لعلّ أعظم البراهين على عبقرية إنسان، هو ما يبتكر من الأعمال أو الآراء الداشنة التي لم يسبق إليها.
ونحن إذا تصفّحنا حياة الإمام علي بتجرد علمي، رأينا أنّه ابتكر أُموراً لم يُسبق إليها، ووثبة تفكيره إلى هذه الأوليات التي تفرّد بها خير دليل على فطرة عبقرية مصفاة:
أ ـ فالإمام علي أُعجوبة من أعاجيب القضاء، لأنّه أوّل قاض فرّق بين الشهود لئلاّ يتواطأ اثنان منهما على شهادة تشوه جمال الحق، أو تطمس معالمه فسنّ بهذه السنّة الحميدة البارعة للقضاء، ما يجعل سبيل الحق لهم واضحاً وينزّه أحكامهم عن الشبهات ، ويجول بين الذين يتلاعبون بضمائر الناس وبين ما طبعوا عليه من الغش، فلا يتمكنون من خداع القاضي.
ب ـ وهو أوّل من سجّل شهادات الشهود حتى لا تتبدّل شهادة باغراء من رشوة، أو تدليس من طمع، أو ميل مع عاطفة، فكان بذلك مبتكراً من أعظم المبتكرين، لأنّ صيانة حقوق الناس من العبث والغش أثمن من حياة الناس نفسها، فجاءت الأجيال والأُمم والحكومات والدول تسير على الأُسلوب الذي رسمه الإمام الأعظم.
ج ـ والإمام علي هو أول من منع بيع ما يحتاج إليه كل ذي مهنة لإقامة مهنته لتسديد ما يترتّب عليه دفعه من مال لبيت المال!
د ـ وهو أوّل مكتشف أو مبتكر للتفريق ما بين لبن أُم الأُنثى واُم الذكر، جاء في الصفحة (46) من كتاب (قبس من حياة أميرالمؤمنين عليه السلام) للأُستاذ الخطيب جواد شُبّر ما حرفه: (روى الحاكم النيسابوري في كنز العمال في السنن والأقوال ج 3 ص 170 عن شريح القاضي ، قال: كنت أقضي لعمر بن الخطاب فأتاني يوماً رجل فقال: يا أبا اميّة إنّ رجلاً أودعني امرأتين، إحداهما حرة مهبرة ـ أي غالية المهر ـ والجمع مهائر ـ والأُخرى سرية، فجعلتهما في دار، وأصبحت اليوم وقد ولدتا غلاماً وجاريى، وكلتاهما تدّعي الغلام، وتنتفي من الجارية، فاقض بينهما بقضائك، قال فلم يحضرني شيء فيهما فأتيت عمر فقصصت عليه القصة، فقال: فما قضيت بينهما؟ قلت لو كان عندي قضاؤهما ما أتيتك! فجمع عمر جميع من حضر من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمرني فقصصت عليهم فشاورهم في ذلك، فكلّهم ردّ الرأي إليه وإليَّ، فقال عمر لكنّي أعرف حيث مفزعها، وأين منزعها، قالوا: كأنّك أردت ابن أبي طالب، قال: نعم، وأين المذهب عنه؟ قالوا فابعث إليه بأنّك! فقال: لا، له شمخة من هاشم، وأثرة من علم يؤتى لها، ولا يأتي، وفي بيته يؤتى الحكم، فقوموا بنا إليه، فأتينا إليه فوجدناه في حائط يركل فيه على مسحاة ويقرأ: أيحسب الإنسان أن يترك سدى؟ ويبكي، فأمهلوه حتى سكن، ثم استأذنوا عليه فخرج إليهم، وعليه قميص قدّ نصف أردانه، فقال: يا أميرالمؤمنين ما الذي جاء بك؟ فقال: أمر عرض!
وأمرني فقصت عليه ، فقال: فيم حكمت فيها؟ قلت: لم يحضرني فيها حكم، فأخذ بيده من الأرض شيئاً ثم قال: الحكم أهون من هذا!
ثم استحضر الإمرأتين وأحضر قدحاً ثم دفعه إلى إحداهما فقال : احلبي فيه فحلبت، ثم وزن القدح، ودفعه إلى الأُخرى فقال: احلبي فيه، فحلبت فيه،ـ ثم وزنه، فقال: لصاحبة اللبن الخفيف إمضي وخذي ابنتك ولصاحبة اللبن الثقيل خذي إبنك، ثم التفت إلى عمر فقال: أما علمت أنّ لبن الجارية على النصف من لبن الغلام؟ وأنّ ميراثها نصف ميراثه؟ وأنّ عقلها نصف عقله، وأنّ شهادتها نصف شهادته!
فقال عمر: أرادك الحقّ يا أبا الحسن، ولكنّ قومك أبوا.
هـ ـ وهنالك من يشير إلى أنّ الإمام عليّاً كان أول من أشار إلى تحرّك الأرض ودليل ما ورد في خطبته المعروفة بـ (الأشباح) وهي من خطب نهج البلاغة من الطبعة المصرية م 15 ص 190:
فلمّا سكن هياج الماء من تحت أكتافها، وحمل شواهق الجبال الشمخ البذخ على أكنافها، فجّر ينابيع العيون من عرانين أُنوفها.
إلى أن قال: وعدّل حركاتها بالراسيات من جلاميدها.
وهذا صريح بأنّها تتحرك حركة معتدلة، وفيه إشارة إلى أنّ النبع من الجبال، كما يقوله أهل العصر.
وقال (عليه السلام) في ص 454:
فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو تسيخ بجملها.
وهذا كسابقه، لأنّ معناه أنّها مع حركتها سكنت من الميدان بسبب الجبال ضرورة أنّ على هنا بمعنى مع كقولنا: أسهبت في هذا على وضوحه.
و ـ ومن ابتكاراته ـ أنّه أول مؤسس لعلم النحو العربي، وذلك أنّه مرّ برجل يقرأ: (إنّ الله بريئ من المشركين ورسوله) بجر رسوله فوضع النحو وألقاه إلى أبي الأسود الدؤلي.
والإمام علي أول من قسّم الكلام في اللغة العربية إلى:
أ ـ اسم ـ وهو ما انبأ عن مسمى.
ب ـ والفعل وهو ما أنبأ عن حركة المسمى.
ج ـ وحرف وهو ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل.
وذكر لأبي الأسود:
إنّ الأشياء ثلاثة:
1 ـ ظاهر.
2 ـ مضمر.
3 ـ وشيء ليس بظاهر ولا مضمر.
قال الزجّاج: قوله (عليه السلام): ظاهر مثل ـ رجل فرس زيد وعمرو مضمر نحو: أنا، أنت والتاء في فعلت والياء في غلامي.
أمّا الشيء الذي ليس بظاهر ولا مضمر، فالمبهم نحو:
هذا، هذه، هاتا، تا، من، ما ، الذي ، أي، كم، متى، وأين، وما أشبه ذلك.
ومن ابتكاراته تنبيهه إلى أُمور من علم الفلك عند المحقّقين من مؤسّسيه إن لم يكن أوّل مؤسّس له.
كان علي من العلوم في المحل الذي لا تحلّق إليه البشر!
الشيخ الرئيس ابن سينا
شهادة معلّم عظيم، وفيلسوف حكيم في معلّم أعظم، سبق عصره فهم عصره ولم يفهمه عصره، فتألّم! وليس في الحياة ما يؤلم النفس الكبيرة والقلب الطيب أكثر من أن يعيش بين قوم لا يفهمونه!
نحن نكتفي بحادثة واحدة لنتّخذها دليلاً على أنّ الإمام عليّاً كان يعيش في جو خانق من نفوس طغت عليها الماديّة، نفوس عاجزة عن السمو إلى مرتبة الإمام، وكان هذا من أشقّ الأُمور على نفسه.
قال كميل ـ وكميل من الأبدال ـ وعى علماً كثيراً:
أخذ بيدي أمير المؤمنين، فأخرجني إلى الجبانة، فلمّا أصحر تنفّس الصعداء، سجية المغموم المكلوم وانفجر عن تلك الكلمات الذهبية، والعقود الدرية، والمعاني العرفانية، فقال: يا كميل إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها! فاحفظ عنّي ما أقول لك: الناس ثلاثة:
أ ـ فعالم ربّاني.
ب ـ ومتعلّم على سبيل نجاة.
ج ـ وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق!
ثم أبان شرف العلم وشرف أهله، وأثر العالم في المجتمع، وامتيازه على المال، وأنحى باللائمة على من يفضّل المال على العلم، ثم وضع الإمام يده الشريفة على صدره المكرم فقال:
إنّ هاهنا لعلماً جمّاً، لو أصبت له حملة!
أليس هذا القول أعظم دليل على أنّ الإمام عليّاً كان سابقاً لعصره، يفهم الناس ولا يفهمه الناس وفي هذا أعظم ما يمضّ النفس ويسحق القلب غمّا!
ومن أقواله: اندمجت على مكنون علم، لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة!
ومن أقواله التي تدل على غربته في ذاك الزمن: غداً ترون أيامي ويكشف الله عزّوجلّ عن سرائري.
ولعلّ فيما ترمز إليه الآية الكريمة: (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (1)
وتفسيرها أعظم إشارة إلى العذاب الذي كان يحسّ به الإمام وهو يعيش بين قوم لا يمكن أن يرتقوا إلى مستوى ما يريده لهم الإمام من مجد وعظمة وعزة عن طريق الخلق الكريم والعلم العظيم.
قالوا عنى بالعذاب الشديد أن يحبسه مع غير جنسه، وقالوا إنّ سليمان حبسه مع الحدأة في قفص واحد، فلمّا نظر الهدهد إلى كثافة طبعها، ورقة طبعه، وحسن منظره وقبح منظرها، هاله ذلك وطلب من سليمان أن يخرجه من ذلك القفص ويعذّبه أشدّ العذاب، فكلّ عذاب أهون ممّا هو فيه!
أجل إنّ ما ترمز إليه الآية الكريمة وتفسيرها، يمكن أن يكون فيه إشارة لما كان يعاني العظيم الذي سبق عصره!
نُقُود الأُمة هي دليل على استقلال شخصيتها السياسية والإقتصادية.
وقد كان للإمام علي فضل على الأُمة العربية إذ خدم اقتصادها، كما خدم إبراز شخصية الأُمّة في عملتها.
فقد كان العرب قبل الإسلام يتعاملون بنقود كسرى وقيصر ـ وهي الدراهم والدنانير ـ وكانت الدراهم فضّة والدنانير ذهباً ـ غالباً ـ .
وكانوا يتعاطون نقوداً من النحاس، منها الحبّة والدانق، فكان الدينار قطعة من الذهب وزنها مثقال حفر عليه الملك أو الإنبراطور(2) الذي ضربه أمّا الدرهم، فوزنه درهم من الفضّة، وكانوا يسمّونه الوافي.
ولم تكن قيمة الدينار ثابتة، بل كانت تختلف، من عشرة دراهم إلى ثلاثة عشر ، إلى خمسة عشر درهماً، وقد تزيد على ذلك، حسب نقاء الدينار من الغش، ويقدّرون الدرهم اليوم بأربعين فلساً أُردنياً أو أربعين فلساً عراقياً، ويقدرون الدينار بنصف ليرة فرنسية ذهباً.
وكانت الدراهم الفارسية ثلاثة أنواع:
أ ـ البغلية ووزن أحدها مثقال، أو عشرون قيراطاً.
ب ـ الدرهم الذي وزنه إثنا عشر قيراطاً.
ج ـ والدرهم الذي وزنه عشرة قراريط.
1 ـ وذكر صاحب التمدن الإسلامي الدراهم السميرية الثقال ـ وفي الأصل السمرية وهو غلط ـ وكان وزن الواحد منها ستة مثاقيل.
2 ـ الدراهم السميرية الخفاف ووزن الواحد منها خمسة مثاقيل وكلّها فارسية.
أمّا الدنانير فكان العرب يعرفون منها قبل الإسلام صنفين:
1 ـ الدنانير الهرقلية أو الرومية.
2 ـ الدنانير الكسروية أو الفارسية(3).
وكانت تعاملهم بالدنانير الروسية والدراهم الفارسية.
وكانت دنانير هرقل ترد على أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس البغلية فكانوا لا يتبايعون إلّا على أنّها تبر، وكان المثقال عندهم معروف الوزن، وزنه إثنان وعشرون قيراطاً إلّا كسراً، ووزن العشرة الدراهم سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثني عشرة أوقية، وكل أوقية أربعين درهماً، فأقرّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، وأقرّه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فلمّا جاء الإسلام واحتيج في أداء الزكاة إلى أمر الوسط، أخذوا عشرين قيراطاً واثني قيراطاً وعشرة قراريط، فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطاً، فضربوا على وزن الثلث من ذلك وهو أربعة عشر قيراطاً، فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً من قراريط الدينار العزيز، فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ، وذلك مائة وأربعون قيراطاً وزن سبعة.
أجل دفعت الحاجة الإسلام إلى تسهيل معاملات الزكاة بابتكار عملة فضرب بعض الخلفاء عملة على نقش الدراهم الكسروية وشكلها بأعيانها غير أنّه زاد في بعضها (الحمد لله) وفي بعضها (محمد رسول الله) وفي بعضها (لا إله إلّا الله وحده) لكنّها لم تكن مميّزة عن النقد الفارسي في شيء إلّا بهذه الكلمات، وتوالى ضرب النقود لكنّه لم يكن للعرب والمسلمين نقد خاص بهم إلى ان جاء الإمام علي فجعل لهم نقداً خاصّاً متميّزاً كما أشار إلى ذلك الخطيب المفوّه الأُستاذ جواد شبر في كتابه (قبس من حياة أميرالمؤمنين عليه السلام) نقلاً عن دائرة المعارف البريطانية(4).
وقد أتمّ عمل الإمام علي الخليفة الأموي الخاسم عبدالملك بن مروان بإشارة من محمد بن علي بن الحسين المعروف بمحمد الباقر وذلك لمّا هدد ملك الروم عبدالملك بأن يضرب نقوداً يذكر فيها النبي بما يكره المسلمون، فعظم ذلك على عبدالملك واستشار الناس فأشار عليه (الباقر) بانجاز العمل الذي كان الإمام علي قد بدأه.
أجل أشار الناس على عبدالملك أن يفزع إلى محمد بن علي بن الحسين المعروف بالباقر أحد الأئمّة الإثني عشر من الشيعة(5) فلم يشأ أن يستنجد أحد أئمّة بني هاشم وهم مناظروه في الملك لكنّه لم ير بدّاً من استقدامه فكتب إلى عامله في المدينة أن (أشخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين مكرّماً ومتّعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثين ألفاً لنفقته وأرح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه من أصحابه)، فلمّا قدم محمد إلى دمشق استشاره عبدالملك في ما ينويه ملك الروم من الإساءة إلى الإسلام فقال محمد: (لا يعظم هذا عليك، ادع هذه الساعة صنّاعاً فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير وتجعل النقش عليها سورة التوحيد، وذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحدهما في وجه الدرهم أو الدينار والآخر في الوجه الثاني وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي تضرب فيها تلك الدراهم والدنانير وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً أحداً وعشرين مثقالاً فتجزئها من الثلاثين فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة أو نقصان فتضرب الدراهم على وزن عشرة مثاقيل، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل.
ففعل ذلك عبدالملك وبعث بنقوده إلى جميع بلدان الإسلام وتقدم إلى الناس في التعامل بها، وهدّد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل تلك وتردّ إلى مواضع العمل، حتى تعاد إلى السكة الإسلامية.
فخدمة الإمام علي للإقتصاد العربي وللكرامة العربية وللشخصية الإسلامية، لا تقوّم بثمن، وليس يخاف ما في النقد الخاص بأُمّه من تسهيل معاملاتها التجارية ، وما فيه من عناصر التوفير في الوقت، وما فيه من عناصر الإعتزاز فعلى الرغم من أنّ الإمام عليّاً لم يعلق قلبه بالمال أصلاً ولا اكترث للثروة الشخصية إلّا أنّه في تفكيره العبقري يفضّل السكة الإسلامية عن التبعية الفارسية والتبعية الرومية كان سابقاً لعصره سبقاً يعدّ بالقرون والأجيال،لا بالشهور والأعوام.
فلقد نزع نهايئاً من عقول العرب والمسلمين تعظيم الفرس وتعظيم الروم فبعد أن كان بعض العرب البدو في أوائل الفتح الإسلامي لا يفرّق بين الفضة والذهب من حيث القيمة ولا بين الملح والكافور(6) كان لهم الإمام علي معلّماً ومؤدّباً كما مر بنا بيان ذلك.
ولعلّ في ضرب جوهر القائد الدينار المعزّي فيه إشارة إلى أولية الإمام علي من حيث الإهتمام بالنقد العربي ليس مجرد تعظيم للإمام علي، فقد نقش على أحد وجهيه ثلاثة أسطر:
أ ـ أحدها: دعى الإمام المعزّ لتوحيد الأحد الصمد.
ب ـ وتحته سطر فيه : ضرب هذا الدينار بمصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.
وفي الوجه الآخر:
ج ـ لا إله إلّا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون.
علي أفضل الوصيين وزير خير المرسلين.
أجل كان الإمام مطبوعاً على الخُلق الكريم المصفى لذا كان يعد السفاهة لا تليق بأتباعه، فحاربها في القول والعمل.
كان بطلاً وكان مهذّباً وكان معلّماً، فلم يرض أن يسمع كلمة نابية.
وكان دستوره في حياته الآية الكريمة: (لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (7).
إن أراد توجيه لوم أو عتاب.
شتم حجر بن عدي الكندي، وعمرو بن الحمق الخزاعي أهل الشام في صفّين، فأرسل إليهما علي طالباً منهما أن يكفّا عما يجب أن يترفّع عنه الرجل الكريم، فأقبل الرجلان وقالا: ألسنا محقين يا أميرالمؤمنين؟
قال: بلى!؟
قالا: أوليسوا مبطلين!؟
قال: بلى!
قالا: أجل لِمَ منعتنا عن شتمهم؟!
قال: كرهت لكم أن تكونوا سبّابين لعّانين، فلو وصفتم مساوي أعمالهم وقلتم كان من سيرتهم كذا وكذا، لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر.
فهو لا يريد أن يكون بين رجاله وأنصاره من يألف لسانه البذاءة والشتم!
فكان جواب الرجلين للإمام:
نتأدّب بآدابك يا أميرالمؤمنين!
أجل يريد الإمام أن يحافظ على نقاء الخلق العربي الأصيل، فليس يؤذي الإمام كالغوغائية في كل موقف.
جاء الإمام رجل يقول: إنّ فلاناً ما زال يشتمك ويقول فيك كيت وكيت.
قال(عليه السلام): يا هذا نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك!
قال الرجل حين سمع هذا: أقلني يا أميرالمؤمنين.
فهذه النفس الكبيرة نفس الإمام علي تكره السفاهة، تحتقر البذاءة والسعاية، لأنّها تأنف أن ترى الصغار والحقارة فيمن له علاقة بالإمام المعلّم والمؤدّب.
الإمام يحتقر سفاهة العمل، ويعد استرضاء طبقة الخاصة بظلم العامة سفاهة في العمل ويترفّع عنها ويأباها:
عرض عليه رهط من شيعته أن يفرّق الأموال في الرؤساء والأشراف ليضمن ولاءهم، فكان جوابه: أتأمرونني ـ ويحكم ـ أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام؟
لا والله لا يكون ذلك، ما سمر السمير، وما رؤيت في السماء نجمة، والله لو كان أموالكم ملكي، لسويت بينهم، فكيف وإنّما هي أموالكم؟
أفبعد هذا نعجب إذا كان كل عظيم يعشق الإمام عليّاً، ويرى فيه أسرار العظمة؟
فقد قال عامر بن عبدالله بن الزبير لولده: يا بني ، إنّ بني مروان ما زالوا يشتمون عليّاً ستين سنة، فلم يزده الله إلّا رفعة، وإنّ الدين لم يبن شيئاً فهدمته الدنيا وإنّ الدنيا لم تبن شيئاً إلّا عادت على ما بنت فهدمته!
وقال الخليل بن أحمد: إحتياج الكلّ إليه، واستغناؤه عن الكل دليل على أنّه إمام الكلّ!
وقال عمر بن عبدالعزيز: ما علمنا أحداً من هذه الأُمة بعد رسول الله أزهد من علي بن أبي طالب، ما وضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.
وقال الإمام الشافعي : ما أقول في رجل أخفت أعداؤه فضائله حسداً وأخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وقد شاع ما بين ذين ما ملأ الخافقين!
أمّا الجاحظ فلشدّة تعظيمه للإمام علي يثور على الأُمويين ويصفهم بأنّهم كانوا في طريق التمرّد على الله، والإستخفاف بالدين والتهاون بالمسلمين والإبتذال لأهل الحقّ.
أمّا توماس كارليل فإنّه يقول:
أمّا علي، فلا يسعنا إلّا أن نحبّه ونعشقه، فإنّه فتىً كبير النفس، جليل القدر، يفيض وجدانه رحمة وبرّاً ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة.
وكان أشجع من ليث، ولكنّها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى! ... انتهى المراد نقله.
ماذا نقول في رجل كان يقول ـ وما عرف عنه الإدعاء ولا عرف الغرور: سلوني قبل أن تفقدوني فأنا أعلم بطرق السماء منّي بطرق الأرض!
يقيناً أنّه لا يجرؤ أحد أن يقول هذا القول ما لم يكن عالماً يدري أنّه يدري، وقد كان الإمام علي عالماً بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان عميقة.
وقد جاء متواتراً عن النبي قوله:
قسمت الحكمة على عشرة أجزاء، فأُعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً، جاء في موسوعة أعيان الشيعة ما معناه:
أمّا علوم الدين الإسلامي فعنه أخذ الناس علم التفسير، وعلوم القرآن وقد أملى كتاباً فيه ستون نوعاً من أنواع علوم القرآن وذكر لكلّ نوع مثالاً يخصه وانّه الأصل لكلّ من كتب في أنواع علوم القرآن.
إنّ للإمام رأياً فذّاً في العبادة وفي أصناف المتعبّدين، فهو يرى أنّ العبادة يجب أن تكون مهذّبة للضمير، مقوّمة للخلق الإنساني، وهو يكره أن يكون الدين تجارة، أو مقايضة أو مجرد انتساب إلى الدين!
فإذا كانت اللحظات الأخيرة من حياة الإنسان تلخّص حياته وتكشف أعمق ما يخفي عن الناس من أسرار شخصية فهاكم ما يلخّص لنا شخصية الإمام الأعظم.
يُحمل من المحراب ودمه يفيض، ولسانه يسبح الله
يأتونه بالجاني البائس ابن ملجم، فيتوجه إليه بهذا العتاب الرقيق تماماً كما يخاطب الأب البرّ ابنه العاق
ألم أحسن إليك؟!
ألم أوثرك؟!
ثم يلتفت إلى ابنه الحسن ويقول:
ارفق بأسيرك يا ولدي وارحمه، وأحسن إليه، فإنّا أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلّا كرماً وعفوا!
بحقّي عليك أطعمه ممّا تأكل، واسقه ممّا تشرب، لا تقيّد له قدماً، ولا تغلّ له يدا!
ثم يلتفت إلى أهل بيته وسائر شيعته فيقول: لا ألفينكم يا بني عبد المطلب تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: قتل أميرالمؤمنين، لا يقتلن بي إلّا قاتلي، انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة! وإن تعفو أقرب للتقوى، ولا يمثّل بالرجل فإنّي سمعت رسول الله يقول: إيّاكم والمثلة ولو كان بالكلب العقور.
وهكذا تنطفىء حياة العظيم وهو يدعو إلى الإنسانية والتسام وهو نفسه الضحية! مات وابتسامة الرضى تشع من شفتيه فليست طعنة ابن ملجم بالطعنة الأُولى وإن كانت الأخيرة أليس هو القائل: لقد استلذذت العفو حتى ظننت أن الله لا يؤجرني عليه!
أجل أبا الحسن لقد لخصت كل ما فيك من نبل وإنسانية وبطولة نفسية وأنت تواجه ربّك في أواخر لحظات حياتك! ليس ابن ملجم أول ناكر لجميلك كافر بنعمتك جاحد لأياديك! فما أكثرهم!
ألم يقم الإسلام على ساعديك؟!
بلى لقد كنت فذاً جاء لقوم لم يفهموه فتنكّروا له وأنكروه!
لقد كنت زاهداً تخفي زهدك!
ألست القائل صادقاً: فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت ليالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا!
بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما اظلته السماء فشحّت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين.
ألست المتسامي في روحانيتك يوم تقول:
إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار!
و إنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد!
و إنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة؟ وقد كانت عبادتك من هذا الطراز الرفيع وليس أدلّ على ذلك من قولك في مناجاة الله:
ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك!
هذا هو أعلى مراتب التصوّف، وهذا سبيل كبار المتصوّفين، الذي اختططته لهم ومهّدته أمامهم!
الهوامش
1 - النمل: 20 ـ 21.
2 ـ يخطئ الكثيرون في كتابة هذه الكلمة بالميم وصوابها أن تكتب بالنون، لأنّ الميم إذا وقعت بعدها ياء مفتوحة قلبت نوناً، وقد كان العرب الفصحاء يكتبون هذه الكلمة بالنون. رسالة خطية للأب الكرملي. وفي مقدّمة ابن خلدن: الانبراذور.
3 - كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهماً، وتزن الذهب بوزن تسميه ديناراً ـ النقود العربية وعلم النمينا تحقيق الأب أتسناس ماري الكرملي ص 10.
4 - ضرب هذه النقود الخليفة عمر بن الخطاب ـ النقود العربية وعلم النمينا ـ تحقيق العلّامة الكرملي ص 31 / 32.
5 - هو أول علوي ولد بين علويين، وأول من اجتمعت له ولادة الحسن والحسين.
6 - الفخري والمنهل ج 1.
7 - سبأ: 25.