. ثمّ قال: 'واللَّه لسيرته كانت خيراً لكم ممّا طلعت عليه الشمس'. [ المصدر المتقدّم: 335].
قال عليّ عليه السلام: 'بعثني النبيّ صلى الله عليه و آله إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، إنّي حديث السنّ، قال: فوضع يده على صدري وقال: اذهب، فإنّ اللَّه سيثبّت لسانك ويهدي قلبك، قال: فما شككت في قضاء بين خصمين قاما بين يدي بعدُ'.
تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ "ع"، 490: 2، ح 1011
كان عليّ عليه السلام أقضى الاُمّة وأعلمها بغوامض أحكام الإسلام وأعرفها بالقرآن والسنّة وبحوادث زمانه بحيث أصبح متداولاً على ألسنة الأصحاب بأنّه أقضى النّاس في أهل المدينة.
ولذا اختاره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاضياً وبعثه إلى اليمن في عهده صلى الله عليه و آله ودعا له بالخير وأثنى عليه وأبان فضله في ذلك، فدلّ به على استحقاقه عليه السلام الأمر من بعده صلى الله عليه و آله، ووجب تقدّمه عليه السلام على من سواه في مقام الإمامة.
قال المفيد في "الإرشاد": فمن ذلك - أي من فضائله ومناقبه - ما رواه نقلة الآثار من العامّة والخاصّة في قضاياه ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيّ، فَصَوَّبَهُ فيها وحكم له بالحقّ فيما قضاه، ودعا له بخير وأثنى عليه وأبانه بالفضل في ذلك من الكافّة، دلّ به على استحقاقه الأمر من بعده، ووجوب تقدّمه على من سواه في مقام الإمامة، كما تضمّن ذلك التنزيل فيما دلّ على معناه، وعرّف به ما حواه من التأويل حيث يقول اللَّه عزّ وجلّ: 'أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لَا يَهِدِّي إِلا أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ' [ سورة يونس: 35].
وقوله سبحانه: 'قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ'. [ سورة الزمر: 9].
وقوله تعالى في قصّة آدم وقد قالت الملائكة: 'أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ' إلى قوله: 'وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ' [ سورة البقرة: 33 - 30].
فنبّه اللَّه تعالى الملائكة على أنّ آدم أحقّ بالخلافة منهم؛ لأنّه أعلم منهم بالأسماء وأفضلهم في علم الأنبياء.
وقال جلّ ذكره في قصّة طالوت: 'وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ' [ سورة البقرة: 247].
فعل جهة حقّه في التقدّم عليهم ما زاده اللَّه من البسطة في العلم والجسم، واصطفائه إيّاه على كافّتهم بذلك، وكانت هذه الآيات موافقة لدلائل العقول في أنّ الأعلم هو أحقّ بالتقدّم في محلّ الإمامة ممّن لا يساويه في العلم، ودلّت على وجوب تقدّم أميرالمؤمنين عليه السلام على كافّة المسلمين في خلافة الرسول صلى الله عليه و آله وإمامة الاُمّة، لتقدّمه عليه السلام عليهم في العلم والحكمة وقصورهم عن منزلته في ذلك. [ الإرشاد 193:1].
وقال ابن الصبّاغ المالكي: "فصل" في ذكر شيء من علومه. فمنها علم الفقه الّذي هو مرجع الأحكام ومنبع الحلال والحرام، فقد كان عليّ عليه السلام مطّلعاً على غوامض أحكامه منقاداً جامحاً بزمامه، مشهوداً له فيه بعلوّ محلّه ومقامه، ولهذا خصّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعلم القضاء كما نقله الإمام أبو محمّد الحسين بن مسعود البغوي في كتابه "المصابيح" مرويّاً عن أنس بن مالك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خصّص جماعة من الصحابة كلّ واحد بفضيلة؛ خصّص عليّاً بعلم القضاء، فقال صلى الله عليه و آله: 'وأقضاكم عليّ'.
[ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 34].
ما ورد عن النبيّ أنّه أقضى الاُمّة
1- في "الإحقاق" عن "أخبار القضاة": بإسناده عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'أقضى اُمّتي عليّ'. [ الاحقاق 321:4].
2- وفيه أيضاً بإسناده: عن شدّاد بن أوس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'أقضى اُمّتي عليّ'. [ الاحقاق 321:4].
3- وفيه أيضاً عن "المعجم الصغير": بإسناده عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري، قال: قال: رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث: 'أقضى اُمّتي عليّ بن أبي طالب'. [ الاحقاق 321:4].
4- وفيه أيضاً: عن كتاب "التبصير في الدين"، قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: في صفة عليّ عليه السلام: 'أقضاكم عليّ'. [ الاحقاق 321:4].
5- وفيه أيضاً: عن "مصابيح السنّة": عن قتادة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: 'أقضاكم عليّ'. [ مصابيح السنّة 203:2، نقلاً عن المصدر المتقدّم].
6- وفي "فرائد السمطين": عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'أقضاكم عليّ'. [ ينابيع المودّة: 75].
7- وفي "ينابيع المودّة": عن سلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري، قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ أقضى اُمّتي عليّ بن أبي طالب'. [ أمالي الصدوق - المجلس الحادي والثمانون: ح 20].
8- وفي "البحار" عن "أمالي الصدوق": بإسناده عن سلمان، عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: 'أقضى اُمّتي وأعلم اُمّتي بعدي عليّ'. [ البحار 150:40].
9- وفيه كتاب "الجلاء والشفاء والإحن والمحن": قال الصادق عليه السلام: 'قضى عليّ عليه السلام بقضيّة باليمن، فأتوا النبيّ صلى الله عليه و آله فقالوا: إنّ عليّاً ظلمنا. فقال صلى الله عليه و آله: 'إنّ عليّاً ليس بظالم، ولم يخلق للظلم، وإنّ عليّاً عليه السلام وليّكم بعدى، والحكم حكمه، والقول قوله، ولا يردّ حكمه إلا كافر، ولا يرضى به إلا مؤمن'.
ثمّ قال: وإذا ثبت ذلك فلا ينبغي لهم أن يتحاكموا بعده إلى غير عليّ عليه السلام، والقضاء يجمع علوم الدين، فإذا يكون هو الأعلم فلا يجوز تقديم غيره عليه؛ لأنّه يقبح تقديم المفضول على الفاضل.
أفلا يكون أعلم النّاس وكان مع النبيّ صلى الله عليه و آله في البيت والمسجد، يكتب وحيه ومسائله ويسمع فتاويه ويسأله، وروي أنّه كان النبيّ صلى الله عليه و آله إذا نزلت عليه الوحي ليلاً لم يصبح حتّى يخبر به عليّاً عليه السلام، وإذا نزل عليه الوحي نهاراً لم يمسّ حتّى يخبر به عليّاً. ومن المشهور إنفاقه الدينار قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه و آله وسأله عن عشر مسائل فتح له منها ألف باب، فتح كلّ باب ألف باب، وكذا حين وصّى النبيّ صلى الله عليه و آله قبل وفاته. [ البحار 150:40].
ما ورد عن عمر بن الخطّاب على أنّه أقضى الاُمّة
1- في "تاريخ دمشق" لابن عساكر الشافعي: بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: خطبنا عمر على منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: عليٌّ أقضانا، واُبيّ أقْرَأنا، وإنّا لندع من قول اُبيّ أشياء، الحديث'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 28:3، ح 1054].
2- وفيه أيضاً: عن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال عمر بن الخطّاب: عليٌّ أقضانا. [ المصدر المتقدّم: 32، ح 1061].
3- وقال البخاري في كتاب التفسير من صحيحة بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: قال عمر: أقرأنا اُبيّ، وأقضانا عليّ، الحديث. [ صحيح البخاري 335:6، باب 211، ح 912].
4- وفي "تاريخ دمشق": بإسناده قال: كان عمر يقول: عليّ أقضانا للقضاء، واُبيّ أقرأنا للقرآن. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 32:3، ح 1062].
ما ورد عن الأصحاب بأنّه أقضى أهل المدينة
1- في "تاريخ دمشق" لابن عساكر الشافعي: بإسناده عن علقمة عن عبداللَّه بن مسعود، قال: كنّا نتحدّث أنّ أقضى أهل المدينة عليّ بن أبي طالب عليه السلام. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام35:3، ح 1066].
2- وفيه أيضاً: بإسناده عن أبي الأحوص، قال: قال عبداللَّه بن مسعود: أفرض أهل المدينة وأقضاهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام. [ المصدر المتقدّم: ح 1067].
3- وفيه أيضاً: بإسناده عن مغيرة عن الشعبي، قال: ليس منهم أحد أقوى قولاً في الفرائض من عليّ بن أبي طالب. [ المصدر المتقدّم: 38، ح 1069].
4- وروى ابن سعد في "الطبقات" بسنده عن أبي إسحاق: أنّ عبداللَّه بن مسعود كان يقول: أقضى أهل المدينة ابن أبي طالب. [ الطبقات لابن سعد 339:2].
5- وروى الحاكم في "المستدرك": بسنده عن علقمة، عن عبداللَّه، قال: كنّا نتحدّث أنّ أقضى أهل المدينة عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال الحاكم: هذا حديث صحيح. [ المستدرك 35:3].
ما ورد عن أبي عبداللَّه الصادق على أنّه أقضى الاُمّة
روى الشيخ الطوسي و الكليني بإسنادهما عن سعيد بن أبي الخضيب البجلي، قال: كنت مع ابن أبي ليلى مزامله حتّى جئنا إلى المدينة، فبينا نحن في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ دخل جعفر بن محمّد عليه السلام فقلت لابن أبي ليلى: تقوم بنا إليه؟ فقال: وما نصنع عنده؟ فقلت: نسائله ونحدّثه. فقال: قم، فقمنا إليه، فسألني عن نفسي وأهلي، ثمّ قال: مَن هذا معك؟ فقلت: ابن أبى ليلى قاضي المسلمين؟'، فقال: أنت ابن ابى ليلى قاض المسلمين؟ فقال: نعم. فقال: 'تأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتقتل وتفرق بين المرء وزوجه، لا تخاف في ذلك أحداً؟'. قال: نعم، قال: 'فبأيّ شيء تقضي؟'. قال: بما بلغني عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن عليّ، وعن أبي بكر وعمر.
قال: 'فبلغك عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: إنّ عليّاً عليه السلام أقضاكم؟'، قال: نعم. قال: 'فكيف تقضي بغير قضاء عليّ عليه السلام وقد بلغك هذا، فما تقول: إذا جي ء بأرض من فضّة وسماوات من فضّة، ثمّ أخذ رسول اللَّه بيدك فأوقفك بين يدي ربّك، وقال: يا ربّ، إنّ هذا قضى بغير ما قضيت؟'، قال: فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد مثل الزعفران، ثمّ قال لي: التمس لنفسك زميلاً، واللَّه لا اُكلّمك من رأسي كلمة أبداً. [ التهذيب 220:6، والكافي 408:7].
وحدث مثل هذه القضيّة عن أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام خطاباً لعقبة بن خالد، قال: لو رأيت غيلان بن جامع قاضى ابن صبره و استأذن علىَّ فأذنت له - و قد بلغنى أنّه كان يدخل الى بني هاشم - فلما جلس... قال عليه السلام له: يا غيلان ألستم تزعمون يا أهل العراق و تروون أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: 'عليّ أقضاكم'؟ فقال: نعم، قال: قلت: و كيف تقضى من قضاء عليّ عليه السلام زعمت بالشي ء و رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: 'عليٌّ أقضاكم' قال: و قلت كيف تقضى يا غيلان؟ قال اكتب هذا ما قضى به فلان بن فلان...'. [ الكافي 429:7].
تحقيق وتوضيح لهذا الحديث: قال العلامة المحمودي "في تحقيقه لتاريخ دمشق" في توضيح الحديث: أنّ عليّاً عليه السلام هو أقضى الاُمّة جميعاً، وإنّما قال ابن مسعود: أقضى أهل المدينة؛ لأنّهم الآخذون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله العالمون بما جاء من عند اللَّه، وأمّا غير أهل المدينة فلم يكن عندهم من علم الشريعة ما يصحّ أن يطلق عليهم العالم، فإذا كان عليّ عليه السلام أقضى أهل المدينة فهو أقضى الاُمّة جميعاً، وهذا بلغ من التجلّي الإسفار حدّاً لا يمكن لمن له أدنى حظّ من العلم والإدراك إنكاره حتّى أنّ مكفّر فراعنة بني اُميّة قد اضطرّ إلى الاعتراف به، والتصديق له كما رواه لنا ابن عساكر في ترجمة يزيد بن أبي مسلم الثقفي كاتب الحجّاج من تاريخ دمشق "80:63"، قال: أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر بسنده عن محمّد بن سليمان، قال: حدّثنا رقبة، قال: خرج يزيد بن أبي مسلم من عند الحجّاج، فقال: لقد قضى الأمير بقضيّة، فقال له الشعبي: وما هي؟ فقال: قال: ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة.
فقال الشعبي: قضى "به قبله" رجل من أهل بدر، قال: ومَن هو؟ قال: لا اُخبرك، قال: مَن هو على عهد اللَّه وميثاقه أن لا اُخبره، قال: هو عليّ بن أبي طالب. قال: فدخل على الحجّاج فأخبره، فقال الحجّاج: صدق! ويحك إنّا لم ننقم على عليّ قضاه، قد علمنا أنّ عليّاً كان أقضاهم!
ثمّ قال المحمودي: هذا قول الحجّاج مع إغرائه بدماء المعترفين بفضل أمير المؤمنين عليه السلام المقرّين له بخصيصة، ولأجله قد خفيت مناقبه عليه السلام، وما تجاسر أحد على ذكر فضيلة له عليه السلام إلا في الخبايا والزوايا الخالية عن رقباء بني اُميّة أو الراغبين إليهم، ومع ذلك قد أتمّ اللَّه حجّته، وأبرز من مناقبه ما يقنع به كلّ بصير، ويطمئنّ إليه، ويخضع له كلّ ذي شعور، وقد لاحظت قريباً أنّه عليه السلام كان أعلم أهل المدينة، وأفضل أهل المدينة.
ومن أجل هذه النصوص والشواهد الخارجيّة غير المحصورة اعترف الشافعي - مع كونه مستأجراً لبني العبّاس وهم أعداء لبني طالب ومُحبّهم - وقال: لا جرم كان عليّ أقضاهم وأعلمهم وأفضلهم... [ هامش تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 37:3، بتحقيق العلامة المحمودي].
نبذة ممّا ورد من الأخبار أنّ رسول اللَّه يعلّمه القضاء
1- في "السيرة النبويّة": بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن [ في هامش مسند زيد: 261، ط. دار الكتب العلمية - بيروت، قال في سيرة صنعاء: كان نزول عليّ "ع" في اليمن على اُمّ سعيد ابنة برزخ، وهي أوّل مَن أسلم من أهل اليمن، وبَنَتْ مسجداً وسمّته مسجد عليّ "ع"، وهذا المسجد موجود إلى يومنا هذا، مشهور في سوق الحلقة، وسمّى الحلقة لأنّ أهل اليمن اجتمعوا على عليّ بن أبي طالب في هذا المحلّ وحلقوا عليه، ولبث عليّ "ع" بصنعاء أربعين يوماً، ودخل أماكن اليمن منها عدن أبين وعدن لاعة من بلاد حجة].
في شهر رمضان سنة عشر، وعقد له لواء، وعمّمه بيده، وقال له: 'امض ولا تلتفت'. فقال عليّ عليه السلام: 'يا رسول اللَّه، ما أصنع؟'، قال صلى الله عليه و آله: 'إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتّى يقاتلوك، وادعهم إلى قول لا إله إلا اللَّه'، فإن قالوا: نعم، فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك، واللَّه لأن يهدي اللَّه بك رجلاً واحداً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت'. [ السيرة النبويّة لزيني دحلان بهامش السيرة الحلبيّة 345:2].
2- وعن أبي داود وغيره من حديث عليّ عليه السلام، قال: 'بعثني النبيّ صلى الله عليه و آله إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، تبعثني إلى قوم أسنّ منّي، وأنا حديث السنّ لا اُبصر القضاء'، قال: 'فوضع يده في صدري وقال: اللّهمّ ثبّت لسانه، واهد قلبه، وقال: يا عليّ، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتّى تسمع من الآخر، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء'.
قال عليّ عليه السلام: 'واللَّه ما شككت في قضاء بين اثنين'، فخرج عليّ عليه السلام في ثلاثمائة فارس، الحديث. [ سنن أبي داود 301:3، ح 3582، روى عنه المصدر المتقدّم 346:2، ورواه النسائي في خصائص أمير المؤمنين: 42، ح 3، وأحمد في الفضائل: 152، ح 280].
3- وفي "المناقب" لابن المغازلي الشافعي: بإسناده عن أبي البختري، عن عليّ عليه السلام، قال: 'بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى اليمن لأقضي بينهم، قال: فقلت: يا رسول اللَّه، إنّي لا علم لي بالقضاء، فضرب يده على صدري، وقال: اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه، فما شككت في قضاء بين اثنين حتّى جلست مجلسي هذا'. [ المناقب لابن المغازلي: 248، ح 298].
4- وفيه أيضاً بلفظ آخر: عن عليّ عليه السلام، قال: 'بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، تبعثني إلى قوم جُفاة أقضي بينهم ولا علم لي بالقضاء؟'، قال: فضرب بيده في صدري، وقال: إنّ اللَّه هاد قلبك، ومثبّتٌ لسانك'، قال عليّ: 'فواللَّه! ما شككتُ في قضاء بين اثنين حتّى الساعة'. [ المصدر المتقدّم: 250، ح 299].
5 - و في "تاريخ دمشق" لابن عساكر الشافعي: بإسناده عن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه و آله عليّاً إلى اليمن، فقال: 'علّمهم الشرائع واقض بينهم'. قال: 'لا علم لي بالقضاء'، قال: فدفع في صدره، وقال: 'اللّهمّ اهده إلى القضاء، فنهاهم عن الدباء والخنتم والمزفت'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 497:2، ح 1018].
6- وفي "الاحقاق" عن الخصائص عن عليّ عليه السلام، قال: 'بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى اليمن وأنا شابّ، فقلت: يا رسول اللَّه، تبعثني وأنا شاب إلى قوم ذوي أسنان أقضي بينهم ولا علم لي القضاء؟ فوضع يده على صدري، ثمّ قال: إنّ اللَّه سيهدي قلبك، ويثبّت لسانك. يا عليّ، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضِ بينهما حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل، فإنّك إذا فعلت ذلك تبدى لك القضاء'. قال عليّ عليه السلام: 'فما أشكل علَيَّ قضاء بعد ذلك'. [ الإحقاق 39:8، وروى نحوه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ: 44].
7- و في "كنز العمّال" عن ابن جرير، عن عليّ عليه السلام، قال: 'أتى النبيّ صلى الله عليه و آله ناس من اليمن، فقالوا: ابعث فينا من يُفقّهنا في الدين، ويُعلّمنا السنن، ويحكم فينا بكتاب اللَّه. فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: انطلق - يا عليّ - إلى أهل اليمن فَفَقِّهْهُمْ في الدين، وعلّمهم السنن، واحكُم فيهم بكتاب اللَّه'.
فقلت: إنّ أهل اليمن قوم طغام [ الطغام على ما في "نهاية ابن الأثير": من لاعقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد النّاس وأراذله'].
يأتوني من القضاء بما لا علم لي به، فضرب النبيّ صلى الله عليه و آله صدري، ثمّ قال: اذهب فإنّ اللَّه سيهدي قلبك، ويثبّت لسانك، فما شككت في قضاء بين اثنين حتّى الساعة'. [ كنز العمّال 133:13، ح 36369].
8 - و في "تاريخ دمشق" بسنده عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: 'دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليستعملني على اليمن، فقلت له: يا رسول اللَّه، إنّي شاب حدث السنّ، ولا علم لي بالقضاء. فضرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صدري مرّتين - أو قال: ثلاثاً - وهو يقول: اللّهمّ اهد قلبه، وثبّت لسانه، فكأنّما كلّ علم عندي، وحشا قلبي علماً وفقهاً، فما شككت في قضاء بين اثنين'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 494:2، ح 1015].
9- و في "فرائد السمطين": بإسناده عن أبي البختري، عن عليّ عليه السلام، قال: 'بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم، ولا أدري ما القضاء؟ فضرب في صدري بيده، وقال: اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه، قال عليّ عليه السلام: 'فواللَّه الّذي فلق الحبّة، ما شككت بعد في قضاء بين اثنين'. [ فرائد السمطين 167:1، ح 129].
10- و في "مسند زيد بن عليّ": عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام، قال: 'بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى اليمن، فقلت: يا رسول اللَّه، تبعثني وأنا شاب لا علم لي بالقضاء؟'، قال: فضرب يده على صدري ودعا لي، فقال: اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه، ولقّنه الصواب، وثبّته بالقول الثابت'، ثمّ قال: 'يا عليّ، إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تعجل بالقضاء بينهما حتّى تسمع ما يقول الآخر. يا عليّ، لا تقض بين اثنين وأنت غضبان [ قوله: 'وأنت غضبان' رواه الجماعة بلفظ: 'لا يقضي حاكم بين اثنين وهو غضبان'].
ولا تقبل هدية مخاصم، ولا تضيّفه دون خصمه، فإنّ اللَّه عزّ وجلّ سيهدي قلبك، ويثبّت لسانك'. قال: فقال عليّ عليه السلام: 'فواللَّه الّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، ما شككتُ في قضاء بعد'. [ مسند زيد: 262].
كان قضاؤه مؤيّداً من رسول اللَّه
قال المفيد في "الإرشاد": فما جاءت به الرواية في قضاياه عليه السلام والنبيّ صلى الله عليه و آله حيّ موجود أنّه لمّا أراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تقليده قضاء اليمن، وإنفاذه إليهم ليعلّمهم الأحكام، ويبيّن لهم الحلال من الحرام، ويحكم فيهم بأحكام القرآن، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'تندبني - يا رسول اللَّه - للقضاء وأنا شاب، ولا علم لي بكلّ القضاء'. فقال له: 'ادن منّي'، فدنا منه، فضرب على صدره بيده، وقال: 'اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه'، قال أمير المؤمنين: 'فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام'. [ الإرشاد 195:1، وراجع الطبقات الكبرى 337:2، تاريخ بغداد 443:12].
ثمّ قال فى الارشاد: ولمّا استقرّت به الدار باليمن، ونظر فيما ندبه إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من القضاء والحكم بين المسلمين، رُفِعَ إليه رجلان بينهما جارية يملكان رقّها على السواء، قد جهلا حظر وطئها، فوطآها معاً في طهر واحد على ظنٍّ منهما جواز ذلك لقرب عهدهما بالإسلام، وقلّة معرفتهما بما تضّمنته الشريعة من الأحكام، فحملت الجارية ووضعت غلاماً فاختصما إليه فيه، فقرع على الغلام باسميهما، فخرجت القرعة لأحدهما، فألحق الغلام به وألزمه نصف قيمته لو كان عبداً لشريكه، وقال: 'لو علمت أنّكما أقدمتما على ما فعلتماه بعد الحجّة عليكما بحظره لَبالغتُ في عقوبتكما'.
وبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذه القضيّة، فأمضاها، وأقرّ الحكم بها في الإسلام، وقال: 'الحمد للَّه الّذي جعل فينا أهل البيت من يقضي على سنن داود عليه السلام وسبيله في القضاء'. يعني به القضاء بالإلهام الّذي هو في معنى الوحي ونزول النصّ به لو نزل على التصريح. [ المصدر المتقدّم و نحوه في الكافي 491: 5؛ الفقيه 54: 3].
وفي "الكافي": عن الحسين بن خالد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: أخبرني عن المحصن إذا هو هرب من الحفيرة، هل يردّ حتّى يقام عليه الحدّ؟ فقال: 'يُردّ ولا يُرد'. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: 'إذاكان هو المقرّ على نفسه ثمّ هرب من الحفيرة بعد ما يصيبه شيء من الحجارة لم يردّ، وإن كان إنّما قامت عليه البيّنة وهو يجحد ثمّ هرب ردّ وهو صاغر حتّى يقام عليه الحدّ، وذلك أنّ ماعز بن مالك أقرّ عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالزنا فأمر به أن يرجم فهرب من الحفيرة، فرماه الزبير بن العوّام بساق بعير فعقله [ اعتقل الرجل: حبس، وعقل فلاناً: صرعه].
فسقط، فلحقه النّاس فقتلوه، ثمّ أخبروا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بذلك، فقال لهم: فهلا تركتموه إذا هرب يذهب، فإنّما هو الّذي أقرّ على نفسه، وقال لهم: أما لو كان عليّ حاضراً معكم لما ضللتم'.
قال: 'ووداه [ أي أدّى ديّته].
رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من بيت مال المسلمين'. [ الكافي 185:7، ووسائل الشيعة 376:18].
في "أمالي المفيد": عن الحسن بن ظريف، قال: سمعت أبا عبداللَّه جعفر بن محمّد عليهماالسلام يقول: 'ما رأيت عليّاً قضى قضاءً إلا وجدتُ له أصلاً في السنّة'، قال: 'وكان عليّ عليه السلام يقول: لو اختصم إلَيَّ رجلان، فقضيت بينهما، ثمّ مكثا أحوالاً [ الأحوال - جمع حول بالفتح -: أي السنة لأنّها تحول أي تمضي].
كثيرة. ثمّ أتياني في ذلك الأمر، لقضيتُ بينهما قضاءً واحداً؛ لأنّ القضاء لا يحول ولا يزول أبداً'. [ أمالي المفيد: 286].
والأخبار المأثورة في هذا الباب عن العامّة والخاصّة كثيرة جدّاً، واكتفينا بهذا إعراضاً عن الإسهاب والإطالة.
بالتدقيق في هذا البحث والغور فيه عميقاً ينكشف أنّ للَّه تعالى في خلقة عليّ عليه السلام - كصنوه النبيّ - صنعاً عجيباً غير ما في خلقة سائر النّاس، وأنّ له تعالى في تعليم عليّ عليه السلام عناية خاصّة، وإرادة اُخرى، وأنّ ليد النبيّ صلى الله عليه و آله في صدر وصيّه آثاراً لا تتحقّق في غيره، سيّما إذا لاحظنا ما ورد من أنّ عمر بن الخطّاب سأل النبيّ صلى الله عليه و آله عن تفسير الكلالة ففسّرها له، فلم يفهم، فسأله مراراً، تارةً بنفسه، وتارةً بواسطة بنته حفصة، فلم يستفد من بيان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو أفصح النّاس وأعلمهم بما جاء به من عند اللَّه، ما يقنعه ولم يفده تفسير رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شيئاً حتّى آل الأمر إلى أن دفع رسول اللَّه في صدر عمر وقال صلى الله عليه و آله: 'إنّك لن تعلم هذه أبداً'، فمات عمر وهو جاهل بتفسير الكلالة.
وما شأن صدر عليّ عليه السلام وما بال يد النبيّ صلى الله عليه و آله يضعها مرّة واحدة فيه فيكون أقضى النّاس بحيث لا يشكّ في قضاء قطّ؟ وبعد هذا كان كما اشتهر على ألسن الصحابة: عليّ أقضى الاُمّة.
في عهده إلى الأشتر النخعي: 'ثمّ اختر لِلحُكم بينَ النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيقُ به الاُمور، ولا تَمحكه الخصوم.. ثمّ أكثر تعاهدُ قضائِه، وافسح له في البذلِ ما يُزيل علَّتَه، وتَقِلُّ معه حاجته إلى النّاس...'.
نهج البلاغة: الكتاب 53
لا يخفى على من راجع تواريخ الاُمم والأجيال في العالم أنّ لأمر القضاء وفصل الخصومات مكانة خاصّة حسّاسة في جميع الاُمم والمجتمعات البشريّة؛ إذ عليه وعلى سلامة نظامه تبنى سلامة المجتمع وأمنه واستقرار العدل فيه، وحفظ الحقوق والحرمات.
ولو لم ينسجم انسجاماً سالماً أو فوّض أمره إلى غير أهله، فشا الجور والفساد، وضاعت الحقوق، وضعفت الدولة، بل ربّما أعقب ذلك سقوطها وزوالها.
وذلك واضح لأنّ عالم الطبيعة عالم التزاحم والتصادم، والإنسان في طبعه مجبول على الولع والطمع، وقد زيّن له حبّ الشهوات من النساء والأموال والمشاغل، فربّما يستغلّ الشخص قوّته وقدرته أو غفلة الآخرين، فينزو على أموال النّاس وحقوقهم، ويستعقب ذلك التنازع والبغضاء، بل ربّما ينتهي الأمر إلى القتال وإتلاف النفوس والأموال. فلا محيص عن وجود سُلطة عالم عادل نافذ الأمر، تصلح بينهم أو تقضي بينهم بالحقّ والعدل فيرتفع النزاع ويجد كلّ ذي حقّ حقّه. ولذلك ترى الشريعة الإسلاميّة وجوب تصدّي القضاء لمن له صلاحية القضاء.
وكان أمر القضاء من الواجبات الكفائيّة، وترك المسلمون أمر القضاء وصار ذلك سبباً للفساد والجرح والقتل، كانوا كلّهم عصاة سيّما مَن كان له أهليّة لذلك. [ راجع: كتاب دراسات في ولاية الفقيه 140:2].
وفيما يلي أهمّ الآيات الّتي تخصّ الحاجة إلى القضاء و كونه من الواجبات الإسلاميّة المهمّة:
1- قال تعالى: 'إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ'. [ سورة الحجرات: 10].
2- وقال تعالى: 'فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ'. [ سورة الأنفال: 1].
3- وقال تعالى: 'فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً'. [ سورة النساء: 65].
نظرة في روايات القضاء الّتي يرغّب فيه أو تحذّر منه
لقد ورد من الأخبار في أمر القضاء ما يرغّب في قبوله ومزاولته، و ورد أيضاً ما يحذّر عن قبوله و ذمّه.
امّا ما ورد من الترغيب في أمر القضاء
1- في "نهج البلاغة": عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'صلاحُ ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام'.
2- وقال الصادق عليه السلام: 'خير النّاس قضاة الحقّ'. [ البحار 269:101].
3- وقال عليه السلام: 'أفضل الخلق أقضاهم بالحقّ'. [ ميزان الحكمة 187:8].
4- وفي كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشتر النخعي: 'وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظراً بليغاً'. [ نهج البلاغة: 53].
امّا ما ورد من التخدير و المنع عن قبول القضاء
اعتبر القضاء عملاً ثقيلاً يجعل الإنسان على شفاحفرة من النّار.
1- ففي مقنعة المفيد عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: 'مَن جُعل قاضياً فقد ذُبح بغير سكين'. [ المقنعة: 721، ووسائل الشيعة 8:18].
2- وفي "كنز العمّال": قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'من ولي القضاء فقد ذبح نفسه بغير سكّين'. [ كنز العمّال 95:6، ح 14999].
3- وفيه أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'ليأتينّ على القاضي العدل يوم القيامة ساعةٌ يتمنّى أنّه لم يقض بين الاثنين في تمرةٍ قطّ'. [ المصدر المتقدّم: 93، ح 14989].
4- وفيه أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ القاضي العدل ليُجاءُ به يوم القيامة فيُلقى من شدّة الحساب ما يتمنّى أن لا يكون قضى بين اثنين في تمرةٍ قطّ'. [ المصدر المتقدّم: ح 14988].
في الجمع بين الطائفتين من الروايات ونتيجة البحث
بالرغم من أنّ ظاهر بعض الروايات قد ذمّ التصدّي لأمر القضاء - كما أشرنا إلى ذلك - غير أنّ القضاء أحد الواجبات الإلهيّة الإسلاميّة المهمّة، ووعد مَن يتصدّى له بالثواب الجزيل، وقد أشرنا إلى ذلك أيضاً فيما مرّ.
وعلى هذا فإنّ الروايات الذامّة والمانعة - على فرض صحّة سندها - تهدف إلى تبيان أهميّة موضوع القضاء وجلالة شأنه، لئلا يتسامح فيه القضاة فيسلبوه أهمّيته، ولئلا ينظروا إليه كمهنة ومكسب يؤمّنون معاشهم من خلاله، وليعلموا بأنّ القضاء أمانة إلهيّة في أيديهم، وعليهم أن يجتهدوا في إعطائها حقّها.
والقضيّة الاُخرى الّتي نفهمها من الروايات المانعة هي أنّ للقضاء شرائط وخصائص لا تتوفّر في كلّ أحد، فلا ينبغي لكلّ فرد أن يتسنّم منصب القضاء، بل يجب أن يتمتّع من يقدم على العمل الإلهي المهمّ - والّذي هو عمل الأنبياء - بصفات القاضي؛ إذ علاوة على الشرائط العامّة كالعقل والبلوغ والقدرة فإنّه يجب أن يكون مجتهداً وعادلاً ينصبه إمام المسلمين.
كما يجب الالتفات إلى أنّ القاضي يجب أن يقيم القسط والعدل، لا أن يكون سبباً للفساد والضلال في المجتمع نتيجة جهله أو قصده ذلك متعمّداً، وعند ذلك ستشمل الروايات الذامّة والمانعة أمثال هؤلاء الأشخاص.
قال المفيد في "المقنعة": القضاء بين النّاس درجة عالية، وشروطه صعبة شديدة، ولا ينبغي لأحد أن يتعرّض له حتّى يثق من نفسه بالقيام به، وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلاً كاملاً عالماً بالكتاب وناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصّه، وندبه وإيجابه، ومحكمه ومتشابهه، عارفاً بالسنّة وناسخها ومنسوخها، عالماً باللغة مضطلعاً بمعاني كلام العرب، بصيراً بوجوه الإعراب، ورعاً عن محارم اللَّه عزّ وجلّ، زاهداً في الدنيا، متوفّراً على الأعمال الصالحات، مجتنباً للذنوب والسيّئات، شديد الحذر من الهوى، حريصاً على التقوى.
فقد روي: أنّه نودي لقمان الحكيم حين هدأت العيون: 'ألا نجعلك يا لقمان خليفة في الأرض، تحكم بين النّاس بالحق؟'، فقال لقمان: 'يا ربّ، إن أمرتني أفعل، وإن خيّرتني اخترت العافية' الحديث. [ المقنعة: 721، ط. مؤسّة النشر الإسلامي].
وعلى هذا يظهر أنّه لا تضادّ بين الروايات أبداً، وإنّما تهتمّ كلّ رواية بناحية لم تتطرّق إليها الرواية الاُخرى، والشاهد على المدّعى وجود روايات جمعت بين هاتين الطائفتين نذكر بعضها:
1- في "الكافي": عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ'. [ الكافي 406:7].
2- وفيه أيضاً قال الباقر عليه السلام: 'مَن أفتى النّاس بغير علم ولا هُدىً من اللَّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر مَن عمل بفتياه'. [ المصدر المتقدّم: 409، ووسائل الشيعة 9:18].
3- وفيه أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'مَن حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه كان من أهل هذه الآية: 'وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ' [ سورة المائدة: 44].
فقلت: وكيف يجبر عليه؟ فقال: 'يكون له سوط وسجن فيحكم عليه، فإذا رضي بحكومته وإلا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه'. [ الكافي 408:7].
4- وفيه أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'القضاة أربعة، ثلاثة في النّار وواحد في الجنّة، رجلٌ قضى بجور وهو يعلم فهو في النّار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النّار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النّار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة'. [ المصدر المتقدّم: 407].
5- وفي "كنز العمّال": القضاة ثلاثة: قاضيان في النّار، وقاضٍ في الجنّة، قاضٍ قضى بالهوى فهو في النّار، وقاضٍ قضى بغير علمٍ فهو في النّار، وقاضٍ قضى بالحقّ فهو في الجنّة. [ كنز العمّال 91:6، ح 14981].
6- وفيه أيضاً: عن أنس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'لسان القاضي بين جمرتين حتّى يصير إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار'. [ المصدر المتقدّم: 94، ح 14992].
7- وفي "شرح ابن أبي الحديد" مرفوعاً عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: 'ليس أحد يحكم بين النّاس إلا جي ء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه، فكّه العدل، وأسلمه الجور'. [ شرح ابن أبي الحديد 65:17].
كان عليّ يؤكّد على القضاة في أمر تطبيق الحقّ في قضائهم
كان من سيرته عليه السلام التأكيد على القضاة أمر تطبيق الحقّ والعدالة في قضائهم، بل ويأمرهم بالعدالة في مقام العمل، وينهاهم عن أخذ التحف والهدايا، ويحذّرهم عن أخذ الرشوة وغير ذلك، وفي ذلك روايات نشير إلى بعض منها:
1- عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَن ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي النظر وفي المجلس'. [ الكافي 413:7، ووسائل الشيعة 157:18].
2- روى الصدوق عن الأصبغ، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: 'أيّما والٍ احتجب عن حوائج النّاس احتجب اللَّه عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هديةً كان غلولاً، وإن أخذ رشوةً فهو مشرك'. [ عقاب الأعمال: 261].
3- في "مستدرك الوسائل": عن عليّ عليه السلام أنّه قال لرفاعة: 'لا تقض وأنت غضبان، ولا من النوم سكران'. [ مستدرك الوسائل 195:3].
4- في "الكافي": عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: يا شريح، قد جلستَ مجلساً لا يجلسه إلا نبيّ أووصيُّ نبيّ أو شقي'. [ الكافي 406:7].
5- وفيه أيضاً: عن هشام بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: 'لمّا ولّى أمير المؤمنين عليه السلام شريحاً القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه'. [ المصدر المتقدّم: 407، ووسائل الشيعة 7:18].
6- وفيه أيضاً عن أحمد بن أبي عبداللَّه، رفعه، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: 'لا تسارّ أحداً في مجلسك، وإن غضبتَ فقم، فلا تقضينّ وأنت غضبان'. [ المصدر المتقدّم: 413].
7- قال: وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: 'لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له [ في هامش الكافي قال: فإن كان القلب له بأن لا يكون فيه ما يمنعه عن الحكم قضى وتكلّم، وإن كان عليه بأن كان غضبان أو جائعاً أو مثله أمسك عن الكلام، أو المعنى ينبغي له أن يتفكّر فيما يتكلّم به].
قال، وإن كان عليه أمسك'. [ الكافي 413:7].
قال السيّد الرضي رحمه الله: من عهدٍ له عليه السلام كتبه للأشتر النخعي لمّا ولاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر أميرها محمّد بن أبي بكر، وهو أطول عهدٍ كتبه وأجمعه للمحاسن.
وفي عهده هذا قسّم عليه السلام طبقات المجتمع إلى سبعة أقسام، وذلك وفقاً للعمل والحرفة: 1 - جنود اللَّه. 2 - كتّاب العامّة والخاصّة. 3 - قضاة العدل. 4 - عمّال الانصاف والرفق. 5 - أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة النّاس. 6 - التجّار وأهل الصناعات. 7 - الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة. وممّا لا شكّ فيه أنّه عليه السلام لم يفضّل أحداً على أحدٍ من حيث العمل، وليس هو في معرض الترجيح بين الطبقات؛ إذ كلّهم يعملون ويكسبون ما يتناسب مع عملهم.
ويظهر من عهده عليه السلام خصوصيّة للقضاة ورؤساء القضاء في الحكومات الإسلاميّة نسير إليها في التالي:
يشكّل قضاة العدل الطبقة الثالثة في هذا العهد القيّم، ولقد أوضح عليه السلام لمالك الأشتر رضى الله عنه ما يجب أن يتحلّى به القاضي من صفات وفضائل، ونحن في هذا الفصل نوضّح باختصار ما جاء في هذا العهد بخصوص القضاة:
1- قال عليه السلام: 'ثُمّ اخْتَر لِلْحُكْم بَيْن النّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِى نَفسِكَ'، لا بدّ من اختيار أفضل النّاس للتصدّي للقضاء؛ لأنّ النّاس لا يمكن أن يطيعوا شخصاً هم أفضل منه، حيث أنّ تقديم المفصول على الفاضل خلاف العقل، كما أنّ حكم غير المتّقي على المتّقي و كذلك حكم غير المتعلّم على المتعلّم ممنوع وقبيح عقلاً.
2- 'مِمَّنْ لَا تَضِيْقُ بِهِ الْاُمورُ'. يجب أن يكون القاضي متعلّماً بحيث أنّه قادر على تحليل وتجزئة المسائل، وأن لا يكون في حَرَج وضيق ممّا يواجه من الحوادث.
3- 'وَلَا تَمْحَكُهُ الْخُصُومُ'. تمحكه: من المحك وهو التجربة والاختبار، يعني أنّ القاضي يجب أن يكون في الاُبّهة والوقار بحيث لا يسمح للخصمين أن يحاولا اختباره فيما إذا كان يقبل الرشوة بالمال أو بإظهار المحبّة والاحترام، وجاء في شرح ابن أبي الحديد: تجعله ماحكاً، أي لجوجاً، محك الرجل: لجّ، ماحك زيد عمراً: لاجّه، يعني: يجب أن يكون عليه من صفات الهيبة والوقار بحيث لم يجرؤ الطرفان المتخاصمان أن يلجّا في حكمه أو يناقشاه.
4- 'وَلَا يَتََمادَى فِي الزَّلَّةِ': إذا أخطأ القاضي في حكمه وأحسّ بالخطأ، فعليه أن لا يصرّ ولا يستمرّ عليه، بل عليه الاعتراف وعدم التمادي؛ لأنّ ذلك يؤدّي به إلى مجانبة الحقّ والعدل.
5- 'وَلَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ': يحصر: أي يعيا في المنطق، والفي ء: الرجوع إلى الحقّ، يعني يجب أن يكون القاضي صريحاً في عودته إلى الحقّ إذا عرفه دون تردّد أو شكّ كي يحقّ الحقّ ويبطل الباطل.
6- 'وَلَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ': يجب أن لا يشغل نفسه بالنظر إلى ما في أيدي النّاس، وأن لا يكون من أهل الطمع، فهو ذو مقامٍ عالٍ استلهمه من الخالق العزيز للحكم بين النّاس؛ لذا يجب عليه الحفاظ على هذا المقام، وأن لا ينزل به إلى مستوى منحطّ إلى المادة وطمع الدنيا.
7- 'وَلَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ': يجب على القاضي التروّي في الحكم، وأن لا يقضي بسرعة وبأدنى فَهم؛ لأنّ ذلك يؤدّي به إلى الخطأ والزلل، فعليه أن يناقش القضيّة من كلّ جوانبها، ويسمع من الخصمين سماعاً دقيقاً، كي تتّضح المسألة لديه ويحكم على أساسها.
8- 'وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ': الشبهات: ما لا يتّضح الحكم فيه بالنصّ، وفيها ينبغي الوقوف على القضاء حتّى يردّ الحادثة إلى أصل صحيح، فعلاوة على كون القاضي أفضل الرعيّة فعليه أيضاً أن يتوقّف عند الشبهة، وأن لا يأخذه الغرور بما لديه من المعلومات، وأن لا يعتبر السؤال والمشاورة عيباً وعاراً عليه، بل العيب والعار هو التكبّر والغرور والوقوع في مزالق الباطل.
9- 'وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ': أي عليه الاعتماد على الدليل والبرهان، وأن يحكم على أساس الحجج والقوانين والأحكام، ولا يكتفي بما يتصوّره في ذهنه فحسب.
10- 'وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ': التبرّم: الملل والضجر، حيث ينبغي أن يكون القاضي أقلّ النّاس تضجّراً من الطرفين المتنازعين، وأن يكون متحمّلاً صبوراً في الإصغاء للخصمين حتّى تنتهي الدعوى ولا يملّ من كلامهما.
11- 'وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ': يجب أن يكون القاضي أكثر الناس صبراً؛ وذلك لأجل كشف الحقائق وتجلّيها، وأن لا يقطع بالحكم حتّى تتبيّن له كلّ مطالب القضيّة، ولا يكتفي بتقرير إجمالي لها وحسب.
12- 'وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ': أصرمهم: أي أقطعهم للخصومة وأمضاهم، فإن اتّضح الأمر عليه أن يكون قاطعاً حاسماً في اتّخاذ القرار، وأن لا يؤجّله ويسوّفه جاعلاً النّاس في حيرة.
13- 'مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ': لا يزدهيه إطراء: أي لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، فعليه أن لا يشعر بالكبر والزهو لما يسمعه من إطراء ومدح الآخرين.
14- 'وَلَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ': على القاضي أن لا يحكم وفقاً للمغريات الّتي يقدّمها أد طرفي النزاع، ولا تنطلي عليه حيلة أحد الطرفين بحيث يستهويه ويحكم له. ومن الطبيعي أنّ وجود قاضٍ تتمثّل به هذه الصفات القيّمة يعدّ نادراً وقليلاً، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: 'وَأُولئِكَ قَلِيلٌ'. [ انظر الكتاب كاملاً في نهج البلاغة: الكتاب 53].
واجب رئيس القضاء تجاه القضاة في عهده
ليس من وجهة نظر أمير المؤمنين عليه السلام أن يُترك القاضي بمجرّد تعيينه وحسب، وأن لا يخضع للمراقبة والفحص والاختبار من قِبل رئيس القضاء أو رئيس الدولة، وفي عهده عليه السلام إلى مالك الأشتر أوصاه بالقضاة من جانبين:
الأوّل: مراقبة القاضي من حيث الأحكام الصادرة.
الثاني: متابعة الوضع المادي والمعنوي للقاضي، يقول عليه السلام استمراراً لنفس العهد:
1- 'ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ': أي تتّبعه بالاستشكاف والتعرّف، فإنّك - يا مالك - بعد أن عيّنت القاضي عليك أن تراقبه وتتابعه وتناقش قضاياه الّتي حكم بها؛ لأنّ القاضي قد يخطأ، فرئيس القضاء يجب أن يناقش القضيّة وإن اكتشف أدنى خلاف فيها عليه إعادتها إلى القاضي ليستأنف الحكم.
2- 'وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عَلَّتَهُ': أي أوسع له في العطاء بما يكفيه، ويسدّ حاجته، وحاجات ومتطلّبات بيته وعائلته، كي لا يكون ممّن ينظر إلى ما في أيدي النّاس، ولا تغرّه الرشوة، ولكي تكون لك الحجّة عليه إذا ارتشى.
3- 'وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاس ِ': فإذا أجزلت له العطاء الكافي كفيته من حاجة النّاس، حتّى لا يكون متحيّزاً في إصدار الحكم لأحد.
4- 'وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ': لا يتوقّف الإمام عليه السلام عند حدّ كفاية القاضي من الناحية المادّية فقط، بل يتعدّاه إلى الناحية المعنويّة؛ إذ يجب على رئيس الدولة أو رئيس القضاء أن يجعل للقاضي مكانة لديه، لكي لا يكون هدفاً لسعاية لآخرين، ولكي يتمكّن من تنفيذ الأحكام الحقّة، ولا يطمع الآخرون به، وإلا فإنّ المحيطين برئيس القضاء أو برئيس الدولة سيطلبون منه أن يحكم لصالحهم، وأنّه سيعمل ذلك من فرط الخوف.
ثمّ في نهاية هذه الفقرة الخاصّة في القضاء من هذا العهد، قال: 'فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً فَإِنَّ هذَا الدِّيْنَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا'. [ انظر المصدر المتقدّم].
نبذة ممّا برز من سيرته اتجاه القضاة
نذكر في هذا الفصل نبذة من مخالفات القضاة وموقف عليّ عليه السلام تجاههم حتّى يعرف القرّاء الكرام أنّ عمله عليه السلام كقوله سواء.
1- في "شرح ابن أبي الحديد" و "فرائد السمطين": عن عبداللَّه بن عمر، قال: استعدى رجل على عليّ بن أبي طالب عليه السلام عمر بن الخطّاب، وعليّ جالس، فالتفت عمر إليه، فقال: قم - يا أبا الحسن - فاجلس مع خصمك، فقام فجلس معه وتناظرا، ثمّ انصرف الرجل ورجع عليّ عليه السلام إلى محلّه، فتبيّن عمر التغيّر في وجهه، فقال: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيّراً، أكرهتَ ما كان؟ قال عليه السلام: 'نعم'. قال عمر: وما ذاك. قال عليه السلام: 'كنّيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم - يا عليّ - فاجلس مع خصمك'، فاعتنق عمر عليّاً وجعل يقبّل وجهة، وقال: بأبي أنتم! بكم هدانا اللَّه، وبكم أخرجنا من الظلمة إلى النور. [ شرح ابن أبي الحديد 65:17، و في فرائد السمطين 348:1، ح 273، نحوه].
2- و فى "الاحقاق" عن ابن الاخوّة في كتاب "معالم القربة في أحكام الحسبة"، قال: يحكى أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام ولّى أبا الأسود الدؤلي القضاء ساعة من نهار ثمّ عزله. فقال له: لِمَ عزلتني، فواللَّه! ما خُنتُ ولا خُوّنتُ؟ قال: 'بلغني أنّ كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك'. [ الإحقاق 548:8].
فعلى الولاة ورؤساء القضاء في الحكومات الإسلاميّة الاقتداء بهَدْي إمامهم عليّ عليه السلام والسير بسيرته، وأن يراقبوا جهاز القضاء مراقبة دقيقة، ويتحرّوا عن القائمين عليه كي لا يتعسّفوا في الحكم على المتخاصمين ولا يرهبوا المراجعين أو يعنّفوهم. وإذا علموا بتخلّف موظّفيهم وبّخوهم أو عزلوهم لكي تحافظ الحكومة على مسير الحقّ والعدل.
3- وروى أبو إسحاق الثقفي الكوفي في "الغارات": بسنده عن محمّد بن سيرين، عن شريح، قال: بعث إليَّ عليّ عليه السلام: 'أن اقض بما كنت تقضي حتّى يجتمع أمر النّاس'. [ الغارات 121:1].
4- وروى أبو إسحاق عن الحسن بن حيّ، قال: سمعت ابن أبي ليلى يقول: إنّ عليّاً عليه السلام رزق شريحاً القاضي خمسمائة. [ الغارات 121:1].
5- وروى أيضاً عن الشعبي، قال: وجد عليّ عليه السلام درعاً له عند نصراني، فجاء به إلى شريح يخاصمه إليه... فقال عليّ عليه السلام: 'إنّ هذه درعي لم أبع ولم أهب'.
فقال شريح للنصراني: ما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب. فالتفت شريح إلى عليّ عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، هل من بيّنة؟! قال: 'لا'، فقضى بها للنصراني، فمشى هنيئّة [ قليلاً من الزمان].
ثمّ أقبل، فقال: أمّا أنا فأشهد أنّ هذه أحكام النبيّين، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه! وقاضيه يقضي عليه! أشهد أن لا إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، الدرع واللَّه درعك يا أمير المؤمنين، انبعث الجيش وأنتَ منطلق إلى صفّين فخرّت من بعيرك الأورق [ الأورق: الأسمر من الإبل الّذي في لونه سواد إلى بياض، ومنه: جمل أورق].
قال: 'أمّا إذا أسلمتَ فهي لك'، وحمله على فرس. [ الغارات 124:1، فقد مرّ تقاضيه مع اليهودي عند القاضي في فصل 'سيرة عليّ "ع" مع أهل الذمّة' فراجع].