معاودة الاشعث الخلاف

فان اشعث بعد ما رأى موافقة بعض الاصحاب مع عليّ عليه السلام فى ادامة الحرب مع معاوية، قام مُغضباً، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّا لك اليوم على ما كنّا عليه أمس، وليس آخر أمرنا كأوّله، وما من القوم أحدٌ أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام منّي، فأجب القوم إلى كتاب اللَّه عزّ وجلّ فإنّك أحقّ به منهم، وقد أحبّ النّاسُ البقاء، وكرهوا القتال. فقال عليّ ءعليه السلام: 'هذا أمرٌ يُنظر فيه'، فنادى النّاس من كلّ جانب: الموادعة. [ شرح ابن أبي الحديد 215:2].

علي يُطلع جيشه على حيلة معاوية وعمرو، ولكنّه يُهدّد بالقتل

فقال عليّ عليه السلام: 'أيّها النّاسُ، إنّي أحقّ مَن أجابَ إلى كتاب اللَّه، ولكنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي مُعيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرف بهم منكم، صحبتهم صغاراً ورجالاً، فكانوا شرّ صغار وشرّ رجال، ويحكم إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل! إنّهم ما رَفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة! أعيروني سواعدَكُم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلا أن يُقطَع دابرُ الّذين ظلموا'.

فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفاً مقنّعين في الحديد، شاكي سيُوفهم على عواتقهم، وقد اسودّت جباههم من السجود، يتقدّمهم مِسعَر بن فَدَكيّ، وزيد بن حُصين، وعصابةٌ من القُرّاء الّذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا عليّ، أجب القوم إلى كتاب اللَّه إذا دُعيتَ إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فواللَّه لنفعلنّها إن لم تُجبهم!

فقال لهم: 'ويحكم! أنا أوّل من دَعا إلى كتاب اللَّه، وأوّل مَن أجابَ إليه، وليس يَحلُّ لي، ولا يسعني في ديني أن اُدْعى إلى كتاب اللَّه فلا أقبلُه، إنّي إنّما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنّهم قد عصوا اللَّه فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد كادوكم، وأنّهم ليس العمل بالقرآن يُريدون'، قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتينّك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله. [ شرح ابن أبي الحديد 216:2].

فأقبل الأشتر حتّى انتهى إليهم، فصاح: يا أهل الذلّ والوهن، أحينَ علوتم القوم وظنّوا أنّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد واللَّه تركوا ما أمر اللَّه به فيها، وقد تركوا سنّة من اُنزلت عليه، فلا تجيبوهم! أمهلوني فُواقاً [ الفُواق: ما بين الحلبتين. يقال: انتظرتك فواق ناقة].

فإنّي قد أحسستُ بالفتح، قالوا: لا نمهلك. قال: فأمهلوني عَدوَة الفَرس، فإنّي قد طمعتُ في النصر. قالوا: إذنْ ندخُلُ معك في خطيئتك، فَسبُّوه وسبّهم، وضَربُوا بسيافهم وجه دابّته، وضرب بسوطه وجوه دوابّهم، وصاح بهم عليّ عليه السلام فكفّوا.

وقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، احمل الصفّ على الصفّ تَصرع القوم، فتصايحوا: إنّ أمير المؤمنين قد قَبِل الحكومة، ورَضي بحكم القرآن. فقال الأشتر: إن كان أمير المؤمنين قد قَبِلَ ورضي فقد رضيتُ بما رضي به أمير المؤمنين، فأقبل النّاس يقولون: قد رَضي أمير المؤمنين، قد قَبِلَ أمير المؤمنين، وهو ساكت لا يَبضّ [ لا يبضّ: لا يتكلّم] بكلمة مُطرقٌ إلى الأرض.

ثمّ قام فسكت النّاس كلّهم، فقال: 'أيّها النّاس، إنّ أمري لم يَزَل معكم عَلَى ما اُحبّ إلى أن أخذَتْ منكم الحرب، وقد - واللَّه - أخَذَتْ منكم وتركت، وأخذَتْ من عدوِّكم فلم تترك، وإنّها فيهم أنكى وأنهك، ألا إنّي كنتُ أمسِ أمير المؤمنين، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنتُ ناهياً فأصبحتُ منهيّاً، وقد أحببتم البقاء، وليس لي أن أحملكم على ما تكرهُون'، ثمّ قعد.

ثمّ تكلّم رؤساء القبائل، فكلٌّ قال ما يراه ويهواه إمّا من الحرب أو من السلم.. إلى أن قال نصر: وجاء الأشعث إلى عليّ ءعليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرى النّاس إلا قد رضوا، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دَعَوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيتُ معاوية فسألتُه ما يُريد، ونظرتُ ما الّذي يسأل، قال: 'آته إن شئت'، فأتاه فسأله: يا معاوية، لأيّ شيء رفعتم هذه المصاحف؟

قال: لنرجع نحنُ وأنتم إلى ما أمر اللَّه به فيها، فابعثوا رجلاً منكم تَرضَون به، ونبعثُ مِنّا رجلاً، ونأخذ عليها أن يعمَلا بما في كتاب اللَّه ولا يَعْدُوانِه، ثمّ نتّبع ما اتّفقنا عليه، فقال الأشعث: هذا هو الحقّ. [ انظر: شرح ابن أبي الحديد 228 - 218 :2].

 

مظلوميّته في انتخاب أبي موسى الأشعري للتحكيم

وانصرف الأشعث إلى عليّ عليه السلام فأخبره، فبعث عليّ عليه السلام قُرّاء من أهل العراق، وبعث معاوية قُرّاء من أهل الشام، فاجتمعوا بين الصفّين ومعهم المصحف، فنظروا فيه وتدارسوا، واجتمعوا على أن يُحيوا ما أحيا القرآن، ويُميتوا ما أمات القرآن، ورجع كلّ فريق إلى صاحبه، فقال أهل الشام: إنّا قد رَضينا واخترنا عمرو بن العاص، وقال الأشعث والقُرّاء الّذين صاروا خوارج فيما بعد: قد رضينا نحن واخترنا أبا موسى الأشعري. فقال لهم عليّ عليه السلام: 'فإنّي لا أرضى بأبي موسى، ولا أرى أن اُولّيه'.

فقال الأشعث وزيد بن حُصين ومِسعر بن فَدَكيّ في عصابة من القرّاء: إنّا لا نرضى إلا به، فإنّه قد كان حذّرنا ما وقعنا فيه. فقال عليّ عليه السلام: 'فإنّه ليس لي برضى، وقد فارقني وخذّل النّاس عنّي، وهرب منّي حتّى أمّنتُه بعد أشهر، ولكن هذا ابن عبّاس اُولّيه ذلك'، قالوا: واللَّه ما نُبالي، أكنت أنت أو ابن عبّاس، ولا نُريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما بأدنى من الآخر.

قال عليّ عليه السلام: 'فإنّي أجعل الأشتر'، فقال الأشعث: وهل سعّر الأرض علينا إلا الأشتر! وهل نحن إلا في حُكم الأشتر. قال عليّ عليه السلام: 'وما حكمه؟'. قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيف حتّى يكون ما أردتَ وما أراد، وساق الكلام إلى قوله:

فقال عليّ عليه السلام: 'قد أبيتُم إلا أبا موسى!'، قالوا: نعم، قال: 'فاصنعوا ما شئتم'، فبعثوا إلى أبو موسى - وهو بأرض من أرض الشام، يقال لها عُرض [ عُرْض: بلد بين تدمر ورصافة الشام].

قد اعتزل القتال - فأتاه مولى له، فقال: إنّ النّاس قد اصطلحوا، فقال: الحمد للَّه ربّ العالمين، قال: وقد جعلوك حكماً، فقال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون. [ راجع: شرح بن أبي الحديد 228:2].

ولكن خالف بعض صحابة أمير المؤمنين عليه السلام في تحكيم أبي موسى ولا يؤثر ذلك بعد أن اتّفق الخونة والمنافقون والجهّال من جيش عليّ عليه السلام على أبي موسى الأشعري. [ راجع: المصدر المتقدّم: 229].

قال نصر بن مزاحم: فلمّا رَضي أهل الشام بعمرو بن العاص وأهل العراق بأبي موسى، أخذوا في سطر كتاب الموادعة.. وكُتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، واتّفقوا على أن يوافي أمير المؤمنين عليّ عليه السلام موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان، الحديث. [ والرواية طويلة، من أرادها فليراجع شرح ابن أبي الحديد 232:2، والكامل في التاريخ 389:2، وتاريخ الطبري 562:3].

مظلوميّته في حيلة عمرو على أبي موسى في اجتماع الحكمين

ولمّا جاء وقت اجتماع الحكمين، أرسل عليّ عليه السلام أربعمائة رجل عليهم شريح بن هاني الحارثي، وبعث معهم عبداللَّه بن عبّاس وهو يصلّي بهم ويلي اُمورهم، وأوصى شريحاً أن يقول لعمرو بن العاص بالتقوى ورعاية الحقّ.

وكذا أرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام حتّى توافوا بدومة الجندل بأذرح في شهر رمضان، فلمّا اجتمع الحكمان وجرى بينهما ما جرى، وأخذ عمرو يقدّم أبا موسى في الكلام، وكان مكراً وخديعة، وإن قال له ابن عبّاس: ويحك! واللَّه إنّي لأظنّه قد خدعك؟ أمّا أبو موسى فكان مغفّلاً، فقال: إنّا قد اتّفقنا. [ راجع تاريخ الطبري 94:4، والكامل في التاريخ 394:2، وابن أبي الحديد 244:2].

وقال المسعودي في "مروج الذهب": ووجدت في وجه آخر من الروايات أنّهما اتّفقا على خلع عليّ ومعاوية، وأن يجعلا الأمر بعد ذلك شورى: يختار النّاس رجلاً يصلح لهم فقدّم عمرو أبا موسى. [ مروج الذهب 409:2].

ورواه أيضاً - في حديث طويل بعد مناظرة أبي موسى وعمرو بن العاص - قال عمرو: أما إذا رأيت الصلاح في هذا الأمر والخير للمسلمين فاخطُب النّاس، واخلع صاحبينا |معاً |وتكلّم باسم هذا الرجل الّذي تستخلفه، فقال أبو موسى: بل أنت قم فاخطُب فأنت أحقّ بذلك، قال عمرو: ما اُحبّ أن أتقدّمك، وما قولي وقولك للنّاس إلا قول واحد، فقم راشداً. فقام أبو موسى، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصَلّى على نبيّه صلى الله عليه و آله، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّا قد نظرنا في أمرنا، فرأينا أقرب ما يحضرنا من الأمن والصلاح ولمّ الشعث وحقن الدماء وجمع الاُلفة، خلعنا عليّاً ومعاوية، وقد خَلعتُ عليّاً كما خلعتُ عمامتي هذه، ثمّ أهوى إلى عمامته فخعلها، واستخلفنا رجلاً قد صحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بنفسه، وصحب أبوه النبيّ صلى الله عليه و آله، فبرّز في سابقته - وهو عبداللَّه بن عمر - وأطراه، ورغّب النّاس فيه، ثمّ نزل.

فقام عمرو بن العاص فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصلّى على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمّ قال: أيّها النّاس، إنّ أبا موسى عبداللَّه بن قيس قد خلع عليّاً وأخرجه من هذا الأمر الّذي يطلب وهو أعلم به، ألا وأنّي قد خلتُ عليّاً معه، وأثبتُّ معاوية علَيَّ وعليكم، وإنّ أبا موسى قد كتب في الصحيفة أنّ عثمان قد قُتل مظلوماً شهيداً، وأنّ لوليّه "سلطاناً" أن يطلب بدمه حيث كان، وقد صحب معاوية رسول اللَّه بنفسه، وصحب أبوه النبيّ صلى الله عليه و آله "وأطراه، ورغّب النّاس فيه وقال": هو الخليفة علينا، وله طاعتنا وبيعتنا على الطلب بدم عثمان، فقال أبو موسى: كذب عمرو، لم نستخلف معاوية، ولكنّا خلعنا معاوية وعليّاً معاً، فقال عمرو: بل كذب عبداللَّه بن قيس، قد خلع عليّاً ولم أخلع معاوية. [ المصدر المتقدّم: 408].

وفيه أيضاً: وانخزل أبو موسى فاستوى على راحلته ولحق بمكّة، ولم يعد إلى الكوفة، وقد كانت خطّته وأهله وولده بها، وآلى أن لا ينظر إلى وجه عليّ ما بقي، ومضى ابن عمر وسعد إلى بيت المقدس، "فأحرما". [ المصدر المتقدّم: 410].

قال نصر: ورجع عمرو إلى منزله من دومة الجندل فكتب إلى معاوية قصيدة نذكر بيتين منها:

أتيتك الخلافة مزفوفة*** هنيئاً مريئاً تُقرُّ العُيونا

تُزَفُّ إليك زفاف العروس*** بأهْوَنَ من طعنك الدار عينا

[ وقد أشرنا إلى تفصيل الواقعة في فصل "عليّ عليه السلام وصفّين" في الجلد الأوّل فراجعه، ومن أراد تفصيلاً أكثر فليراجع شرح ابن أبي الحديد 245:2، والكامل في التاريخ 394:2، وتاريخ الطبري 49:4].

 

خطبة الإمام عليّ بعد التحكيم

روي أنّ عمر بن العاص وأبا موسى الأشعري لمّا التقيا دومة الجندل وقد حكما في أمر الناس، كان أمير المؤمنين عليه السلام يومئذٍ قد دخل الكوفة ينتظر ما يحكمان به، فلمّا تمّت خدعة عمرو لأبي موسى، وبلغه عليه السلام ذلك، اغتمّ له غمّاً شديداً ووجم منه، وقام فخطب النّاس، فقال: 'أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الُْمجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ. وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ في هذِهِ الْحُكُومَةِأَمْرِي، وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي، لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِير أَمْرٌ! فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الُْمخَالِفِينَ الْجُفَاةِ، وَالمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ، حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ، وَضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ، فَكُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ:

أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بمُنْعَرَجِ اللِّوَى *** فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلا ضُحى الْغَدِ'

[ نهج البلاغة: الخطبة 35].

وهذه الألفاظ من خطبة خطبها عليه السلام بعد خديعة ابن العاص لأبي موسى وافتراقهما لكاشفة عن مظلوميّته في هذه الواقعة المؤلمة.

مظلوميّته في تثاقل أصحابه وخطبته في ذلك

فإنّ اميرالمؤمنين بعد حرب الصفين حينما رأى تثاقل أصحابه من الجهاد و عدم متابعته في الحرب مع معاوية، خطب اصحابه خطبة فذمّهم ووبَّخهم، فقال في خلالها: 'أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَظْهَرَنَّ هؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ، لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ، وَلكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ، وَإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي. وَلَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا، وَأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي. اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا، وَأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا'.

إلى أن قال: 'أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الُْمخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَلَى بِهمْ أُمَرَاؤُهُمْ. صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَأَ نْتُمْ تَعْصُونَهُ، وَصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَهُمْ يُطِيعُونَهُ. لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَني بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةً مِنْكُمْ وَأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ!'. [ نهج البلاغة: الخطبة 97].

 

مظلوميّته في دخول غارات معاوية على بلاد الاسلام

هذه الخطبة من مشاهير خطبه عليه السلام، وقد ذكرها كثير من النّاس، ورواها أبوالعبّاس المبرّد في أوّل "الكامل" وأسقط من هذه الرواية ألفاظاً: وزاد فيها ألفاظاً، وقال: فانتهى إلى عليّ عليه السلام أنّ خيلاً وردت الأنبار لمعاوية، فقتلوا عاملاً له يقال له حسّان بن حسّان، فخرج عليه السلام مغضباً يجرّد رداءه. حتّى أتى النخيلة، وأتبعه النّاس، فرقي ربوة من الأرض، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه صلى الله عليه و آله ثمّ قال: 'أَ مَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللَّهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ الوَثِيقَةُ. فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلَاءُ'.

إلى أن قال: 'أَ لَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلَاءِ القَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلَاناً، وَقُلْتُ لَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إِلا ذَلُّوا. فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلتُمْ حَتَّى شُنَّتْ [ شنّت عليكم الغارات: فُرّقت].

عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأَوْطَانُ. وَهذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا [ مسالح: جمع مسلحة، وهي كالثغر والمرقَب].

وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَة المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ [ المعاهدة: الذمية].

فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا [ الحجل: الخلخال].

وَقُلْبَهَا [ القلب: السوار المصمت].

وَقَلَائِدَهَا وَرُعُثَهَا، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلا بِالاسْتِرْجَاعِ [ أي بقولها: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون].

وَالِاسْتِرْحَامِ. ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ [ الكلم: الجراح].

وَلَاأُرِيقَ لَهُمْ دَمْ، فَلَوْ أَنْ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً'.

إلى أن قال: 'فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسّيْرِ إِلَيْهِم فِي أَيَّامِ الحَرِّ | الصّيف |، قُلْتُمْ: هذِهِ حَمَارَّةُ [ أي شدّة الحرّ].

القَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الحرُّ [ يُسبّخ عنّا الحرّ: يخفّ].

وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذِهِ صَبَارَّةُ [ صبّارة الشتاء: شدّة برده].

القُرِّ [ القرّ: البرد].

أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ، كُلُّ هذَا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَ نْتُمْ وَاللَّهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!

يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ [ ربّات الحجال: النساء].

لَوَدِدْتُ أَ نِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً - وَاللَّهِ - جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً "ذمّاً". قَاتَلَكُمُ اللَّهُ! لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُوني نُغَبَ التَّهْنَامِ أَ نْفَاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخِذْلَان، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُريْش: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَلكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ. للَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً "مقاماً"، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وَها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ! وَلكِنْ لا رَأْيَ لِمَنْ لَايُطَاعُ!'. [ نهج البلاغة: الخطبة 27].

لقد خطب هذه الخطبة الشريفة في أواخر عمره الشريف، وذلك بعد ما انقضت وقعة صفّين، واستولى معاوية على البلاد، وأكثر القتل والغارة في الأطراف، وأمر سفيان بن عوف الغامدي بالمسير إلى الأنبار وقتل أهلها.

وتفصيل ذلك ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي عن كتاب "الغارات" لإبراهيم بن محمّد الثقفي بسنده عن أبي الكنود. وإليك لفظ الحديث:

قال سفيان بن عوف الغامدي: دعاني معاوية، فقال: إنّي باعثُك في جيش كثيف، ذي أداةٍ وجلادةٍ، فالزم لي جانب الفُرات حتّى تمرّ بهيت [ هيت: بلد على الفرات فوق الأنبار].

فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً، فأغِر عليهم وإلا فامض حتّى تُغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً فامض حتّى تُوغل في المدائن، ثمّ أقبل إلَيَّ واتّق أن تقرُب الكوفة، واعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنّك أغرت على الكوفة، إنّ هذه الغارات - يا سفيان - على أهل العراق تُرعب قُلوبَهم، وتُفرح كلّ مَن لَهُ فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كلّ من خاف الدوائر، فاقتل مَن لقيته ممّن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كلّ ما مررت به من القُرى، واحرب الأموال، فإنّ حَرَبَ الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب.

قال: فخرجتُ من عنده فعسكرتُ، وقام معاوية في النّاس فخطبهم، فقال: أيّها النّاس، انتدبوا مع سفيان بن عوف، فإنّه وجهٌ عظيم فيه أجرٌ، سريعة فيه أوْبتكم إن شاء اللَّه، ثمّ نزل.

قال سفيان: فوالّذي لا إله إلا غيرهُ ما مَرّتْ ثالثة حتّى خرجتُ في ستّة آلاف، ثمّ لزمتُ شاطئ الفرات.. فامضي حتّى أفتتح الأنبار، وقد نَذِرُوا بي، فخرج صاحب المسلحة إليَّ فَوَقَف لي فلم أقدم عليه حتّى أخذتُ غلماناً من أهل القرية، فقلتُ لهم: أخبروني، كم بالأنبار من أصحاب عليّ؟ قالوا: عدّة رجالِ المسلَحة خمسمائة، ولكنّهم قد تبدّدوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الّذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل، فنزلتُ فكتّبتُ أصحابي كتائب، ثمّ أخذتُ أبعثهم إليه كتيبةً بعد كتيبة، فيقالتهم واللَّه ويَصبُر لَهم، ويُطاردُهم ويُطاردونه في الأزقّة، فلمّا رأيتُ ذلك أنزلتُ إليهم نحواً من مائتين، وأتبعتهم الخيل، فلمّا حملت عليهم الخيل وَ أمامَها الرجال تمشي، لَم يَكن شيء حتّى تفّرقوا و قُتل صاحبهم في نحو من ثلاثين رجلاً، وحملنا ما كان في الأنبار من الأموال، ثمّ انصرفت، فواللَّه ما غزوتُ غزاةً كانت أسلم ولا أقرّ للعيون، ولا أسرّ للنفوس منها، وبَلَغني واللَّه أنّها أرعبت النّاس، فلمّا عُدتُ إلى معاوية: حدّثتُه الحديث على وجهه، فقال: كنتَ عند ظنّي بك، لا تنزل في بلد من بُلداني إلا قضيتَ فيه مثل ما يَقضي فيه أميرهُ، وإن أحببت توليته وليّتك، و ليس لأحد من خلق اللَّه عليك أمرٌ دوني.

قال: فواللَّه ما لبثنا إلا يسيراً حتّى رأيتُ رجال أهل العراق يأتوننا على الإبل هُرّاباً من عسكر عَليّ.

قال إبراهيم: كان اسم عامل عليّ عليه السلام على مسلحة الأنبار أشرس بن حسّان البكري. [ شرح ابن أبي الحديد 87 - 85 :2].

وروى الشارح المعتزلي أيضاً عن إبراهيم، عن عبداللَّه بن قيس، عن حبيب بن عفيف - في حديث - قال: ولبث عليّ عليه السلام تُرى فيه الكآبة والحزن، حتّى قدم عليه سعد بن قيس، وكان تلك الأيّام عليلاً، فلم يَقْوَ على القيام في النّاس بما يُريده من القول، فجلس بباب السُّدّة الّتي تصل إلى المسجد، ومعه ابناه حسن وحسين وعبداللَّه بن جعفر، ودعا سعداً مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأه على النّاس، فقام سعد يستمع عليّ عليه السلام صوته ويسمع ما يردّ النّاس عليه ثمّ قرأ هذه الخطبة الّتي ذكرتها. [ المصدر المتقدّم: 88 - 87].

مظلوميّته بعد شهادته

وأجلى صور المظلوميّة أنّه صارت المنابر في الشرق والغرب في حكومة الأمويّين على مدى أربعين سنة محلا لشتمه وسبّه، ومعرضاً لإهانته ولعنه حتّى صار ذلك سُنّة جاريةً بينهم، وقد أخبر عليه السلام بذلك حيث قال لأصحابه:

'أَمَا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، يَأْكُلُ مَا يَجِدُ، وَيَطْلُبُ مَا لاَ يَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ! أَ لَا وَإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنِّي؛ فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ، وَلَكُمْ نَجَاةٌ؛ وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّأُوا مِنِّي؛ فَإِنِّي وَلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ'. [ شرح نه البلاغة: 137، الخطبة 56].

و لا يخفى انّ هذا الكلام منه عليه السلام إخبار بما يأتى و نحو هذا قد وقع منه كثيراً و هو يفوق فوق حدّ الإحصاء فى الوقايع الشديدة و الخطوب العظيمة، و لا شك انّه لا يكون هذا الاخبار بالمغيبات منه عليه السلام إلا باعلام من اللَّه تعالى و تعليم من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. و سنذكر فيما يلي موارد من مظلوميّته عليه السلام بعد شهادته في حكومة معاوية و عملائه:

في تسخير معاوية العملاء وشراء الذمم

لقد سخّر معاوية عدداً من العملاء ممّن أعمت قلوبهم المادّة وتمسّكوا بحطام الدنيا وآثروه على رضى الخالق العزيز، وقد بذل لهم معاوية الأموال الطائلة والمناصب العالية، مستغلا كونهم ممّن أدرك عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أو أنّهم مقرّبون لأحد صحابته، وذلك لكي يختلقوا الأحاديث وينتحلوها على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مدّعين أنّه صلى الله عليه و آله قالها ذمّاً لعليّ عليه السلام!

وإنّما عمل معاوية لعنه اللَّه ذلك كي يدوم حكمه لبضعة أيّام اُخرى، ولكي يتقرّب إلى قلوب الناس؛ لأنّ ماضيه الّذي لا يحسد عليه ليس فيه ميزة أو خصلة تجذب الجماهير إليه، كما أنّه لم يسجّل ولا موقفاً واحداً في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يجعله ذا بال أو ممّن يشار إليه بالبنان، بل إنّه كان وأبوه من رؤوس الكفر والإلحاد، لذا لم يجد له ما يقرّبه إلى قلوب النّاس سوى هذه الفعلة الّتي بقيت لعنة له ولمن تمسّك به على طول التاريخ.

لقد كانت القلوب متوجّهة صوب عليّ عليه السلام سيّما بعد الثورة الّتي أطاحت بعثمان؛ وذلك لأنّ فضائل عليّ عليه السلام ومناقبه كانت قد ملأت العيون والمشاهد والأسماع وثبتت في قلوب النّاس قبل أن تسجّلها أقلامهم، لذا لم يجد معاوية بدّاً إلا أن يسعى لأجل انتزاع هذا التوجّه وهذه المحبّة من قلوب النّاس، وأن يجعل من نفسه رجلاً محبوباً مقرّباً إلى نفوس الجماهير بشتّى الوسائل والأساليب.

قال الشارح المعتزلي عن شيخه أبي جعفر الإسكافي: [ من متكلّمي المعتزلة وأحد أئمّتهم].

إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جُعلاً يُرغَبُ في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين، عروة بن الزبير. [ شرح ابن أبي الحديد 63:4].

أقول: لكنّ الشمس لا تُحجب بغربال، فشمس عليّ عليه السلام أبت إلا أن تخرج من الظلام الّذي اصطنعه النواصب على مدى التاريخ، وبقيت أشعّة فضائله ومناقبه عليه السلام تشرق على الدنيا في كلّ العصور لتغطّيها بمكارم الأخلاق، ولعلّ المقارنة بين قبره عليه السلام وقبر معاوية خير شاهد على ما نقول:

چراغى را كه ايزد بر فروزد*** هر آنكس پف كند ريشه اش بسوزد

وسنشير إلى نماذج من الأخبار الموضوعة من قِبل معاوية وأتباعه لنتبيّن من خلالها على مظلوميّة أمير المؤمنين عليه السلام.

جملة من الوضّاعين وأخبارهم

ما رواه أبو هريرة

روى أبو هريرة الحديث الّذي معناه أنّ عليّاً عليه السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأسخطه، فخطب على المنبر، وقال: 'لاها اللَّه! لا تجتمع ابنة وليّ اللَّه، وابنة عدوّ اللَّه أبي جهل، إنّ فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها، فإن كان عليّ يُريد ابنة جهل فليفارق ابنتي وليفعل ما يُريد؟! أو كلاماً هذا معناه.

و لا شك و لا ريب انّ عليّ بن أبى طالب عليه السلام لم يخطب ابنة أبي جهل لا في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و لا بعد وفاته، بل هذا من مجعولات أبي هريرة لكسب المقام و أخذ الأموال اعاذنا اللَّه تعالى من نفس الأمارة.

ومع الأسف شاع هذا الخبر المكذوب المجعول حتّى ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد. [ راجع شرح ابن أبي الحديد 64:4].

عن الأعمش، قال: لمّا قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء إلى مسجد الكوفة، فلمّا رأى كثرة من استقبله من النّاس جثا على ركبتيه، ثمّ ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أنّي أكذبُ على اللَّه وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنّار! واللَّه لقد سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'إنّ لكلّ نبيّ حرماً، وإنّ حرمي بالمدينة، ما بين عِير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة اللَّه والملائكة والنّاس أجميعن' وأُشهد باللَّه أنّ عليّاً أحدث فيها "مراده من الحدث هو قتل عثمان بيد أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام"، فلمّا بلغ معاوية قولهُ أجازه وأكرمه، وولاه إمارة المدينة. [ المصدر المتقدم: 67].

قال الشارح المعتزلي: فأمّا قول أبي هريرة: إنّ عليّاً عليه السلام أحدث في المدينة فحاش للَّه! كان عليّ عليه السلام أتقى للَّه من ذلك، واللَّه لقد نصر عثمان نصراً لو كان المحصور جعفر بن أبي طالب لم يبذل له إلا مثله. [ المصدر المتقدّم: 69].

وقال أبوجعفر الإسكافي: أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضيّ الرواية، ضربه عمر بن الخطّاب بالدرّة، وقال: قد أكثرت من الرواية وأحربك أن تكون كاذباً على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. [ المصدر المتقدّم: 69].

رواية عمرو بن العاص

قال عمرو عاص: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما وليّي اللَّه وصالح المؤمنين. [ المصدر المتقدّم: 64].

أقول: فهذا الرجل من أعدى أعداء عليّ عليه السلام، ويظهر حاله من خلال مباحثنا في هذا الفصل وفي حرب صفّين وفي غزوات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلاحظها، و لذا كذبه على عليّ عليه السلام و وضعه حديثاً من النبيّ صلى الله عليه و آله لضدّه عليه السلام كان من شيمته الخبيثة.

رواية عروة بن الزبير

روى الزهري أنّ عروة بن الزبير، قال: حدّثتني عائشة، قالت: كنتُ عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ أقبل العبّاس وعليّ عليه السلام، فقال صلى الله عليه و آله: يا عائشة، إنّ هذين يموتان على غير ملّتي - أو قال: على غير ديني -؟! [ المصدر المتقدّم: 63].

نعوذ باللَّه من هذه الموضوعات الّتي وضعها هذا الملعون لحطام الدنيا. وعليّ إمام المتّقين وقائد الغُرّ المحجّلين، ووارث علوم النبيّين، ووصيّ رسول ربّ العالمين.

رواية سمرة بن جُندب

قال أبو جعفر الاسكافي: وقد روي أنّ معاوية بذل لسمرة بن جُندب مائة ألف درهم حتّى يروي أنّ هذه الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب: 'وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ' [ سورة البقرة: 204 و 205].

وأنّ الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: 'وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ' [ سورة البقرة: 207].

فلم يقبل، فبذل مائتي ألف درهم، فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف، فقبل. [ شرح ابن أبي الحديد 73:4، وسفينة البحار 654:1].

فإنّه كان منافقاً وبخيلاً؛ لأنّه هو الّذي ضرب ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله القصوى بعنزة له على رأسها فشجّها، فخرجت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فشكته.

ومن الأحاديث الدالّة على خبث باطن هذا الرجل الملعون رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام، قال: 'إنّ سمرة بن جُندب كان له عذقٌ [ العذق: النخل بحملها].

في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللَّه فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخبّره بقول الأنصاري، وما شكا، وقال: إن أردت الدخول فاستأذن؟ فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللَّه فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك [ قوله: 'يمدّ لك' في التهذيب 'مذلّل'، وهو كقوله تعالى: 'ذُلِّلَت قُطوفها'، أي سويّت عناقيدها].

في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للأنصاري: اذهب، فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار'. [ الكافي 292:5، سفينة البحار 654:1، مادة 'سمر'].

فإذا كان يعارض النبيّ صلى الله عليه و آله في بعض الاُمور ولا يأبى عن أذيّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لنخلة، فكيف حاله إذا سخّر له معاوية الأموال الطائلة.

والوضّاعون ممّن أعمتهم المادّة واستهوتهم المناصب كثيرون، وأحاديثهم كثيرة نحيل القارئ إلى مظانّها كشرح ابن أبي الحديد، الجزء الرابع وغيره.

مظلوميّته في لعنه في عصر الأمويّين

وقد اختلف العلماء وأهل الحديث في مراده عليه السلام بالرجل الّذي أخبر عليه السلام بظهوره على أهل الكوفة، في الخطبة المارّة الذكر، والّتي يقول فيها: 'أَما إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ'.

قال ابن أبي الحديد: كثير من النّاس ذهب إلى أنّه عليه السلام عنى زياد بن أبيه، وكثير منهم يقول: إنّه عنى الحجّاج، وقال قوم: إنّه عليه السلام عنى المغيرة بن شعبة، ثمّ قال: والأشبه عندي أنّه عليه السلام عنى معاوية بن أبي سفيان "لعنه اللَّه"؛ لأنّه كان موصوفاً بالنَّهم وكثرة الأكل، وكان بطيناً، يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه، وكان جواداً بالمال والصِّلات، وبخيلاً على الطعام.. كان معاوية يأكل فيكثر ثمّ يقول: ارفعوا فواللَّه ما شبعتُ، ولكن مللتُ وتعبتُ.

ثمّ قال: تظاهرتِ الأخبار أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعا على معاوية لمّا بعث إليه يستدعيه، فوجده يأكل، ثمّ بعث فوجده يأكل، فقال: 'اللّهمّ لا تشبع بطنه'.

قال الشاعر:

وصَاحِبٍ لي بطنُه كَالْهاوِيَة*** كأنَّ في أحشائِهِ معاويه

[ شرح ابن أبي الحديد 54:4].

قال العلامة الخوئي في شرحه: ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ مراده عليه السلام بالرجل الموصوف، معاوية قوله عليه السلام: 'وإنّه سيأمُركم بسبّي والبراءة منّي'، فإنّ غيره وإن كان يأمر بالبراءة والسبّ أيضاً إلا أنّ هذا الملعون ابن الملعون "أعني معاوية" قد أخذ ذلك شعاراً له، وقد أمر النّاس بالشام والعراق بسبّه والبراءة منه، وخطب بذلك على منابر الإسلام حتّى صار ذلك سنّة في أيّام بني اُميّة إلى أن قام عمر بن عبدالعزيز فأزاله. [ شرح نهج البلاغة "للخوئي" 346:4].

وقال العلامة الأميني: وقد صارت - أي سبّة أمير المؤمنين عليه السلام - سنّةً جاريهً، ودُعمت في أيّام الأمويّين سبعون ألف منبر يُلعن فيها أمير المؤمنين عليه السلام [ راجع: الغدير 102:2 و 103].

واتّخذوا ذلك كعقيدة راسخةٍ، أو فريضةٍ ثابتةٍ، أو سنّةٍ متّبعةٍ يُرغّبُ فيها بكلّ شوق وتوقٍّ حتّى أنّ عمر بن عبدالعزيز لمّا منع عنها لحكمة عمليّة أو لسياسة وقتيّة، حسبوه كأنّه جاء بطامّة كبرى أو اقترف إثماً عظيماً. [ الغدير 266:10].

روى ابن الأثير في "اُسد الغابة" عن شهر بن حوشب، أنّه قال: أقام فلان خطباء يشتمون عليّاً عليه السلام ويقعون فيه حتّى كان آخرهم رجل من الأنصار أو غيرهم، يقال له: أنيس، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّكم قد أكثرتم اليوم في سبّ هذا الرجل وشتمه، وإنّي اُقسم باللَّه إنّي سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: 'إنّي لأشفعُ يومَ القيامةِ لأكثر ممّا على الأرض من مدرٍ وشجرٍ، واُقسم باللَّه ما أحد أوصل لرحمه منه، أفترون شفاعته تصل إليكم وتعجز عن أهل بيته؟!'. [ اُسد الغابة 134:1].

علّة منع عمر بن العزيز عن سبّ الإمام عليّ

فنذكر في ختام هذا الفصل علّة منع عمر بن عبدالعزيز عن سبّ الامام عليّ عليه السلام حتى كان بحثه مصداقاً لآية الشريفة 'خِتامُه مِسكٌ فليَتنافسِ المتنافِسون'.

قال الشارح المعتزلي: فأمّا عمر بن عبدالعزيز فإنّه قال: كنتُ غلاماً أقرأ القرآن على بعض وُلد عُتبة بن مسعود، فمرّ بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان، ونحن نلعن عليّاً، فكره ذلك ودخل المسجد، فتركتُ الصبيان وجئتُ إليه لأدرس عليه وردي، فلمّا رآني قام فصلّى وأطال في الصلاة - شبه المُعرض عنّي - حتّى أحسستُ منه بذلك، فلمّا انفَتَل من صلاته كلَح في وجهي فقلتُ له: ما بالُ الشيخ؟ فقال لي: يا بُنيّ، أنتَ اللاعن عَليّاً منذ اليوم؟ قلتُ: نعم. قال: فمتى علمتَ أنّ اللَّه سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ فقلتُ: يا أبتِ، وهل كان عليّ عليه السلام من أهل بدر؟ فقال: ويحك وهل كانت بدر كلّها إلا له، فقلتُ: لا أعود. فقال: واللَّه إنّك لا تعود! قلتُ: نعم، فلم ألعنه بعدها.

ثمّ كنتُ أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة، وهو حينئذٍ أمير المدينة، فكنتُ أسمع أبي يمرُّ في خُطبه تهدر شقاشقه، حتّى يأتي إلى لعن عليّ عليه السلام فيجمجمُ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما اللَّه عالم به، فكنتُ أعجب من ذلك، فقلتُ له يوماً: يا أبتِ، أنت أفصحُ النّاس وأخطبُهم، فما بالي أراك أفصحَ خطيب يوم حفلك، حتّى إذا مررتَ بلعن هذا الرجل، صِرتَ ألكن عَيباً! فقال: يا بُنّي، إنّ مَن تَرى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد، فوقرتْ كلمتُه في صدري، مع ما كان قاله لي معلّمي أيّام صغري، فأعطيتُ اللَّه عهداً، لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لاُغيّرنّه، فلمّا مَنَّ اللَّه علَيَّ بالخلافة أسقطتُ ذلك وجعلتُ مكانَه: 'إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ' [ سورة النحل: 90].

وكتبتُ به إلى الآفاق فصار سنّة. [ شرح ابن أبي الحديد 58:4].

 

مظوميّته في وصيّته بإخفاءه قبره

وكفى في مظلوميّته عليه السلام وصيّته بإخفاء قبره عن المسلمين حذراً من أن يهتك الخوارج لعنهم اللَّه حرمته مع كونه أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين، ولم يزل مخفياً إلى زمان هارون العبّاسي، وسيأتيك توضيح في ذلك في الفصل الآتي.

علي شهيد المحراب

'يا عليّ، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال |عليّ عليه السلام|: 'قلت: اللَّه ورسولُه أعلم'، قال صلى الله عليه و آله: 'عاقر الناقة'، ثمّ قال صلى الله عليه و آله: 'أتدري مَن أشقى الآخرين؟'، قال عليه السلام: 'اللَّهُ ورسوله أعلم'، قال صلى الله عليه و آله: 'قاتلك'. فرائد السمطين 385:1، ح 317

كلمة في تاريخ شهداته وعمره المبارك

من الوقائع المسلّمة تاريخيّاً ضربة عبدالرحمن بن ملجم المرادي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في محراب الصلاة بمسجد الكوفة؛ إذ كان عليه السلام صائماً يصلّي الصبح، ممّا أدّى إلى شقّ هامته عليه السلام، وقد التحقت روحه المقدّسة بالرفيق الأعلى إلى جوار الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بعد يومين.

وقد وقع الخلاف بين المؤرّخين في تاريخ شهادته ومقدار عمره الشريف، وسنشير إلى بعض الأقوال في هذا المورد:

1- قال ابن الأثير: و في هذه السنة "سنة 40" قُتل عليّ في شهر رمضان لسبع عشرة خلت منه، وقيل: لإحدى عشرة، وقيل: لثلاث عشرة بقيت منه، وقيل في شهر ربيع الآخر سنة أربعين، والأوّل أصحّ. [ الكافي في التاريخ 433:2].

2- قال العلامة السيّد محسن الأمين: قُتل "صلوات اللَّه عليه" سنة 40 من الهجرة في شهر رمضان، ضُرب ليلة التاسع عشر، ليلة الأربعاء، وقُبض ليلة الجمعة إحدى وعشرين على المعروف بين أصحابنا، وعليه عمل الشيعة اليوم. [ أعيان الشيعة 530:1].

3- روى أبو جعفر الطبري، عن محمّد بن عمر: قُتل عليّ عليه السلام وهو ابن ثلاث وستّين سنة، صبيحة ليلة الجمعة، لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة" 40 "، ودفن عند مسجد الجماعة في قصر الإمارة. [ تاريخ الطبري 116:4].

4- وروى ابن عساكر الشافعي: عن محمّد بن عثمان، قال: قال أبي: وولّى عليّ بن أبي طالب خمس سنين، وقُبض وهو ابن سبع وخمسين، قال أبي: وأهل بيته يقولون: قُبض وهو ابن ثلاث وستّين. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 318:3، ح 1429].

5- وعنه أيضاً: عن أبي جعفر بن أبي شيبة، قال: ونحن نقول: إنّ عليّاً عليه السلام أسلم وهو ابن سبع سنين، وصحب النبيّ صلى الله عليه و آله عشرين سنة، وعاش بعد النبيّ صلى الله عليه و آله ثلاثين سنة، وقُبض ابن سبع وخمسين سنة، قال أبي: وأهل بيته يقولون: أسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 318:3، ح 1429].

6- قال الكليني في "الكافي": ولد أمير المؤمنين عليه السلام بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وقُتل في شهر رمضان لتسع بقين منه، ليلة الأحد سنة أربعين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستّين سنة، بقي بعد قبض النبيّ صلى الله عليه و آله ثلاثين سنة، واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف، وهو أوّل هاشمي ولده هاشم مرّتين. [ الكافي 452:1، باب مولد أمير المؤمنين، قوله: 'ولده هاشم مرّتين'، أي ولد من هاشميَّين].

7- وروى المجلسي عن "المناقب": قُبض "صلوات اللَّه عليه" قتيلاً في مسجد الكوفة وقت التنوير، ليلة الجمعة، لتسع عشرة ليلة مضين من شهر رمضان، على يدي عبدالرحمن بن ملجم المرادي "لعنه اللَّه"، وقد عاونه وردان بن مجالد بن تيم الرباب، وشبيب بن بجرة، والأشعث بن قيس، وقطام بنت الأخضر، فضربه سيفاً على رأسه مسموماً، فبقي يومين إلى نحو الثلث من الليل، وله يومئذٍ خمس وستّون سنة في قول الصادق عليه السلام، وقالت العامّة: ثلاث وستّون سنة، عاش مع النبيّ صلى الله عليه و آله بعد إسلامه بمكّة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، وقد كان هاجر وهو ابن أربع وعشرين سنة، وضَرَبَ بالسيف بين يدي النبيّ صلى الله عليه و آله وهو ابن ستّ عشرة سنة، وقتل الأبطال وهو ابن تسع عشرة سنة، وقلعَ باب خيبر وله ثمان وعشرون سنة.

وكانت مدّة إمامته ثلاثون سنة: منها أيّام أبي بكر سنتان وأربعة أشهر، وأيّام عمر تسع سنين ؤشهر، وعن الفرياني: عشر سنين وثمانية أشهر، وأيّام عثمان اثنتا عشرة سنة، ثمّ آتاه اللَّه الحقّ خمس سنين وأشهراً.

وكان عليه السلام أمر بأن يُخفى قبره؛ لما عرف من بني اُميّة وعداوتهم فيه إلى أن أظهره الصادق عليه السلام، ثمّ إنّ محمّد بن زيد الحسني أمر بعمارة الحائر بكربلاء والبناء عليهما، وبعد ذلك زيد فيه، وبلغ عضد الدولة الغاية في تعظيمهما والإيقاف عليهما. [ البحار 199:42].

8- وقال الشيخ المفيد: وكانت وفاة أمير المؤمنين عليه السلام قبيل الفجر من ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، قتيلاً بالسيف، قتله ابن ملجم المرادي "لعنه اللَّه" في مسجد الكوفة، وقد خرج عليه السلام يُوقِظُ النّاس لصلاة الصبح ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، وقد كان ارتصده من أوّل الليل لذلك، فلمّا مرّ به في المسجد وهو مُستَخفٍ بأمره مُماكرٌ بإظهار النوم في جملة النيّام، ثار إليه فضربه على اُمّ رأسه بالسيف وكان مسموماً، فمكث يوم تسعة عشر وليلةَ عشرين ويومها وليلة إحدى وعشرين إلى نحو الثلث الأوّل من الليل، ثمّ قضى نحبه عليه السلام شهيداً، ولقي ربّه تعالى مظلوماً.

وقد كان عليه السلام يعلم ذلك قبل أوانه، ويُخبِر به النّاسَ قبلَ زمانهِ، وتولّى غسلَهُ وتكفينَهُ ودفنَهُ ابناه الحسن والحسين عليهماالسلام بأمره، وحَمَلاه إلى الغَرِيّ من نجف الكوفة، فَدَفَناه هناك، وعَفّيا مُوضِعَ قبره، بوصيّةٍ كانت منه إليهما في ذلك؛ لمّا كان يعلمه عليه السلام من دولة بني اُميّة بعده واعتقادهم في عداوته وما ينتهون إليه بسوء النيّات فيه من قبيح الفعال والمقال بما تمكّنوا من ذلك، الحديث. [ الإرشاد للمفيد 10:1].

مداراته ابن ملجم قبل اغتياله

نقل ابن عبدالبرّ المالكي في "الاستيعاب": عن ابن سيرين بن عبيدة، قال: كان عليّ عليه السلام إذا رأى ابن ملجم، قال:

'اُريد حياته ويُريد قتلي*** عذيرك من خليلك من مرادِ'

وكان عليّ عليه السلام كثيراً ما يقول: 'ما يمنع أشقاها - أو ما ينتظر أشقاها - أن يخضب هذه من دم هذا'، يقول: 'واللَّه لتخضبنّ هذه من دم هذا'، ويشير إلى لحيته ورأسه. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 60:2].

وفيه أيضاً: عن سكين بن عبدالعزيز العبدي، أنّه سمع أباه يقول: جاء عبدالرحمن بن ملجم يستحمل عليّاً عليه السلام، فحمله، ثمّ قال:

'اُريد حياته ويُريدُ قتلي*** عذيرك من خليلك من مراد

أما إنّ هذا قاتلي'، قيل: فما يمنعك منه؟ قال: 'إنّه يقتلني بعدُ'.

قال: وأتى عليّ عليه السلام فقيل له: إنّ ابن ملجم يسمّ سيفه، ويقول: إنّه سيفتك بك فتكة يتحدّث بها العرب، فبعث عليّ عليه السلام إليه، فقال له: 'لِمَ تسمّ سيفك؟'، قال: لعدوّي وعدوّك، فخلّى عنه وقال: 'ما قتلني بعدُ'. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 60:2].

وفي "مقاتل الطالبيّين" و غيره: عن أبي مخنف، عن أبيه، عن عبداللَّه بن محمّد الأزدي، قال: اُدخل ابن ملجم "لعنه اللَّه" بعد ضربته على عليّ عليه السلام، ودخلت عليه فيمن دخل، فسمعتُ عليّاً يقول: 'النفس بالنفس إن أنا مُتُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن سَلمتُ رأيتُ فيه رأيي'، فقال ابن ملجم: واللَّه لقد ابتعته بألف، وسمَّمتُه بألف، فإن خانني فأبعده اللَّه. قال: ونادته اُمّ كلثوم: يا عدوّ اللَّه، قتلتَ أمير المؤمنين؟! قال: إنّما قتلتُ أباك. قالت: 'يا عدوّ اللَّه، إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس'، قال لها: فأراكِ إنّما تبكين عليّاً إذاً، واللَّه لقد ضربته ضربةً لو قُسِّمت بين أهل الأرض لأهلَكَتْهم'. [ مقاتل الطالبيّين: 22، وشرح ابن أبي الحديد 118:6، والبحار 231:42].

 

ما جاء في سبب قتله ومؤامرة الخوارج في مكّه

في سنة أربعين من الهجرة اجتمع بمكّة جماعة من الخوارج فتذاكروا النّاس، وما هم فيه من الحرب والقتل والفتنة فعابوا ذاك على ولاتهم، ثمّ إنّهم ذكروا أهل النهروان وترحّموا عليهم، فقال بعضهم لبعض: ما نصنع بالحياة بعدهم، اُولئك كانوا دُعاة النّاس إلى ربّهم لا يخافون في اللَّه لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا قاتلنا أئمّة الضلال، فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد والعباد، وثأرنا بهم إخواننا الشهداء بالنهروان، فتعاقدوا على ذلك عند انقضاء الحجّ. فقال عبدالرحمن بن ملجم لعنه اللَّه: أنا اُكفيكم عليّاً، وقال البرك بن عبداللَّه التميمي: أنا اُكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التميمي: أنا اُكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتعاقدوا وتواثقوا على الوفاء، وألا ينكل واحد منهم عن صاحبه الّذي يتوجّه إليه حتّى يقتله أو يموت دونه، فاتّعدوا بينهم ليلة تسع عشر من شهر رمضان، فأخذوا سيوفهم فشحذوها، ثمّ سقوها السمّ، وتوجّه كلّ واحدٍ منهم إلى جهة صاحبه الّذي تكفّل به، وتواعدوا على أن يكون وثوبهم عليهم في ليلة واحدة. [ انظر الكامل في التاريخ 434:2، وتاريخ الطبري 110:4، ومروج الذهب 423:2، والفصول المهمّة: 132، ومقاتل الطالبيّين: 17، شرح ابن أبي الحديد 113:6، والبحار 228:42].

قصد البرك معاوية

أمّا البرك بن عبداللَّه التميمي صاحب معاوية، فإنّه قصده وقدم الشام، فلمّا وقعت عينه عليه - أي على معاوية - ضرب معاوية وهو راكع في صلاة الصبح، فوقعت ضربته في إليته من فوق ثياب كثيرة كان عليه، فجرحه جرحاً يسيراً، فجاء الطبيب إليه فنظر إلى الضربة، فقال: إنّ السيف مسموم، فاختر إمّا أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربه فتبرأ، وإمّا أن أسقيك دواءً فتبرأ وينقطع نسلك؟

فقال معاوية: أمّا النّار فلا اُطيقها، وأمّا النسل ففي يزيد وعبداللَّه ما يقرّ عيني وحسبي بهما، فسقاه الدواء فعوفي وعالج جرحه، ولم يولد له بعد ذلك، وأمر معاوية بعد ذلك بالمقصورات في المسجد وحرس الليل، وقيام الشرطة على رأسه، وهو أوّل من عمل المقصورات في الإسلام.

وقبض على البرك فقال لمعاوية: إنّ لك عندي بشارة، قال: وما هي؟ فأخبره بخبر صاحبيه، وقال له: إنّ عليّاً عليه السلام يُقتل في هذه الليلة، فاحبسني عندك، فإن قُتل فأنتَ وليّ ما تراه في أمري، وإن لم يُقتل أعطيتك العهود والمواثيق أن أمضي فأقتله، ثمّ أعود إليك فأضع يدي في يدك حتّى تحكم فيَّ بما ترى، فحبسه عنده، فلمّا أتاه أنّ عليّاً عليه السلام قُتل خَلّى سبيله، وقال بعض من الرواة: بل قتله من وقته. [ راجع المصادر المتقدّمة].

 

قصد عمرو بن بكر، عمرو بن العاص

وأمّا عمرو بن بكر التميمي صاحب عمرو بن العاص، فإنّه وافاه في تلك الليلة وقد وجد علّة، فأخذ دواءً واستخلف رجلاً يصلّي بالنّاس، يقال له: خارجة بن أبي حبيبة، وكان صاحب شرطته، فخرج للصلاة فشدّ عليه عمرو بن بكر فضربه، وهو يظنّ أنّه عمرو بن العاص، فوقعت الضربة في خارجة فقتله، فمات منها في اليوم الثاني، وفي ذلك يقول ابن زيدون:

فليتها إذ فدت عَمْراً بخارجة*** فدت عليّاً بمن شاءت من البشر

فأخذوا قاتل خارجة فاُدخل على عمرو بن العاص، وأوقف الرجل - عمرو بن بكر - بين يدي عمرو بن العاص، فسأله عن خبره، فقصّ عليه القصّة، وأخبره أنّ عليّاً ومعاوية قد قتلا في هذه الليلة، فقال: إن قتلا أو لم يقتلا فلا بدّ من قتلك، فبكى، فقيل له: أجزعاً من الموت مع هذا الإقدام؟ قال: لا واللَّه، ولكن غمّاً أن يفوز صاحباي بقتل عليّ ومعاوية، ولا أفوز أنا بقتل عمرو بن العاص، فضربت عنقه وصلب. [ راجع المصادر المتقدّمة].

قصد ابن ملجم عليّاً والتواطؤ بينه وبين قطام

في "المقاتل الطالبيين": فأقبل ابن ملجم حتّى قدم الكوفة، فلقي بها جماعة من أصحابه - أهل النهروان - وكتمهم أمره، وطوى عنهم ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكّة من قتل اُمراء المسلمين، مخالفة أن ينشر منه شيء ، وإنّه زار رجلاً من أصحابه ذات يوم من تيم الرباب، فصادف عنده قطام بنت الأخضر بن شجنة من تيم الرباب [ وهي قطام ابنة الشجنة في "تاريخ الطبري 110:4"، وقطام بنت عاقمة في "الكامل للمبرّد: 549"، وبنت الأصبغ التميمي في "الفصول المهمّة: 132"].

وكان عليّ عليه السلام قتل أباها وأخاها بالنهروان، وكانت من أجمل نساء أهل زمانها، فلمّا رآها ابن ملجم لعنه اللَّه شغف بها واشتدّ إعجابه، فخبر خبرها فخطبها، فقالت له: ما الّذي تسمّي لي من الصداق؟ فقال لها: احتكمي ما بدا لك، فقالت: أنا محتكمة عليك ثلاثة آلاف درهم، ووصيفاً وخادماً، وقتل عليّ بن أبي طالب!

فقال لها: لك جميع ما سألتِ، فأمّا قتل عليّ بن أبي طالب فإنّى لي بذلك؟ فقالت: تلتمس غرّته، فإن أنت قتلته شفيت نفسي وهنأك العيش معي، وإن قُتِلتَ فما عند اللَّه خير لك من الدنيا، الحديث. [ مقاتل الطالبيّين: 19، وشرح ابن أبي الحديد 115:6، والبحار 229:42].

وفي "الفصول المهمّة": فمرّ في بعض الأيام بدار من دور الكوفة فيها عرس، فخرج منها نسوة، فرأى فيهنّ امرأة جميلة فائقة في حسنها، يقال لها: قطام بنت الأصبغ التميمي لعنها اللَّه، فهواها ووقعت في قلبه محبّتها، فقال لها: يا جارية، أيّمٌ أنت أم ذات بعل؟ فقالت: بل أيّم، فقال لها: هل لكِ في زوج لا تذمّ خلائقه؟ فقالت: نعم، ولكن لي أولياء اُشاورهم، فتبعها فدخلت داراً ثمّ خرجت إليه، فقالت: يا هذا إنّ أوليائي أبوا أن يزوّجوني إلا على ثلاثة آلاف درهم وعبدٍ وقينةٍ. [ القينة: الأمة].

قال: لك ذلك.

قالت: وشريطة اُخرى؟ قال: وما هي؟ قالت: قَتلُ عليّ بن أبي طالب، فإنّه قتل أبي وأخي يوم النهروان! قال: ويحك ومن يقدر على قتل عليّ، وهو فارس الفرسان، وواحد الشجعان، فقالت: لا تكثر، فذلك أحبّ إلينا من المال، كنتَ تفعل ذلك وتقدر عليه وإلا فاذهب إلى سبيلك؟ فقال لها: أمّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام فلا، ولكن إن رضيتي ضَربتُه بسيفي ضربةً واحدةً وانظري ماذا يكون؟ قالت: رضيتُ، ولكن التمس غرّته لضربتك، فإن أصبته انتفعت بنفسك وبي، وإن هَلكتَ فما عند اللَّه خير وأبقى من الدنيا وزينة أهلها. فقال لها: واللَّه ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل عليّ بن أبي طالب! قالت: فإذا كان الأمر على ما ذكرت، دعني أطلب لك مَن يَشدّ ظهرَك ويُساعدُك؟ فقال لها: افعلي. فبعثت إلى رجل من أهلها يقال له: وردان - من تيم الرباب - فكلّمته فأجابها [ الفصول المهمّة: 132].

وخرج ابن ملجم من عندها وهو يقول:

ثلاثة آلاف عبدٌ وقنيةٌ*** وقتلُ عليٍّ بالحسام المصمّم

فلا مهر أغلى من عليّ وإن غلا*** ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم

[ هذان البيتان في مروج الذهب 423:2].

وجاء ابن ملجم إلى رجل من أشجع، يقال له: شبيب بن بحرة من الخوارج، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وكيف ذلك، قال: قتل عليّ بن أبي طالب، فقال له: ثكلتك اُمّك لقد جئتَ شيئاً إدّاً، كيف تقدر على ذلك؟ قال: أكمنُ له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجينا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند اللَّه خير من الدنيا وما فيها، ولنا اُسوة في أصحابنا الّذين سبقونا، فقال له: ويحك، لو كان غير عليّ، وقد عرفت بلاءه في الإسلام وسابقته مع النبيّ صلى الله عليه و آله، وما أجدُ نفسي تنشرح لقتله، قال: ألم تعلم أنّه قتل أهل النهروان العباد المصلّين؟ قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه إلى ذلك، فجاءوا إلى قطام وهي في المسجد الأعظم معتكفة، وكان ذلك في شهر رمضان، فقالوا لها: قد صمّمنا وأجمع رأينا على قتل عليّ بن أبي طالب.

فقال ابن ملجم: ولكن يكون ذلك في الليلة الحادية والعشرين منه، فإنّها الليلة الّتي تواعدتُ وصاحباي فيها على أن يبت كلّ واحد منّا صاحبه الّذي تَكَفَّلَ بقتله. فأجابوه إلى ذلك، فمّا كانت الليلة الحادية والعشرين أخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السدّة الّتي يخرج منها عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وكانت ليلة الجمعة، فلمّا خرج لصلاة الصبح شدّ عليه شبيب فضربه بالسيف، فوقف سيفه بعضادة الباب وضربه ابن ملجم لعنه اللَّه بسيفه فأصابه، وهرب وردان، ومضى شبيب هارباً حتّى دخل منزله، فدخل عليه من بني اُميّه فقتله، وأمّا ابن ملجم فإنّ رجلاً من همدان لحقه فطرح عليه قطيفة كانت في يده ثمّ صرعه وأخذ السيف منه، وجاء به إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فنظر إليه عليّ عليه السلام، ثمّ قال: 'النفس بالنفس، إن أنا متُّ فاقتلوه كما قتلني، وإن سلمت رأيت رأيي فيه'. [ الفصول المهمّة: 133].

وأضاف أبو الفرج الاصفهاني في "المقاتل" على ما في الفصول المهمّة بقوله: قالت قطام لهما: فإذا أردتما ذلك فالقياني في هذا الموضع، فانصرفا من عندها، فلبثا أيّاماً، ثمّ أتياها ليلة الجمعة لتسع عشرة خلت من شهر رمضان سنة أربعين، الحديث. [ مقاتل الطالبيّين: 19].

وقال المسعودي في تاريخه: فدعت قطام لهما بحرير فعصبتهما، وأخذوا أسيافهم وقعدوا مقابلين لباب السُدّة الّتي يخرج منها عليّ عليه السلام للمسجد، وكان عليّ عليه السلام يخرج كلّ غداة أوّل الأذان يوقظ النّاس للصلاة، وكان ابن ملجم مرّ به الأشعث وهو في المسجد، فقال له: فضحك الصبح، فسمعها حجر بن عديّ، فقال: قتلته يا أعور قتلك اللَّه، الحديث. [ مروج الذهب 424:2].

وروى العلامة المجلسي رحمه الله في "البحار" عن "الإرشاد": فدعت قطام لهم بحرير فعصبت به صدورهم، وتقلّدوا أسيافهم ومضوا وجلسوا مقابل السُدّة الّتي كان يخرج منها أمير المؤمنين عليه السلام إلى الصلاة، وقد كانوا قبل ذلك ألقوا إلى الأشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين عليه السلام، وواطأهم على ذلك، وحضر الأشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه، وكان حجر بن عديّ في تلك الليلة بائتاً في المسجد، فسمع الأشعث يقول: يابن ملجم، النجاء النجاء لحاجتك، فقد فضحك الصبح [ أي طلع الصبح].

فاحسّ حجر بما أراد الأشعث، فقال له: قتلته يا أعور، وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليخبره الخبر، ويحذّره من القوم، وخالفه أمير المؤمنين عليه السلام من الطريق فدخل المسجد، فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف، وأقبل حجر والنّاس يقولون: قُتل أمير المؤمنين عليه السلام. [ البحار 230 - 228 :42، في حديث طويل].

 

ما جرى لأميرالمؤمنين في ليلة التاسع عشر

روي الجويني عن عثمان بن المغيرة، قال: لمّا أن دخل شهر رمضان من سنة أربعين، كان عليّ عليه السلام يتعشّى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن عبّاس، ولا يزيد على ثلاث لقم، يقول: 'يأتيني أمراللَّه وأنا أخمص إنّما ليلة أو ليلتان'. [ فرائد السمطين 386:1، ح 320].

و روى العلامة المجلسي في حديث طويل: قالت اُمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السلام: لمّا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدّمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش [ الجريش: ما طحنته غير ناعم].

فلمّا فرغ من صلاته أقبل على فطوره، فلمّا نظر إليه وتأمّله حرّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: 'يا بُنيّة، ما ظننتُ أنّ بنتاً تَسوءُ أباها كما قد أسأتِ أنتِ إليَّ'، قالت: وماذا يا أباه؟ قال: 'يا بُنيّة، أَتُقَدِّمِينَ إِلى أَبْيكِ إِدامَيْنِ فِي طَبَقٍ واحِدٍ، أَتُرِيدِينَ أَنْ يَطُولَ وقُوفي غَداً بَيْنَ يَدَي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيامةِ؟! أَنا اُرِيدُ أَنْ أَتَّبِعَ أَخي وابْنَ عَمِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله ما قُدِّمَ لَهُ إِدامانِ فِي طَبَقٍ واحِدٍ إِلى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تعالى. يا بُنَيَّةُ، ما مِنْ رَجُلٍ طَابَ مَطْعَمُهُ وَمَشْرَبُهُ وَمَلْبَسُهُ إِلا طالَ وقُوفُهُ بَيْنَ يَدَي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيامةِ'.

ثمّ قال: 'يا بُنَيَّةُ، إِنَّ الدُّنْيا فِي حَلَالِها حِسابٌ، وَفِي حَرامِها عِقابٌ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله أَنَّ جَبْرَئِيلَ نَزَلَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ مَفاتِيحُ كُنوزِ الْأَرْضِ، وَقالَ: يا مُحَمَّدُ، اللَّهُ يَقْرَؤكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ صَيَّرْتُ مَعَكَ جِبالَ تِهامَةَ ذَهَباً وَفِضَّةً، وَخُذْ مَفاتِيحَ كُنُوزِ الْأَرْضِ وَلَا يَنْقُصُ ذ لِكَ مِنْ حَظّكَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال: يا جَبْرَئِيلُ، وَما يَكُونُ بَعْدَ ذ لِكَ؟ قالَ: الْمَوْتُ، فقالَ: لَا حاجَةَ لِي فِي الدُّنْيا، دَعْنِي أَجُوعُ يَوْماً، وَأَشْبَعُ يَوْماً، فَالْيَوْمُ الَّذِي أَجُوعُ فِيهِ أَتَضَرَّعُ إِلى رَبِّي، وَالْيَوْمُ الَّذِي أَشْبَعُ فِيهِ أَشْكُرُ رَبِّي وَأَحْمَدُهُ، فَقالَ جَبْرَئِيلُ: وَفِّقْتَ لِكُلِّ خَيْرٍ يا مُحَمَّد!'.

ثمّ قال عليه السلام: 'يا بُنَيَّةُ، الدّارُ دارُ غُرُورٍ، وَدارُ هَوانٍ، فَمَنْ قَدَّمَ شَيْئاً وَجَدَهُ. يا بُنَيَّةُ، لَا آكلُ شَيْئاً حَتّى تَرْفَعِي أَحَدَ الإِدامَيْنِ'.

قالت اُمّ كلثوم بنت عليّ عليه السلام: فلمّا رفعته تقدّم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الجريش، ثمّ حمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قام إلى صلاته، فصلّى، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى اللَّه سبحانه، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء وهو قَلِقٌ يَتملمَل ثمّ قرأ سورة 'يس' حتّى ختمها، ثمّ رقد هُنيئة وانتبه مرعوباً، وجعل يمسح وجهه بثوبه، ونهض قائماً على قدميه، وهو يقول:

'اللَّهُمَّ بارِكْ لَنا فِي لِقائِكَ'، ويكثر من قول: 'لا حولَ ولا قوّة إلا باللَّه العليّ العظيم'. ثمّ صلّى حتّى ذهب بعض الليل، ثمّ جلس للتعقيب، ثمّ نامت عيناه وهو جالس، ثمّ انتبه من نومته مرعوباً.

إلى أن قالت: ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: 'مَا كَذبْتُ وَلَا كُذِّبْتُ، إِنَّها اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدْتُ بِهَا'، ثمّ يعود إلى مصلاه ويقول: 'اللَّهُمَّ بارِكْ لِي فِي الْمَوْتِ'، ويكثر من قول: 'إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون'، و''لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ'، ويصلّي على النبيّ وآله ويستغفر اللَّه كثيراً.

قالت اُمّ كلثوم: فلمّا رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار أرقت معه ليلتي، وقلت: يا أبتاه، ما لي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟ قال: 'يا بُنَيَّةُ، إِنَّ أَباكِ قَتَلَ الْأَبْطالَ، وَخاضَ الْأَهْوالَ، وَما دَخَلَ الْخَوْفُ جَوْفَهُ، وَما دَخَلَ فِي قَلْبِي رُعْبٌ أَكْثَرُ مِمّا دَخَلَهُ اللَّيْلَةَ'، ثمّ قال: 'إِنّا للَّهِِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ'. فقلت: يا أباه، ما لك تنعى نفسك منذ الليلة؟ قال: 'يا بُنَيَّةُ، قَدْ قَرُبَ الْأَجَلُ وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ'.

قالت اُمّ كلثوم: فبكيت، فقال لي: 'يا بُنَيَّةُ، إِنِّي لَمْ أَقُلْ ذ لِكَ إِلا بِما عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيّ صلى الله عليه و آله'، ثمّ إنّه عليه السلام نعس وطوى ساعة، ثمّ استيقظ من نومه، وقال: 'يا بُنيّة، إِذا قرب وقت الأذان فاعلميني'، ثمّ رجع إلى ما كان عليه أوّل الليل من الصلاة والدعاء والتضرّع إلى اللَّه سبحانه وتعالى. قالت اُمّ كلثوم: فجعلتُ أرقِّبُ وقت الأذان، فلمّا لاح الوقت أتيتُه ومعي إناء فيه ماء، ثمّ أيقظتُه فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثمّ نزل إلى الدار، وكان في الدار إوزّ قد اُهدي إلى أخي الحسين عليه السلام، فلمّا نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن، فقال عليه السلام: 'لَا إِلهَ إِلا اللَّهُ، صَوائِحُ تَتْبَعُها نَوائِحُ، وفي غداة غد يظهر القضاء'. فقلت له: يا أباه، هكذا تتطيّر؟ فقال: 'يا بُنيّة، ما مِنّا أهلَ البيت مَن يتطيّر ولا يُتطيَّر به، ولكن قول جرى على لساني'. ثمّ قال: 'يا بُنَيَّةُ، بِحَقِّي عَلَيْكِ إِلا ما أَطْلَقْتِه، فَقَدْ حَبَسْتِ ما لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ إِذا جاعَ أَوْ عَطِشَ، فَأَطْعِمِيه وَاسْقِيه وَإِلا خَلِّي سَبِيلَه يَأْكُلُ مِنْ حَشائِشِ الْأَرْضِ'، فلمّا وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه، فتعلّق الباب بمئزره فانحلّ مئزره حتّى سقط، فأخذه وشدّه وهو يقول:

'اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ للموتِ*** فإنَّ الموتَ لاقِيكَا

ولا تَجْزَعْ من الموت*** إذا حَلّ بنادِيكَا

ولا تغترّ بالدهر*** وإن كان يواتيكا

كما أضْحَكَكَ الدَّهْرُ*** كذاكَ الدَّهْرُ يُبْكِيكا'

ثمّ قال: 'اللّهمّ بارك لنا الموت، اللّهمّ بارك لي في لقائك'، قالت اُمّ كلثوم: وكنتُ أمشي خلفه، فلمّا سمعتُه يقول ذلك، قلت: واغوثاه يا أبتاه، أراك تنعى نفسك منذ الليلة. قال: 'يا بنيّة، ما هو بنعاء، ولكنّها دلالات وعلامات للموت، يتبع بعضها بعضاً، فأمسكي عن الجواب'، ثمّ فتح الباب وخرج، الحديث. [ البحار 276:42].

وفي "النهج"، وكذا في "تاريخ دمشق"، وفي "الاستيعاب"، قال عليّ عليه السلام في سُحرة [ السُّحرة - بالضمّ -: السحر الأعلى من آخر الليل].

اليوم الّذي ضُرب فيه: 'مَلَكَتْني [ ملكتني عيني: غلبني النوم].

عَيني وأنا جالس، فَسَنَح لي [ فسنح لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مرّ لي كما تسنح الظباء والطير].

رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله، فقلتُ: يا رسول اللَّه، ماذا لقيتُ من اُمَّنِك من الأودِ [ الأود: الاعوجاج].

واللِّدَدِ؟ [ واللَّدد: الخصام].

فقال عليه السلام: اُدْعُ عليهم، فقلتُ: أبدَلني اللَّهُ بهم خيراً منهم، وأبدَلَهُم بي شَرّاً لهم منّي' [ نهج البلاغة: لخطبة 70، وانظر تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 295:3، والاستيعاب لابن عبدالبرّ بهامش الإصابة 61:3].

واستجاب له دعاؤه، ومضى عليه ما مضى.

وقال المسعودي في تاريخه: وقيل إنّ عليّاً عليه السلام لم ينم تلك الليلة، وإنّه لم يزل يمشي بين الباب والحُجرة، وهو يقول: 'واللَّهِ مَا كَذبْتُ وَلَا كُذِّبْتُ، وَإِنَّها اللَّيْلَةُ الَّتِي وُعِدْتُ فِيهَا'، فلمّا خرج صاح بطّ كان للصبيان، فصاح بهنّ بعض مَن في الدار، فقال عليّ عليه السلام: 'ويحك دعهنّ فإنّهنّ نوائح'. [ مروج الذهب 425:2].

مجي ء عليّ إلى المسجد وما جرى بينه وبين ابن ملجم

في "البحار": عن أبي مخنف وغيره: وسار أمير المؤمنين عليه السلام حتّى دخل المسجد والقناديل قد خمد ضؤوها، فصلّى في المسجد ورده وعقّب ساعة، ثمّ إنّه قام وصلّى ركعتين، ثمّ علا المأذنة، ووضع سبّابتيه في اُذنيه وتنحنح، ثمّ أذّن وكان عليه السلام إذا أذّن لم يبق في بلدة الكوفة بيت إلا اخترقه صوته.

ثمّ روى بسند صحيح أنّ ابن ملجم بات في المسجد ومعه رجلان: أحدهما شبيب بن بجرة، والآخر وردان بن مجالد، يُساعدانه على قتل عليّ عليه السلام، فلمّا أذّن عليه السلام ونزل من المأذنة وجعل يسبّح اللَّه ويقدّسه ويكبّره ويكثر من الصلاة على النبيّ صلى الله عليه و آله، قال الراوي: وكان من كرم أخلاقه عليه السلام أنّه يتفقّد النائمين في المسجد، ويقول للنائم: 'الصلاة يرحمك اللَّه، الصلاة، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك'، ثمّ يتلو عليه السلام: 'إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ'. [ سورة العنكبوت: 45].

ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النائمين في المسجد، حتّى إذا بلغ إلى الملعون، ورآه نائماً على وجهه، قال له: 'يا هذا، قُم من نومك هذا، فإنّها نومة يمقتها اللَّه، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النّار، بل نم على يمينك فإنّها نومة العلماء، أو على يسارك فإنّها نومة الحكماء، ولا تنم على ظهرك فإنّها نومة الأنبياء'.

قال: فتحرّك الملعون كأنّه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: 'لقد هممت بشي ء تكاد السموات يتفطّرن منه، وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً، ولو شئتُ لأنبأتُك بما تحت ثيابك'، ثمّ تركه وعدل عنه إلى محرابه وقام قائماً يصلّي، وكان عليه السلام يطيل الركوع والسجود في الصلاة، كعادته في الفرائض والنوافل حاضراً قلبه، فلمّا أحسّ به فنهض الملعون مُسرعاً وأقبل يمشي حتّى وقف بإزاء الاُسطوانة الّتي كان الإمام عليه السلام يُصلّي عليها، فأمهله حتّى صلّى الركعة الاُولى وركع وسجد السجدة الاُولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف وهزّه، ثمّ ضربه على رأسه المكرّم الشريف، فوقعت الضربة على الضربة الّتي ضربه عمرو بن عبدودّ العامري، ثمّ أخذت الضربة إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلمّا أحسّ الإمام عليه السلام بالضرب لم يتأوّه، وصبر واحتسب، ووقع على وجهه وليس عنده أحد قائلاً: 'بسم اللَّه وباللَّه، وعلى ملّة رسول اللَّه'، ثمّ صاح وقال: 'قتلني ابن ملجم، قتلني اللعين ابن اليهوديّة وربّ الكعبة، أيّها النّاس، لا يفوتنّكم ابن ملجم'. وسار السمّ في رأسه وبدنه، وثار جميع من في المسجد في طلب الملعون، وماجوا بالسلاح، فما كنت أرى إلا صفق الأيدي على الهامات، وعلوا الصرخات، وكان ابن ملجم ضربه ضربة خائفاً مرعوباً، ثمّ ولّى هارباً وخرج من المسجد، وأحاط النّاس بأمير المؤمنين وهو في محرابه يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها، ثمّ تلا قوله تعالى: 'مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى' [ سورة طه: 55].

ثمّ قال: 'جاء أمرُ اللَّه، وصدق رسول اللَّه'، ثمّ إنّه لمّا ضربه الملعون ارتجّت الأرض، وماجت البحار والسماوات، واصطفقت أبواب الجامع، قال الراوي: وضربه اللعين شبيب بن بجرة فأخطأه، ووقعت الضربة في الطاق. [ البحار 280:42].

وفي "شرح ابن أبي الحديد": عن أبي مخنف، عن عبداللَّه بن محمّد الأزدي، قال: إنّي لاُصلّي تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر، كانوا يصلّون في ذلك الشهر من أوّل الليل إلى آخره، إذ نظرتُ إلى رجالٍ يصلّون قريباً من السُّدة قياماً وقعوداً، وركوعاً وسجوداً، ما يسأمون، إذ خرج عليهم عليّ بن أبي طالب فأقبل ينادي: 'الصلاة الصلاة'، فرأيت بريقَ السيف، وسمعتُ قائلاً يقول: الحكم للَّه يا عليّ لا لك، ثمّ رأيتُ بريقَ سيفَ آخر، وسمعت صوت عليّ عليه السلام يقول: 'لا يفوتنّكم الرجل'. [ شرح ابن أبي الحديد 117:6].

 

قوله لمّا ضُرِبَ: 'فُزتُ وَربِّ الكعبة'

روى ابن عساكر الشافعي، عن هارون بن أبي يحيى، عن شيخ من قريش: أنّ عليّاً عليه السلام قال - لما ضربه ابن ملجم -: 'فزت وربّ الكعبة'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 303:3، ح 1402].

وفي "الاستيعاب" لابن عبدالبرّ - في حديث - قال: فضربه عبدالرحمن بن ملجم على رأسه عليه السلام، وقال: الحُكم للَّه يا عليّ، لا لك، ولا أصحابك،. فقال عليّ عليه السلام: 'فِزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، لا يفوتنّكم الكلب'، فشدّ النّاس من كلّ جانب فأخذوه، الحديث. [ الاستيعاب لابن عبدالبرّ المالكي بهامش الإصابة 59:3].

وعن ابن الأثير وغيره بالاسناد عن هارون بن أبي يحيى، عن شيخ من قريش: أنّ عليّاً عليه السلام لمّا ضربه ابن ملجم قال: 'فِزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ'. [ اُسد الغابة 38:4، الإمامة والسياسة 160:1، ينابيع المودّة: 164، أرجح المطالب: 651، تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 303:3].

تعقيب وتكميل

في البحار: قال الراوي: فلمّا سمع النّاس الضجّة ثار إليه كلّ من كان في المسجد، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدّة الصدمة والدهشة، ثمّ أحاطوا بأمير المؤمنين عليه السلام هو يشدّ رأسه بمئزره، والدم يجري على وجهه ولحيته، وقد خضبت بدمائه، وهو يقول: 'هذا ما وعد اللَّه ورسوله، وصدق اللَّه ورسوله'. [ البحار 282:42].

وفيه أيضاً، قال: فاصطفقت أبواب الجامع، وضجّت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبّت ريح عاصف سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل عليه السلام بين السماء والأرض بصوت يسمعه كلّ مستيقظ: 'تَهَدَّمت واللَّه أركانُ الهدى، وانطَمَست واللَّهِ نُجومُ السماء، وأعلامُ التُّقى، وانَفَصمت واللَّه العروة الوثقى، قُتِلَ ابنُ عمّ محمّد المُصطفى، قُتِلَ الوصيُّ المُجتبى، قُتِلَ عليّ المرتضى، قُتِلَ واللَّهِ سيِّدُ الأوصياء، قَتَله أشقى الأشقياء'.

قال: فلمّا سمعت اُمّ كلثوم نعي جبرئيل، لطمت على وجهها وخدّها، وشقّت جيبها وصاحت: واأبتاه، واعليّاه، وامحمّداه، واسيّداه، ثمّ أقبلت إلى أخويها الحسن والحسين فأيقظتهما وقالت لهما: لقد قُتل أبوكما، فقاما يبكيان... فلمّا وصلا الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من النّاس، وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلّي بالنّاس، فلم يطق على النهوض وتأخّر عن الصفّ، وتقدّم الحسن عليه السلام فصلّى بالنّاس، وأمير المؤمنين عليه السلام يصلّي إيماءً من جلوس، وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمه الشريف، يميل تارةً ويسكن اُخرى.

إلى أن قال: ثمّ إنّ الخبر شاع في جوانب الكوفة، وانحشر النّاس، حتّى المخدّرات خرجن من خدرهنّ إلى الجامع ينظرن إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فدخل النّاس الجامع فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره، وقد غسل الدم عنه، وشدّ الضربة وهي بعدها تشخب دماً، ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة، وهو يرمق السماء بطرفه ولسانه يسبّح اللَّه ويوحّده وهو يقول: 'أَسْأَلُكَ يا ربّ الرفيع الأعلى'، فأخذ الحسن عليه السلام رأسه في حجره فوجده مغشيّاً عليه، فعندها بكى بكاءً شديداً، وجعل يُقبّل وجه أبيه وما بين عينيه موضع سجوده، فسقطت من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين عليه السلام، ففتح عينيه فرآه باكياً، فقال له: 'يا بُنّي - يا حسن - ما هذا البكاء؟ يا بُنيّ لا روع على أبيك بعد اليوم، هذا جدّك محمّد المصطفى، وخديجة، وفاطمة، والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً، وقرّ عيناً، واكفف عن البكاء، فإنّ الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء. يا بُنيّ، أتجزع على أبيك؟ غداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً، ويُقتل أخوك بالسيف هكذا، وتلحقان بجدّكما وأبيكما واُمّكما'، الحديث. [ راجع: البحار 285 - 282 :42].