اخباره عن أرض كربلاء حين مرّ بها
في "إثبات الهداة": عن ابن عبّاس، قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خروجه إلى صفّين، فلمّا نزل بنينوى وهو شطّ الفرات، قال بأعلى صوته: 'يابن عبّاس، أتعرف هذا الموضع'، قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: 'لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي'، قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيته من الدموع، وبكينا معه وهو يقول: 'أوه، أوه! ما لي ولأبي سفيان، ما لي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر، صبراً يا أبا عبداللَّه، فقد لقي أبوك مثل الّذي تلقى منهم.
إلى أن قال: وهذه أرض كرب وبلاء يدفن فيها الحسين وتسعة عشر رجلاً كلّهم من ولدي وولد فاطمة'.
وذكر الحديث وفيه: أنّه عليه السلام طلب بعر الظباء فوجده، فأخذ البعر فصرّه في ردائه وأمرني أن أصرّه كذلك، ثمّ قال: 'يابن عبّاس، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً فاعلم أنّ أبا عبداللَّه قد قتل ودفن بها'. [ إثبات الهداة 454:4].
وفي الحديث: أنّه لمّا قتل الحسين عليه السلام سال منها دم في ذلك اليوم، وأنّ ابن عبّاس قال: ما كذبني عليّ قطّ في حديث حدّثني به، ولا أخبرني بشي قطّ أنّه يكون إلا كان كذلك. [ المصدر المتقدّم 454:4].
وفي "كشف الغمّة" و "إرشاد المفيد": أنّه عليه السلام وقف في كربلاء في بعض أسفاره ناحية من عسكره، فنظر يميناً وشمالاً واستعبر باكياً، ثمّ قال: 'هذا واللَّه مناخ ركابهم، وموضع منيّتهم'، فقلنا: يا أمير المؤمنين، ما هذا الموضع؟ قال: 'هذا كربلاء، يُقتل فيه قومٌ يدخلون الجنّة بغير حساب'. ثمّ سار ولم يعرف النّاس تأويل قوله عليه السلام حتّى كان من أمر الحسين عليه السلام "بالطفّ" ما كان، فعرف حينئذٍ من سمع كلامه مصداق الخبر فيما أنبأهم به. [ كشف الغمّة - باب المناقب 384:1، والإرشاد للمفيد 332:1، ونحوه في وقعة صفّين: 140]
اخباره عن عدم نصرة البراء بن عازب الحسين
في "كشف الغمّة" و "الإرشاد": ومن ذلك ما رواه إسماعيل بن زياد، قال: إنّ عليّاً عليه السلام قال للبراء بن عازب: 'يا براء، يقتل ولدي الحسين عليه السلام وأنت حيّ فلا تنصره؟!'، فلمّا قتل الحسين عليه السلام قال البراء: صدق عليّ عليه السلام قتل الحسين ولم أنصره، وأظهر الحسرة على ذلك والندم. [ المصدر المتقدّم 383:1، والإرشاد للمفيد 331:1، شرح ابن أبي الحديد 15:10 والبحار 263:44].
في "شرح ابن أبي الحديد" و غيره: عن محمّد بن عليّ، قال: لمّا قال عليّ عليه السلام: 'سلوني قبل أن تفقدوني، فواللَّه لا تسألونني عن فئة تُضِلُّ مائةً وتهدي مائةً إلا أنبأتكُم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة'. قام إليه رجل فقال: أخبرني بما في رأسي ولحيتي من طاقة شعر. فقال له عليّ عليه السلام: 'واللَّه لقد حدّثني خليلي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما سألت عنه أنّ على كلّ طاقة شعر من رأسك مَلَكاً يَلعَنُك، وإنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطاناً يُغويك، وإنّ في بيتك سَخْلاً [ السخل: الولد].
يَقتُلُ ابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان ابنه قاتل الحسين عليه السلام يومئذٍ طفلاً يحبو، وهو سنان بن أنس النخعيّ. [ شرح ابن أبي الحديد 286:2، وإرشاد المفيد 330:1، وما بين المعقوفتين من الإرشاد].
اخباره عن ابن حمار "جماز" حامل راية ابن زياد لقتال الحسين
وفيه أيضاً: عن ثابت الثمالي، عن سويد بن غفلة: أنّ عليّاً عليه السلام خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي مررتُ بوادي القُرى، فوجدتُ خالد بن عُرفطة قد مات، فاستغفر له. فقال عليه السلام: 'واللَّه ما مات ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن حمار "جِماز" فقال رجل آخر من تحت المنبر، فقال: يا أميرالمؤمنين، أنا حبيب بن حمار "جماز"، وإنّي لك شيعة ومحبّ، فقال: 'أنت حبيب بن حمار "جماز"'، قال: نعم، فقال له ثانية: 'واللَّه إنّك لحبيب بن حمار؟'، فقال: إي واللَّه! قال: 'أما واللَّه إنّك لحاملها ولَتَحمِلَنَّها، وَلتدخُلَنَّ بها من هذا الباب'، وأشار بها إلى باب الفيل بمسجد الكوفة.
قال ثابت: فواللَّه! ما مِتّ حتّى رأيتُ ابنَ زياد، وقد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن عليّ عليه السلام، وجعل خالد بن عُرفطة على مقدّمته وحبيب بن حمار "جماز" صاحبَ رايته، فدخل بها من باب الفيل. [ المصدر المتقدّم: 287، وروى نحوه في الإرشاد 329:1].
اخباره عن شهادة عليّ بن موسى الرضا بالسمّ
في "إثبات الهداة": عن النعمان بن سعد، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: 'سيقتل رجل من ولدي بأرض خراسان بالسمّ ظلماً، اسمه اسمي، واسم أبيه اسم ابن عمران موسى عليه السلام، ألا فمن زاره في غربته غفر اللَّه له ذنوبه'. [ إثبات الهداة 446:4، ح 19].
اخباره عن الضربة الّتي يُضرب بها في رأسه فتخضب لحيته
في "إرشاد المفيد": ومن معجزاته عليه السلام ما تواترت به الروايات من نعيه عليه السلام نفسه قبل وفاته، والخبر عن الحادث في قتله، وأنّه يخرج من الدنيا شهيداً بضربة في رأسه يخضب دمها لحيته، فكان الأمر في ذلك كما قال، فمن اللفظ الّذي رواه الرواة في ذلك، قوله عليه السلام: 'واللَّه لتُخْضَبَنَّ هذه من هذه'، ووضع يده على رأسه ولحيته.
وقوله عليه السلام: 'واللَّه لَيَخَضَبنّها من فوقها - وأومأ إلى شيبته - ما يَحْبِس أشقاها'.
وقوله عليه السلام: 'ما يمنعُ أشقاها أن يَخضِبَها من فوقها بدم؟!'.
وقوله عليه السلام: 'أتاكم شهرُ رمضان وهو سيّدُ الشُّهور، وأوّلُ السنة، وفيه تَدُور رحَى السلطان، ألا وإنّكم حاجُّوا العامّ صفّاً واحداً، وآيةُ ذلك أنّي لست فيكم'. فكان أصحابهُ يقولون: إنّه ينعى إلينا نفسه، فضرب عليه السلام في ليلة تسع عشرة ومضى في ليلة إحدى وعشرين من ذلك الشهر. [ الإرشاد "المفيد" 319:1].
لمّا فرغ عليه السلام من قتال الخوارج، عاد إلى الكوفة في شهر رمضان، فأمّ المسجد فصلّى ركعتين، ثمّ صعد المنبر فخطب خطبة حسناء، ثمّ التفت إلى ابنه الحسن عليه السلام فقال: 'يا أبا محمّد، كم مضى من شهرنا هذا؟ فقال: ثلاثة عشر يا أمير المؤمنين'. ثمّ سأل الحسين عليه السلام فقال: 'يا أبا عبداللَّه، كم بقي من شهرنا هذا، يعني رمضان؟ فقال: سبعة عشر يا أمير المؤمنين، فضرب يده إلى لحيته وهي يومئذٍ بيضاء فقال: لَيُخَضبنّها بدمها إذا انبعثَ أشقاها'، ثمّ قال:
اُريد حِباءَهُ ويُريدُ قَتلي*** عذيرك من خليلك من مرادي
وعبدالرحمن بن ملجم المرادي "لعنه اللَّه" يسمع، فوقع في قلبه من ذلك شيء ، فجاء حتّى وقف بين يدي عليّ عليه السلام وقال: اُعيذك باللَّه يا أمير المؤمنين هذه يميني وشمالي بين يديك فاقطعهما أو فاقتلني؟ فقال عليّ عليه السلام: 'وكيف أقتلك ولا ذنب لك إليّ، ولو أعلم أنّك قاتلي لم أقتلك، ولكن هل كانت لك حاضنة يهوديّة؟ فقالت لك يوماً من الأيّام: يا شقيق عاقر ناقة ثمود؟'، قال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، فسكت عليّ عليه السلام.
فلمّا كانت ليلة ثلاث وعشرين من الشهر [ هناك اختلاف بين المؤرّخين في الليلة الّتي ضرب عليه السلام والأشهر أنّها ليلة التاسعة عشر، وارتحل إلى جوار اللَّه تعالى في ليلة إحدى وعشرين].
قام ليخرج من داره إلى المسجد لصلاة الصبح وقال: إنّ قلبي يشهد بأنّي مقتول في هذا الشهر، ففتح الباب فتعلّق الباب بمئزر فجعل ينشد:
اُشدد حيازيمك فإنّ الموت لاقيك*** ولا تجزع من الموت إذ حلّ بناديك
فخرج فقتل "صلوات اللَّه عليه. [ كشف الغمّة - باب المناقب 379:1].
وفي "إثبات الهداة": عن "الكافي": عن الحسن بن الجهم قال: قلت للرضا عليه السلام: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله، والليلة الّتي يقتل فيها، والموضع الّذي يُقتل فيه، وقوله لمّا سمع صياح الأوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح. وقول اُمّ كلثوم: لو صلّيتَ الليلة داخل الدار وأمرتَ غيركَ أن يُصلّي بالنّاس. وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عرف أنّ ابن ملجم قاتله بالسيف، كان هذا ممّا لم يجز تعرّضه؟ فقال الرضا عليه السلام - في جوابه -: 'ذلك كان ولكنّه خير في تلك الليلة لتمضي مقادير اللَّه عزّ وجلّ'. [ إثبات الهداة 429:4].
وفيه أيضاً عن "الكافي": عن إبراهيم بن يحيى المدني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام - في حديث -: إنّ رجلاً من علماء اليهود سأل عليّاً عليه السلام عن مسائل - إلى أن قال: - أخبرني كم يعيش وصيّ محمّد بعده، وهل يموت موتاً أو يُقتل قتلاً؟
فقال له: 'ويحك يا يهوديّ، أنا وصيّ محمّد صلى الله عليه و آله أعيش بعده ثلاثين سنة، لا أنقص يوماً ولا أزيد، ثمّ ينبعث أشقاها شقيق عاقر ناقة ثمود، فيضربني ضربة هاهنا في قرني، فتخضب منه لحيتي'، ثمّ ذكر: أنّه أسلم. [ المصدر المتقدّم: 454].
و روى الشيخ المفيد و ابن الصباغ و الخوارزمي عن ثقات الرواة: أنّه عليه السلام كان يفطر في هذا الشهر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين وليلة عند ابن عبّاس "عبداللَّه بن جعفر نسخة" لا يزيد على ثلاث لقم، فقال له أحد ولديه الحسن والحسين في ذلك فقال: 'يا بُنيّ يأتي أمرُ اللَّه وأنا خميص، إنّما هي ليلة أو ليلتين'، فاُصيب من الليل. [ الإرشاد للمفيد 320:1، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 139، ومناقب الخوارزمي: 392، ح410].
في "إرشاد المفيد": ومن إخباره بالغائبات ما رووه: أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين عليه السلام منها فأعتقه، وقال له: ما اسمك؟ فقال: سالم، فقال: أخبرني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ اسمك الّذي سمّاك به أبواك في العجم ميثم. قال: صدق اللَّهُ ورسولهُ، وصدقتَ يا أمير المؤمنين، واللَّه إنّه لاسمي. قال: فارجع إلى اسمك الّذي سمّاك به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ودع سالماً. فرجع إلى ميثم، واكتني بأبي سالم.
فقال له عليّ عليه السلام ذات يوم:
'يا مَيْثَمُ، إِنَّكَ تُؤْخَذُ بَعْدِي وَتُصْلَبُ، فَإِذا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي ابْتَدَرَ مِنْخَرُكَ وَفَمُكَ دَماً، حَتّى تَخْضَبُ لِحْيَتُكَ، فَإِذا كانَ الْيَومُ الثَّالِثُ طُعِنْتَ بِحَرْبَةٍ يُقْضى عَلَيْكَ، فانْتَظِرْ ذ لِكَ.
وَالْمَوْضِعُ الَّذِي تُصْلَبُ فِيهِ عَلى بابِ دارِ عَمْرُو بْنَ حُرَيْثٍ إِنَّكَ لَعَاشِرُ عَشْرَةٍ، أَنْتَ أَقْصَرَهُمْ خَشَبَةً، وَأَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمَطْهَرَةِ وَلَاُرِيَنَّكَ النَّخْلَةَ الَّتِي تُصْلَبُ عَلى جِذْعِها...'، فأراه إيّاها.
فكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول: بوركتِ من نخلةٍ لكِ خُلِقتُ، ولي عُذِّيتِ، ولم يَزلَ يتعاهَدُها حتّى قُطعت، وحتّى عرف الموضع الّذي يُصَلبُ عليها بالكوفة، الحديث. [ الإرشاد للمفيد 323:1].
في "كشف الغمّة" و "الإرشاد": ومن ذلك أنّ الحجّاج طلب كميل بن زياد، فهرب منه، فقطع عطاء قومه، فلمّا رأى ذلك قال: إنّي أنا شيخ كبير قد نفد عمري، فلا ينبغي أن اُحرِمَ قومي اُعطياتهم، فخرج إلى الحجّاج، فقال: قد كنت اُحبّ أن أجد عليك سبيلاً. فقال له كميل: لا تصرف علَيَّ أنيابك، فما بقي من عمري إلا القليل، فاقض ما أنت قاضٍ، فإنّ الموعد للَّه، وبعد القتل الحساب، ولقد أخبرني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: 'إنّك قاتلي؟'، فضرب عنقه. [ كشف الغمّة - باب المناقب 383:1، ومع تفصيل كثير في الإرشاد 327:1].
في "الخرائج والجرائح": ما روي عن قنواء بنت رشيد الهجري: سمعت أبي يقول: قال لي عليّ عليه السلام حبيبي: 'كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيّ بني اُميّة، فقطع يديك ورجليك ولسانك؟'، فقلت: 'ألست معك في الجنّة؟'، قال: 'بلى'، قلت: ما اُبالي، الحديث. [ الخرائج والجرائح 228:1].
وفي "إرشاد المفيد": عن ابن عيّاش، عن مجالد، عن الشعبي، عن زياد بن النضر الحارثي، قال: كنت عند زياد إذ اُتي برشيد الهَجَريّ، فقال له زياد: ما قال لك صاحبُك - يعني عليّاً - أنّا فاعلون بك؟ قال: 'تقطعون يديَّ ورِجليّ وتصلبونني'. فقال زياد: أم واللَّه لاُكَذِّبَنَّ حديثَه، خَلُّوا سبيله، فلمّا أراد أن يخرج، قال زياد: واللَّه ما نجد له شيئاً شرّاً ممّا قال له صاحبه، اقطعوا يديه ورجليه واصلبوه.
فقال رشيد: هيهات، قد بقي لي عندكم شيء أخبرني به أمير المؤمنين عليه السلام، قال زياد: اقطعوا لسانه، فقال رشيد: الآن واللَّه جاء تصديقُ خبر أمير المؤمنين عليه السلام.
قال المفيد رحمه الله: وهذا حديث قد نقله المؤالف والمخالف عن ثقاتهم عمّن سمّيناه، واشتهر أمره عند علماء الجميع، وهو من جملة ما تقدّم ذكره من المعجزات والإخبار عن الغيوب. [ الإرشاد 325:1].
وفي "كشف الغمّة" و "إرشاد المفيد": ومن ذلك ما رواه أصحاب السيرة من طرق مختلفة: أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي قال ذات يوم: اُحبّ أن اُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب فأتقرّبُ إلى اللَّه بدمه، فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبةً لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعث في طلبه فاُتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم. قال: أبو همدان؟ قال: نعم، قال: مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: اللَّه مولاي وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام وليّ نعمتي، قال: ابرأ من دينه، قال: فإذا برئتُ من دينه تَدُلُّني عن دينٍ غيره أفضلَ منه؟ فقال: إنّي قاتلك، فاختر أيُّ قتلةٍ أحبُّ إليك؟ قال: قد صيّرتُ ذلك إليك. قال: ولِمَ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلا قلتُك مثلها، ولقد أخبرني أمير المؤمنين عليه السلام: 'أنّ منيّتي تكون ذبحاً ظُلماً بغير حقّ'، قال: فأمر به فَذُبِحَ. [ الإرشاد المفيد 328:1، وكشف الغمّة - باب المناقب 383:1].
اخباره عن صلب مزرّع بن عبداللَّه
في "إرشاد المفيد" ومن ذلك ما رواه عبدالعزيز بن صُهيب عن أبي العالية، قال: حدّثني مزرّع بن عبداللَّه، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أم واللَّه لَيُقبِلَنَّ جَيشٌ حتّى إذا كان بالبيداء خُسِفَ بهم'، فقلت له: إنّك لَتُحَدِّثُني بالغيب؟ قال: احفظ ما أقول لك، واللَّه لَيَكُونَنَّ ما خَبَّرني به أمير المؤمنين عليه السلام، وَليُؤخَذَنَّ رجلٌ فَلَيُقتلَنَّ ولَيُصَلبَّ بين شُرفَتَين من شُرَفِ هذا المسجدِ. قلت: إنّك لَتُحَدِّثَني بالغيب؟ قال: حدّثني الثقة المأمون عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
قال أبو العالية: فما أتت علينا جمعةٌ حتّى أخذ مُزرّع فَقُتِل وصُلِبَ بين الشرفتين، قال: وقد كان حدّثني بثالثةٍ فَنسيتُها. [ الإرشاد المفيد 326:1].
ما رواه في "كشف الغمّة": أنّه عليه السلام لمّا توجّه إلى صفّين واحتاج أصحابه إلى الماء، والتمسوه يميناً وشمالاً فلم يجدوه، بَهمَ أمير المؤمنين عليه السلام عن الجادّة قليلاً، فلاح لهم دير في البريّة، فسار وسأل من فيه عن الماء، فقال: بيننا وبين الماء فرسخان، وما هنا منه شيء ، وإنّما يجلب لي من بعد، واستعمله على التقتير، ولولا ذلك لمتّ عطشاناً. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'اسمعوا ما يقول الراهب'، فقالوا: تأمرنا أن نسير إلى حيث أومأ إلينا، لعلّنا ندرك الماء وبنا قوّة، فقال عليه السلام: 'لا حاجة بكم إلى ذلك'، ولوى عنق بغلته نحو القبلة، وأشار إلى مكان بقرب الدير أن اكشفوه، فكشفوه فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع. فقالوا: يا أمير المؤمنين، هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي، فقال: 'هذه الصخرة على الماء، فاجتهدوا في قلعها، فإن زالت عن موضعها وجدتم الماء'، فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، واستصعبت عليهم، فلمّا رأى ذلك لوى رجله عن سرجه وحسر عن ساعده ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة، فحرّكها وقلعها بيده ودحا بها أذرعاً كثيرة، فظهر لهم الماء، فبادروه وشربوا، فكان أعذب ماء شربوه في سفرهم وأبرده وأصفاه، فقال: 'تزوّدوا وارتووا'، ففعلوا، ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب.
والراهب ينظر من فوق ديره، يا قوم أنزلوني، فأنزلوه، فوقف بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا هذا أنت نبيّ مرسل؟ قال: 'لا'، قال: فملك مقرّب؟ قال: 'لا'، قال: فمن أنت؟ قال: 'أنا وصيّ رسول اللَّه محمّد بن عبداللَّه خاتم النبيّين صلى الله عليه و آله'، قال: ابسط يدك على يدي، أسلم على يدك، فبسط أمير المؤمنين عليه السلام يده. وقال له: 'اشهد الشهادتين'، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه، وأشهد أنّك وصيّ رسول اللَّه وأحقّ النّاس بالأمر من بعده، فأخذ عليه شرائط الإسلام.
وقال له: 'ما الّذي دعاك إلى الإسلام بعد إقامتك على دينك طول المدّة؟'. فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى على ذلك عالم قبلي لم يدركوا ذلك فرزقنيه اللَّه عزّ وجلّ، إنّا نجد في كتبنا ونأثر على علمائنا أنّ في هذا الموضع عيناً عليها صخرة، لا يعرفها إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ، وأنّه لا بدّ من وليّ اللَّه يدعو إلى الحقّ آيته معرفة مكان هذه الصخرة، وقدرته على قلعها، ولمّا رأيتك قد فعلت ذلك تحقّقت ما كنّا ننتظره وبلغت الامنيّة، وأنا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقّك ومولاك.
فلمّا سمع أمير المؤمنين ذلك بكى حتّى اخضلّت لحيته من الدموع، وقال: 'الحمد للَّه الّذي لم أكن عنده منسيّاً، الحمد للَّه الّذي كنت في كتبه مذكوراً'، ثمّ دعا النّاس، فقال: 'اسمعوا ما يقول أخوكم المسلم'، فسمعوا وحمدوا اللَّه وشكروه؛ إذ ألهمهم أمير المؤمنين عليه السلام. وسار والراهب بين يديه وقاتل معه أهل الشام واستشهد، فتولّى أمير المؤمنين عليه السلام الصلاة عليه ودفنه، وأكثر من الاستغفار له، وكان إذا ذكره يقول: 'ذاك مولاي'. [ كشف الغمّة - باب المناقب 384:1، وفي الخرائج والجرائح 222:1، نحوه].
ومن ذلك أنّه عليه السلام قد استشهد النّاس وقال: 'وانشد اللَّه رجلاً سمع النبيّ صلى الله عليه و آله يقول - يوم الغدير -: 'من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه'، فقام بعضهم وقالوا: اللّهمّ نعم. وقعد أنس فقال عليّ: 'ما منعك أن تقوم؟'، قال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيتُ، فقال: 'اللّهمّ إن كان كاذباً فاضربه ببلاء حسن'، قال: فما مات حتّى رأينا بين عينيه نكتة بيضاء لا تواريها العمامة.
وفي رواية اُخرى: وصار بعض من كتم الشهادة أذهب اللَّه بصرهم فصاروا عمي. [ راجع: "فصل عليّ عليه السلام يوم الغدير"].
وفي "كشف الغمّة"، قال: ومن ذلك أنّه عليه السلام نشد النّاس من سمع النبيّ صلى الله عليه و آله يقول: 'مَن كنت مولاه فعليّ مولاه'؟ فشهد اثنا عشر رجلاً من الأنصار، وأنس بن مالك في القوم لم يشهد، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'يا أنس، ما منعك أن تشهد وقد سمعت ما سمعوا؟'، قال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال أمير المؤمنين: 'اللّهمّ إن كان كاذباً فاضربه ببياض - أو بوضح - لا تواريه العمامة'، قال طلحة بن عمير: فاشهد باللَّه لقد رأيتها بيضاء بين عينيه. [ كشف الغمّة - باب المناقب 390:1].
صيرورة زيد بن أرقم أعمى بدعائه
ومن ذلك: أنّه نشد النّاس فقال: 'اُنشد اللَّه رجلاً سمع النبيّ صلى الله عليه و آله يقول: 'مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه'، فقام اثنا عشر بدريّاً من الجانب الأيسر، وستّة من الجانب الأيمن، فشهدوا بذلك، قال زيد بن أرقم: وكنت فيمن سمع ذلك فكتمته، فذهب اللَّه ببصري. وكان يتندّم على ما فاته من الشهادة ويستغفر. [ المصدر المتقدّم 391:1].
ومن ذلك أنّ عليّاً عليه السلام اتّهم رجلاً يقال له: العيزرا برفع أخباره إلى معاوية، فأنكر ذلك وجحده، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'لتحلف باللَّه إنّك ما فعلت'، قال: نعم، وبدر محلف، فقال عليّ عليه السلام: 'إن كنت كاذباً فأعمى اللَّه بصرك'، فما دارت الجمعة حتّى عمي، واُخرج يقاد وقد أذهب اللَّه بصره. [ المصدر المتقدّم: 390].
وفي "التفسير الكبير للفخر الرازي" في ذيل تفسير قوله تعالى: 'أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِن آيَاتِنَا عَجَباً' [ سورة الكهف: 9].
قال: وأمّا عليّ عليه السلام فيروى أنّ واحداً من محبّيه سرق وكان عبداً أسود، فاُتي به إلى عليّ عليه السلام فقال له: 'أسرقت؟'، قال: نعم، فقطع يده فانصرف من عند عليّ عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكوّاء، فقال ابن الكوّاء: مَن قطع يدك؟ فقال: أمير المؤمنين، ويعسوب المسلمين، وختن الرسول، وزوج البتول، فقال: قطع يدك وتمدحه؟ فقال: ولِمَ لا أمدحه، وقد قطع يدي بحقّ وخلّصني من النّار، فسمع سلمان ذلك، فأخبر به عليّاً عليه السلام فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطّاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء، ارفع الرداء عن اليد، فرفعناه فإذا اليد قد برئت بإذن اللَّه تعالى وجميل صنعه. [ التفسير الكبير 21 و 88:22].
وأخرج المجلسي عن "الخرائج والجرائح": روي أنّ أسود دخل على عليّ عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي سرقت فطهّرني، فقال: 'لعلّك سرقت من غير حرز'، ونحّى رأسه عنه فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت من حرز فطهّرني، فقال عليه السلام: 'لعلّك سرقت غير نصاب'، ونحّى رأسه عنه فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت نصاباً، فلمّا أقرّ ثلاث مرّات قطعه أمير المؤمنين، فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وقائد الغرّ المحجّلين، ويعسوب الدين، وسيّد الوصيّين، وجعل يمدحه، فسمع ذلك منه الحسن والحسين عليهماالسلام قد استقبلاه، فدخلا على أمير المؤمنين عليه السلام وقالا: 'رأينا أسود يمدحك في الطريق'، فبعث أمير المؤمنين مَن أعاده إلى عنده، فقال عليه السلام: 'قطعتك وأنت تمدحني'، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّك طهّرتني، وإنّ حبّك قد خالط لحمي وعظمي "ودمي"، فلو قطعتني إرباً إرباً لما ذهب حبّك من قلبي، فدعا له أمير المؤمنين عليه السلام، ووضع المقطوع إلى موضعه، فصحّ وصلح كما كان. [ البحار 202:41].
الرحى تطحن في بيته وليس معها أحد
وفي "الرياض النظرة في مناقب العشرة" لمحبّ الدين الطبري: بسنده عن أبي ذرّ، قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أدعو عليّاً، فأتيتُ بيته، فناديتُه فلم يُجبني، فعدتُ بأخبرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال لي: 'عُد إليه اُدعه، فإنّه في البيت'، قال: فعدت اُناديه، فسمعتُ رحىً تطحن فشارفتُ فإذا الرحى تطحن وليس معها أحدٌ، فناديتهُ فخرج إليَّ منشرحاً، فقلت له: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعوك؟ فجاء ثمّ لم أزل أنظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وينظر إليَّ، ثمّ قال: 'يا أبا ذرّ، ما شأنك؟'.
فقلت: يا رسول اللَّه عجيب من العجب، رأيت رحىً تطحن في بيت عليّ عليه السلام وليس معها أحدٌ يرحى. فقال: 'يا أبا ذرّ، إنّ للَّه ملائكة سيّاحين في الأرض وقد وكّلوا بمعونة آل محمّد'. [ الرياض النضرة 202:3].
إلى غير ذلك من إخباره بالغيوب. [ من أراد المزيدفليراجع إثباة الهداة: ج4، وكشف الغمّة: ج1، وإرشاد المفيد في باب معجزاته وإخباره بالمغيّبات، وبحار الأنوار 166:41 و 191 و 199، و 202 و 203 و 230 و 274 و 282 و 283، و17:42 و 50 و 311، والخرائج والجرائح وغيرها].
عن الحسين بن عليّ عليه السلام، قال: 'قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عليّ، أنت المظلومُ من بعدي، فويلٌ لِمَن ظلمك واعتدى عليك، وطُوبى لمن تبعك ولم يختر عليك. يا عليّ، أنت المقاتل بعدي، فويلٌ لِمَنْ قاتلك، وطُوبى لمن قاتل معك'.
عيون أخبار الرضا 236:1، الباب 27، الحديث 63
لم يحدّثنا التاريخ عن مظلوم غُصب حقّه مثل عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فرغم كلّ التوصيات الّتي أوصى بها النبيّ صلى الله عليه و آله اُمّته والّتي يحثّهم بها على الاقتداء بعليّ عليه السلام، حتّى أنّ ابن مردويه أخرج عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'يا أيّها الرسول بلغ ما اُنزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته، واللَّه يعصمك من النّاس'. [ تفسير الدرّ المنثور 298:2].
رغم هذا وغيره نجد القوم قد تألّبوا على الإمام عليه السلام بعد رحيل الرسول الأكرم وغصبوه حقّه وآذوا زوجته البتول سلام اللَّه عليها، وانتزعوا منها إرث النبيّ صلى الله عليه و آله اي فدكها، وهكذا أصبح اُسوة العلم والتقوى والفضيلة والكمال وهادي الاُمّة بعد نبيّها ودليلها إلى النور، جليس بيته لخمسٍ وعشرين سنة، ولم يسمحوا له أن ينير المجتمع البشري بنوره، وأن يروّج الإسلام المحمّدي الأصيل.
نعم، لقد صبر أمير المؤمنين عليه السلام للَّه، وتحمّل كلّ المظالم والمشاقّ لأجل بقاء الإسلام والقرآن، والحفاظ على وحدة الاُمّة من التشتّت والتمزّق، فلنستمع إلى مظلوميّته بلسان النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله ولسان عليّ عليه السلام و غيرهما:
1- قال عليّ عليه السلام: 'ما زلت مظلوماً منذ قبض اللَّه تعالى نبيّه إلى يوم النّاس'. [ سفينة البحار 108:2، مادة 'ظلم'، وراجع الشافي في الإمامة سيد المرتضى 225 - 223 :3].
2- عن مسيّب بن نجبة، قال: بينما عليّ عليه السلام يخطب، وأعرابيّ يقول: وامظلمتاه، فقال عليّ عليه السلام: 'اُدن'، فدنا، فقال: 'لقد ظُلمتُ عدد المدَر والوَبر. [ المدر: قطع الطين اليابس، ويراد به سكنة الحواضر والمدن، والوبر: صوف الإبل والأرانب ونحوها، ويراد به سكنة البادية، أرد بقوله عليه السلام: إنّه ظلمني الجميع].
[ سفينة البحار 108:2، مادة 'ظلم'، وراجع الشافي في الإمامة سيد المرتضى 225 - 223 :3].
3- وجاء أعرابي يتخطّى فنادى: يا أمير المؤمنين، مظلوم. قال عليّ عليه السلام: 'ويحك، وأنا مظلوم، ظُلمتُ عدد المدر والوبر'. [ سفينة البحار 108:2، مادة 'ظلم'، وراجع الشافي في الإمامة سيد المرتضى 225 - 223 :3].
4- وعن عمرو بن حريث، قال: انّ عليّاً عليه السلام لم يقم مرّة على المنبر إلا قال في آخر كلامه قبل أن ينزل: 'ما زلت مظلوماً منذ قبض اللَّه نبيّه'. [ سفينة البحار 108:2، مادة 'ظلم'، وراجع الشافي في الإمامة سيد المرتضى 225 - 223 :3].
5- وكان أبو ذرّ رضى الله عنه يعبّر عن أمير المؤمنين عليه السلام بالشيخ المظلوم المضطهد حقّه. [ سفينة البحار 108:2، مادة 'ظلم'، وراجع الشافي في الإمامة سيد المرتضى 225 - 223 :3].
6- روى الحافظ البخاري عن حبيب بن ثابت، عن ثعلبة بن يزيد الحمانى، قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ: 'إنّ الاُمّة ستغدر بك'. [ التاريخ الكبير، ج 1، القسم الثاني، ص 174، ط حيدرآباد].
7- أخرج الراوندي: أنّ أعرابيّاً أتى أمير المؤمنين عليه السلام وهو في المسجد، فقال: مظلوم، قال: 'ادن منّي'، فدنا، فقال: يا أمير المؤمنين مظلوم، قال: 'ادن'، فدنا حتّى وضع يده على ركبتيه، قال: 'ما ظلامتك؟'، فشكا ظلامته، فقال: 'يا أعرابي، أنا أعظم ظلامة منك، ظلمني المدر والوبر، ولم يبق بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم، وما زلت مظلوماً حتّى قعدت مقعدي هذا'، الحديث. [ الخرائج والجرائح 180:1].
8- روى الحاكم النيشابوري: عن حيّان الأسدي: سمعت عليّاً يقول: 'قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ الاُمّة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملّتي، وتُتقل على سنّتي، مَن أحبَّك أحبّني، ومَن أبغضك أبغَضني، وإنّ هذه سَتُخضب من هذا'، يعني ليحته من رأسه. [ المستدرك 142:3].
9- و أيضاً: بسنده عن زيد بن وهب، قال: قدم على عليّ عليه السلام وفدٌ من أهل البصرة، وفيهم رجلٌ من الخوارج يُقال له: الجعد بن نعجة، فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله، ثمّ قال: اتّق اللَّه يا عليّ! فإنّك ميّت، فقال عليّ عليه السلام: 'لا، ولكنّي مقتول ضربةً على هذا تخضب هذه - قال: وأشار عليّ إلى رأسه ولحيته بيده - قضاءٌ مقضيّ، وعهد معهود، وقد خاب من افترى'.
ثمّ عاب عليّاً في لباسه، فقال: 'لو لبستَ لباساً خيراً من هذا'، فقال عليه السلام: 'إنّ لباسي هذا أبعد لي من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي المسلمون'. [ المصدر المتقدّم: 143].
10- وفي "البحار" عن "كشف الغمّة": روى جابر بن عبداللَّه الأنصاري، قال: دخلت فاطمة عليهاالسلام على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو في سكرات الموت، فانكبّت عليه تبكي، ففتح عينه، وأفاق، ثمّ قال: 'يا بنيّة، أنتِ المظلومة بعدي، وأنتِ المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن سرّك فقد سرّني، ومن برّك فقد برّني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقد ظلمني، لأنّك منّي وأنا منك، وأنت بضعة منّي وروحي الّتي بين جنبيّ'. ثمّ قال صلى الله عليه و آله: 'إلى اللَّه أشكو ظالميكِ من اُمّتي'.
ثمّ دخل الحسن والحسين عليهماالسلام فانكبّا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهما يبكيان، ويقولان: 'أنفسنا لنفسك الفداء يا رسول اللَّه'، فذهب عليّ عليه السلام لينحّيهما عنه، فرفع رأسه إليه ثمّ قال: دعهما - يا أخي - يشمّاني وأشمّهما، ويتزوّدان منّي وأتزوّد منهما، فإنّهما مقتولان بعدي ظلماً وعدواناً، فلعنة اللَّه على مَن يقتلهما، ثمّ قال: 'يا عليّ، أنت المظلوم بعدي، وأنا خصم لمن أنت خصمه يوم القيامة'. [ بحار الأنوار 76:28].
المنافقون يصبّون ما أضمروه من الضغائن أيّام النبيّ على عليّ
قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في خبر: 'يا عليّ، اتّق الضغائن الّتي في صدور من لا يظهرها إلا بعد موتي، اُولئك يلعنهم اللَّه ويلعنهم اللاعنون'، ثمّ بكى النبيّ صلى الله عليه و آله فقيل: مِمّ بكاؤك يا رسول اللَّه؟ قال: 'أخبرني جبرئيل أنّهم يظلمونه ويمنعونه حقّه، ويقاتلونه، ويقتلون ولده، ويظلمونهم بعده'. [ البحار 45:28].
قال ابن أبي الحديد في توضيح الحديث: واعلم أنّ كلّ دم أراقه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسيف عليّ عليه السلام وبسيف غيره، فإنّ العرب بعد وفاته عصبت تلك الدماء بعليّ بن أبي طالب عليه السلام وحده؛ لأنّه لم يكن في رهطه من يستحقّ في شرعهم وسنّتهم وعادتهم أن تعصب به تلك الدماء إلا بعليّ وحده، وهذه عادة العرب إذا قُتل منها قتلى طالبت بتلك الدماء القاتل، فإن مات أو تعذّر عليها مطالبته، طالبت بها أمثل الناس من أهله، إلى أن قال: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد فقلت له: إنّي لأعجبُ من عليّ عليه السلام كيف بقي تلك المدّة الطويلة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكيف ما اغتيل وفتك به في جوف منزله، مع تلظّي الأكباد عليه؟! فقال: لولا أنّه أرغم أنفه بالتراب، ووضع خدّه في حضيض الأرض لقتل، ولكنّه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن، وخرج عن ذلك الزيّ الأوّل، وذلك الشعار ونسي السيف، وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحاً في الأرض، أو راهباً في الجبال، ولمّا أطاع القوم الّذين ولّوا الأمر.. تركوه وسكتوا عنه، ولم تكن العرب لتقدّم عليه إلا بمواطأةٍ من متولّى الأمر، وباطنٍ في السرّ منه، فلمّا لم يكن لِوُلاة الأمر باعث وداعٍ إلى قتله وقَع الإمساك عنه، ولولا ذلك لقُتل، ثمّ أجّل بعد معقل حصين. [ شرح ابن أبي الحديد 300:13].
عن أبي الحسن الهادي عليه السلام أنّه كان يقول عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام: 'أَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يا وَلِىَّ اللَّهِ، أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ، وَأَوَّلُ مَنْ غُصِبَ حَقُّهُ، صَبَرْتَ وَاحْتَسَبْتَ حَتّى أَتيكَ الْيَقِينُ، فَاَشْهَدُ أَنَّكَ لَقِيْتَ اللَّهَ وَأَنْتَ شَهِيدٌ، عَذَّبَ اللَّهُ قاتِلَكَ بِاَنْواعِ الْعَذابِ وَجَدَّدَ عَلَيْهِ الْعَذابَ، جِئْتُكَ عارِفاً بِحَقِّكَ، مُسْتَبْصِراً بِشَاْنِكَ، مُعادِياً لِأَعْدائكَ وَمَنْ ظَلَمَكَ، أَلْقى عَلى ذلِكَ رَبّي إِنْ شاءَ اللَّهُ. يا وَلِىَّ اللَّهِ، إِنَّ لي ذُنُوباً كَثِيرةً فَاشْفَعْ لي إِلى رَبِّكَ فَاِنَّ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ مَقاماً مَعْلُوماً، وَإِنَّ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ جاهاً وَشَفاعَةً وَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: 'وَلَا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضى''. [ الكافي 570 - 569 :4؛ بحار الأنوار 265:100، والآية من سورة الأنبياء: 28].
ثمّ روى ثقة الاسلام الكليني زيارة اخرى عن أبي الحسن الهادي عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:
تقول: 'أَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يا وَلِىَّ اللَّهِ، أَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يا حُجَّة اللَّه.. وأشْهَدُ أنّ دَعوتَكَ حقٌّ، وكلّ داعٍ مَنصوب دُونكَ باطِلٌ مَدحوضٌ [ المدحوض بمعنى الداحض].
أنت أوّل مَظلومٍ، وأوّلُ مَغصوبٍ حَقُّه، فَصَبرتَ واحتَسَبتَ، لَعنَ اللَّه مَن ظَلَمكَ واعتدى عليكَ، وصَدَّ عنك لَعناً كثِيراً يَلعَنهُم بِه كلُّ مَلكٍ مُقَرَّب، وكُلُّ نبيٍّ مُرسل، وكُلُّ عَبدٍ مُؤمنٍ مُمتَحِن' الحديث. [ الكافي 570 - 569 :4].
علي يُطلع رأسه في البئر ليبثّ شكواه
لقد بلغت مظلوميّة عليّ عليه السلام أوجها، ولم يكن معه من يبثّه شكواه، ولذلك كان يخرج إلى الصحراء ويدلي رأسه في البئر ويبثّ شكواه.
وفي البحار عن عليّ بن ميثم، عن ميثم، قال: أصحر بي مولاي أمير المؤمنين عليه السلام ليلة من الليالي، قد خرج من الكوفة، وانتهى إلى مسجد جعفى، توجّه إلى القبلة وصلّى أربع ركعات، فلمّا سلّم وسبّح بسط كفّيه، وقال: 'إلهي كيف أدعوك وقد عصيتك'، إلى آخر الدعاء، ثمّ قام وخرج فاتّبعتُه حتّى خرج إلى الصحراء وخطّ لي خطّة، وقال: 'إيّاك أن تجاوز هذه الخطّة'، ومضى عنّي وكانت ليلة مدلهمّة، فقلتُ: يا نفسي، أسلمت مولاك وله أعداء كثيرة، أيّ عذر يكون لك عند اللَّه وعند رسوله؟ واللَّه لأقفونّ أثره، ولأعلمنّ خبره، وإن كنتُ قد خالفتُ أمره، وجعلت اتّبع أثره فوجدته عليه السلام مُطلعاً رأسه في البئر إلى نصفه يخاطب البئر والبئر تخاطبه، فحسّ بي والتفت عليه السلام وقال: 'مَن؟'، قلتُ: ميثم، قال: 'يا ميثم، ألم آمرك أن لا تجاوز [ في نسخة: 'أن لا تتجاوز'].
الخطّة'، قلت: يا مولاي، خشيتُ عليك من الأعداء، فلم يصبر لذلك قلبي، فقال عليه السلام: 'أسمعتَ ممّا قلتُ شيئاً؟'، قلتُ: لا، يا مولاي، فقال:
'يا ميثم:
وفي الصدر لبانات [ جمع لبانة: الحاجة من غير فاقة، بل من همّة].
*** إذا ضاق لها صدري
نكتُّ الأرض بالكفّ*** وأبديت لها سرّي
فمهما تنبت الأرض*** فذاك النبت من بذري'
[ بحار الأنوار 199:40].
مظلومية علي بعد رحلة رسول الله و ما جري عليه
قال عليّ عليه السلام في خطبته في توصيف العرب قبل البعثة وحاله قبل البيعة له: 'فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلا أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهمْ عَنِ المَوْتِ، وَأَغْضَيْتُ عَلَى القَذَى، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الكَظَمِ، وَعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ العَلْقَمِ'. [ نهج البلاغة: الخطبة 26، العلقم: شجر بالغ المرارة، ويطلق عند العرب، على كلّ مرّ].
إنّ هذه الفقرات من كلامه عليه السلام حكاية لحاله الّذي كان هو عليه بعد رحلة الرسول صلى الله عليه و آله، وما جرى عليه من الظلم والجور في اغتصاب الحقّ الّذي كان له عليه السلام. فأشار إلى أنّه فكّر في أمر المقاومة والدفاع عن الحقّ الّذي يرى أنّه أوْلى به، فرآى أنّه لا ناصر له إلا أهل بيته، وهم قليلون بالنسبة إلى من لا يعينه، بل ويعين مخالفه. فإنّه لم يكن له إلا بنو هاشم كالعبّاس و بنيه، وأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ومن يخصّهم، وضعفهم وقلّتهم عن مقاومة جمهور الصحابة ظاهر، فضنّ بهم عن الموت لعلمه أنّه لو قاوم بهم لقتلوا، ثمّ لا يحصل على مراده، ولذا قال ما قال في الخطبة: 'فنظرت فاذاً ليس لي معينٌ الا أهل بيتي...'.
اختلف الناقلون في كيفية حاله بعد رحلة رسول الله
و قال الشارح المعتزلي: اختلفت الروايات في قصّة السقيفة، فالذي تقوله الشيعة وقد قال قوم من المحدّثين بعضه ورووا كثيراً منه إنّ عليّاً عليه السلام امتنع من البيعة، حتى اُخرج كُرها، و إنّ الزبير بن العوام أمتنع من البيعة وقال: لا اُبايع إلا عليّاً عليه السلام وكذلك أبو سفيان بن حرب، وخالد بن سعيد بن العاص بن اُميّة بن عبد شمس، والعبّاس بن عبدالمطّلب وبنوه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب وجميع بني هاشم.
وقالوا: إنّ الزبير شهر سيفه فلمّا جاء عمر ومعه جماعة من الأنصار وغيرهم، قال في جملة ما قال: خذوا سيف هذا، فاضربوا به الحجر. ويقال: إنّه أخذ السيف من يد الزبير، فضرب به حجراً فكسره، وساقهم كلّهم بين يديه إلى أبي بكر، فحملهم على بيعته، ولم يتخلّف إلا عليّ عليه السلام وحده، فإنّه اعتصم ببيت فاطمة عليهاالسلام فتحاموا إخراجه منه قسراً، وقامت فاطمة إلى باب بيت فاسمعت من جاء يطلبه، فتفرّقوا وعلموا أنّه بمفرده لا يضرّ شيئاً، فتركوه، وقيل: إنّهم أخرجوه فيمن اُخرج وحمل إلى أبي بكر فبايعه. [ شرح ابن أبي الحديد 21:2].
مظلوميّته في تحمّل مصائب فاطمة
إنّ ما جرى على فاطمة عليهاالسلام من مصائب بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كثيرة لا يمكن إحصاؤها، ولا يمكن تحمّل حتّى نقلها من شدّتها، ولكن نذكر نماذج منها، ونرجع القارئ الأعزّ إلى مظانّها من كتب العامّة والخاصّة:
احراق باب فاطمة و ضربها بالسوط
قال ابن قتيبة الدينوري: وخرج عليّ عليه السلام يحمل فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، وكانوا يقولون: يا بنت رسول اللَّه، قد مضت بعيتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول عليّ عليه السلام: 'أفكنت أدع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في بيته لم أدفنه وأخرج اُنازع النّاس سلطانه؟'.
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم وطالبهم'، وساق الكلام إلى أن قال - بعد ذكر عدم بيعة عليّ عليه السلام -: فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ - وهو مولى له -: اذهب فادع لي عليّاً. قال: فذهب إلى عليّ عليه السلام فقال له: 'ما حاجتك؟'، فقال "قنفذ": يدعوك خليفة رسول اللَّه، فقال عليّ عليه السلام: 'لسريع ما كذّبتم على رسول اللَّه'، فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلاً، فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقُنفذ: عُد إليه، فقل له: خليفة رسول اللَّه يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به، فرفع عليّ عليه السلام صوته فقال: 'سُبحان اللَّه لقد ادّعى ما ليس له'، فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة، فبكى أبوبكر طويلاً، ثمّ قام عمر فمشى، ومعه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة عليهاالسلام فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: 'يا أبت، يا رسول اللَّه، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب، وابن أبي قحافة'.
فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليّاً عليه السلام، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: 'إن أنا لم أفعل فمه؟'، قالوا: إذاً واللَّه الّذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. فقال: 'إذاً تقتلون عبد اللَّه، وأخا رسوله!'. قال عمر: أمّا عبد اللَّه، فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا اُكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق عليّ عليه السلام بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصيح ويبكي وينادي: 'يا ابن اُمّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني'. [ الإمامة والسياسة 13:1].
و في ذلك قال سليم بن قيس: فقال أبو بكر لعمر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذاً، فأرسله وأرسل معه أعواناً وانطلق فاستأذن على عليّ عليه السلام، فأبى أن يأذن لهم، فرجع أصحاب قُنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والنّاس حولهما - فقالوا: لم يؤذن لنا. فقال عمر: اذهبوا فإن أذن لكم، وإلا فادخلوا بغير إذن، فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة عليهاالسلام: 'احرج عليكم أن تدخلوا علَيَّ بيتي بغير إذن، فرجعوا، وثبت قُنفذ الملعون، فقالوا: إنّ فاطمة قالت كذا وكذا، فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن، فغضب عمر، وقال: ما لنا وللنساء.
ثمّ أمر اُناساً حوله أن يحملوا الحطب، فحملوا الحطب، وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل عليّ و فاطمة وابنيهما عليهم السلام، ثمّ نادى عمر حتّى أسمع عليّاً عليه السلام وفاطمة: واللَّه لتخرجنّ يا عليّ، ولتبايعنّ خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإلا أضرمت عليك النّار، فقالت فاطمة: 'يا عمر، ما لنا ولك؟'. فقال عمر: افتحي الباب، وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: 'يا عمر، أما تتّقي اللَّه، تدخل علَيَّ بيتي؟!'، فأبى أن ينصرف، ودعا عمر بالنّار فأضرمها في الباب، ثمّ دفعه فدخل، فاستقبلته فاطمة عليهاالسلام وصاحت: 'يا أبتاه يا رسول اللَّه'، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت: 'يا أبتاه!'، فرفع السوط فضرب به ذراعها، فنادت: 'يا رسول اللَّه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر'، فوثب عليّ عليه السلام فأخذ تلابيبه، ثمّ نتره فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمّ بقتله، فذكر قول رسول اللَّه وما أوصاه به، فقال عليه السلام: 'والّذي كرّم محمّداً بالنبوّة يابن صهّاك: لولا كتاب من اللَّه سبق، وعهد عهده إليَّ رسول اللَّه لعلمت أنّك لا تدخل بيتي'.
ثمّ قال سليم بن قيس: بعد ما وثب عليّ عليه السلام على عمر فأخذ بتلابيبه، ثمّ نتره فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمّ بقتله، فأرسل عمر يستغيث، فأقبل النّاس حتّى دخلوا الدار، وثار عليّ عليه السلام إلى سيفه، فرجع قُنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوّف أن يخرج عليّ عليه السلام بسيفه، لما قد عرف من بأسه وشدّته، فقال أبو بكر لقُنفذ: ارجع، فإن خرج، وإلا فاقتحم عليه بيته، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النّار، فانطلق قُنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وثار عليّ عليه السلام إلى سيفه، فسبقوه إليه، وكاثروه وهم كثيرون، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه، فألقوا في عنقه حبلاً وحالت بينهم وبينه فاطمة عليهاالسلام عند باب البيت، فضربها قُنفذ الملعون بالسوط، فماتت حين ماتت، وإنّ في عضدها كمثل الدُملُج من ضربته لعنه اللَّه.
ثمّ انطلق بعليّ عليه السلام يُعتل [ انطلق" بالبناء للمجهول، و"يُعتل" بالبناء للمجهول، أي يجذب جذباً، ويجرّ جرّاً عنيفاً].
عتلاً حتّى انتُهيَ به إلى أبي بكر، وعمر قائم بالسيف على رأسه، وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، والمغيرة بن شعبة، واُسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسائر النّاس حول أبي بكر، عليهم السلام، الحديث. [ كتاب سليم بن قيس: 37].
وفي "تفسير العيّاشي" أورد حديثاً عن أحدهما "الامام الباقر أو الامام الصادق" عليهماالسلام، فيه: 'فأرسل إليه الثالثة ابن عمٍّ له لعمر رجلاً يقال له قُنفذ، فقامت فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليها تحول بينها وبين عليّ عليه السلام فضربها فانطلق قُنفذ' الحديث. [ تفسير العيّاشي 307:2].
والعجب من ابن أبي الحديد من ترديده في تلك المصائب المؤلمة لفاطمة عليهاالسلام بقوله: فأمّا حديث التحريق، وما جراه مجراه من الاُمور الفظيعة، وقول من قال: إنّهم أخذوا عليّاً عليه السلام يُقاد بعمامته والنّاس حوله، فأمر بعيدٌ، والشيعة تنفرد به، على أنّ جماعة من أهل الحديث قد رووا، وسنذكر ذلك. [ شرح ابن أبي الحديد 21:2].
وقال في موضع آخر من كتابه: فأمّا الاُمور الشنيعة المستهجنة الّتي يذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة، وإنّه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدُّملج، وبقي أثره إلى أن ماتت، وإنّ عمر ضغطها بين الباب والجدار فصاحت: 'يا أبتاه، يا رسول اللَّه'، وألقت جنيناً ميّتاً، وجعل في عنق عليّ عليه السلام حبلٌ يُقاد به، وهو يعتلّ، وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان، وإنّ عليّاً لمّا اُحضر سلموه البيعة، فامتنع، فتهدّد بالقتل، فقال: 'إذن تقتلون عبد اللَّه، وأخا رسول اللَّه!!'، فقالوا: أمّا بعد عبداللَّه فنعم، وأمّا أخو رسول اللَّه فلا، وإنّه طعن في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر الّتي اجتمعوا عليها، وبأنّهم أرادوا أن ينفّروا ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليلة العقبة. قال ابن أبي الحديد: فكلّه لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنّما هو شيء تنفرّد الشيعة بنقله. قال ابن ابى الحديد: فكلّه لا اصل له عند اصحابنا و لا يثبته احدٌ منهم و لا رواه اهل الحديث و لا يعرفونه إنّما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله. [ المصدر المتقدّم: 60].
أقول: العجب منه كيف ينكر حديث التحريق وما بعده، ويزعم أنّه ممّا انفردت به الشيعة، مع رواية الجوهري له، وكونه من الثقات المأمونين عند ابن أبي الحديد [ المصدر المتقدّم: 60].
وقد رواه غير واحد من رواتهم أيضاً مطابقاً لما روته الشيعة، منهم إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال: حدّثنا أحمد بن عمرو البجلي، قال: حدّثنا أحمد بن حبيب العاملي، عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام 'واللَّه ما بايع عليّ عليه السلام حتّى رأى الدُّخان قد دخل عليه بيته'. [ راجع شرح نهج البلاغة "للخوئي" 373:3].
و أيضاً روى أحمد بن عبدالعزيز، قال: لمّا بُويعَ لأبي بكر كان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من النّاس إلى عليّ عليه السلام، وهو في بيت فاطمة، فيتشاورون ويتراجعون اُمورهم، فخرج عمر حتّى دخل على فاطمة عليهاالسلام وقال: يا بنت رسول اللَّه، ما من أحد من الخلق أحبّ إلينا من أبيك، وما من أحد أحبّ إلينا منك بعد أبيك، و أيم اللَّه، ما ذاك بما نعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بتحريق البيت عليهم.
فلمّا خرج عمر جاؤوها، فقالت: 'تعلمون أنّ عمر جاءني، وحلف لي باللَّه إن عُدتم ليحرقنّ عليكم البيت، و أيم اللَّه! ليمضينّ لما حلف له، فانصرفوا عنّا راشدين'، فلم يرجعوا إلى بيتها، وذهبوا فبايعوا لأبي بكر. [ شرح ابن أبي الحديد 45:2].
وفي "العقد الفريد" لابن عبدربّه الأندلسي: أنّ عمر بن الخطّاب جاء إلى بيت فاطمة بقبس من نار، يُريد أن يُحرقه على مَن فيه، فلقيته فاطمة عليهاالسلام فقالت: 'يابن الخطّاب، أجئت لتحرق دارنا؟'، قال: نعم، الحديث. [ راجع: العقد الفريد 259:4].
فكما ترى هذا الحديث عامّي، و ليس من منفردات الشيعة الامامية، و حيث انّ عليّاً عليه السلام لم يخرج من دار فاطمة لأنّ دارها داره أيضاً، وعمر حلف بالتحريق لو بقي في دارها عليهاالسلام أحد، وحيث كان عليّ عليه السلام في دارها عليهاالسلام ودار نفسها فإنّه أبرّ حلفه وأحرق بيت فاطمة عليهاالسلام، فليس إنكار ابن أبي الحديد هنا في محلّه، و قوله: إن نسبة التحريق لبيت فاطمة عليهاالسلام أو تهديده بالتحريق من منفردات الشيعة الامامية غير صحيح، بل الحق كما عن الشيعة ان التحريق و لا اقل تهديد عمر بالتحريف لبيت فاطمة عليهاالسلام قطعي و مسلم عن رواة الشيعة مجمع عليه، وصحيح وحقّ ووقع كما وقع.
و ممّا يؤيد ذلك أن عمر بن خطاب حين حكومته و ولايته أغرم جميع عمّاله غير قُنفذ مكافأة له: قال سليم بن قيس في كتابه: أنّ عمر بن الخطّاب اُغرم في بعض السنين جميع عمّاله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار [ كتب أبو المختار بن أبي الصعق إلى عمر هذه الأبيات:
ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة*** فأنت أمير اللَّه في المال والأمر
وأنت أمين اللَّه فينا ومن يكن*** أميراً لربّ النّاس يسلم له صدري
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى*** يخونون مال اللَّه في الأدم الحمر
إلى آخر أشعاره، راجع كتاب سليم بن قيس: 96].
ولم يغرم قُنفذ العدوي شيئاً، وقد كان من عمّاله، وردّ عليه ما أخذ منه، وهو عشرون ألف درهم، ولم يأخذ منه عشره ولا نصف عشره، إلى أن قال سليم: فلقيت عليّاً عليه السلام فسألته عمّا صنع عمر؟ فقال: 'هل تدري لِمَ كفَّ عن قنفذ ولم يغرمه شيئاً؟'، قال: 'لأنّه هو الّذي ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم، فماتت عليهاالسلام وإنّ أثر السوط لفي عضدها مثل الدُملُج'. [ المصدر المتقدّم: 97].
وقال سليم بسند آخر: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان، وأبي ذرّ ومحمّد بن أبي بكر، وعمر بن أبي سلمة، وقيس بن عبادة، فقال العبّاس لعليّ عليه السلام: ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذاً كما أغرم جميع عمّاله؟ فنظر عليّ عليه السلام إلى من حوله ثمّ اغر و رقّت عيناه ثمّ قال: 'شكراً له ضربهً ضربها فاطمة بالسوط، فماتت وفي عضدها أثره كأنّه الدُملج'. [ كتاب سليم بن قيس: 98].
من أهم مظلوميّة عليّ عليه السلام تحملّه شهادة فاطمة عليهاالسلام في عنفوان الشباب و تجهيزها و دفنها ليلاً و خفاءً، و قد تواترت الأخبار من طريقي الخاصّة والعامّة أنّ فاطمة عليهاالسلام لسخطها على أبي بكر وعمر أوصت أن تدفن ليلاً لئلا يُصلّيا عليها و لا يحضرا جنازتها. [ مرآة العقول 322 - 321 :5، وراجع: الشافي في الإمامة 114:4].
في مرآة العقول في شرح الكافي للمجلسي عن "الشافي" للسيد المرتضى عن الطبري قال: أنّ فاطمة دفنت ليلاً ولم يحضرها إلا العبّاس وعليّ والمقداد والزبير. [ المصدران المتقدّمان].
و فيه أيضاً عن القاضي أبو بكر، بإسناده في تاريخه عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة: أنّ فاطمة عاشت بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها عليّ عليه السلام ليلاً وصلّى عليها عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وذكر في كتابه هذا أنّ أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام دفنوها ليلاً وغيّبوا قبرها. [ المصدران المتقدّمان].
و فيه أيضاً عن البلاذري في تاريخه: إنّ فاطمة لم تُر مُتبسمةً بعد وفاة رسول اللَّه، ولم يُعلم أبو بكر وعمر بموتها. [ المصدران المتقدّمان].
وفي "الكافي": عن الحسين بن عليّ عليه السلام، قال: 'لمّا قُبضت فاطمة دفنها أمير المؤمنين سرّاً، وعفا على موضع قبرها، ثمّ قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي، وَعَنِ ابْنَتِكَ وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار اللَّه لها سرعة اللّحاق بك، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تَجَلُّدِي، إِلا أَنَّ لي فِي التَّأَسِّيِ بسنَّتِك في فرقتك موضع تعزّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ نَفْسُكَ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي، بلى وفي كتاب اللَّه "لي" أنعم القبول، 'إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ'. قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! واُخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول اللَّه، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسْهَّدٌ، وهَمَّ لا يبرج من قلبي أو يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَ نْتَ فيها مُقِيمٌ. كُمَدٌ [ الكمد: الحزن الشديد].
مقيّحٌ [ القيح: المدّة لا يخالطها دم].
و هَمٌّ مَهيج سرعان ما فُرِّقَ بيننا وإلى اللَّه أشكو، وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا [ الهضم: الظلم والغصب].
فَأَحْفِهَا [ احفاء السؤال: استقصاؤه].
السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ؛ فكَم مِن غَليلٍ مُعتلجٍ بصدرِها، لم تجد إلى بثّه سَبِيلاً، وَستَقُولُ ويَحكمُ اللَّه وَهُوَ خيرُ الحاكمين.
سَلَامَ مُوَدِّعٍ، لَا قَالٍ وَلَا سَئمٍ، فَإِنْ أَ نْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِين. [ وفي النهج روى الحديث إلى هنا مع تفاوت في بعض ألفاظه، فراجع الخطبة 202، ولفظ الحديث عن الكافي].
واه واهاً والصبرُ أيمَن وأجمَل، ولولا غَلبةُ المُستَولين لجَعَلْتُ المُقام واللَّبث لزاماً مَعكُوفاً، ولأعولتُ إعوال الثكلى عَلى جليل الرزيّة، فبعين اللَّه تُدفَنُ ابنتك سِرّاً وتُهضم حقّها، وتُمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذِّكر، وإلى اللَّه - يا رسول اللَّه - المشتكى، وفيك يا رسول اللَّه أحسنُ العزاء، صلّى اللَّه عليك وعليها السلام والرضوان'. [ اُصول الكافي 458:1].
من هذه الخطبة عند مدفن فاطمة عليهاالسلام تستفاد شدّة حزن عليّ عليه السلام و ألمه في ظلمهم على فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، اما ليس في تحمّل هذه الامور الا الصبر فى اللَّه تعالى و ارجاع الأمر إليه تعالى.
مظلوميّته في الشورى و شكوته عنها
إنّ كلامه عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقيّة حاكية عن عمق مظلوميّته عليه السلام، وشدّة تأثّره من قضيّة الشورى يظهر جليّاً في كلمات الخطبة، حيث قال: 'أَمَا وَاللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَها ابن أبي قحافة وَإِنَّهُ لِيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا. يَنْحَدرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ - إلى أن قال: - فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ المُدَّةِ، وَشِدَّةِ المِحْنَةِ، حَتَّى إِذا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا في جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَ نَّي أَحَدُهُمْ، فَيَالَلَّهِ وَلِلشُّورَى! مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ! لكِنِّي أَسفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِه، وَمَالَ الْآخَرُ لِصِهْرهِ، مَعَ هَنٍ وَهَن إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نَافِجَاً حِضْنَيْهِ' الخطبة. [ الخطبة المعروفة بالشقشقيّة، راجع: نهج البلاغة: الخطبة 3].
وقال أيضاً - على ما نسب إليه عليه السلام من الحكم في شرح ابن أبي الحديد - 'كنتُ في أيّام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كجزء من رسول اللَّه "صلوات اللَّه وسلامه عليه"، ينظر إليَّ النّاس كما ينظر إلى الكواكب في اُفق السماء، ثمّ غضّ الدهر منّى، فقرن بي فلان وفلان، ثمّ قرنت بخمسة أمثلهم عثمان، فقلتُ: واذفراه [ الذفر: الرائحة الخبيثة].
ثمّ لم يَرْضَ الدهر لي بذلك، حتّى أرذلني، فجعلني نظيراً لابن هند وابن النابغة لقد استنّت الفصال حتّى القرعى'. [ شرح ابن أبي الحديد 326:20].
وفي رسالته عليه السلام إلى معاوية بن أبي سفيان: فَيَاعَجَباً لِلدَّهِرِ! إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أحَدٌ بِمِثْلِهَا، إِلا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ.وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ'. [ نهج البلاغة: الكتاب 9].
قال ابن أبي الحديد في شرحه: أنّ عمر لمّا طعنه أبو لؤلوة وعلم أنّه ميّت، استشار فيمن يولّيه الأمر بعده، فاُشير عليه بابنه عبداللَّه، فقال:لاها اللَّه إذاً لا يليها رجلان من ولد الخطّاب، حسب عمر ما حُمِّل! حسب عمر ما احتقب، لاها اللَّه! لا أتحمّلها حيّاً وميّتاً!
ثمّ قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مات وهو راضٍ عن هذه الستّة من قريش: عليّ، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد "بن أبي وقاص"، وعبدالرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم.
ثمّ قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير منّى - يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي - يعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله -، ثمّ قال: اُدعوهم لي، فدعوهم، فدخلوا عليه وهو ملقىً على فراشه يجود بنفسه، فنظر إليهم، فقال: اُكلّكم يطمع في الخلافة بعدي، فوجموا [ وجم وجماً ووجوماً: سكت على غيظ].
فقال لهم ثانية، فأجابه الزبير، وقال: وما الّذي يُبعدنا منها! وليتها أنت فقمتَ بها، ولسنا دونك في قريش، ولا في السابقة ولا في القرابة. قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ: واللَّه لولا عِلْمه أي علم زبير أنّ عمر يموت في مجلسه ذلك لم يُقدم على أن يفوّه من هذا الكلام بكلمة، ولا أن تنفّس منه بلفظه.
فقال عمر: أفلا اُخبركم عن أنفسكم؟ قال: قل، فإنّا لو استعفيناك لم تُعفنا. ثمّ أقبل عمر إلى كلّ واحد من الستّة الحاضرين بين يديه، وخاطب القوم بكلمات جارحة، وذمّهم ذمّاً شديداً إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام سوى قوله: للَّه أنت "يا عليّ" لولا دُعابة [ الدعابة - بالضمّ -: المزاح واللعب].
فيك! أما واللَّه لئن ولّيتم لتحملنّهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء - إلى أن قال: - اُدعوا إليَّ أبا طلحة الأنصاري فدعوه له، فقال: انظر يا أبا طلحة، إذا عدتم من حُفرتي، فكنُ في خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيت، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم، فإن اتّفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما، وإن اتّفق ثلاثة وخالف ثلاثة، فانظر الثلاثة الّتي فيها عبدالرحمن، فارجع إلى ما قد اتّفقت عليه، فإن أصرّت الثلاثة الاُخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيّام ولم يتّفقوا على أمر فاضرب أعناق الستّة، و دع المسلمين يختاروا لأنفسهم.
فلمّا دُفن عمر، جمعهم أبو طلحة، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم، ثمّ تكلّم القوم وتنازعوا، فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشهدهم على نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشورى لعثمان، وذل لعلمه أنّ الناس لا يعدلون به عليّاً وعثمان، وأنّ الخلافة لا تخلُص له وهذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب عليّ عليه السلام بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمكّن له منه. [ في شرح ابن أبي الحديد 185: 1: وإنّما مال طلحةُ إلى عثمان لانحرافه عن عليّ عليه السلام باعتبار أنّه تيميّ وابن عمّ أبي بكر الصدّيق، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنقٌ شديدٌ لأجل الخلافة، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم، وهذا أمرٌ مركوز في طبيعة البشر، وخصوصاً طينة العرب وطباعها والتجربة إلى الآن تحقّق ذلك].
فقال الزبير في معارضته: وأنا اُشهدكم على نفسي أنّي وقد وهبتُ حقّي من الشورى لعليّ، وإنّما فعل ذلك لمّا رأى عليّاً قد ضعُف وانخزل بهبة طلحة حقّه لعثمان، دخلته حمية النسب؛ لأنّه ابن عمّة أمير المؤمنين عليه السلام وهي صفيّة بنت عبدالمطّلب، وأبو طالب خالُه، فبقى من الستّة أربعة.
فقال سعد بن أبي وقّاص: وأنا قد وهبتُ حقّي من الشورى لابن عمّي عبدالرحمن، وذلك لأنّهما من بني زهرة، ولعلم سعد أنّ الأمر لا يتمّ له، فلمّا لم يبق إلا الثلاثة، قال عبدالرحمن لعليّ وعثمان، أيّكما يُخرج نفسه من الخلافة، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلّم منهما أحد، فقال عبدالرحمن: اُشهدكم أنّي قد أخرجتُ نفسي من الخلافة، على أن اختار أحدهما، فأمسكا، فبدأ بعليّ عليه السلام وقال له: اُبايعك على كتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه، وسيرة الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: 'بل على كتاب اللَّه وسنّة رسوله واجتهاد رأيي'، فعدل عنه إلى عثمان، فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى عليّ عليه السلام فأعاد قوله، فعل ذلك عبدالرحمن ثلاثاً، فلمّا رأى أنّ عليّاً عليه السلام غير راجع عمّا قاله، وأنّ عثمان يُنعم له [ أنعم له: إذا قال مجيباً 'نعم'].
بالإجابة، صفّق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال: إنّ عليّاً عليه السلام قال له: 'واللَّه ما فعلتها إلا أنّك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دقّ اللَّه بينكما عِطر مَنشِم'. [ منشم - بكسر الشين -: 'اسم امرأة كانت بمكّة عطّارة، وكانت خزاعة وجُرهُم إذا أرادوا القتال تطيّبوا من طيبها،وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم، فكان يقال: أشأم من عطر مَنشم، فصار مثلاً'. راجع هامش شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 188:1، بتحقيق محمّد أبوالفضل إبراهيم].
قيل: ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبدالرحمن، فلم يكلّم أحدُهما صاحبه حتّى مات عبدالرحمن. [ شرح ابن أبي الحديد 185:1، وراجع الكامل في التاريخ 219:2، وتاريخ الطبري 292:3].
فقد استجاب اللَّه تعالى دعائه عليه السلام على عبدالرحمن ولم يرَ خيراً من بيعته لعثمان، فقد روى العلامة الخوئي عن الشارح المعتزلي: لمّا بنى عثمان قصره طمارد الزوراء وصنع طعاماً كثيراً، ودعا النّاس إليه كان فيهم عبدالرحمن، فلمّا نظر إلى البناء والطعام قال: يابن عفّان، لقد صدقنا عليك، ما كنّا نكذب فيك، وإنّي أستعيذ باللَّه من بيعتك، فغضب عثمان، وقال: أخرجه عنّي يا غلام، فأخرجوه وأمر النّاس أن لا يجالسوه، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عبّاس كان يأتيه، فيتعلّم منه القرآن والفرائض، ومرض عبدالرحمن فعاده عثمان فكلّمه ولم يكلّمه حتّى مات. [ شرح الخوئي 84:2].
ما يطعن به على عمر في تضييع حقّ عليّ
فقصّته الشورى على ما رواها أصحاب التاريخ طويلة، فقد تعرّضنا لذكرها إجمالاً حتّى نشير إلى بعض ما يطعن به على عمر في هذه القضيّة، من ابتداعه في الدين، وخروجه عن نهج الحقّ المبين، وتضييع حقّ عليّ عليه السلام وغير ذلك ممّا لا يخفى على أهل البصيرة واليقين.
1- مخاطبته القوم ومواجهتهم بكلمات كاشفة عن غلظ طبيعته وخشونة مسّه وجفوته.
2- خروجه في هذا الأمر عن النصّ والاختيار جميعاً.
3- حصر الشورى في ستّة، وذمّ كلّ واحد منهم بأن ذكر فيه طعناً لا تصلح معه الإمامة، سوى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ أهّله بعد أن طعن فيه.
4- نسبة الإمام عليّ عليه السلام إلى الدعابة والمزاح، وهو افتراء عليه، وظلم في حقّه، ومثل ذلك زعم عمرو بن العاص، وكذّبه عليه السلام في بعض خطبه بقوله: عَجَباً لاِبْنِ النَّابِغَةِ! يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً، وَأَ نِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ: أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً، وَنَطَقَ آثِماً. أَمَا - وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ - إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ. الخطبة. [ نهج البلاغة: الخطبة 84].
5- وجعل الأمر إلى ستّة ثمّ إلى أربعة، ثمّ إلى واحد وصفه بالضعف والقصور.
6- ترجيح قول الّذين فيهم عبدالرحمن، لعلمه بأنّه لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمّه، أي عثمان.
و قد روى ابن أبي الحديد عن القطب الراوندي: أنّ عمر لمّا قال: كونوا مع الثلاثة الّتي عبدالرحمن فيها، قال ابن عبّاس لعليّ عليه السلام: ذهب الأمر منّا، الرجل "عمر" يريد أن يكون الأمر في عثمان، فقال عليّ عليه السلام: 'وأنا أعلم ذلك، ولكنّي أدخل معهم في الشورى؛ لأنّ عمر قد أهّلني الآن للخلافة، وكان قبل ذلك يقول: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: إنّ النبوّة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك لاُظهر للنّاس مناقضة فعله لروايته'. [ شرح ابن أبي الحديد 186:1].
7- أمره بقتل الثلاثة الّذين ليس فيهم عبدالرحمن لو أصرّوا على المخالفة، ومن المعلوم أنّ مخالفته لا توجب استحقاق القتل قطعاً.
8- أمره بقتل الستّة وضرب أعناقهم إن مضت ثلاثة أيّام ولم يتّفقوا، ومن الواضح أنّ تكليفهم إذا كان الاجتهاد في اختيار الإمام فربّما طال زمان الاجتهاد وربّما قصر، بحسب ما يعرض فيه من العوارض، فكيف يسوغ الأمر بالقتل إذا تجاوزت المدّة ثلاثة أيّام.
إلى غير هذه الاشكالات ممّا هي غير خفيّة على أهل البصيرة والمعرفة. [ راجع: شرح الخوئي 85:3].
مظلوميّته في حرب صفّين وقصّة التحكيم
ومن أمرّ صور المظلوميّة أن يقف أعوان المرء في وجهه وهو على أعتاب الانتصار على العدوّ، وكان هذا ما واجهه عليّ عليه السلام، فلمّا أن أشرف على النصر يوم صفّين أحدث معاوية خديعته فوقف أصحاب الإمام عليّ عليه السلام يعارضون أميرهم.
قال الشارح المعتزلي: إنّ الّذي دعا إليه طلب أهل الشام له واعتصامهم به من سيوف أهل العراق، فقد كانت أمارات القهر والغلبة لاحت، ودلائل النصر والظفر وضحت، فعدل أهل الشام عن القِراع إلى الخداع، وكان ذلك برأي عمرو بن العاص، وهذه الحال وقعت عقيب ليلة الهرير [ من هرير الفرسان بعضهم على بعض كما تهرّ السباع، وهو صوت دون النباح].
وهي الليلة العظيمة الّتي يُضرب بها المَثل. [ شرح ابن أبي الحديد 206:2].
وقد فصّلنا قضيّة التحكيم في فصل "عليّ عليه السلام في حرب صفّين"، وسنذكر هنا مختصراً يناسب هذا الفصل؛ لتوضيح مظلوميّة عليّ عليه السلام في التحكيم.و اليك شرح قصة التحكيم اختصاراً:
قتال أصحابه مع معسكر معاويه خصوصاً مالك الأشتر
عن نصر بن مزاحم، عن عمرو بن شمر، عن أبي ضرار، عن عمّاد بن ربيعة، قال: غلّس عليّ عليه السلام بالناس صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول، سنة سبع وثلاثين. وقيل: عاشر شهر صفر، ثمّ زحف إلى أهل الشام بعسكر العراق، والنّاس على راياتهم وأعلامهم، وزَحفَ إليهم أهل الشام وقد كانت الحرب أكلت الفريقين، ولكنّها في أهل الشام أشدّ نكاية، وأعظم وقعاً، فقد ملُّوا الحرب وكرهوا القتال، وتَضعضعت أركانهم.
إلى أن مضى الليالي و الايام بعد سنة و انتهى الى ليلة المعروف بليلة الهرير، فان الأشتر يسير فيما بين الميمنة والميسرة، فيأمر كلّ قبيلة أو كتيبة من القرّاء بالإقدام على الّتي بينها، فاجتلدوا بالسيوف وعُمد الحديد، من صلاة الغداة من اليوم المذكور إلى نصف الليل، لم يصلّوا للَّه صلاة، فلم يزل الأشتر يفعلُ ذلك حتّى أصبح والمعركة خلف ظهره، وافترقوا عن سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم، وتلك الليلة، وهي ليلة الهرير المشهورة، وكان الأشتر في ميمنة النّاس، وابن عبّاس في الميسرة، وعليّ عليه السلام في القلب والنّاس يقتتلون.
ثمّ استمرّ القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى، والأشتر يقول لأصحابه وهو يزحف بهم نحو الشام: ازحفوا قيد رمحي هذا، إلى أن قال: ثمّ دعا بفرسه وركز رايته - وكانت مع حبّان بن هوذة النخعي - وسار بين الكتائب وهو يقول: ألا مَن يشتري نفسه للَّه ويقاتل مع الأشتر، حتّى يظهر أو يلحق باللَّه! فلا يزالُ الرجل من النّاس يخرج إليه فيقاتل معه. [ راجع شرح ابن أبي الحديد 206:2].
وروى ابن أبي الحديد عن نصر عن رجاله، قال: لمّا بلغ القوم ما بلغوا إليه، قام عليّ عليه السلام خطيباً، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: 'أيّها النّاس، قد بلغ بكم الأمر وبعدوّكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلا آخر نفس، وأنّ الاُمور إذا أقبلت اعتبر آخرُها بأوّلها، وقد صبر لكم القوم على غير دين، حتّى بلغنا منهما بلغنا وأنا غادٍ عليهم بالغداة اُحاكمهم إلى اللَّه'. [ المصدر المتقدّم 209:2].
مشاورة معاوية مع عمرو بن العاص ورفع المصاحف
قال: فبلغ ذلك معاوية، فدعا عمرو بن العاص، وقال: يا عمرو، إنّما هي الليلة حتّى يغدُوَ عليٌّ علينا بالفيصَل [ بالفصل ن خ].
فما ترى؟ قال: ألقِ إلى القوم أمراً إن قَبِلوه اختلفُوا، وإن ردّوه اختلفوا، اُدعهُم إلى كتاب اللَّه حَكَماً فيما بينك وبينهم، فإنّك بالغٌ به حاجتك في القوم، وإنّي لم أزل أؤخّر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه. فعرف معاوية ذلك وقال له: صدقت. [ شرح بن أبي الحديد 210:2].
وروى نصر بإسناده عن جابر، قال: سمعت تميم بن حُذيم يقول: لمّا أصبحنا من ليلة الهرير، نظرنا فإذا أشباهُ الرايات أمام أهل الشام في وسط الفَيلق حيال موقف عليّ عليه السلام ومعاوية، فلمّا أسفرنا إذا هي المصاحف قد رُبطت في أطراف الرماح، وهي عظام مصاحف العسكر، وقد شدّوا ثلاثة أرماح جميعاً، وربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمكسه عشرة رهط.
وقال أبو جعفر وأبو الطفيل: استقبلوا عليّاً بمائة مصحف، ووضعوا في كلّ مُجِنّبة [ المجنبة - بكسر النون المشدّدة -: ميمنة الجيش وميسرته].
مائتي مصحف، فكان جميعها خمسمائة مصحف. [ شرح ابن أبي الحديد 211:2].
قال الشارح المعتزلي، عن أبي جعفر: ثمّ قام الطفيل بن أدهم حيال عليّ عليه السلام وقام أبو شريح الجذامي حيال الميمنة، وقام ورقاء بن المعمّر حيال الميسرة، ثمّ نادوا: يا معشر العرب، اللَّه اللَّه في النساء والبنات والأبناء من الروم والأتراك وأهل فارس غداً إذا فنيتم، اللَّه اللَّه في دينكم! هذا كتابُ اللَّه بيننا وبينكم. فقال عليّ عليه السلام: 'اللّهمّ إنّك تعلم أنّهم ما الكتاب يريدون، فاحكُم بيننا وبينهم إنّك أنت الحكم الحقّ المبين'.
فاختلف أصحاب عليّ عليه السلام في الرأي، فطائفة قالت: القتال، وطائفةٌ قالت: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحلّ لنا الحرب، وقد دُعينا إلى حكم الكتاب، فعند ذلك بطلت الحرب ووضعت أوزارها. [ المصدر المتقدّم: 212].
قال نصر: وروى الشعبي عن صعصعة، قال: وقد كان الأشعثُ بن قيس بدر منه قولٌ ليلة الهرير، نقله الناقلون إلى معاوية، فاغتنمه وبَنى عليه تدبيره، وذلك أنّ الأشعث خَطبَ أصحابه من كندة تلك الليلة، فقال: الحمد للَّه، أحمدُه وأستعينه وأؤمِنُ به وأتوكّل عليه، وأستنصره وأستغفره، وأستجيره وأستهديه، وأستشريه واستشهد به، فإنّ مَنْ هداه اللَّه فلا مضلّ له، ومن يظلل اللَّه فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحدَهُ لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبدُه ورسولهُ صلى الله عليه و آله.
ثمّ قال الأشعث: قد رأيتم - يا معشر المسلمين - ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فَني فيه من العرب، فواللَّه لقد بَلغتُ من السِّنِّ ما شاء اللَّه أن أبلُغ، فما رأيتُ مثلَ هذا اليوم قطّ، ألا فليُبلِّغ الشاهد الغائب، إنّا نحن إن توافقنا غداً، إنّه لفناء العرب، وضيعة الحُرُمات [ فنيت العرب وضيّعت الحرمات "ن خ"].
أمّا واللَّه ما أقول هذه المقالة جَزَعاً من الحرب، ولكنّي رجلٌ مُسنٌّ أخافُ على النساء والذراري غداً إذا فَنينا، اللّهمّ إنّك تعلم أنّي قد نظرتُ لقومي ولأهل ديني فلم آلُ، وما توفيقي إلا باللَّه عليه توكلّت وإليه اُنيب، والرأي يُخطئ ويُصيب، وإذا قضى اللَّه أمراً أمضاه على ما أحبّ العباد أو كرهوا، أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه العظيم لي ولكم. [ شرح ابن أبي الحديد 214:2].
قال الشعبي: قال صعصعة: فانطلقت عيونُ معاوية إليه بخطبة الأشعث فقال: أصاب وربّ الكعبة! لئن نحن التقينا غداً لتملينّ الروم على ذراريّ أهل الشام ونسائهم، ولتميلنّ فارسُ على ذاريّ أهل العراق ونسائهم! إنّما يبصر هذا ذَوُوا الأحلام والنُّهى، ثمّ قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القَنا.
فثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية وأمره: يا أهل العراق، مَن لذرارينا إن قتلتمونا، ومَن لذراريكم إذا قتلناكم! اللَّه اللَّه في البقيّة! وأصبحُوا وقد رفعوا المصاحِفَ على رؤوس الرماح، وقد قلّدوها الخيل، والنّاس على الرايات قد اشتهوا ما دُعوا إليه، ومصحفُ دمشق الأعظم يحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح وهم ينادون: كتاب اللَّه بيننا وبينكم. وأقبل الأعور السُّلميّ على برذون أبيض، وقد وَضَع المصحف على رأسه يُنادي: يا أهل العراق، كتاب اللَّه بيننا وبينكم. [ شرح ابن أبي الحديد 215:2].