ابن ملجم بين يدي أمير المؤمنين ورفقه

ثمّ قال في "البحار": وما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت، وزمرة من النّاس قد جاءوا بعدوّ اللَّه ابن ملجم مكتوفاً، هذا يلعنه وهذا يضربه، قال: فوقع النّاس بعضهم على بعض ينظرون إليه، وهم ينهشون لحمه بأسنانهم، ويقولون له: يا عدوّ اللَّه، ما فعلت؟ أهلكتَ اُمّة محمّد، وقتلتَ خير النّاس؟ وإنّه لصامت وبين يديه رجل يقال له: حذيفة النخعي، بيده سيف مشهور، وهو يردّ النّاس عن قتله، وهو يقول: هذا قاتل الإمام عليّ عليه السلام، حتّى أدخلوه المسجد.

إلى أن قال: فلمّا جاءوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا نظر إليه الحسن عليه السلام قال له: 'يا ويلك يا لعين، يا عدوّ اللَّه، أنت قاتل أمير المؤمنين، ومثكلنا إمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقرّبك وأدناك وآثرك على غيرك؟ وهل كان بئس الإمام لك حتّى جازيته هذا الجزاء يا شقيّ؟!'. قال: فلم يتكلّم بل دمعت عيناه!... فقال: يا أبا محمّد، أفأنت تنقذ مَن في النّار؟ فعند ذلك ضجّت النّاس بالبكاء والنحيب، فأمرهم الحسن عليه السلام بالسكوت، ثمّ التفت الحسن عليه السلام إلى الّذي جاء به يعنى حذيفة فقال له: 'كيف ظفرت بعدوّ اللَّه وأين لقيته؟' الحديث. [ راجع: البحار 285 - 282 :42].

وفي "البحار" عن عبداللَّه بن محمّد الأزدي، وكذا في "شرح ابن أبي الحديد"، قال في رفقه عليه السلام لعدوّه: فلمّا دخل ابن ملجم على أمير المؤمنين عليه السلام، نظر إليه ثمّ قال: 'النفس بالنفس، فإن أنا مُتُّ فاقتلوه كما قَتلني، وإن أنا عشت [ في نسخة: 'سلمت'].

رأيتُ فيه رأيي'. فقال ابن ملجم: واللَّه! لقد ابتعتُه "يعني السيف" بألف، وسمّمته بألف، فإن خانني فأبعده اللَّه. قال: ونادته اُمّ كلثوم: يا عدوّ اللَّه، قتلت أمير المؤمنين؟ قال: إنّما قتلتُ أباك، قالت: ياعدوّ اللَّه، إنّي لأرجو أن لا يكون عليه بأس، قال لها: فأراك إنّما تبكين علَيَّ إذن؟ لقد واللَّه ضربتُه ضربةً لو قُسّمت على "بين" أهل الأرض لأهلكتهم. [ شرح ابن أبي الحديد 118:6، وكذا في البحار 231:42، ومقاتل الطالبيّين: 22].

قال أبو الفرج: واُخرج ابن ملجم من بين يديه عليه السلام، وانصرف النّاس من صلاة الصبح، فأحدقوا بابن ملجم، ينهشون لحمه بأسنانهم كأنّهم سباع، وهم يقولون: يا عدوّ اللَّه، ماذا فعلت؟ أهلكتَ اُمّة محمّد، وقتلت خير النّاس، وإنّه لصامت ما ينطق، فذهب به إلى الحبس؟

[ مقاتل الطالبيّين: 22، ونحوه في البحار 231:42].

وقال ابن الصبّاغ المالكي: قال عليّ عليه السلام للحسن: 'يا حسن، أبصروا ضاربي، أطعموه من طعامى، واسقوه من شرابي، فإن أنا عشتُ فأنا أوْلى بحقّي، وإن مُتُّ فاضربوه ضربةً، ولا تمثّلوا به، فإنّي سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور'. [ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 136].

ثمّ قال: 'يا بني عبدالمطّلب، لا ألفينّكم تريقون دماء المسلمين بعدي، تقولون: قتلتم أمير المؤمنين، ألا لا يقتلنّ بي إلا قاتلي، ثمّ لم ينطق إلا بلا إله إلا اللَّه حتّى قُبض. [ الفصول المهمّة: 136].

ما حدث حين حمله إلى منزله ورفقه باللعين

في "البحار": قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ إنّ أبي عليه السلام قال: 'احملوني إلى موضع مصلاي في منزلي'، قال: فحملناه إليه وهو مدنف [ الدنف: المرض الثقيل].

والنّاس حوله، وهم في أمر عظيم باكين محزونين، قد أشرفوا على الهلاك من شدّة البكاء والنحيب، ثمّ التفت إليه الحسين وهو يبكي، فقال له: 'يا أبتاه، مَن لنا بعدك؟ لا يوم كيومك إلا يوم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أجلك تعلّمت البكاء، يعزُّ واللَّهِ عَلَيَّ أن أراك هكذا'، فناداه عليه السلام فقال: 'يا حسين، يا أبا عبداللَّه، ادن منّي'، فدنا منه وقد قرحت أجفان عينيه من البكاء، فمسح الدموع من عينيه، ووضع يده على قلبه، وقال له: 'يا بُنيّ، رَبَطَ اللَّهُ قَلبك بالصبر، وأجزلَ لك ولإخواتك عظيم الأجر، فسكّن روعتك، واهدأ من بكائك، فإنّ اللَّه قد آجرك على عظيم مصابك'، ثمّ اُدخل عليه السلام إلى حجرته وجلس في محرابه.

قال الراوي: وأقبلت زينب واُمّ كلثوم حتّى جلستا معه على فراشه، وأقبلتا تندبانه وتقولان: يا أبتاه، من للصغير حتّى يكبر؟ ومن للكبير بين الملأ؟ يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقأ [ رقأ الدمع: جفّ وانقطع].

قال: فضجّ النّاس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وفاضت دموع أمير المؤمنين عند ذلك، وجعل يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته وأولاده، ثمّ دعا الحسن والحسين، وجعل يحضنهما ويقبّلهما، ثمّ اُغمي عليه ساعة طويلة وأفاق... فلمّا أفاق ناوله الحسن عليه السلام قعباً من لبن، فشرب منه قليلاً، ثمّ نحّاه عن فيه، وقال: 'احملوه إلى أسيركم'، ثمّ قال للحسن عليه السلام: 'بحقّي عليك - يا بنيّ - إلا ما طيّبتم مطعمه ومشربه، وأرفقوا به إلى حين موتي، وتطعمه ممّا تأكل وتسقيه ممّا تشرب حتّى تكون أكرم منه'، فعند ذلك حملوا إليه اللبن وأخبروه بما قال أمير المؤمنين عليه السلام في حقّه، فأخذه اللعين وشربه. [ البحار 288:42].

 

ما جرى بينه وبين أصحابه وأولاده في مرضه الّذي قبض فيه

ما جرى بينه وبين الأصبغ بن نباتة

عن "مجالس المفيد" و "أمالي الشيخ": بالإسناد عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة، قال: لمّا ضرب ابن ملجم اللعين، أمير المؤمين عليّ بن أبي طالب عليه السلام غدونا عليه نفر من أصحابنا؛ أنا والحارث وسُويد بن غفلة، وجماعة معنا، فقعدنا على الباب، فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن عليّ عليه السلام فقال: 'يقول لكم أمير المؤمنين عليه السلام: انصرفوا إلى منازلكم'، فانصرف القوم غيري، فاشتدّ البكاء من منزله، فبكيت، وخرج الحسن عليه السلام وقال: 'ألم أقل لكم انصرفوا؟'، فقلت: لا واللَّه - يابن رسول اللَّه - لا تتابعني نفسي، ولا تحملني رجلي أن أنصرف حتّى أرى أمير المؤمنين عليه السلام، قال: فتلبّث، فدخل ولم يلبث أن خرج، فقال لي: 'داخل'، فدخلتُ على أمير المؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد نزف [ نزف دم فلان: خرج منه دم كثير حتّى يضعف فهو نَزِف].

واصفرّ وجهه، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة، فأكببت عليه فقبّلته وبكيتُ، فقال لي: 'لَا تَبْكِ يا أَصْبَغُ، فَإِنَّها وَاللَّهِ الْجَنَّةُ'، فقلت له: جُعلتُ فداك، إنّي أعلم واللَّه إنّك تصير إلى الجنّة، وإنّما أبكي لفقداني إيّاك يا أمير المؤمنين جعلتُ فداك، حدِّثني بحديث سمعته من رسول اللَّه، فإنّي أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً.

قال: 'نعم - يا أصبغ - دعاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً فقال لي: يا عليّ، انطلق حتّى تأتي مسجدي، ثمّ تصعد منبري، ثمّ تدعو النّاس إليك، فتحمد اللَّه عزّ وجلّ وتثني عليه، وتصلّي علَيَّ صلاة كثيرة، ثمّ تقول: أيّها النّاس، إنّي رسول رسول اللَّه إليكم، وهو يقول لكم: "ألا" إنّ لعنة اللَّه ولعنة ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على مَن انتمى [ انتمى انتماءً فلان إلى أبيه: انتسب].

إلى غير أبيه، أو ادّعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره، فأتيتُ مسجده صلى الله عليه و آله وصعدتُ منبره، فلمّا رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي، فحمدت اللَّه وأثنيتُ عليه وصلّيت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلاة كثيرة، ثمّ قلتُ: أيّها النّاس، إنّي رسول رسول اللَّه إليكم، وهو يقول لكم: ألا إنّ لعنة اللَّه ولعنة ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير أبيه، أو ادّعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره'. قال: 'فلم يتكلّم أحد من القوم إلا عمر بن لخطّاب، فإنّه قال: قد أبلغت - يا أبا الحسن - ولكنّك جئت بكلام غير مفسّر، فقلت: اُبلّغُ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فرجعت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله فأخبرتُه الخبر، فقال: ارجع إلى مسجدي حتّى تصعد منبري، فاحمد اللَّه واثنِ عليه، وصلِّ علَيَّ ثمّ قال: أيّها النّاس، ما كنّا لنجيئكم بشي ء إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا وإنّي أنا أبوكم، ألا وإنّي مولاكم، وألا وإنّي أجيركم'. [ أمالي المفيد: المجلس الثاني والأربعون، ح 3، أمالي الطوسي 123 - 122 :1، والبحار 204:42].

و في البحار قال: في توضيح قوله عليه السلام: 'ألا وإنّي أنا أبوكم' يعني أمير المؤمنين عليه السلام، وإنّما وصفه بكونه أجيراً لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام لمّا وجب لهما بإزاء تبليغهما رسالات ربّهما إطاعتهما ومودّتهما، فكأنّهما أجيران، كما قال اللَّه تعالى: 'قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى'، ويحتمل أن يكون المعنى: مَن يستحقّ الأجر من اللَّه بسببكم. [ البحار 205:42، والآية من سورة الشورى: 23].

 

ما جرى بينه وبين حبيب بن عمرو

في "أمالي الصدوق": عن أبي حمزة الثمالي، عن حبيب بن عمرو، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مرضه الّذي قُبض فيه، فحلّ عن جراحته، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ما جرحك هذا بشي ء، وما بك من بأس، فقال لي: 'يا حَبِيبُ، أَنا وَاللَّهِ مُفارِقُكُم السَّاعَةَ'، قال: فبكيتُ عند ذلك، وبكتْ اُمّ كلثوم، وكانت قاعدة عنده، فقال لها: 'ما يُبْكِيْكِ يا بُنَيَّةُ؟'، فقالت: ذكرتَ يا أبه أنّك تفارقنا الساعة فبكيتُ، فقال لها: 'يا بُنَيَّةُ، لَا تَبْكِي، فَوَاللَّهِ! لَوْ تَرَيْنَ ما يَرى أَبُوكِ ما بَكَيْتِ'، قال حبيب: فقلتُ له: وما الّذي ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: 'يا حَبِيبُ، أَرى مَلَائِكَةَ السَّماواتِ والأرضين وَالنَّبِيِّينَ بَعْضُهم فِي إِثْرِ بَعْضٍ وقُوفاً يَتَلقَّونَني، وَهذا أَخِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله جالساً عِنْدِي يَقُولُ: أَقْدِمْ فَإِنَّ أَمامَكَ خَيْر مِمّا أَنْتَ فِيهِ'، فما خرجت من عنده حتّى توفّى عليه السلام، الحديث. [ أمالي الصدوق - المجلس الثاني والخمسون: ح 4].

ما جرى بينه وبين ابنه الحسن

روى ابن عساكر الشافعي، بسنده عن عقبة بن أبي الصهبا، قال: لمّا ضرب ابن ملجم عليّاً عليه السلام دخل عليه الحسن وهو باك، فقال له: 'ما يبكيك يا بُنيّ'، قال: 'وما لي لا أبكي وأنت في أوّل يوم من الآخرة، وآخر يوم من الدنيا'، فقال: 'يا بُنيّ، احفظ أربعاً وأربعاً، لا يضرّك ما عملت معهنّ'، قال: 'وما هنّ، يا أبه؟'، قال: 'إنّ أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحُمق، وأوحشَ الوحشة العُجب، وأكرم الحسب الكرم "و" حسن الخُلق'.

قال الحسن: 'قلتُ: يا أبة، هذه الأربع، فأعطني الأربع الاُخر؟'، قال: 'إيّاك ومصادقة الأحمق، فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإيّاك ومصادقة الكذّاب، فإنّه يقرّب إليك البعيد، ويبعّد عليك القريب، وإيّاك ومصادقة البخيل، فإنّه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإيّاك ومصادقة الفاجر فإنّه يبيعك بالتافه'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 304:3، ح 1404].

 

وصيّته بعد ما جرى بينه وبين الطبيب المعالج

أخرج أبو الفرج الاصفهاني في "مقاتل الطالبيّين": بإسناده عن أبي مخنف، قال: حدّثني عطيّة بن الحرب، عن عمر بن تميم، وعمرو بن أبي بكار، أنّ عليّاً عليه السلام لمّا ضرب جمع له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هاني السكوني، وكان متطبّباً صاحب كرسيّ يعالج الجراحات، وكان من الأربعين غلاماً الّذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم، وإنّ أثيراً لمّا نظر إلى جرح أمير المؤمنين عليه السلام، دعا بِرئة شاة حارّة، واستخرج عِرقاً منها فأدخله في الجرح، ثمّ استخرجه فإذا عليه بياض الدماغ، فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك فإنّ عدوّ اللَّه قد وصلتْ ضربته إلى اُمّ رأسك، فدعا عليّ عليه السلام عند ذلك بصحيفة ودواة كَتَبَ وصيّته [ مقاتل الطالبيّين: 23، وفي شرح ابن أبي الحديد 119:6، مع اختلاف يسير].

الحديث.

أمّا وصيّته ذكرها أبو الفرج الاصفهاني في "مقاتل الطالبيّين"، وكذا الطبري في "تأريخه"، وثقة الإسلام الكليني رحمه الله في "الكافي"، و نهج البلاغة لسيّد الرضي والعلامة المجلسي في "البحار" مع اختلاف يسير في بعض ألفاظها، واللفظ ممّا روى أبوالفرج في مقاتل الطالبيّين:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

هذا ما أوصى به أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، أوصى بأنّه يشهد أن لا إله إلا اللَّه وحدَهُ لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدهُ ورسولهُ، أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، صلوات اللَّه وبركاته عليه، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك اُمرت وأنا أوّل المسلمين.

اُوصيك يا حسن، وجميع وُلدي وأهل بيتي، ومَن بلغه كتابي هذا، بتقوى اللَّه ربّنا ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرّقوا [ و في نهج البلاغة: 'اوصيكما و جميع ولدي و مَن بلغه كتابي بتقوى اللَّه و نظم أمركم و صلاح ذات بينكم فانّي سمعت رسول اللَّه...'].

فإنّي سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام، وأنّ المبيدة الحالقة للدين فساد ذات البين، ولا حول ولا قوّة إلا باللَّه العليّ العظيم، اُنظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم يهوّن اللَّه عليكم الحساب.

ثمّ قال عليه السلام: 'اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ! فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ بجفوتكم. [ في البحار: 'فلا تغيّروا أفواهم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب اللَّه عزّ وجلّ بذلك الجنّة كما أوجب اللَّه لآكل مال اليتيم النّار'].

وَاللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ! فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمَا زَالَ يوصينا بهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ. وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ! فلَا يَسْبِقْكُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ. وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ! فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ. وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، لَا يَخلُونّ منكم مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا، وإنّه إن خلا منكم لم تنظروا. وَاللَّهَ اللَّهَ فِي صيام شهر رمضان، فإنّه جُنّة من النّار، واللَّهَ اللَّهَ في الْجِهَادِ في سَبِيل اللَّه بِأَمْوَالِكُمْ وَأَ نْفُسِكُمْ. واللَّه اللَّه في زكاة أموالكم، فإنّها تطفئ غضب ربّكم. واللَّه اللَّه في اُمّة نبيّكم، فلا يظلمنّ بين أظهركم، واللَّه اللَّه في أصحاب "اُمّة" نبيّكم، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أوصى بهم، واللَّه اللَّه في الفقراء والمساكين، فأشركوهم في معائشكم، واللَّه اللَّه في ما ملكت أيمانكم، فإنّها كانت آخر وصيّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ قال: اُوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم'.

ثمّ قال: 'الصلاة الصلاة، لا تخافوا في اللَّه لومة لائم، فإنّه يكُفُّكُمْ من بغي عليكم وأرادكم بسوء، قولوا للنّاس حُسناً كما أمركم اللَّه، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّي الأمر عنكم [ وفي تاريخ الطبري: 'فيولّى الأمر شراركم، ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم'].

وتدعون فلا يُستجاب لكم، عليكم بالتواضع والتباذل والتبار، وإيّاكم والتقاطع والتفرّق والتدابر 'وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ'. [ سورة المائدة: 2].

حفظكم اللَّه من أهل بيت وحفظ فيكم نبيّه، استودعكم اللَّه خير مستودع، واقرأ عليكم سلام اللَّه ورحمته'. [ مقاتل الطالبيّين: 24، وتاريخ الطبري 113:4، وراجع في هذا المجال: البحار 250:42، وشرح ابن أبي الحديد 120:6].

وفي نقل "البحار": أنّه عليه السلام بعد ما وصّى بكيفيّة تغسيله وتكفينه وغير ذلك، فقال:

'يا أبا محمّد، ويا أبا عبداللَّه، كأنّي بكما وقد خرجتْ عليكما من بعدي الفتن من هاهنا، فاصبرا حتّى يحكم اللَّه وهو خير الحاكمين'، ثمّ قال: 'يا أبا عبداللَّه، أنت شهيد هذه الاُمّة، فعليك بتقوى اللَّه والصبر على بلائه'.

ثمّ اُغمي عليه ساعة وأفاق، وقال: 'هذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعمّي حمزة، وأخي جعفر، وأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكلّهم يقولون: عجّل قدومك علينا، فإنّا إليك مشتاقون'، ثمّ أدار عينيه في أهل بيته كلّهم، وقال: 'أستودعكم اللَّه جميعاً، سدّدكم اللَّه جميعاً، حفظكم اللَّه جميعاً، خليفتي عليكم اللَّه، وكفى باللَّه خليفة'، ثمّ قال: 'وعليكم السلام يا رسل ربّي'، ثمّ قال: 'لِمِثْلِ هذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ' [ سورة الصافّات: 61].

'إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُحْسِنُونَ' [ سورة النحل: 128].

وعرف جبينه وهو يذكر اللَّه كثيراً، وما زال يذكر اللَّه كثيراً ويتشهّد بالشهادتين، ثمّ استقبل القبلة وغمّض عينيه ومدّ رجليه ويديه، وقال: 'أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله'، ثمّ قضى نحبه.

وكانت وفاته في ليلة الجمعة إحدى وعشرين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة. [ البحار 292:42، وفي ليلة وفاته عليه السلام خلاف كما مرّ أوّل هذا الفصل].

قال ابن الأثير: إنّه عليه السلام بعد وصيّته لم ينطق إلا بلا إله إلا اللَّه حّى توفّي عليه السلام. [ أعيان الشيعة533:1].

في تغسيله و تكفينه

قال محمّد بن الحنفيّة: لمّا كانت ليلة إحدى وعشرين وأظلم الليل، وهي الليلة الثانية من الكائنة، جمع أبي أولاده وأهل بيته، وودّعهم إلى أن قال: 'أحسن اللَّه لكم العزاء، ألا وإنّي منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه، ولاحقٌ بحبيبي محمّد صلى الله عليه و آله كما وعدني، فإذا أنا متُّ يا أبا محمّد فغسّلني وكفّني وحنّطني ببقيّة حنوط جدّك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّه من كافور الجنّة جاء به جرئيل إليه [ وفي تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 301:3، عن هارون بن معد، قال: كان عند عليّ عليه السلام مسك أوصى أن يحنّط به، وقال: 'فضل من حنوط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'].

ثمّ ضعني على سريري، ولا يتقدّم أحدٌ منكم مقدّم السرير، واحملوا مؤخّره، واتّبعوا مقدّمه، فأيّ موضع وضع المقدّم فضعوا المؤخّر، فحيث قام سريري فهو موضع قبري، ثمّ تقدّم يا أبا محمّد، وصلِّ علَيَّ يا بني يا حسن، وكبّر علَيَّ سبعاً، واعلم أنّه لا يحلّ ذلك على أحدٍ غيري إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه القائم المهدي من ولد أخيك الحسين، يُقيم اعوجاج الحقّ، فإذا أنت صلّيت علَيَّ يا حسن فنحِّ السرير عن موضعه، ثمّ اكشف التراب عنه فترى قبراً محفوراً، ولحداً مثقوباً، وساجة منقوبة، فاضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فافتقدني، فانّك لا تجدني،وإنّي لاحق بجدّك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، واعلم يا بنيّ، ما من نبيّ يموت وإن كان مدفوناً بالمشرق ويموت وصيّه بالمغرب إلا ويجمع اللَّه عزّ وجلّ بين روحيهما وجسديهما، ثمّ يفترقان، فيرجع كلّ واحد منهما إلى موضع قبره، وإلى موضعه الّذي حُطّ فيه، ثمّ أشرج [ شرج الحجارة: نضدّها وضمّ بعضها إلى بعض].

اللّحد باللبن، وأهلِّ التراب علَيَّ، ثمّ غيّب قبري'. [ قال المجلسي ذيل هذا الكلام: وكان غرض مولانا عليّ عليه السلام بإخفاء قبره لئلا يعلم بموضع قبره أحد من بني اُميّة، فإنّهم لو علموا بموضع قبره لحفروه وأخرجوه وأحرقوه كما فعلوا بزيد بن علىّ بن الحسين عليهماالسلام].

ثمّ يا بُنيّ بعد ذلك إذا أصبح الصباح أخرجوا تابوتاً إلى ظاهر الكوفة على ناقة، وامُر بمن يُسيّرها بما عليها كأنّما تريد المدينة، بحيث يخفى على العامّة موضع قبري الّذي تضعني فيه، وكأنّي بكم وقد خرجت عليكم الفتن من هاهنا وهاهنا فعليكم بالصبر فهو محمود العاقبة. [ البحار 291:42].

 

في تجهيزه والصلاة عليه و دفنه خفاءً

بعد وصيّته عليه السلام بإخفاء قبره وكيفيّة تغسيله أنّه عليه السلام بقي إلى نحو ثلث الليل وتوفّي، فصرخت بناته ونساؤه وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم أهل الكوفة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قُبض، فأقبل الرجال والنساء يهرعون أفواجاً أفواجاً، وصاحوا صيحة عظيمة، فارتجّت الكوفة بأهلها، وكثر البكاء والنحيب، وكثر الضجيج بالكوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها، فكان ذلك كيوم مات فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلمّا توفّي غسّله الحسن والحسين عليهماالسلام، ومحمّد يصبّ الماء. [ أعيان الشيعة 533:1].

قال محمّد بن الحنفيّة: ثمّ أخذنا في جهازه ليلاً، وكان الحسن عليه السلام يغسّله، والحسين عليه السلام يصبّ الماء عليه، وكان عليه السلام لا يحتاج إلى مَن يقلّبه، بل كان يتقلّب كما يُريد الغاسل يميناً وشمالاً، وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك والعنبر، ثمّ نادى الحسن عليه السلام باُخته زينب واُمّ كلثوم، وقال: 'يا اُختاه، هلمّي بحنوط جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله'، فبادرت زينب مسرعة حتّى أتته به. قال الراوي: فلمّا فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة وشوارعها لشدّة رائحة ذلك الطيب، ثمّ لفّوه بخمسة أثواب كما أمر عليه السلام، ثمّ وضعوه على السرير، وتقدّم الحسن والحسين عليهماالسلام إلى السرير من مؤخّره، وإذا مقدّمه قد ارتفع ولا يرى حامله، وكان حاملاه من مقدّمه جبرئيل وميكائيل، فما مرّ بشي ء على وجه الأرض إلا انحنى له ساجداً، وخرج السرير من باب كندة، فحملا مؤخّره وسارا يتّبعان مقدّمه.

قال ابن الحنفيّة رضى الله عنه: واللَّه لقد نظرتُ إلى السرير وإنّه ليمرّ بالحيطان والنخل فتنحني له خشوعاً، ومضى مستقيماً إلى النجف إلى موضع قبره الآن.

قال: وضجّت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجن النساء يتبعنه لاطمات حاسرات، فَمنعهنّ الحسن عليه السلام ونهاهنّ عن البكاء والعويل، وردّهنّ إلى أماكنهنّ، والحسين عليه السلام يقول: 'لا حول ولا قوّة إلا باللَّه العليّ العظيم، إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون. يا أباه، وا انقطاع ظهراه، من أجلك تعلّمت البكاء، إلى اللَّه المشتكى'. [ البحار 294:42].

قال: فلمّا انتهينا إلى قبره وإذا مقدّم السرير قد وضع، فوضع الحسن عليه السلام مؤخّره، ثمّ قام الحسن عليه السلام وصلّى عليه والجماعة خلفه، فكبّر سبعاً كما أمره أبوه عليه السلام، ثمّ زحزحنا سريره وكشفنا التراب، وإذا نحن بقبر محفور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها: 'هذا ما ادّخره له جدّه نوح النبيّ للعبد الصالح الطاهر المطهّر'، فلمّا أرادوا نزوله سمعوا هاتفاً يقول: 'أنزلوه إلى التربة الطاهرة، فقد اشتاق الحبيب إلى الحبيب، فدهش النّاس عند ذلك وتحيّروا، واُلحد أمير المؤمنين عليه السلام قبل طلوع الفجر. [ البحار 295:42].

وروى المفيد هذا الحديث بسنده عن حِبان بن عليّ العنزي، قال حدّثني مولىً لعليّ بن أبي طالب، قال: لمّا حضرت أمير المؤمنين الوفاة قال للحسن والحسين عليهماالسلام: 'إذا أنا متُّ فاحملاني على سريري، ثمّ أخرجاني، واحملا مؤخّر السرير، فإنّكما تكفيان مُقدّمه، ثمّ ائتيا بي الغريّين [ الغريّيان: بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة، بناهما المنذر بن امرؤ القيس].

فإنّكما ستريان صخرةً بيضاءً تلمعُ نوراً، فاحتفروا فيها، فإنّكما تجدان فيها ساجة، فأدفناني فيها'.

قال: فلمّا مات أخرجناه، وجعلنا نحمل مؤخّر السرير ونُكفى مقدّمه، وجعلنا نسمع دَويّاً وحَفيفاً حتّى أتينا الغَريّين، فإذا صخرة بيضاء تلمع نوراً، فاحتفرنا فإذا ساجةٌ مكتوبٌ عليها: 'ممّا ادّخر نوحٌ لعليّ بن أبي طالب'، فدفنّاه فيها وانصرفنا، ونحن مسرورون بإكرام اللَّه لأمير المؤمنين عليه السلام، فحلقنا قومٌ من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فأخبرناهم بما جرى وباكرام اللَّه عزّ وجلّ أمير المؤمنين عليه السلام، فقالوا: نُحِبّ أن نعاين من أمره ما عاينتم؟ فقلنا لهم: إنّ الموضع قد عفي أثره بوصيّةٍ منه عليه السلام، فمضوا وعادوا إلينا، فقالوا: إنّهم احتفروا فلم يجدوا شيئاً. [ الإرشاد 23:1].

وعنه أيضاً: عن محمّد بن عمارة، قال: حدّثني أبي عن جابر بن يزيد، قال: سألت أبا جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهماالسلام: أين دُفن أمير المؤمنين؟ قال: 'دُفِنَ بناحية الغريّين، ودُفِنَ قبل طلوع الفجر، ودَخَل قبره الحسن والحسين ومحمّد بنو عليّ وعبداللَّه بن جعفر عليهم السلام'. [ الإرشاد 25:1].

قول صعصعة بن صوحان على قبره

وفي "البحار": لمّا اُلحد أمير المؤمنين عليه السلام وقف صعصعة بن صوحان العبدي رضى الله عنه على القبر، ووضع إحدى يديه على فؤاده والاُخرى قد أخذ بها التراب ويضرب به رأسه، ثمّ قال: بأبي أنت واُمّي يا أمير المؤمنين، ثمّ قال: هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرتَ برأيك، وربحتَ تجارتك، وقدمتَ على خالقك، فتلقّاك اللَّه ببشارته، وحفّتك ملائكته، واستقررتَ في جوار المصطفى، فأكرمك اللَّه بِجواره، ولحقتَ بدرجة أخيك المصطفى، وشربتَ بكأسه الأوفى، فاسأل اللَّه أن يمُنّ علينا باقتفائنا أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك، فقد نلتَ ما لم ينله أحد، وأدركتَ ما لم يُدركه أحد، وجاهدتَ في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده، وقمتَ بدين اللَّه حقّ القيام. حتّى أقمت السنن، وأبرتَ [ أبره: أي أصلحه].

الفتن، واستقام الإسلام، وانتظم الإيمان، فعليك منّي أفضل الصلاة والسلام، بك اشتدّ ظهر المؤمنين، واتّضحت أعلام السُّبل، واُقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك، سبقتَ إلى إجابة النبيّ صلى الله عليه و آله مقدّماً مؤثراً، وسارعتَ إلى نصرته، ووقيته بنفسك، ورميتَ سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم اللَّه بك كلّ جبّار عنيد، وذلّ بك كلّ ذي بأس شديد، وهَدّم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين، كنتَ أقرب النّاس من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قُرباً، وأوّلهم سلماً، وأكثرهم علماً وفهماً، فهنيئاً لك يا أبا الحسن، لقد شرّف اللَّه مقامك، وكنتَ أقرب النّاس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نسباً، وأوّلهم إسلاماً، وأوفاهم يقيناً، وأشدّهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً، فلا حرمنا اللَّه أجرك، ولا أذلّنا بعدك، فواللَّه لقد كانت حياتك مفاتح للخير ومغالق للشرّ، وأنّ يومك هذا مفتاح كلّ شرّ ومغلاق كلّ خير، ولو أنّ النّاس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنّهم آثروا الدنيا على الآخرة.

ثمّ بكى بكاءً شديداً وأبكى كلّ من كان معه، وعدلوا إلى الحسن والحسين ومحمّد وجعفر والعبّاس ويحيى وعون وعبداللَّه عليهم السلام، فعزّوهم في أبيهم "صلوات اللَّه عليه"، وانصرف النّاس، ورجع أولاد أمير المؤمنين عليه السلام وشيعتهم إلى الكوفة ولم يشعر بهم أحد من النّاس، فلمّا طلع الصباح وبزغت الشمس أخرجوا تابوتاً من دار أمير المؤمنين عليه السلام، وأتوا به إلى المصلّى بظاهر الكوفة، ثمّ تقدّم الحسن عليه السلام وصلّى عليه. [ البحار 295:42].

 

اشعار سودة في رثاء مولاها عليّ

وقالت سودة بنت عمارة في رثاء مولاها أمير المؤمنين عليه السلام عند معاوية وهي تبكي عليّاً عليه السلام:

صلّى الإله على جسم تضمّنه*** قبرٌ فأصبح فيه الجود "العدل" مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلاً*** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا

[ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 345:3، ح 1053].

وممّن رثاه في ذلك الوقت أبو الأسود الدؤلي:

أَلا أَبْلِغْ مُعاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ*** فَلَا قَرَّتْ عُيونُ الشَّامِتِينا

أَفِي شَهْرِ الصِّيامِ فَجَعْتُمُونا*** بِخَيْرِ النَّاسِ طُرّاً أَجْمَعِينا؟

قَتَلْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطايا*** وذلّلها وَمَن رَكِبَ السَّفِينا

وَمَنْ لَبِسَ النِّعالَ وَمَنْ حَذاها*** وَمَنْ قَرَأَ الْمَثانِيَ وَالمُبِينا

إِذا اسْتَقْبَلْتَ وَجْهَ أَبي حُسَيْنٍ*** رَأَيْت النُّور فَوْقَ الناظِرِينا

لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ حَيْثُ كانت*** بِأَنَّكَ خَيْرُها حَسَباً وَدِيناً

[ مروج الذهب 428:2، وروى في الكامل في التاريخ 438:4، والطبري في تاريخه 116:4، نحوه].

في الآية الّتي ظهرت صباح شهادة عليّ

في "فرائد السمطين": بسنده عن ابن شهاب، قال: قدمتُ دمشق وأنا اُريد الغزو، فأتيت عبدالملك بن مروان لأُسلِّم عليه، قال: فوجدتُه في قُبّة على عرشٍ يقرب القائم - أو يفوق القائم - والنّاس تحته سماطين، فسلّمتُ ثمّ جلستُ، فقال لي: يابن شهاب، أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل عليّ بن أبي طالب عليه السلام؟

فقلت: نعم، فقال: هلمّ، فقمتُ من وراء النّاس حتّى أتيتُ خلف القُبّة فحوّل إليّ وجهه فأحنى [ في بعض النسخ: 'فانحنى'].

عَلَيَّ، فقال: ما كان؟ فقلتُ: لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم. فقال: لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك ولا يسمعنّ منك أحد. [ فرائد السمطين 389:1، ح 325].

وروى في فضائل الخمسة عن مستدرك الصحيحين بسنده عن ابن شهاب مثله، إلا أنّه زاد في ذيله: 'فما حدّثتُ به حتّى توفّي'. [ فضائل الخمسة من الصحاح الستّة 98:3، تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 316:3، ح 1424].

وفي "فرائد السمطين" أيضاً بسنده عن الزهري: أنّ أسماء الأنصاريّة قالت: ما رفع حجر بإيليا - يعني حين قتل عليّ بن أبي طالب - إلا وجد تحته دم عبيط. [ فرائد السمطين 389:1، ح 336].

وفي "البحار": عن أبي حمزة، عن الصادق عليه السلام، وقد روى أيضاً عن سعيد بن المسيّب: أنّه لمّا قبض أمير المؤمنين عليه السلام لم يرفع من وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط. [ البحار 308:42].

وفيه أيضاً عن ابن عبّاس: قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: 'إنّ السماء والأرض لتبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحاً، وإنّها لتبكي على العالم إذا مات أربعين شهراً، وأنّ السماء والأرض ليبكيان على الرسول أربعين سنة، وأنّ السماء والأرض ليبكيان عليك يا عليّ إذا قتلت أربعين سنة'. قال ابن عبّاس: لقد قُتل أمير المؤمنين عليه السلام على الأرض بالكوفة، فأمطرت السماء ثلاثة أيّام دماً. [ البحار 308:42].

 

في كيفيّة قتل ابن ملجم لعنه اللَّه

في "البحار" قال الراوي: فلمّا كان الغداة اجتمعوا لأجل قتل الملعون.. قال الراوي: ثمّ إنّه لمّا رجع أولاد أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه إلى الكوفة واجتمعوا لقتل اللعين عدوّ اللَّه ابن ملجم، فقال عبداللَّه بن جعفر: اقطعوا يديه ورجليه ولسانه واقتلوه بعد ذلك، وقال ابن الحنفيّة رحمه الله: اجعلوه غرضاً للنشاب وأحرقوه بالنار، وقال آخر: اصلبوه حيّاً حتّى يموت.

فقال الحسن عليه السلام: 'أنا ممتثل فيه ما أمرني به أمير المؤمنين عليه السلام أضربه ضربة بالسيف حتّى يموت فيها، واُحرقه بالنّار بعد ذلك'.

قال: فأمر الحسن عليه السلام أن يأتوه به، فجاءوا به مكتوفاً حتّى أدخلوه إلى الموضع الّذي ضرب فيه الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام والنّاس يلعنونه ويوبّخونه، وهو ساكت لا يتكلّم، فقال الحسن عليه السلام: 'يا عدوّ اللَّه، قتلت أمير المؤمنين عليه السلام وإمام المسلمين وأعظمت الفساد في الدين'، فقال لهما: يا حسن، يا حسين، عليكما السلام ما تريدان تصنعان بي؟ قالا له: 'نُريد قتلك كما قتلتَ سيّدنا ومولانا'.

فقال لهما: اصنعا ما شئتما أن تصنعا، ولا تعنّفا من استزلّه الشيطان فصدّه عن السبيل، ولقد زجرت نفسي فلم تنزجر، ونهيتها فلم تنته، فدعها تذوق وبال أمرها ولها عذاب شديد، ثمّ بكى، فقال له: 'يا ويلك، ما هذه الرقّة؟ أين كانت حين وضعت قدمك وركبت خطيئتك؟'.

فقال ابن ملجم لعنه اللَّه: 'اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ' [ سورة المجادلة: 19].

ولقد انقضى التوبيخ والمعايرة وإنّما قتلتُ أباك وحصلتُ بين يديك، فاصنع ما شئت، وخذ بحقّك منّي كيف شئت؟

ثمّ برك على ركبتيه، وقال: يابن رسول اللَّه، الحمد للَّه الّذي أجرى قتلي على يديك، فَرَقَّ له الحسن عليه السلام لأنّ قلبه كان رحيماً، فقام الحسن عليه السلام وأخذ السيف بيده وجرّده من غمده، فهزّ به [ فهزّ به: أي حرّكه].

حتّى لاح الموت في حدّه، ثمّ ضربه ضربة أدار بها عنقه، فاشتدّ زحام النّاس عليه، وعلت أصواتهم، فلم يتمكّن من فتح باعه فارتفع السيف إلى باعه فأبراه، فانقلب عدوّ اللَّه على قفاه يخور في دمه، إلى أن قال: وعجّل اللَّه بروحه إلى النّار وبئس القرار، ثمّ جمعوا جُثّته وأخرجوه من المسجد، وجمعوا له حطباً وأحرقوه بالنّار. [ البحار 296:42].

وقيل: طرحوه في حفرة وطمّوه بالتراب وهو يعوي كعويّ الكلاب في حفرته إلى يوم القيامة. [ المصدر المتقدّم: 298].

و روى الطبري و ابن اثير في تاريخهما: فلمّا قبض أمير المؤمنين عليه السلام بعث الحسن إلى ابن ملجم فقال للحسن: هل لك فيَّ خصلة؟ إنّي واللَّه ما أعطيتُ اللَّه عهداً إلا وفيتُ به، إنّي كنتُ قد أعطيتُ اللَّه عهداً عند الحطيم أن أقتل عليّاً ومعاوية، أو أموت دونهما، فإن شئت خلّيتَ بيني وبينه، ولك اللَّه علَيَّ إن لم أقتله أو قتلته ثمّ بقيتُ أن آتيك حتّى أضع يدي في يدك، فقال له الحسن: 'أما واللَّه حتّى تعاين النّار، فلا'، ثمّ قدّمه فقتله، ثمّ أخذه النّاس فأدرجوه في بواريّ، ثمّ أحرقوه بالنّار. [ تاريخ الطبري 114:4، والكامل في التاريخ 436:2].

في كيفيّة قتل قطام ووردان وشبيب الّذين ساعدوا ابن ملجم في جريمته

فلمّا فرغ النّاس من قتل ابن ملجم لعنه اللَّه تعالى، أقبلوا إلى قطام الملعونة الفاسقة الفاجرة فقطّعوها بالسيف إرباً إرباً، ونهبوا دارها، ثمّ أخذوها وأخرجوها إلى ظاهر الكوفة، وأحرقوها بالنّار، وعجّل اللَّه بروحها إلى النّار وغضب الجبّار. [ البحار 298:42].

وأمّا الرجلان اللذان كانا مع ابن ملجم في المسجد الجامع، فإنّ وردان قد هرب ودخل بين النّاس فنجا بنفسه، وأمّا شبيب بن بجرة [ في نسخة: 'بحيرة'].

فأخطأه، فوقعت ضربته بعضادة الباب وهرب، فأخذه رجل فصرعه، وجلس على صدره وأخذ السيف من يده ليقتله به، فرأى النّاس يقصدون نحوه، فخشي أن يعجّلوا عليه ولم يسمعوا منه، فوثب عن صدره وخلاه، وطرح السيف من يده، ومضى شبيب هارباً حتّى دخل منزله، ودخل عليه ابن عمّ له فرآه يحلّ الحرير عن صدره، فقال له: ما هذا لعلّك قتلت أمير المؤمنين عليه السلام؟ فأراد أن يقول: لا، فقال: نعم، فمضى ابن عمّه واشتمل على سيفه، ثمّ دخل عليه فضربه حتّى قتله. [ البحار 230:42].

خطبة ريحانة الرسول صلى الله عليه و آله الحسن بن عليّ عليه السلام بعد شهادة أبيه

قال ابن عبدالبرّ في "الاستيعاب": إنّه ثبت عن الحسن بن عليّ عليه السلام من وجوه أنّه عليه السلام قال: 'لم يترك أبي إلا ثمانمائة درهم - أو سبعمائة درهم - فضلت من عطائه كان يعدّها لخادم يشتريه لأهله'. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 48:3].

وفي "تاريخ دمشق": عن عمرو بن حُبشيّ، قال: خطبنا الحسن بن عليّ عليه السلام بعد قتل عليّ عليه السلام فقال: 'لقد فارقكم رجلٌ بالأمس ما سبقه الأوّلون بعلم، ولا أدركه الآخرون، إن كان ليبعثه الراية فلا ينصرف حتّى يفتح له، ما ترك من صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه كان يرصدها لخادم لأهله'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام 330:3، ح 1474].

وفيه أيضاً: عن هبيرة بن يريم روى مثله، إلا أنّه قال: 'وإنّ جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادماً'. [ تاريخ دمشق - ترجمة الإمام عليّ عليه السلام: 331، ح 1475].

وفي "فرائد السمطين": روى الحديث بعينه عن هبيرة بن يريم، إلا أنّه قال في ذيله: 'إلا ثمانمائة درهم في ثمن خادم'. [ فرائد السمطين 234:1، ح 182].

وروى أبو الفرج الاصهاني في "مقاتل الطالبيّين" بإسناده إلى حسن بن زيد بن عليّ بن الحسين بن زيد بن الحسن، عن أبيه، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، والمعنى قريب، قالوا: خطب الحسن بن عليّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فقال: 'لقد قبض في هذه الليلة رجلٌ لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتّى يفتح اللَّه عليه، ولقد توفّي في هذه الليلة الّتي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصيّ موسى،وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله'، ثمّ خنقته العبرة فبكى، وبكى النّاس معه، ثمّ قال: 'أيّها النّاس، من عرفني فقد عرفني، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلى الله عليه و آله أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللَّه عزّ وجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والّذين افترض اللَّه مودّتهم في كتابه إذ يقول: 'وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً'، فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت'. [ مقاتل الطالبيّين: 32، وقد ذكرنا الحديث بتمامه في فصل: "عليّ عليه السلام وآية المودّة" عنه وعن أبي الطفيل].

وفي "أمالي الصدوق" روى عن حبيب بن عمرو - في حديث - قال: فلمّا كان من الغد - بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام - وأصبح الحسن عليه السلام قام خطيباً على المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: 'أيّها النّاس، في هذه الليلة نزل القرآن، وفي هذه الليلة رفع عيسى بن مريم عليه السلام، وفي هذه الليلة قُتل يوشع بن نون، وفي هذه الليلة مات أبي أمير المؤمنين عليه السلام، واللَّه لا يسبق أبي أحدٌ كان قبله من الأوصياء إلى الجنّة ولا من يكون بعده، وإن كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليبعثه في السرية فيقاتل جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، كان يجمعها ليشتري بها خادماً لأهله'. [ أمالي الصدوق - المجلس الثاني والخمسون: ح 4].

 

في فضل زيارته

في المناقب لابن شهرآشوب: عن النبيّ صلى الله عليه و آله: 'مَن زار عليّاً بعد وفاته فله الجنّة'. [ المناقب لابن شهرآشوب 317:3، وكذا في مقنعة المفيد: 462].

وفيه عن الصادق عليه السلام: 'مَن ترك زيارة أمير المؤمنين عليه السلام لم ينظر اللَّه إليه، ألا تزورون من تزوره الملائكة والنبيّون'. [ المناقب لابن شهرآشوب 317:3، وكذا في مقنعة المفيد: 462].

وزاد المفيد في "المقنعة": 'إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من كلّ الأئمّة، وله مثل ثواب أعمالهم، وعلى قدر أعمالهم فُضّلوا'. [ المقنعة: 462].

وفيه أيضاً عنه عليه السلام: 'إنّ أبواب السماء لتفتح عند دعاء الزائر لأمير المؤمنين عليه السلام، فلا تكن عن الخير نوّاماً'. [ المناقب لابن شهرآشوب 317:3، وكذا في المقنعة: 422].

قال ابن مدلّل:

زُر بالغريّ العالم الربّاني*** عَلَم الهُدى ودعائم الإيمان

وقل: السلام عليك، يا خير الورى*** يا أيّها النبأ العظيم الشأن

يا مَن على الأعراف يعرف فضله*** يا قاسم الجنّات والنيران

نار تكون قسيمها يا عدّتي*** أنا آمن منها على جثماني

وأنا مضيفك والجنان لي القرى*** إذ أنتَ مورد الضيفان

[ مناقب ابن شهرآشوب 317:3].

و كتب على مشهده عليه السلام:

هذا ولىّ اللَّه في أرضه*** في جنّة الخلد و آلائه

لا يقبل اللَّه له زائراً*** لم يبر من سائر أعدائه

[ مناقب ابن شهرآشوب 317:3].

مختصر زيارته

اذا أردت زيارة مشهد الامام اميرالمؤمنين عليّ عليه السلام في النجف الأشرف فعليك بآداب كما قال المفيد في المقنعة: تأتي مشهده - وأنت على غسل - فتقف على القبر، وتستقبله بوجهك: تجعل القبلة بين كتفيك كما فعلت في زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله، وتقول: 'السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمةُ اللَّهِ وبركاتُه، السلامُ عليك يا وليّ اللَّه، السلامُ عليك يا صفوة اللَّه، السلام عليك يا حبيب اللَّه، السلام عليك يا حجّة اللَّه، السلام عليك يا سيّد الوصيّين، السلام عليك يا خليفة رسول ربّ العالمين، أشهد أنّك قد بلّغت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما حمّلك، وحفظت ما استودعك، وحلّلت حلال اللَّه، وحرّمت حرام اللَّه، وتلوت كتاب اللَّه، وصبرت على الأذى في جنب اللَّه محتسباً حتّى أتاك اليقين، لعن اللَّه من خالفك، ولعن اللَّهُ من قتلك، ولعن اللَّه من بلغه ذلك فرضي به، أنا إلى اللَّه منهم براء.

ثمّ انكب على القبر وقبّله، وضع خدّك الأيمن عليه، ثمّ الأيسر، وتحوّل إلى عند الرأس فقف عليه، وقل: السلام عليك يا وصيّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، أشهدُ لك يا وليّ اللَّه بالبلاغ والأداء، أتيتك بأبي أنت واُمّي زائراً عارفاً بحقّك، مستبصراً بشأنك موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، متقرّباً إلى اللَّه بزيارتك في خلاص نفسي، وفكاك رقبتي من النّار، وقضاء حوائجي للآخرة والدنيا، فاشفع لي عند ربّك، صلوات اللَّه عليك ورحمة اللَّه وبركاته.

ثمّ قبّل القبر وضع خدّيك عليه، وارفع رأسك، وصلّ ستّ ركعات، وسلّم في كلّ اثنتين منها، و ادع بما أحببت إن شاء اللَّه، ثمّ تحوّل إلى عند الرجلين، وقل: السلام عليك يا مولاي ورحمة اللَّه وبركاته.

وادع هناك بما أحببت إن شاء اللَّه. [ المقنعة: 462].

سلام اللَّه عليه وعلى أخيه وابن عمّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلى زوجته فاطمة الزهراء رحمه الله وعلى أولاده عليهم السلام وأصحابه الكرام، اللّهمّ اجعلنا من مواليه ومحبّيه وناصريه وشيعته المخلصين له، وارزقنا زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وارحمنا برحمتك الواسعة بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين من ولده عليهم السلام يا أرحم الراحمين، آمين يا ربّ العالمين.

تكملة

اولاده

مدخل

جُبِل الإنسان على أن يفتخر بأنّ له ولداً، ويفرح بذلك ويأنس، وإذا ما كان هؤلاء الأولاد من أفاضل النّاس، فإنّ لهذا الأمر فخراً حقيقيّاً ومعنوياً، وقد أيّد الإسلام ذلك، كما أنّ عدم الأولاد يكون سبباً للاضطراب والقلق، ولذلك لمّا توفّي إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه و آله هجاه عمرو بن العاص وسمّاه الأبتر، فنزلت: 'إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ' والكوثر مبالغة في الكثرة، يعني كثرة أولاده. [ اقتباس من المناقب لابن شهرآشوب 195:2].

إنّ هذه بشارة بشّر اللَّه بها نبيّه بأنّه يهب له أولاداً كثيرين، وذرّيّة النبيّ صلى الله عليه و آله جميعاً من نسل عليّ وفاطمة عليهماالسلام خاصّة، وأنّ أولادهما حجج اللَّه في أرضه، وأنّ حجّة اللَّه إلى يوم القيامة حتّى قائم آل محمّد صلى الله عليه و آله من نسل عليّ وفاطمة، وهذه منقبة عظيمة اختصّ بها عليّ عليه السلام أن تكون ذريّة النبيّ والأئمّة حجج اللَّه من صلبه.

لقد كان لعليّ عليه السلام أولاد كثيرون سوى الحسنين اللذين كانا ريحانتي رسول اللَّه، وكانا إمامين، ونحن نشير إجمالاً إلى أسماء أولاد عليّ عليه السلام.

ذكر أولاده

قال المفيد رحمه الله: فأولاد أمير المؤمنين عليه السلام ستّة وعشرون [ كذا، والظاهر "27" ومع المحسن السقط عليه السلام يكونون "28"].

ولداً ذكراً واُنثى.

4 - 1- الحسن والحسين عليهما السلام وزينب الكبرى وزينب الصغرى المكنّاة باُمّ كلثوم، اُمّهم فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين بنت سيّد المرسلين وخاتم النبيّين محمّد النبيّ صلى الله عليه و آله.

5 - ومحمّد المكنّى بأبي القاسم، اُمّه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفيّة "المعروف بمحمّد حنفية".

7 - 6- وعمر ورقيّة كانا توأمين، اُمّهما اُمّ حبيب بنت ربيعة.

11- 8- والعبّاس وجعفر وعثمان وعبداللَّه الشهداء مع أخيهم الحسين عليه السلام بطفّ كربلاء، اُمّهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن دارم.

13- 12- ومحمّد الأصغر المكنّى بأبي بكر وعبيداللَّه، الشهيدان مع أخيهما الحسين عليه السلام بالطفّ، اُمّهما ليلى بنت مسعود الدارميّة.

14- ويحيى، اُمّه أسماء بنت عميس الخثعميّة.

16- 15- واُمّ الحسن ورملة، اُمّهما اُمّ سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي.

27- 17- ونفيسة وزينب الصغرى، ورقيّة الصغرى واُمّ هاني واُمّ الكرام وجُمانة المكنّاة اُمّ جعفر، واُمامه واُمّ سلمة وميمونة وخديجة وفاطمة لاُمّهات شتّى.

ثمّ قال: وفي الشيعة من يذكر أنّ فاطمة عليهاالسلام أسقطت بعد النبيّ صلى الله عليه و آله ذكراً كان سمّاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو حمل: محسناً، فعلى قول هذه الطائفة أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية وعشرون ولداً. [ الإرشاد: 342، الباب 4].

وقال ابن الصبّاغ المالكي في "الفصول المهمّة": واعلم أنّ النّاس قد اختلفوا في عدد أولاد على عليه السلام ذكوراً وإناثاً، فمنهم من أكثر، ومنهم من اختصر، والّذي نقله صاحب كتاب الصفوة أنّ أولاده الذكور أربعة عشر ذكراً، وأولاده الإناث تسعة عشر اُنثى، ثمّ ذكر تفصيل أسمائهم. [ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 142].

وقال الحافظ ابن الجوزي الحنفي: اتّفق علماء السير على أنّه كان له عليه السلام من الولد ثلاثة وثلاثون، منهم أربعة عشر ذكراً وتسع عشرة اُنثى: الحسن، والحسين، وزينب الكبرى، واُمّ كلثوم الكبرى، اُمّهم فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعلى هذا عامّة المتأخّرين، وذكر الزبير بن بكار ولداً آخر من فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسمه محسن مات طفلاً، وفاطمة عليهاالسلام أوّل زوجاته لم يتزوّج عليها حتّى توفّيت عليهاالسلام، إلى آخر كلامه. [ تذكرة الخواصّ: 57].

وفي "الكامل" لابن الأثير: فجميع ولده أربعة عشر ذكراً، وسبع عشرة امرأة، وكان النسل منهم للحسن والحسين ومحمّد بن الحنفيّة، والعبّاس بن الكلابيّة، وعمر [ اُمّه: اُمّ حبيب بنت ربيعة التغلبيّة].

ابن التغلبيّة. [ الكامل في التاريخ 440 - 441 :2].

وفيه أيضاً، قال: وقد ذكر أنّه كان له من فاطمة ابن آخر يقال له: محسن، وأنّه توفّي صغيراً. [ الكامل في التاريخ 440 - 441 :2].

 

الصفوة من أصحابه الكرام

كلمة في سيرة أصحابه

لقد كانت سيرة جُلّ أصحابه عليه السلام إن لم يكونوا كلّهم مع كثرتهم يُحبّون عليّاً عليه السلام ويذكرونه بخير وثناء، حتّى إذا حضروا بين يدي معاوية أو غيره من أعدائه جبراً أو اختياراً، فإنّهم لم ينسوا عليّاً عليه السلام وتراهم يذكرونه عليه السلام بكلّ خير وفضيلة وتقوى وورع، وسنذكر هنا بعضاً من الّذين وفدوا على معاوية، وما كان منهم سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، فإنّ مواقفهم تدلّ على جلالته عليه السلام عندهم وعظمته لديهم، ولا نرى مثلهم في أصحاب أحدٍ إلا نادراً، فإنّهم تهيّئوا للشهادة والموت لأجل ذكر فضائل عليّ عليه السلام ولم يحل الموت دون بيان مناقبه عليه السلام.

وحبّهم "رضوان اللَّه عليهم" عليّاً عليه السلام لم يكن لزخارف الدنيا ولمقامه وسلطنته، بل كان يحبّونه لعظمة شأنه عليه السلام، وأنّه أوْلى النّاس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولمناقبه وفضائله الكثيرة، ولذا نرى في كلمات بعض أصحابه ما يُعجب الإنسان من شدّة حُبّهم له، وإيمانهم به، اللّهمّ اجعلنا من محبّيه صلوات اللَّه وسلامه عليه، إنّه هو الإسلام الأصيل والصراط المستقيم، كما أشار الإمام عليه السلام في الحديث التالي.

في "الاختصاص" للشيخ المفيد بسنده عن أبي عبداللَّه البرقي عن أبيه، رفعه، قال: قال عمرو بن الحمق الخزاعي لأمير المؤمنين عليه السلام: واللَّه ما جئتك لمال من الدنيا تعطينيه، ولا لالتماس السلطان ترفع به ذكري إلا لأنّك ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأوْلى النّاس بالنّاس، وزوج فاطمة سيّدة نساء العالمين عليهاالسلام، وأبو الذرّيّة الّتي بقيت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأعظم سهماً للإسلام من المهاجرين والأنصار، واللَّه لو كلفّتني نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي [ الطوامي: الممتلي، طمي البحر إذا امتلأ ماء].

أبداً، حتّى يأتي علَيَّ يومي وفي يدي سيفي أضرب به [ في نسخة: 'أهزّ به'].

عدوّك، واُقوّي به وليّك، ويعلو به اللَّه كعبك [ الكعب: الشرف والمجد].

ويفلج [ الفلج: الفوز والظفر].

به حجّتك، ما ظننت أنّي أدّيت من حقّك كلّ الحقّ الّذي يجب لك علَيَّ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: 'اللّهمّ نوِّر قلبه باليقين، واهده إلى الصراط المستقيم، ليت في شيعتي مائة مثلك'. [ الاختصاص: 14، ورواه نصر بن مزاحم في كتاب صفّين: 56، من الطبعة الحجريّة بأدنى تفاوت في اللفظ].

في "أمالي الصدوق" بالإسناد عن الريّان بن الصلت، عن الرضا عليّ بن موسى، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ عليهم السلام، قال: 'رأى أمير المؤمنين رجلاً من شيعته بعد عهد طويل، وقد أثّر السنّ فيه، وكان يتجلّد في مشيته، فقال: كبر سنّك يا رجل؟ قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، فقال: إنّك لتتجلّد؟ قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، فقال: أجد فيك بقيّة؟ قال: هي لك يا أمير المؤمنين'. [ أمالي الصدوق - المجلس الثالث والثلاثون: ح 6، والبحار 186:42].

 

ضرار يصف عليّاًعند معاوية

من أخبث مكائد معاوية بعد تسلّطه على الكوفة وسيطرته على أصحاب أمير المؤمنين أن يجلبهم إلى الشام بشتّى الوسائل من دعوة وُدِّيَّة، أو هربٍ من ظلم عمّاله، أو تهديد، أو غير ذلك من الوسائل، ثمّ يحضرهم في محفله الغاصّ بالرجال، يسألهم عن وصف عليّ عليه السلام حتّى يذكروا له عيباً بحضرة النّاس، ويتّهموه فيستفيد من كلامهم لتأييد سياسته، وممّن وقع في حبالته ضرار بن ضمرة، وكان من خواصّ عليّ عليه السلام ومن أهل الزهد والعبادة، فأمره بوصف عليّ عليه السلام، وقد وصفه ضرار بهذا الوصف البالغ في الخطورة من نواحٍ شتّى، حيث قال على ما روى السيّد الرضي في "النهج": فأشهدُ لقد رأيتهُ في بعض مواقفهِ وَقَد أرخى الليل سُدُوله [ السُّدل - جمع أسدال -: الستر. يقال: أرخى الليل سدوله، أي أرسل أستار ظلمته] وهو قائم في محرابه، قابضٌ على لحيته، يتململ [ التململ: عدم الاستقرار من المرض، كأنّه على ملّة، وهي الرماد الحارّ] تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: 'يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي، أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ لَا حَانَ حِينُكِ! [ لا حان حينك: أي لا حضر وقتك] هَيْهَات! غُرِّي غَيْرِي، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا! فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ. آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَطُولِ الطَّرِيقِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ'. [ نهج البلاغة - قصار الحكم: 77].

وعن ابن عبدالبرّ المالكي في "الاستيعاب": بسنده عن العكلي، عن الحرمازي، عن رجل من همدان، قال: قال معاوية لضرار: يا ضرار صف لي عليّاً؟ قال: إعفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لتصفنّه. قال: أما إذ لا بدّ من وصفه، فكان واللَّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطقُ الحِكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يُعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يُجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن واللَّه مع تقريبه إيّانا وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، يُعظّم أهل الدين، ويُقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيفُ من عدله، وأشهدُ لقد رأيتهُ في بعض مواقفه وقد أرخى سُدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتمَلمل تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقولُ: 'يا دُنيا غرّي غيري، ألي تعرّضتِ، أم إليَّ تشوّقتِ، هيهات هيهات! قد باينتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها، فعمُركِ قصير، وخطرِك حقير، آه من قلِة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق'.

فبكى معاوية وقال: رحم اللَّه - أبا الحسن - كان واللَّه كذلك، فكيف حزنك عليه، يا ضرار؟ قال: حزن مَن ذُبح وَلدُها في حجرها. [ الاستيعاب بهامش الإصابة 43:3، ونقله ابن أبي الحديد في شرحه 224:18. وروى قصّة ضرار كثير من العامّة والخاصّة منهم ابن الصبّاغ المالكي في "الفصول المهمّة: 129"، والصدوق في "أماليه: 91، ح 2"، وابن شهرآشوب في "المناقب 13:2"، والمجلسي في "البحار 14:41"].

الطرمّاح بن عديّ الطائي عند معاوية وله لسان طلق

الطرمّاح هو أخو حجر بن عديّ، كان من كبار أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وكان رجلاً مفوّهاً طوالاً، ورسوله إلى معاوية، وروى المفيد في "الاختصاص": كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد يا عليّ لأضربنّك بشهاب قاطع لا يدكنه الريح [ في بعض النسخ: 'لا يذكيه الريح'].

ولا يطفئه الماء إذا اهتزّ وقع، وإذا وقع نقب، والسلام.

فلمّا قرأ عليّ عليه السلام كتابه دعا بداوة وقرطاس ثمّ كتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد يا معاوية فقد كذبتَ، أنا عليّ بن أبي طالب، وأنا أبو الحسن والحسين، قاتل جدّك وعمّك وخالك، وأنا الّذي أفنيتُ قومك في يوم بدر ويوم الفتح و يوم اُحد، وذلك السيف بيدي، تحمله ساعدي بجرأة قلبي كما خلّفه النبيّ صلى الله عليه و آله بكفّ الوصيّ، لم أستبدل باللَّه ربّاً وبمحمّد صلى الله عليه و آله نبيّاً وبالسيف بدلاً، والسلام على مَن اتّبع الهدى'.

ثمّ طوى الكتاب ودعا الطرماح بن عديّ الطائي، فقال له: 'خذ كتابي هذا فانطلق به إلى معاوية وردّ جوابه'، فأخذ الطرماح الكتاب، ودعا بعمامة فلبسها فوق قلنسوته، ثمّ ركب جملاً بازلاً [ بزل البعير: فطرنا به أي انشقّ، فهو بازل ذكراً كان أو اُنثى، وذلك في السنة التاسعة، وربّما بزل في السنّة الثامنة].

فتيقاً [ جمل فتيق: إذا انفتق سمناً، وفي بعض النسخ: فنيقاً - بالنون - والفنيق: الفحل المكرّم].

مشرفاً عالياً في الهواء، فسار حتّى نزل مدينة دمشق، فسأل عن قوّاد معاوية، فقيل له: مَن تُريد منهم؟ فقال: اُريد جَروَلاً [ الجرول - كجعفر -: الحجارة].

وجهضماً [ الجهضم: الضخم الهامة، المستدير الوجه، والرحب الجنبين، الواسع الصدر].

وصلادة [ صلد يصلد - كشرف يشرف -: بخل، وصلد: أي صلب، ورجل صلد: أي بخيل].

وقلاوة، وسوادة وصاعقة [ ولعلّه أراد بتلك الأسماء خواصّ معاوية أو خدمه، ويكون ذلك نبزاً واستهزاءً بهم، أو الجرول صفة أبي المنايا، والجهضم صفة أبي الحتوف،وهلمّ جرّاً].

أبا المنايا، وأبا الحتوف، وأبا الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وشمر بن ذي الجوشن، والهدى بن محمّد بن الأشعث الكندي؟

فقيل: إنّهم يجتمعون عند باب الخضراء، فنزل وعقل بعيره وتركهم حتّى اجتمعوا فركب إليهم، فلمّا بصروا به قاموا إليه يهزؤون به، فقال واحد منهم، يا أعرابي، أعندك خبرٌ من السماء؟ قال: نعم، جبرئيل في السماء، وملك الموت في الهواء، وعليّ في القضاء. فقالوا له: يا أعرابي، من أين أقبلتَ؟ قال: من عند التقيّ النقيّ إلى المنافق الرديّ، فقالوا: يا أعرابي، فما تنزل إلى الأرض حتّى نشاورك؟ قال: واللَّه ما في مشاورتكم بركة، ولا مثلي يشاور أمثالكم. قالوا: يا أعرابي فإنّا نكتب إلى يزيد بخبرك - وكان يزيد يومئذٍ وليُّ عهدهم - فكتبوا إليه: أمّا بعد يا يزيد، فقد قدم علينا من عند عليّ بن أبي طالب أعرابي له لسان يقول فيما يملّ، ويكثر فما يكلّ، والسلام.

فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أمر أن يهوّل عليه، وأن يقام له سماطان بالباب بأيديهم أعمدة الحديد، فلمّا توسّطهم الطرماح، قال: مَن هؤلاء كأنّهم زبانية مالك، في ضيق المسالك، عند تلك الهوالك؟

قالوا: اُسكت هؤلاء أعدّوا ليزيد، فلم يلبث أن خرج يزيد، فلمّا نظر إليه، قال: السلام عليك يا أعرابي، قال: اللَّه السلام المؤمن المهيمن، وعلى ولد أمير المؤمنين. قال: إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام. قال: سلامه معي من الكوفة. قال: إنّه يعرض عليك الحوائج، قال: أمّا أوّل حاجتي إليه فنزع روحه بين جنبيه، وأن يقوم من مجلسه حتّى يجلس فيه من هو أحقّ به وأوْلى منه. قال له: يا أعرابي، فإنّا ندخل عليه فما فيك حيلة، قال: لذلك قدمت، فاستأذن له على أبيه، فلمّا دخل على معاوية، نظر إلى معاوية والسرير، قال: السلام عليك أيّها الملك. قال: وما منعك أن تقول: يا أمير المؤمنين؟ قال: نحن المؤمنون فمن أمرك علينا؟ فقال: ناولني كتابك، قال: إنّي لأكره أن أطأ بساطك. قال: فناوله وزيري. قال: خان الوزير وظلم الأمير. قال: فناوله غلامي. قال: غلام سوء اشتراه مولاه من غير حلّ، واستخدمه في غير طاعة اللَّه. قال: فما الحيلة يا أعرابي؟ قال: ما يحتال مؤمن مثلي لمنافق مثلك، قُم صاغراً فخذه، فقام معاوية صاغراً، فتناوله ثمّ فضّه، وقرأ ثمّ قال: يا أعرابي كيف خلّفتَ عليّاً؟ قال: خلّفته واللَّه جلداً، حريّاً، ضابطاً، كريماً، شجاعاً، جواداً، لم يلق جيشاً إلا هزمه، ولا قرناً إلا أرداه، ولا قصراً إلا هدمه. قال: فكيف خلّفتَ الحسن والحسين؟ قال: خلّفتهما عليهماالسلام صحيحين، فصيحين، كريمين، شجاعين، جوادين، شابّين، طريّين مصلحين للدنيا والآخرة. قال: فكيف خلّفت أصحاب عليّ؟ قال: خلّفتهم وعليّ عليه السلام بينهم كالبدر وهم كالنجوم، إن أمرهم ابتدروا، وإن نهاهم ارتدعوا.

فقال له: يا أعرابي ما أظنّ بباب عليّ أحداً أعلم منك. قال: ويلك استغفر ربّك وصم سنة كفّارة لما قلت، كيف لو رأيت الفصحاء الاُدباء النطقاء، ووقعت في بحر علومهم لغرقتَ يا شقيّ. قال: الويل لاُمّك. قال: بل طوبى لها ولدت مؤمناً يغمز منافقاً مثلك. قال له: يا أعرابي، هل لك في جائزة؟ قال: أرى استنقاص روحك، فكيف لا أرى استنقاص مالك [ في بعض نسخ الحديث: 'استقباض روحك من جسدك فكيف باستقباض مالك'].

فأمر له بمائة ألف درهم.

قال: أزيدك يا أعرابي؟ قال: أسديداً سُد أبداً [ في البحار: أعطه نعمة تكون أبداً سيّداً للقوم، وفي بعض النسخ: 'سديداً، سديداً'].

فأمر له بمائة ألف اُخرى، فقال: ثلّثها فإنّ اللَّه فرد، ثمّ ثلّثها. فقال: الآن ما تقول؟ فقال: أحمدُ اللَّه واُذمُّكَ، قال: ولِمَ ويلك؟ قال: لأنّه لم يكن لك ولا لأبيك ميراث، إنّما هو من بيت مال المسلمين أعطيتنيه. ثمّ أقبل معاوية على كاتبه فقال: اُكتب للأعرابيّ جواباً فلا طاقة لنا به. فكتب: أمّا بعد يا عليّ فلأوجهنّ إليك أربعين حملاً من خردل مع كلّ خردلة ألف مقاتل، يشربون الدجلة ويسقون الفرات، فلمّا نظر الطرمّاح إلى ما كتب به الكاتب، أقبل على معاوية، فقال له: سوءة لك يا معاوية، فلا أدري أيّكما أقلُّ حياءً أنت أم كاتبك؟ ويلك لو جمعتَ الجنّ والإنس وأهل الزبور والفرقان كانوا لا يقولون بما قلت. قال معاوية: ما كتبه عن أمري.

قال: إن لم يكن كتبه عن أمرك فقد استضعفك في سلطانك، وإن كان كتبه بأمرك فقد استحييتُ لك من الكذب، أمِن أيّهما تعتذر ومن أيّهما تعتبر؟ أما إنّ لعليّ صلى الله عليه و آله دِيكاً أشتراً، جيّد العنصر يلتقط الخردل لجيشه وجيوشه، فيجمعه في حوصلته. قال معاوية: ومَن ذلك يا أعرابي؟ قال: ذلك مالك بن الحارث الأشتر، ثمّ أخذ الكتاب والجائزة وانطلق به إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأقبل معاوية على أصحابه، فقال: نرى لو وجهتكم بأجمعكم في كلّ ما وجّه به صاحبه ما كنتم تؤدُّون عنّي عُشرَ عشير ما أدّى هذا عن صاحبه. [ الاختصاص: 138].

 

معاوية يستميل أبا اُمامة الباهلي بالإكرام ليردّه عن محبّة عليّ

روى المحدّث القمّي في "السفينة": أنّه دخل أبو اُمامة الباهلي على معاوية فقرّبه وأدناه، ثمّ دعا بالطعام فجعل يطعم أبا اُمامة بيده، ثمّ أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده، وأمر له ببدرة من دنانير فدفعها إليه، ثمّ قال: يا أبا اُمامة، باللَّه أنا خيرٌ أم عليّ بن أبي طالب؟ فقال أبو اُمامة: نعم، ولا كذب، ولو بغير اللَّه سألتني لصدقتُ، عليّ واللَّه خير منك، وأكرم وأقدم إسلاماً، وأقرب إلى رسول اللَّه قرابة، وأشدّ في المشركين نكاية، وأعظم عند الاُمّة عناءً، أتدري مَن عليّ عليه السلام يا معاوية؟ ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وزوج ابنته سيّدة نساء العالمين، وأبو الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، وابن أخي حمزة سيّد الشهداء، وأخو جعفر ذي الجناحين، فأين تقع أنت من هذا، يا معاوية، أظننت أنّي ساُخيّرك على عليّ عليه السلام بألطافك وطعامك وعطائك، فأدخل إليك مؤمناً، وأخرج منك كافراً، بئسما سوّلت لك نفسك يا معاوية، ثمّ نهض وخرج من عنده فأتبعه بالمال، فقال: لا واللَّه لا أقبل منك ديناراً واحداً. [ سفينة البحار 669:1].

معاوية يستميل ابا الأسود الدؤلي

قال المحدّث القمّي أيضاً في وصف أبي الأسود الدؤلي: أنّه أحد الفضلاء الفصحاء من الطبقة الاُولى من شعراء الإسلام وشيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان من سادات التابعين وأعيانهم، صحب عليّاً عليه السلام وشهد معه وقعة صفّين، وهو بصريّ يعدّ من الفرسان والعقلاء، وله نوادر كثيرة منها: روي أنّ معاوية أرسل إليه هدية، منها حلواءٌ يُريد بذلك استمالته وصرفه عن حبّ عليّ عليه السلام، فدخلت ابنة صغيرة له خماسيّ أو سداسي [ كذا في المصدر، والظاهر خماسيّة أو سداسيّة].

عليه، فأخذتْ لقمة من تلك الحلواء، وجعلتها في فمها، فقال لها أبو الأسود: يا بنتي، ألقيه، فإنّه سمّ، هذه حلواءٌ أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين عليه السلام، ويردّنا عن محبّة أهل البيت عليهم السلام.

فقالت الصبيّة: قبّحه اللَّه يخدعنا عن السيّد المطهّر بِالشهد المزعفر؟! تبّاً لمرسله وآكله، فعالجت نفسها حتّى قاءت ما أكلته، ثمّ قالت:

أبا لشهد المزعفر يابن هند*** نبيع عليك إسلاماً ودينا

معاذ اللَّه كيفَ يكونُ هذا*** ومولانا أميرُ المؤمنينا

[ سفينة البحار 669:1، مادة 'سود'].

 

عشرة من أصحابه بين يدي معاوية

أخرج القندي الحنفي في "أشعة الأنوار في فضل حيدر الكرّار" بسنده: لمّا اجتمع النّاس إلى معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد بن سميّة، وكان عامله بالكوفة: أوفد علَيَّ أشراف أصحاب عليّ بن أبي طالب ولهم الأمان، وليكونوا عشرة نفر: خمسة من أهل الكوفة وخمسة من أهل البصرة، فلمّا ورد عليه الكتاب بعث إلى حجر بن عديّ، وعديّ بن حاتم الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وهاني بن عروة المرادي، وعامر بن واثلة الكناني - وكان يكنّى بأبي الطفيل - ودعاهم | أن| تجهّزوا إلى أمير المؤمنين، فقد جعل لكم الأمان وأحبّ رؤيتكم.

وكتب إلى خليفته بالبصرة أن أوْفِدْ إلَيَّ الأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، وحارثة بن قدامة السعدي، وخالد بن معمر السدوسي، وشريك بن الأعور، فلمّا قدموا عليه أشخصهم جميعاً إلى معاوية، فلمّا قدموا على معاوية حجبهم يومهم وليلتهم، وبعث إلى رؤوساء الشام، فلمّا جاءوا وأخذوا مجالسهم قال معاوية لصاحب إذنه:

أدخل علَيَّ حجر بن عديّ، فلمّا دخل وسلّم، قال له معاوية: يابن الأدبر، القبيح المنظر، أنت القاطع منّا الأسباب، والملتمس بحربنا الثواب، والمساعد علينا أبا تراب؟

فقال حجر: صه - يا معاوية - لا تذكر رجلاً كان للَّه خائفاً، ولما يسخطه عائفاً، وبما يرضي اللَّه عارفاً، خميص الضلوع، طويل الركوع، كثير السجود، ظاهر الخشوع، قليل الهجوع، قائماً بالحدود، طاهر السريرة، محمود السيرة، نافذ البصيرة، ملك أمرنا فكان كبعضنا، لم يبطل حقّاً ولم يظلم أحداً... ثمّ بكى حتّى نشج، ثمّ رفع رأسه، فقال: أمّا توبيخك إيّاي فيما كان من نفسي، فاعلم - يا معاوية - أنّي غير معتذر ا ليك ممّا فعلت، ولا مكترث ممّا صنعت، فاعلن بسرّك وأظهر أمرك. فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي، ثمّ قال معاوية لصاحب اذنه: وأدخل علَيَّ عمرو بن الحمق الخزاعي، فلمّا دخل عليه قال له معاوية: يا أبا خزاعة، فارقت الطاعة، وأشهرت علينا سيفك، وأهديت إلينا حيفك، فأطلت الإعراض، وشتمت الأعراض، ودلاك بغرور جهلك المحذور، فكيف رأيت صنع اللَّه بصاحبك؟

قال الراوي: فبكى عمرو حتّى سقط لوجهه، فرفعه الشرطي، فقال: يا معاوية بأبي اُمّي مَن ذكرت وتَنَقَّصْت، كان - واللَّه - العالم بحكم اللَّه، والمجدّ في طاعة اللَّه، المحدود في غيظ اللَّه، الزاهد في الفانية، الراغب في الباقية، لا يظهر منكراً، ولا يظهر تجبّراً، يعمل بما يرضي اللَّه عنه، إلى أن قال: فقد مزّقنا فقده، وتمنّينا الموت بعده. فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ عدي بن حاتم الطائي، فلمّا دخل عليه قال له معاوية: ما أبقى الدهر من ذكر عليّ بن أبي طالب؟ فقال عديّ: فهل رعى إلا ذكره؟

قال معاوية: وكيف حبّك له؟ فتنفّس الصعداء وقال: حبّي واللَّه جديد لا يبيد، وقد تمكّن من شِغاف الفؤاد إلى يوم المعاد، وقد امتلأ من حبّه صدري، وفاض في جسدي وفكري.

فقال المأمون: يا أمير المؤمنين، أصبح عديّ بعد صفّين ذليلاً، فبكى عديّ رضى الله عنه وأنشأ يقول:

يجادلني معاوية بن حرب*** وليس إلى الّذي يبغي سبيل

يذكّرني أبا الحسن عليّاً*** وخطبي في أبي حسن جليل

إلى آخر أشعاره.

فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ عامر بن واثلة - وكان يُكنّى أبا الطفيل - فلمّا دخل عليه رحّب به معاوية، فقال أصحابه: مَن هذا الّذي رحّبت به، يا أمير المؤمنين؟ فقال معاوية: هذا خليل أبي تراب، وفارس أهل العراق وشاعرهم يوم صفّين. فقالوا: ألأم فارس، وأفحش شاعر، ونالوا منه، فغضب أبو الطفيل وقال: أما واللَّه - يا معاوية - ما هؤلاء سبّوني، ولا أدري مَن هم، وإنّما أنت شتمتني، فأخبرني مَن هم؟ وإلا - وحقّ عليّ - شتمتك، فقال معاوية: هذا عمرو بن العاص، وهذا مروان بن الحكم، وهذا سعيد بن العاص وهذا ابن اُختي.

فقال أبو الطفيل: أمّا عمرو فأنطقته جباية مصر، وأمّا مروان وسعيد فأنطقتهما جباية الحجاز، وأمّا ابن اختك فقد وهبتُه لك.

فقال معاوية: يا أبا الطفيل، ما أبقى الدهر لك من حبّ عليّ عليه السلام؟ قال: واللَّه حبّ اُمّ موسى لموسى، وأشكو إلى اللَّه التقصير، قال: فما أبقى اللَّه لك الدهر من وجدك عليه؟ قال: وجد العجوز المقلاة والشيخ الرؤوف، قال: فما بقي من بغضك لنا؟ قال: بغض آدم لإبليس لعنه اللَّه. فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ هاني بن عروة المرادي، فلمّا دخل قال له معاوية: يا هاني، أأنت المائل مع عليّ بن أبي طالب، والمحارب للمسلمين مع عليّ يوم صفّين؟

فقال له هاني: أنّى لك - يا معاوية - بالشرف الشامخ، والمجد الباذخ، وما كنتم إلا شطيّة يخطفها العرب، حتّى بعث محمّد صلى الله عليه و آله، فلانَ له العباد في جميع البلاد، وأمّا خروجي عليك - يابن هند - فغير متعذر إليك منه، ولو كنت رأيتك ذلك اليوم لنفذت رمحي بين حضنيك! واللَّه ما أحببناك مذ أبغضناك، ولا بعنا السيوف الّتي بها ضربانك، فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ صعصعة بن صوحان، فلمّا دخل عليه نظر فإذا الرجال عليهم السلاح وقوف، ومعاوية جالس على سريره، فقال صعصعة: سبحان اللَّه! ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، يرفع بها صوته، فالتفت معاوية يمنة ويسرة، فلم يرَ شيئاً يفزعه، فقال: يا صعصعة، أظنّك تدري ما اللَّه؟ فقال: بلى، واللَّه - يا معاوية - ربّنا وربّ آبائنا الأوّلين، وإنّه لبالمرصاد من وراء العباد. فقال معاوية: يا صعصعة، ما كنت أحبّ أن تقوم هذا المقام حتّى يصيبك ظفر من أظفاري. قال: وأنا يا - معاوية - لقد أحببت أن لا اُحيّيك بتحيّة الخلافة حتّى تجري مقادير اللَّه فيك. فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص، وقال: أوسع لصعصعة ليجلس إلى جانبك، فقال عمرو: لا واللَّه لا أوسعت له على ترابيّته.

فقال صعصعة: نعم واللَّه - يا عمرو - إنّي لترابي ومن عبيد أبي تراب، ولكنّك مارج من نار، منها خُلقتَ وإليها تعود، ومنها تبعث إن شاء اللَّه.

فقال معاوية: يا صعصعة، واللَّه إنّي هممتُ أن أحبس عطايا أهل العراق في هذه السنة. فقال صعصعة: واللَّه - يا معاوية - لو رمت ذلك منهم لدهمك مائة ألف أمرد، على مائة ألف أجرد، وصيّروا بطنك ميادين لخيولهم، وقطّعوك بسيوفهم ورماحهم، قال: فامتلأ معاوية غيظاً، وأطرق طويلاً، ثمّ رفع رأسه، وقال: لقد أكرمنا اللَّه حيث يقول لنبيّه: 'وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ' [ سورة الزخرف: 44].

ونحن قومه، وقال تعالى: 'لإِيلَافِ قُرَيشٍ' - إلى قوله: - 'وَآمَنَهُم مِن خَوْفٍ' [ سورة قريش: 4 - 1].

ونحن قريش، وقال تعالى لنبيّه: 'وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ' [ سورة الشعراء: 214].

ونحن عشيرته الأقربون. فقال صعصعة: على رسلك - يا معاوية - فإنّ اللَّه تعالى يقول: 'وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ' [ سورة الأنعام: 66].

وأنتم قومه، وقال تعالى: 'وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً' [ سورة الفرقان: 30].

"و أنتم قومه" ولو زدتَ زدناك يا معاوية، فافحمه. قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ خالد بن معمر السدوسي، فلمّا دخل قال له معاوية: يا خالد، لقد رأيتك تضرب أهل الشام بسيفك على فرسك الملهوف؟ فقال خالد - يا معاوية -: واللَّه ما ندمتُ على ما كان منّي، ولا زلت على عزيمتي أثني، ومع ذلك إنّي عند نفسي مقصّر، واللَّه المستعان والمدبّر.

فقال له معاوية: ما علمت - يا خالد - ما نذرت عند قومك في قومك؟ قال: لا، فقال: نذرتُ أن اُنذر مقاتلهم، وأسبي نساءهم، ثمّ اُفرّق بين الاُمّهات والأولاد فيبايعون، فقال خالد: وما تدري ما قلتُ في ذلك، قال: لا، قال: فاسمعه منّي، فأنشأ يقول:

يروم ابن هند نذره من نسائنا*** ودون الّذي يبغي سيوف قواضب

قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ جارية بن قدامة السعدي - وكان قصيراً - فلمّا دخل قال له معاوية: أركضتَ علينا الخيل يوم صفّين في بني سعد تمنّيهم الفتن، وتحملهم على قديمات الإحن مع قتلة أمير المؤمنين عثمان، وقاتلت اُمّ المؤمنين عائشة، وما أنت إلا جارية؟ فقال جارية: إنّ اللَّه فضّل على اسمك اسمي. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ جارية لا تكون إلا من أحياء العرب، والمعاوية لا تكون إلا من إناث الكلاب، وأمّا ما ذكرت من أمير المؤمنين عثمان، فأنتم خذلتموه وقتلتموه، والدار عند نازحة، وأمّا اُمّ المؤمنين عائشة فلمّا نظرنا في كتاب اللَّه عزّ وجلّ ولم نجد لها علينا حقّاً يلزمنا إلا أن تطيع ربّها وتقرّ في بيتها، فلمّا ألقت الجلابيب عن وجهها بطل ما كان لها علينا من حقّ، وأمّا ركضي الخيل عليك يوم صفّين فإنّما ذلك حيث أردت أن تقطع أعناقنا عطشاً فلم ننظر في عاقبة، ولم نخف جائحه، فثنينا الخيل مع أقدم النّاس إسلاماً، وأحسنهم كلاماً، وأعلمهم بكتاب اللَّه وسنّة نبيّه، حين أراد جهادك على بصيرة، وأنتَ على الحميّة الجاهليّة، فإن أردت نريك مثل ذلك اليوم، فخيلنا معدّة، ورماحنا محدّة. قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عنّي.

وأدخل علَيَّ شريكاً الحارثي، فلمّا دخل - وكان دميم المنظر - قال له معاوية: إنّك شريك وما للَّه شريك، وإنّك أعور والصحيح خير من الأعور، وإنّك لابن الأصفر والأبيض خير من الأصفر، وإنّك مخالف والمستقيم خيرٌ من المخالف، وإنّك لدميمٌ والجميل خير من الدميم، فكيف سدت قومك؟

فقال شريك: إنّك لمعاوية، وما معاوية إلا كلبة عَوَت فاستعوت فاستنبحتها الكلاب، فسمّيت معاوية، وإنّك لابن صخر والسهل خير من الصخر، وابن حرب والسلم خيرٌ من الحرب، وابن اُميّة وما اُميّة إلا اُمّة صغّرتها العرب، فكيف صرت أمير المؤمنين علينا! فأمر معاوية بإخراجه، وهو يقول:

أيشتمني معاوية بن حرب*** وسيفي صارم ومعي لساني

وحولي من بني عمّي رجال*** ضراغمة نهشّ إلى الطعان

يعيّر بالدمامة من سفاه*** وربّات الجمال من الغواني

قال: ثمّ نهض معاوية من مجلسه ودخل داره، وفي اليوم الثاني دعا بهم فاُحضروا وأكرمهم، وردّهم إلى أهليهم مكرّمين. [ أشعة الأنوار في فضل حيدر الكرّار: 314، والعاشر سقط من الحديث، وهو الأحنف بن قيس].