الإمام علي والخوارج

والله إنّي لعلى بيّنة من ربّي، ما كذبت ولا كذبت ولا ضللت ولا ضل بي.

الإمام علي

اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله

الإمام علي

أجل لقد كان الإمام علي مؤمناً بحقّه، واثقاً من أمره، ولو شكّ لحظة في حقّه لما قاتل أحداً ولا أراق قطرة من الدم! فلم يُعرف عنه أنّه وعد ونكث أو عاهد ونقض كما صنع بعض الذين بايعوه، وكثير من الذين عاهدوه!

فخلق مصفى ونفس مهذّبة فهل أدل على ذلك من قوله وهو يقلّب سيف الزبير الذي شهر لقتله فيقول والحزن يملأ قلبه: بشّر قاتل الزبير بالنار! سيف طالماً جلا الكرب عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!

أجل لم يعرف عن الإمام علي أنّه نقض عهداً أو نكث بوعد وقد نقض غيره العهود ونقضوا الوعود، فالهدنة التي منحوها (عثمان بن حنيف) داسوها وكادوا يبطشون بالرجل، لولا أنّه ذكرهم بأنّ أخاه سهل بن حنيف هو الذي يصرّف الأُمور في المدينة المنوّرة وإذا علم أنّهم اعتدوا عليه فلا شكّ أنّه سوف ينتقم من أقربائهم هناك، فخلّوا سبيله لكن بعد أن مثّلوا به ونتفوا لحيته مبالغة منهم في تحقيره، فتوجّه إلى علي وقال له بمنتهى المرارة النفسية ولكن بشيء من التهكّم: أرسلتني شيخاً فجئتك أمردا!

لقد كان هذا العمل الذي ليس فيه شيء من آداب الرجولة باعثاً على النقمة، مع هذا لم يكن الإمام علي يريد أن يقاتل القوم إذا كان هناك أي بصيص أمل في الصلح واتفاق الكلمة، لكنّه لم ير أي بصيص من الأمل فكان مضطرّاً أن يلبّي ما دعا إليه القرآن الكريم صراحة!

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (1).

لقد حاول أن يردّ القوم إلى صوابهم بالجدل والحجّة والمناظرة، وهو في كل ذلك يريد أن يجعل القرآن هو الحكم، لكنّ القوم الذين خرجوا، كانوا يجدون من الإشاعات المغرضة وما يحفزهم إلى الخروج على الإمام علي!

سمع الإمام علي أنّ الخوارج يشيعون الفساد في الأرض، إذ قتلوا (عبدالله بن خباب بن الارت) وهو من أفاضل الصحابة، وقتلوا نسوة كنّ مع عبدالله، وأشاعوا الذعر في نفوس الناس، فصمّم أن يسير لمحاربة هؤلاء الخوارج ليطمئنّ رجال الإمام علي إلى أنّ الفساد قد قضي عليه، فلا تضطرب نفوسهم خوفاً على أموالهم وأعراضهم من الخوارج.

فسار الإمام علي ورجاله إلى النهروان فلمّا صاروا وجهاً إلى وجه مع الخارج، طلب منهم الإمام علي قتلة (عبدالله بن خباب بن الارت) وقتلة رسوله إليهم، فكان جوابهم يتّسم بالإصرار على الإجرام والإفساد بعناد: كلنا هؤلاء القتلة، لم يتسرّع الإمام بل وعظهم مشافهة وكتابة فلم يزدادوا إلّا اصراراً على غيّهم، بزعامة (عبدالله بن وهب الراسي)، أجل لم يزدد هذا العدد الذي بقي من الخوارج مع عبدالله إلّا عنفاً وعناداً، مع هذا لم يبدأهم الإمام بالقتال، إلى أن يقاتلوا، وفيما هو يتريّث ويضبط نفسه إذا هو يسمع هؤلاء الخوارج ينادي مناديهم فيهم: هل من رائح إلى الجنّة؟ فيرد عليه كلّهم: الرواح إلى الجنة! فيهجم هؤلاء الخوارج على خيل الإمام علي فتنفرج عنهم الخيل مذعورة ثم تعود الخيل إلى روعها وتجول في الميدان ساعة يُسحق فيها الخوارج وزعيمهم كأنّما قد قال الله بيدوا فبادوا، وكان بهم الإمام علي أن يكون في القتلى ذو الثدية فلمّا بُشّر الإمام بقتله سجد الإمام عليّاً هو ومن حوله، ثم رفع رأسه قائلاً: والله ما كذبت ولا كذب، ولقد قتلتم شرّ الناس!

لكن إبادة الخوارج زرعت في قلوب عشائرهم الحقد والنقمة.

 

حديث الغدير

جاء في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

قال المفيد: لمّا قضى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نسكه، وأشرك عليّاً في هديه قفل إلى المدينة وهو معه والمسلمون، حتى انتهى إلى الموضع المعروف (بغدير خم) وكان قريباً من الجحفة بناحية رابغ ـ وذلك يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة، وليس بموضع إذ اك يصلح للنزول، لعدم الماء فيه والمرعى، فنزل في الموضع، ونزل المسلمون معه، وكان سبب نزوله في هذا المكان، نزول القرآن عليه بنصبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خليفة في الأُمة من بعده، وقد كان تقدّم الوحي إليه في ذلك من غير توقيت له، فأخره لحضور وقت يأمن فيه الإختلاف منهم عليه، وعلم الله عزّوجلّ أنّه إن تجاوز غدير خم انفصل عنه كثير من الناس إلى بلدانهم وأماكنهم وبواديهم فأراد أن يجعهم لسماع النص على أميرالمؤمنين وتأكيد الحجة عليهم فيه فأنزل الله عليه: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (2) يعني في استخلاف علي والنص بالإمامة عليه: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (3) فأكّد الفرض عليه بذلك وخوّفه من تأخير الأمر فيه وضمن له العصمة، ومنع الناس منه، فنزل بذلك المكان، ونزل المسلمون حوله، وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ، فأمر بدوحات هناك، فقم ما تحتها وأمر بجمع الرحال، ووضع بعضها فوق بعض ثم أمر مناديه فنادى في الصلاة (الصلاة جامعة) فاجتمعوا من رحالهم، وإنّ أكثرهم ليلفّ رداءه على قدميه من شدّة الحرّ، فلمّا اجتمعوا صعد على تلك الرحال، حتى صار في ذروتها وأصعد عليّاً معه حتى قام عن يمينه، ثم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ في الموعظة، ونعى إلى الأُمة نفسه، وقال: (إنّي قد دعيت ويوشك أن أُجيب، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) ثم نادى بأعلى صوته: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟) قالوا: بلى!

فقال لهم على النسق وقد أخذ بضبعي أميرالمؤمنين (عليه السلام) فرفعهما، حتى بان بياض إبطيهما(4) فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، ثم نزل فصلى ركعتين، ثم زالت الشمس فصلّى بهم صلاة الظهر، وجلس في خيتمه وأمر عليّاً أن يجلس في خيمة له بازائه، وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً فيهنئوه بالمقام، ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلهم، ثم أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين ممّن معه أن يدخلن عليه، ويسلمن عليه بإمرة المؤمنين ففعلن، وكان فيمن أطنب في تهنئته بالمقام، وأظهر له المسرّة عمر بن الخطاب، وقال له فيما قال بخ بخ لك يا علي! أصبحت مولاي، ومولى كل مؤمن ومؤمنة، واستأذن حسّان بن ثابت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول في ذلك ما يرضاه الله فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

 

بخم وأسمع بالرسول مناديا!

وهي ستة أبيات ذكرها المؤلّف في الجزء الثاني من كتابه.

فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تزال يا حسّان مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك، وإنّما اشترط في الدعاء له لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق. انتهى المراد نقله.

ولمّا قامت الدولة الفاطمية في الديار المصرية أضفى الفاطميون على عيد الغدير فخامةً وجلالاً، يصغر دونه كل جلال، حتى كانوا يعدّون هذا العيد أعظم من عيد النحر، وكان اهتمام المعز بهذا اليوم كبيراً، حتى أنّه كان يخرج إلى قنطرة المقسّ ويعرض الاسطول ويعوّذه ويباركه ويدعو له.

ونحن لا نتعرّض للخلافات التي نشأت بهذا الشأن، لكن مهما ينكر المنكرون فإنّهم لا يستطيعون أن ينفوا حبّ النبي لعليّ، وإيثاره إيّاه.

ومهما ينكر المنكرون فإنّهم لا يستطيعون أن ينفوا تقديس الشيعة لهذه الذكرى، وتعظيم الشيعة لهذه الذكرى له مغزاه!

وإذا رجعنا إلى الأدب نستنطقه نجد فيه مادة خصبة هي سند، لحقيقة هذه الذكرى، ولكونها بقيت حيّة في نفوس الشيعة في كل عصر وأوان.

ونحن لا نزجّ قلمنا في الخلافات، لكنّ القول المأثور: (لا دخان بلا نار) يميل بنا إلى الأخذ بروايات أهل البيت، وترجيحها على غيرها، ولا سيّما أنّ شعراء الشيعة قديماً وحديثاً قد أكثروا من تخليد هذه الذكرى!

قال الكميت بن زيد الأسدى:

ويوم الدوح دوح غدير خم

ولكنّ الرجال تبايعوها

 

أبان له الولاية لو اطيعا

فلم أر مثلها خطراً منيعا

وممّا قاله السيد الحميري:

وأوجب يوماً بالغدير ولاءه

لدى دوح خم آخذا بيمينه

يوافيه بالركبان من كل بلدة

 

على كل برّ من فصيح وأعجم

ينادي حبيباً باسمه لم يجمجم

لقد ضلّ يوم الدوح من لم يسلّم

وقال السيد الحميري:

ونجم إذ قال الإله بعزمه

وانصب أبا حسنٍ لقومك إنّه

فدعاه ثم داهم فأقامه

جعل الولاية بعده لمهذّب

 

قم يا محمد في البرية فاخطب

هاد وما بلّغت إن لم تنصب

لهم فبين مصدّق ومكذّب

ما كان يجعلها لغير مهذّب!

وقال:

وقام محمد بغدير خم

ألا من كنت ـ مولاه فهذا

إلهي عادِ من عادى عليّاً

 

فنادى معلناً صوتاً بديّا

له مولى وكان به حفيّا

وكن لوليّه مولى وليّا!

وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدة له:

ويوم الغدير استوضح الحقّ أهله

أقام رسول الله يدعوهم بها

يمد بضبعيه ويعلم أنّه

 

بفيحاء لا فيها حجاب ولا ستر

ليقربهم عرف وينآهم نكر

ولي ومولاكم فهل لكم خبر؟

وقال الأمير أبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني من قصيدته الشافية:

قام النبي بها يوم الغدير لهم

تالله ما جهل الأقوام موضعها

حتى إذا أصبحت في غير صاحبها

 

والله يشهد والأملاك والأُمم!

لكنهم ستروا وجه الذي علموا!

باتت تنازعهاالذؤبان والرخم!

ونختم هذا الفصل بقول تميم بن المعزّ من قصيدة:

ليس عباسكم كمثل علي

من له الفضل والتقدّم في

من له الصهر والمواساة والنصـ

من رعاه النبي خدناً وسمّا

من له قال: (أنت منّي كهارو

ثم يوم الغدير ما قد علمتم

من له قال: (لا فتى كعليّ

وبمن باهل النبي أأنتم؟

أبعبد الإله(5) أم بحسين

يا بني عمّنا ضللتم وطرتم

 

هل تقاس النجوم بالأقمار

الإسلام والناس شيعة الكفّار

رة والحرب ترتمي بشرار

ه أخاً في الخفاء والإظهار

ن وموسى أكرم به من نجار

خصّه دون سائر الحُضار

لا ولا منصل سوى ذي الفقار!

جهلاء بواضح الأخبار؟

وأخيه سلالة الأطهار

عن سبيل الإنصاف كل مطار

وقد قال من قصيدة يفتخر على بني العباس:

أقرّوا لنا يا آل عباس بالعلا

سبقناكم للدين، والهجرة التي

وكنتم بني عمّ النبي محمد

وليس بنو أعمامه في دنوهم

نباجدّكم عن نصره يوم بعثه

 

فلستم لها يا آل عباس أكسبا!

تأخّر عنها جدّكم وتحجّبا

وكنّا بنيه وهو كان لنا أبا

كمثل بنيه، خلطة وتنسّبا

وجدّ عليّ جدّنا عنه ما نبا!

ونقف عند هذا الحدّ ولعل فيه الكفاية.

 

أُسرة الإمام علي

تزوّج الإمام علي فاطمة الزهراء، وهي أُولى زوجاته، ولم يتزوّج عليها حتى توفّيت عنده، وكان له منها:

أ ـ الحسن.

ب ـ الحسين.

ج ـ زينب الكبرى.

د ـ وأُم كلثوم الكبرى.

وبعد وفاة فاطمة الزهراء تزوّج (أُمامة) بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وأُمّها زينب بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم تزوّج أُمّ البنين بنت حرام بن دارم الكلابية.

وتزوّج ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلية التميمية الدارجة.

وتزوّج أسماء بنت عميس الخثعمية، وكانت زوجاً لجعفر بن أبي طالب فقتل عنها، ثم تزوّجها أبو بكر، فتوفي عنها، ثم تزوجها أميرالمؤمنين.

وتزوّج أُمّ حبيب بنت ربيعة التغلبية، واسمها الصهباء، من السبي الذين أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر.

وتزوّج خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة الحنفية ـ وقبل خولة بنت أياس ـ

وتزوّج أُم سعد أو سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفية.

وتزوّج مخباة بنت امرئ القيس بن عدي الكلبية.

وقد بلغ عدد أبنائه وبناته ثلاث وثلاثين، وقد تقصى هذه النقطة بالبحث الدقيق الإمام السيد محسن الأمين في كتابه النفيس.

وقد خالف الخضري ترتيب زوجاته هذا، وأورد اسم حرام ، حزام، ومخباة محياة.

 

مثال في الزهد

ظهر الإمام علي (عليه السلام) مثالاً يحتذى في الزهد، ففي أعظم فرحة للرجل ـ يوم زواجه بمن يحبّ، يهمّه أن يظهر من البذخ منتهاه.

لكنّ الإمام علي الفارس، كان يشعر أنّ في نفسه كنوزاً من العظمة الحقيقية التي تغنيه وتغني عروسه الفضلى عن كل بهرجة وتزييف!

فخطبة النبي هذه المناسبة يعدّها الإمام أعظم من كل زينة، وأسمى من كل بهرجة وزخرفة: (خطبة النبي):

الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع بسلطانه، المرهوب من عَذابه، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميّزهم بأحكامه، وأعزّهم بدينه، وأكرمهم بنبيّه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم إنّ الله جعل المصاهرة نسباً لاحقاً، وأمراً مفترضاً، وشج بها الأرحام، وألزمها الأنام، فقال تبارك اسمه وتعالى جدّه: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً )(6).

ثم إنّ الله أمرني أن أُزوّج فاطمة من علي وإنّي أشهد أنّي قد زوّجتها إيّاه على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت؟

قالت: رضيت يا رسول الله، ثم خرّ ساجداً.

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : بارك عليكما، وبارك فيكما، وأسعد جدّكما وجمع بينكما، وأخرج منكما الكثير الطيّب!

أمّا خطبة علي عند تزويجه بفاطمة:

الحمد لله الذي قرب حماديه، ودنا من سائليه، ووعد الجنّة من يتّقيه، وأنذر بالنار من يعصيه، نحمده على قديم إحسانه وأياديه، حمد من يعلم أنّه خالقه وباريه ومميته ومحييه، وسائله عن مساويه ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونستكفيه، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة تبلغه وترضيه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزلفه وتحظيه وترفعه وتصطفيه، وهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوجني ابنته فاطمة على خمسمائة درهم، فاسألوه واشهدوا.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): قد زوّجتك ابنتي فاطمة على ما زوّجك الرحمن، وقد رضيت بما رضي الله، فنعم الختن أنت، ونعم الصاحب أنت، وكفاك برضى الله.

فنرى أنّ الإمام عليّاً كان مثالاً في الزهد، وأنّ عروسه لم تقل عنه زهداً في الذي تشره إليه نفس المرأة من الزخارف والزينات في مثل هذه المناسبات!

وجاء دور الجهاز، فقسّم المهر ثلاثة أثلاث:

أ ـ ثلث ينفق في الطيب.

ب ـ ثلث ينفق في الثياب.

ج ـ وثلث ينفق في أثاب البيت.

فخمار ثمنه أربعة دراهم، وقميص بسبعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية(7) وسرير مزمل(8) بشريط(9) وفراشان من خيش مصر(10) حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من صوف الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف(11) حشوها اذخر(12) وستر رقيق من صوف وحصير هجري ـ مصنوع في هجر، وهي قرية بالبحرين ـ ورحى لليد، ومخضب من نحاس ـ إناء لغسل الثياب ـ وسقاء من أدم ـ قرية صغيرة ـ وقعب ـ قدح من خشب للبن، وشن للماء ـ قربة صغيرة عتيقة لتبريد الماء ـ ومطهرة ـ إناء يتطهر به ـ .

مزفتة وجرّة خضراء وكيزان خزف، وقطع من أدم(13) وعباءة قطوانية(14) وقربة للماء.

فلمّا وضع ذلك بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل يقلبه بيده ويقول: اللّهمّ بارك لأهل البيت، وفي رواية أنّه بكى، وقال: اللّهمّ بارك لقوم آنيتهم الخزف.

ونحن نميل إلى الأخذ بالرواية الثانية لما نعرف من الحنوّ الأبوي الذي يلامس قلب الأب في مثل هذه الأحوال!

والنبي أب فاطمة أحبّ الناس إليه، فكيف لا تسخو دموعه في هذا الموقف!

أمّا الإمام علي فجهّز داره بأن نصب خشبة من حائط إلى حائط، وبسط اهاب كبش، ومخدة ليف، وقربة ومنخل ومنشفة وقدح.

هذا هو الإمام علي في يوم عرسه!

هذا هو أسد الإسلام وقديسه.

ينظر الدنيا في اليوم الذي تستهوي فيه الناس الدنيا، بأنّها هي وكل مجدها وزخارف مجدها باطل وقبض الريح!

وفي هذه اللحظة التي تنسى نفسه، لا نسى الإمام علي وهو في ميعة شبابه أنّه أعظم من كل زخرف، وأنّ نفسه الكبيرة أكبر من كل متاع زائل وزخرف زائف!

 

الإمام المعلّم والمؤدِّب

 

ما زال التاريخ يعظّم من شأن (مرقس اوبريلس) من أجل نواحي الإنسانية التي تنطوي عليها نفسه، ولأنّه كان مع دفاعه عن انبراطوريته لم يغفل عن تسجيل خواطره(15)!

لكن أين الفيلسوف الروماني هذا من الإمام المعلّم والمؤدّب؟

فكل الحروب والفتن التي واجهت الإمام عليّاً، لم تصرفه عن تأديب الأمة وتعليمها، فقد كان يقيم للناس صلاتهم، ويعظهم ويفقّههم في الدين وينير لهم طريق الدين مبيناً لهم ما يحبّ الله من المسلم وما يكره.

كان يجلس لهم في المسجد يحاورهم في امورهم، ويجيب السائلين عن كل ما يهمهم من أُمور دينهم ودنياهم.

كان واعظاً بلسانه، قدوة حسنة بأعماله.

كان يسير في الأسواق يأمر الناس بتقوى الله، وكان ينادي بأعلى صوته: (اتقوا الله وأوفوا الكيل والميزان، ولا تنفخوا في اللحم).

وكان يستخدم الدرّة في التأديب، إذا رأى من الناس انحرافاً عن جادة الصواب في البيع والشراء! والحديث: كان للسوق آداب عند الإمام علي، فإذا اعتذر أهل التمدّن الحديث عن تأديب الناس في الأسواق العامة نهضت لهم سيرة الإمام لتؤدّبهم وتعلّمهم أنّ الحكّام مسؤولون عن تأديب الرعية.

ولمّا رأى أنّ الدرّة عجزت عن تأديب المنحرفة نفوسهم، استعمل الخيزرانة لأنّها أشدّ إيلاماً لمن لا يريد أن يرعوي!

وكثيراً ما قال للنبلاء وللعامّة: إنّي لأعرف ما يصلحكم، ولكن لا أُصلحكم بفساد نفسي(16).

كان الإمام الفارس البطل، الذي لم يُغلب في مبارزة خصم، مهذّب النفس، إنساني النزعة، مطبوعاً على الحلم والوداعة وسماحة النفس، لذا لم تسمح إنسانيته أن يجلد الناس بالسوط، خشية أن تذهب به الغيرة على حدود الله، والتأديب والتهذيب إلى القسوة!

كان إذا أراد أن يشتري شيئاً بنفسه تحرّى بين السوقة رجلاً لا يعرفه فاشترى منه ما يريد، كراهية أن يحابه البائع إذا عرف أنّه أميرالمؤمنين، وهرباً بنفسه عن غرور الإمارة، لأنّه كان يعلم أنّ للسلطة سكرة وإغراء!

خرج مرة من داره فرأى جمهوراً ضخماً يزدحم على بابه، فشقّ الجميع، وهو يتلمس طريقه بينهم بالدرة، حتى انتهى إلى بعض أصحابه فسلّم عليه ثم قال: إنّ هؤلاء ليس فيهم خير، لقد كنت أظنّ أنّ الأُمراء يظلمون الناس، فقد علمت أنّ الناس يظلمون الأُمراء!

كان دقيق المحاسبة لنفسه، فكان يقوم بنفسه لإطعام الفقراء طعام العشاء، كان يبحث عن ذوي الحاجة فيغنيهم عن المسألة، لأنّه لم يكن ليرضى لأحد من عباد الله أن يذلّ نفسه لأحد مخلوقات الله!

كان يقسم في الناس كل ما يرد إليه، فإذا قلّ العطاء اعتذر إليهم قائلاً :

إنّ الشيء ليرد علينا فنراه كثيراً، فإذا قسّمناه رأيناه يسيراً!

هذا الإمام العظيم، يخجل من عطاء القليل، مع أنّه لم يفضّل نفسه في العطاء على أحد من رعيته!

أجل الإمام المعلّم، عرف بصفاء فطرته أنّ الناس لا يحرصون على شيء حرصهم على المساواة، فكان شديد الإهتمام بهذه الناحية.

جاءته امرأتان تسألانه وتبيّنان له فقرهما، فسدّ لهما حاجتهما، وأمر أن تشترى لهما ثياب، وأطعمة ووهب لهما مالاً، لكنّ واحدة منهما طلبت منه أن يفضلها على رفيقتها لأنّها عربية ورفيقتها من الموالي!

فأخذ شيئاً من تراب فنظر فيه ثم قال: ما أعلم أنّ الله فضّل أحداً من الناس على أحد، إلّا بالطاعة والتقوى!

كلمة تخشع لها الأرض، وتصغي لها السماء!

أجل إنّها كلمة معلّم عظيم، ومؤدّب كبير!

أجل معلّم، ليس من السهل أن يتغفّله إنسان، معلّم صريح.

إسمع الصراحة، إسمع التهذيب، في كتابه للمنذر بن جارود عامله على إصطخر، يوم عزله عن عمله واستقدمه إلى الكوفة:

إنّ صلاح أبيك غرّني فيك، وظننت أنّك متّبع هديه وفعله، فإذا أنت فيما رقي إليَّ عنك لا تدع الإنقياد لهواك، وإن أزرى ذلك بدينك، ولا تسمح إلى الناصح، وإن أخلص النصح لك!

بلغني أنّك تدع عملك كثيراً وتخرج لاهياً متنزّهاً متصيداً، وأنّك قد بسطت يدك في مال الله لمن أتاك من أعراب قومك، كأنّه تراث عن أبيك وأُمّك، وإنّي لأُقسم بالله لئن كان ذلك حقّاً لجملُ أهلك وشسع نعلك خير منك، وإنّ اللعب واللهو لا يرضاهما الله وخيانة المسلمين وتضييع أموالهم ممّا يسخط ربّك، ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يسدّ به الثغر، ويجبى به الفيء ويؤتمن على مال المسلمين، أقبل حين يصل كتابي هذا إليك!

لقد كانت التهمة صادقة عند التحقيق! فليزر العامل الخائن السجن! إلى أن يؤدّي الثلاثين ألف التي اجتجنها، ولا يفرج عنه إلّا بضمان من صعصعة بن صوحان ـ الذي كان من أتقى أهل الكوفة، ومن أحبّ الناس إلى الإمام علي! وآثرهم عنده!

وانظر إلى أخلاق المعلّم المهذّب في كتاب إلى زياد:

أرسل الإمام بعض مواليه إلى زياد يستحثه على حمل ما عنده من المال، ويبدو أنّ هذا المولى بالغ في الإلحاح على زياد فانتهره زياد وزجره، فرجع المولى إلى الإمام وقد تناول زياداً بلسانه، فكتب الإمام إلى زياد مؤدّباً ومعلّماً:

إنّ سعداً ذكر لي أنّك شتمته ظالماً، وجبهته تجبّراً وتكبّراً، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الكبرياء والعظمة لله، فمن تكبّر سخط الله عليه.

وأخبرني أنّك مستكثر من الألوان في الطعام، وأنّك تدهن في كل يوم، فماذا عليك لو صمت لله أيّاماً، وتصدقت ببعض ما عندك محتسباً، وأكلت طعامك في مرة مراراً، أو أطعمته فقيراً.

أتطمع وأنت متقلّب في النعيم، تستأثر به على الجار المسكين والضعيف الفقير والأرملة واليتيم، أن يجب لك أجر الصالحين المتصدّقين؟

وأخبرني أنّك تتكلّم كلام الأبرار وتعمل عمل الخاطئين!

وإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، وعملك أحبطت، فتب إلى ربّك وأصلح عملك، واقتصد في أمرك، وقدّم الفضل يوم حاجتك إذا كنت من المؤمنين، وادهن غبّاً ولا تدهن رفها، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ادهنوا غبّاً ولا تدهنوا رفها. والسلام!

وقد تنصّل زياد ممّا نُسب إليه، استجابة المذعن للتأديب المستجيب للتذهيب والخائف من سطوة الإمام الاخيشن في الله!

إنّ سعداً قدم عليَّ فعجّل، فانتهرته وزجرته، وكان أهلاً لأكثر من ذلك، فأمّا ما ذكر من الإسراف في الأموال والتنعّم واتخاذ الطعام، فإن كان صادقاً فأثابه الله ثواب الصادقين، وإن كان كاذباً فلا آمنه الله عقوبة الكاذبين!

وأمّا قوله: إنّي أتكلّم بكلام الأبرار، وأُخالف ذلك بالفعل، فإنّي إذاً من الأخسرين عملاً.

فخذه بمقام واحد قلت فيه عدلا، ثم خالفت إلى غيره، فإذا أتاك بشهيد عدل وإلّا تبيّن كذبه وظلمه!

والذي يلاحظ ضمناً أنّ زياداً يطلب الإنصاف من ذلك المولى الذي افترى عليه بلا حق!

كما أنّ المعلّم الموفق يثني على من يستحق الثناء الطيب كان الإمام علي لا يبخل بالثناء الطيّب على من يستحقه.

الإمام علي معلّم عظيم يريد أن يتمنى شخصية الفرد ولا يحاول أن يصادر الناس حريتهم الشخصية حتى ولو كانت هذه الحرية موجّهة ضد مصلحة الإمام وسلطته، فالإمام يغضب لله ولا يغضب لنفسه.

لاحظ أنّ الإمام عليّاً لم يحرم الخوارج نصيبهم من الفيء، أي أنّه لم يحاول أن يجوّع خصومه، وتجويع الخصوم من أعظم الأسلحة في يد صاحب السلطة لكنّ الإمام علي لم يلجأ إليه، لأنّه معلّم عظيم!

لم يحل بين أحد وبين الخروج إلى حيث شاء، وهذا أرقى ما وصل إليه العقل البشري من تحرير الضمير في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان!

ومن أعظم علامات المعلّم العظيم ما ذكره الأُستاذ العلّامة الشيخ محمد جواد مغنية في مقال له في العرفان الشهيرة:

وجاء في كتاب الوسائل، وكتاب الجواهر وغيرهما، باب الحدود: أنّ امرأة أقرّت بالزنا عند الإمام، فأمر مناديه أن ينادي بالناس، ولمّا اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيّها الناس! إنّي خارج غداً بهذه المرأة لأُقيم عليها الحد، فأعزم عليكم إلّا خرجتم، ومعكم أحجاركم.

ولمّا أصبحوا خرج الإمام بالمرأة، وخرج الناس ومعهم أحجارهم، وحين جاء وقت الرجم ركب الإمام بغلة، ووضع إصبعيه في أذنيه، ونادى بأعلى صوته:

أيّها الناس، إنّ الله عهد إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً عهده إليَّ، بأن لا يقيم الحد من كان لله عليه حد، فمن كان عليه لله مثل ما على هذه المرأة فلا يقيمن عليها الحد، فانصرف الناس كلهم إلّا علي والحسن والحسين!

أراد أن يعلّم الناس أن لا يوقعوا المرأة في حبائلهم ثم ينصب كل منهم نفسه حاكماً عليها يطلب رجمها أو هو يرجمها فعلاً، ناسياً أو متناسياً أنّه أصل الشر، وجرثومة الفساد!

وهل هنالك تعليم أفضل من أن يقول لك المعلّم: اقتد بي!

وقد قال الإمام : إنّما مثلي مثل السراج في الظلمة ، يستضيء به من ولجها!

ومن أقوال هذا المعلّم العظيم:

والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ـ أي قشرة شعيرة ـ ما فعلت، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة ف ي فم جرادة تقضمها!

هذا هو المعلّم المؤدّب الذي علّم بقدوته قبل أن يعلّم بكلامه!

 

 

الهوامش

1 - الحجرات: 9 ـ 10.

2 - المائدة: 67.

3 - المائدة: 67.

4 - لأنّ كلاً منهما كان في إزار ورداء كما هو عادة العرب في ذلك العصر في كثير من حالاتهم، ولا سيما في حر الحجاز، فلمّا أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعضدي علي ورفعهما ليراه الناس جميعاً ويعرفوه، توكيداً للحجة ومبالغةً في التبليغ، انحسر الرداء عن ابطيهما وبان بياض ابطيهما من تحت الرداء ـ الشرح ـ للإمام السيد محسن الأمين.

5 - يريد بعبد الإله عبدالله بن عباس.

صاحب هذه القصيدة هو تميم بن المعزّ لدين الله الفاطمي ابن المنصور بالله بن القائم بأمر الله الفاطمي، ولد سنة 947 للميلاد وتوفي سنة 985 للميلاد وفي هذا التاريخ خلاف .

6 - الفرقان: 54.

7 - هي دثار له خمل.

8 - ملفوف.

9 - خوص مفتول.

10 - هو شاقة الكتان.

11 - متكآت من الجلد.

12 - نبات طيب الرائحة ـ كان الجاني في الجاهلية يصنع منه لراحلته قلادة في السفر فلا يتعرّض له أحد بسوء.

13 - لادم هو الجلد.

14 - هي عباءة قصيرة الخمل، معمولة بقطوان موضع في الكوفة.

15 - ترجم هذه الخواطر سنة 1938 عن الفرنسية السيد (جورج مرار العزيزات) وقدّم لهذه الترجمة مؤلّف هذا الكتاب، وقد دعيت هذه الترجمة يومذاك (تأمّلات الفيلسوف لوبريلوس).

16 - ولعلّ صديقنا الشاعر الملهم (أحمد الصافي النجفي) التفت إلى قول الإمام يوم قال:

ألا تبّاً لمجتمع دنيّ

أتيت لأُنشر الإصلاح فيه

 

تكوّن أصله من كل رجس!

ولم أُصلحه بل أفسدت نفسي