الصفحة 71

   زاوية المجلس ـ يَنُم عَنْ حقدٍ دفينٍ ـ: هؤلاء هم أصحاب أبي تراب.

   ولكنّ جذور الإيمان لمْ تنعدِم عند بعض الجالسين، مهما انصهروا في دوّامة الزمن، وهم مِمَّنْ صَحِبوا الإمام، ونَهَلُوا مِنْ بعض معارفه، فقد ثقلت عليه هذه السخرية اللاذِعَة، وهذا الأُسلوب النابِي من ان تُلاك به هذه الصفوة مِنْ حواريِّ الإمام فالتفتَ إلى المتكلِّم، وفي نظراته سيلٌ مِنْ عِتَابٍ وقال:

   على مَهْلَكَ، لقد ذهبتْ بك الظنون بعيداً بحقِّ هؤلاء. أَمَا كانَ الأجْدَرُ بك أنْ تفكِّر، قليلاً ثُمّ تَحْكُم. إنّي لا اشكّ أَنَّ ما تحدّثَ به ميثم، وحبيب، ورشيد هي أشياء سوف تَحْدُثُ بعد، والإخبار بالمُغَيّبات مِنْحَةٌ إلهيّةٌ مَنَحَهَا اللهُ أنبيائه، ورسله، والإمام عليٌّ أكثر الناس صِلَةً بابن عمّه رسول الله، وكاتِم سِرّه وأمِيْنه. وأيّ مانِعٍ لرسول الله أنْ يُوقِف عليّاً على أحوال صحابته، ويكشِف له عَنْ هذه الأُمور وأمثالها، وقد رأينا الكثير مِنَ الوقائع التي أشار إليها في كلامه قد تحقَّقَتْ بعد زمانٍ، وعَهْدنا ليس ببعيدٍ بِقصّة (ذي الثدية مِنْ يوم النهروان) وإخباره عَنِ ابن عمّه بأنّ (عمّاراً تقتُلُهُ الفئةُ الباغِيَة) وغير هذا كثيرٌ، فلا تكنْ قاسِيَاً على الصالحين مِنْ عباد الله.. وأشاح الرجل بوجهه عنه حياءً، ودُفِنَتْ الضحكة بين طيّات وجهه المُتَجَعِّدَة.

   وانتشر الحديث، فَنَسِيَهُ قوم، وحَفِظَهُ آخرون، وتَطلَّعوا إلى نتائجه يرقبون ما وراء الأحداث، وما يخبِّئُهُ الغدُ المظلِم، لأمثال هؤلاء مِنْ صحابة عليٍّ، ومشايعيه.

 

الصفحة 72

   ومضى زمانٌ، وأقبل زمانٌ، ومرّتْ أحداثٌ، وتَلَتْهَا أحداثٌ، وكان مِنْ أَشَقِّهَا أنْ يتولّى إمارةَ الكوفة عبيدُ الله بن زيادٍ، وكان مِنْ أهمِّ ما تبنّاه هو القضاء على البقيّة الباقية مِنَ الصفوة المُعَارِضة لسياستهم الأمويّة، بعد أنْ تولّى أبوه مهمّة القضاء على أكثرهم في الكوفة ـ مهد الإسلام وعاصمة الإمام ـ وكان لسان البقيّة الباقية ميثم التمّار.

   وما كان لميثم، وأصحاب ميثم أنْ يصبروا على أساليب القوم في الحُكْم،  ويسكتوا على التلاعب بالأحكام الإسلاميّة، وبمقدَّرات الأُمّة؛ لذا فقد سار ميثم على رأس تظاهرةٍ كبيرةٍ مِنَ المؤمنين، لِيُبَلِّغُوا الوالي مفارقاتِ حُكْمِهِ، وكان هو لسان القوم، وتحدّث ما شاء له الحديث ـ بصبرٍ وصلابةٍ ـ وقد أغاظ حديثُه خصمَه اللدود عمرو بن حُرَيْث، فأدنا رأسه مِنْ أميره ـ والحقد يَنزُّ مِنْ عَيْنَيْهِ ـ ليهمسَ في أُذُنِهِ:

   أصلح الله الأمير أتعرف هذا المُتَكَلِّم؟

   قال ابنُ زيادٍ: لا.

   فقال ابنُ حريث: هذا ميثم التمّار، الكذّاب، مولى الكذاب علي بن أبي طالبٍ.

   دُهِشَ الأمير الأموي، وشدّ على أسنانه، واستوى جالِسَاً والتَفَتَ إلى ميثم قائلاً: ما يقول؟ وأشار إلى ابن حريث.

   قال ميثم: كذب هذا الرجل، بل أنا الصادِق، مولى الصادِق عليّ بن أبي طالبِ، أمير المؤمنين حقّاً، فاحمرّتْ عَيْنَا


الصفحة 73

ابن زيادٍ مِنَ الألم، وصاح بميثم: قُمْ واصعد المِنْبَر، وتبرَّأْ مِنْ عليٍّ واذكر مَسَاوِئُهُ، وإلاّ قطعتُ يديك، ورِجْلَيْك، وصَلَبْتُكَ. فانسابتْ دموعُ ميثم مُنْهَمِرَةً على لِحْيَتِهِ الطاهرة.

   وظنّ زيادٌ أنّ هذه الدموع وليدة الخوف والجزع، فالتَفَتَ إليه قائلاً: بَكِيْتَ مِنَ القول دون الفعل؟

   فقال: والله ما بكيتُ مِنَ القول، ولا مِنَ الفعل، ولكنْ بكيتُ مِنْ شَكّ ٍخامرني يوم أخبرني سيِّدي ومولاي.

   فافتعل ابنُ زيادٍ ابتسامةً وقال: وما قال لك صاحِبُك؟

   قال ميثم: قال إمامي عليٌّ (عليه السلام): ((وَاللهِ لَيُقْطَعَنَّ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ، وَلِسَانُكَ، وَلَتُصْلَبَنَّ عَاشِرَ عَشْرَةٍ، أَقْصَرُهُمْ خَشَبَة وَأَقْرَبُهُمْ مِنَ المُطَهَّرَةِ، وَتُعَلَّقُ عَلَى بَابِ عَمْرو بْنَ حُرَيْث))، فقلتُ: ومَنْ يفعل ذلك بي يا أمير المؤمنين؟ قال: ((يَأْخُذُكَ العُتُلُّ الزَّنِيْمُ ابْنُ الأَمَةِ الفَاجِرَةِ عَبْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ)).

   واستشاط ابن زيادٍ غضباً، واحتَقَنَ وجهه، ونَطَّتْ عروقُهُ، وصرخ قائلاً: لِنُخَالِفُهُ ونُكذِّب صاحبَك. قال ميثم: كيف تخالفه؟ والله ما أخبرني إلاّ عَنِ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقد عرفتُ الموضع الذي أصلب فيه، وأنّي أوّل خّلْقِ الله أُلْجَمُ في الإسلام.

   فقال عبيد الله: والله لأَقْطَعَنَّ يديك، ورجليك، ولأَدَعَنَّ لسانَك؛ حتّى أُكذِّبُكَ، وأُكذِّبُ مولاك، وزحف عبيد الله مِنْ على سريره، وهو يهدر من الغضب، وصاح بجلاّدِيْه اقطعوا يَدَيْه ورجلَيْه وأَرِيْحُوْنِي مِنْه، وكان ما أراد.


الصفحة 74

   ثُمّ أمر بإخراجه وصَلْبِهِ على باب عمرو بن حريث، واحتشد الناس على ميثم، وهو يعالِج جِرَاحه، وطافتْ في نفسه أُمْنِيَاتٌ كما دارتْ برأسه أفكارٌ، وأفكارٌ، وتصارع في نفسه عامِلان: حَقّ وباطل. لقد لاقى كلَّ هذا الضيم؛ لأنّه مِنْ شيعة عليٍّ.. وبولائه نال هذا الجزاء الصارِم، والآنَ وقد وصل إلى هذا الحدِّ، والموتُ قد تجسّد له، وقد أَنْشَبَ أنيابه فيه، وبَيْنَهُ وبين النهاية المُظْلِمَة كلمةٌ تُنِيْرُ الدنيا، في خِضَمِّ الحياة الأمويّة السوداء، وإنْ كان قد فقد يديه ورجليه، ولكنّ إيمان الرجل بعقيدته، وإخلاصه لإمامه، وصدقه في موقفه.. كلّ هذه العوامِل كانتْ أقوى مِنْ وَسَاوِس لَمْ تَلْقَ مكاناً في نفس هذا الإنسان المتفاني في حبّ آل البيت.

   ولمس في نفسه بقايا مِنْ عزمٍ، فصمَّمَ أنْ لا يدعها تذهب سُدَى، وقرَّرَ أنْ يختِمَها بذكر فضائل الإمام عليٍّ (عليه السلام)، وهَدَرَ كالبُرْكَان يُحَدِّثُ الناس عَنْ فضائل عليٍّ وعدلِه، ما وسعه البيان، والناس تستمع وتودِّعُهُ بكلّ إكبارٍ وتقديرٍ.

   وسمع عمرو بن حريث هذا الموقف الصارِخ ـ والذي بطبيعته يجلب انتباه المستمعين ـ فاضطرب، وهرول عائداً إلى مجلس أميره، وقد عَلَتْ وجهَهُ صُفْرَةٌ باهِتَةٌ، ووقف قِبَالَة ابن زيادٍ، يَلْهَثُ مِنَ الإعياء، ودهش الطاغيةُ لأمْرِهِ، وما ارتسم عليه مِنْ خوفٍ، واضطرابٍ، وصاح به: مالك يابن حريث، هل وقعتْ الواقعة؟ ماذا وراءك قل ولا تنتظر؟

   وتدحرجتْ الكلماتُ مِنْ فَمِ ابن حريث ساهِمَةً وَاجِمَةً:


الصفحة 75

   أصلح الله الأمير، بَادِرْ إلى ميثم، مَنْ يقطعُ لِسَانَهُ ويُرِيْحُ بني أُميّة منه، فإنِّي لستُ آمناً أنْ تتغيّر قلوبُ أهل الكوفة فينقلبوا عليك، لقد أخذ يتحدّث عَنْ فضائل عليٍّ، ويذكِّر الناسَ بِعَدْلِه، وحُكْمه وقُرْبِهِ مِنْ رسول الله.

   وهال ابنُ زيادٍ هذا الأمر، وجَنَّ جُنُونَهُ، وأمر بسيّاف أنْ يُبَادر لِقَطْعِ لِسَانه، وبعد لأي قصير وصل السيّاف إلى ميثم والناس تبتعد عَنْه رُعْباً، وعيونهم تهرع خلفه تطلُّعاً، ووقف قبالة ميثم، وغرق في تفكيرٍ، وتَمْتَمَ في نفسه:

   ماذا يخيفك يا أمير مِنْ هذا الجريح الذي سيلفظ أنفاسه بعد قليلٍ.

   ولَمْ يُطِلْ التفكيرَ بالجلاّد. بل تقدّم إليه، وألقى عليه أمر ابن زيادٍ، فأشرق وجهُ ميثم، وتَهَلَّلَتْ أساريرُه، وأعجب الحاضرون منه، فشعر الجريح بهذا المعنى، فقال: لا تعجبوا لقد زعم ابن الأَمَة الفاجِرة عبيد الله أنْ يُكَذِّبَنِي، ويكذِّب مولاي، لقد خاب ظنُّه، وتاه فأله، هاك لساني يا سيّاف ونفِّذْ فيه أمر أميرك، وسيجزي الله الصابرين.

   ونُفِّذَ ما أراد.

   ومرّتْ على ميثم ساعةٌ يعالِجُ نفسه، ورغم آلامِهِ لَمْ يتغيَّر في صلابته، ثُمّ أسلم نفسه إلى ربِّه شاكِيَاً ظلمَ الأمويين وجور طُغَاتِهِم.

   ونَشَرَ الليلُ أبرادَه حزينةً كئيبةً قد اتَّشَحَتْ أبرادها بحمرة الدم، وتحدّث القوم في مجالس الكوفة، لقد صدق زعيم بني أسد،


الصفحة 76

حبيب بن مظاهر بقوله: (لَكأَنِّي بشيخٍ أصلع، ضخم البطن يبيع البطِّيخ عند دار الرزق، قد صُلِبَ في حبِّ أهل بيت نبيه، تُبْقَر بطنُه على الخشبة).

وحسب القوم أنّ ميثماً مات، وانتهتْ أخباره. وخاب ظنُّهم، فإنّ ذكرى ميثم باقيةٌ مع الشمس لا تبلى، لأنّ صاحبها مِمَّنْ أخلص لعقيدته، وجاهد في سبيلها، ووقف في وجه الظالمين دون خشيةٍ ورهبةٍ، آثر الآخرةَ على الدنيا، فقال كلمتَه بصدقٍ ووفاءٍ، وعَزْمٍ..


الصفحة 77

عَمْرو بْن الحَمِق


الصفحة 78


الصفحة 79

 

   كانتْ صفوةٌ مِنَ الكوفة قد عاهدتْ الله أنْ تَخْلُصَ في إسلامها، وتحفظَ لرسوله غَيْبَتَه في أهل بيته، تُدَافِعُ عَنْ كرامتهم مهما كلَّفهم الأمر.

واجتمع سمَّار الكوفة يوماً في جُنْحِ الليل، يتّخِذون مِنْ رُحْبَة مسجدها مكاناً لسمرهم، يقطعون به ثُقْلَ الليل الجاثِم بِرَهْبَتِِهِ وسوادِه.

   وكانَ الحُكْمَ حينذاك قد آل لمعاوية بعد صُلْحِ الحسن (عليه السلام) وأعلنَ زعيمُ الأمويين ابن أبي سفيان عَمّا يُكِنُّهُ مِنْ روحٍ حاقِدةٍ تَحْمِلُ كلَّ معاني الحِقْد تجاه عليٍّ، وأهل بيته (عليهم السلام).

   وينعقدُ مجلسٌ يضمُّ صفوةً مِنَ الكوفيين في ليلةٍ داكِنَةٍ، يتصيَّدون بها أخبار معاوية، وأحداثه الجديدة، وظلّ مِنْ وجومٍ لا يفارق ذلك المجلس.

ماذا عندك يا أبا عبد الرحمن مِنْ جديدٍ؟.

   ويَلتفِتُ حِجْر بن عَدِي إلى سائله عمرو بن الحَمِق الخُزاعي قائلاً له:

لقد علمتُ اليوم أنّ معاوية وَلَّى على الكوفة المغيرةَ بن شعبة، وأوصاه بمطاردتنا والتنكيل بِنَا، وإنْزال أقسى العقوبات في حَقِّنَا.


الصفحة 80

   وضحك الجميع، وغمز كلٌّ للآخر يذكِّره، بأنّ يومَه لَقريبٌ.

   وتَمُرُّ أيّام ليستْ بالطويلة المديدة، وإذا بالوالي الجديد يَصِل الكوفة، ويُسَلِّم عليه الناس، وهو يُحَدِّقُ في القادِمِين، وشِلَّةٌ مِنْ حَوْلِهِ تُعَرِّفُهُ بالقَوم، وتزوِّدُهُ بالمعلومات، وإنْ كانتْ كَذِبَاً، وهو يَهِزُّ رأسَه علامةَ القبول والتصديق.

   وفي زَحْمَةِ المُرَحِّبِين تدخلُ جماعةٌ، وعلى وجوهها شيءٌ مِنَ الضيق، وتُسَلِّمُ على الوالي، ولمْ تَزِدْ في التملُّق له، ولمْ تَطُلْ المَكْثَ عنده، وغادروا مَجْلِس المغيرة، وعيون المرتزِقَة مِنْ حوله، وحاشيته تُمَهِّدُ أطماعها، فتسيل في أَخْيِلَتِهَا ذهباً وهّاجاً تَدَّخِرُهُ على أجداث هذه الصفوة الطاهِرَة.

   ويَقِفُ كوفيٌّ، وهو يحاول أن يَظْهَرَ بمظهرِ الجدِّ والرَّزَانَةِ، ويهمس في أُذُنِ المغيرة: أَعَرَفْتَهُمْ يا أمير؟ إنّ هؤلاء هُمْ صحابة أبي ترابٍ، ولا تَنْسَ وصيةَ معاوية فيهم. وقبل أنْ يَتِمَّ كلامه حتّى وقف إلى جانبه عمرو بن حريث، يَحْمِلُ المغيرةَ على هذه الصحابة بأُسلوبٍ آخر، ولونٍ أَشَد.

   ويمتدُّ الزمنُ قليلاً بحياة الوالي، وتبدأُ الخطوط الأُولى مِنَ المعارضة لسياسته، فهو لا يفتأ أنْ يُنَفِّذَ أمر سيِّده معاوية، في كلِّ مناسبةٍ يَسُبّ عليّاً وأصحابَه، إرضاءاً لابن آكلة الأكباد. ومِنْ جانبٍ آخر أخذ دُعاةُ الإسلام وصحابتُهُ تَجْهَرُ بالمعارضة له، وتقابله بنكران أعمال معاوية والأمويين.

   حتّى كانتْ ليلةٌ، اجتمعوا فيها، فأخبرهم عمرو بن الحَمِق:


الصفحة 81

بأنّ معاوية طلب مِنَ المغيرة مالاً، والمغيرة يهم بإرسال المال له في عشيَّة غدٍ.

   فالتَفَتَ حِجْر بن عَدِي إلى إخوانه قائلاً: لقد آنَ أنْ نَضَعَ حَدَّاً لأمر هذا الطاغية، فهل إنّ أموال الشام قد نَفَدَتْ حتّى أرسل على أموال المسلمين هنا؟ أَيُرِيْدُ أنْ يَقْضِمَ حقوقَ إخواننا؟ لا كان ذلك أبداً..

   وباتوا على فِكْرَةٍ، وترقَّبوا بريدَ المغيرة، وعرفوا أنّ الأموال سَتُرْسَلُ في عشيَّةِ الليلة، فاستعدتْ الجماعة، وزحفتْ إلى عَرْضِ الطريق، حتّى إذا مرَّتْ القافِلَةُ كَبَسَتْ الأموال، وأعلَنَتْهَا مظاهرةً صاخبةً في وجه الرُسُل، وعادوا خائبين إلى المغيرة يُخبِرونه بالخبر. وَيَهْرَعُ بِعِدَّةٍ مِنْ مُنافِقِيْهِ إلى محلِّ الحادِث، فيرى حِجْر وعَمْرو وبقيَّة الصحابة مِنْ شِيْعَةِ الحقِّ قَدْ أوقفوا المال، فَسَأَلَهُم عَنْ سبب هذا العمل، فقالوا له:

   لا تذهبُ الأموال إلى الشام، إنّ هذه أموالنا، فاصرفها علينا، وأعطِ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، إنّ معاوية تكفيه أموالُ الشام، وسائرُ الأقطار. واضطرَّ المغيرةُ أمام هذه الموجة الصاخِبَة أنْ يُعِيْدَ الأموال إلى قصر الإمارة، ويوزِّعها على المسلمين، ويتدارك الأمرَ بالحُسْنَى، ويطلب المُتَمَلِّقون منه مُعاقبةَ حِجْر وجماعته. ويعرِضُ عنهم لِئَلاّ يتفاقم الأمر.

   ويصل الخبر إلى معاوية، ويتأثّر ويغضب على المغيرة، لأنّه فَلَسَ مِنَ المال، ثُمّ لَمْ يستجب لطلب المُنادِين بِعِقَاب حِجْر وجماعته، ويشتدُّ به الغضبُ، فيكتب كتابه بِعَزْل المغيرة، ونَصَبَ زياد ابن أبيه على الكوفة.


الصفحة 82

   وينتشر الخبر في أرجاء الكوفة، يُحيطه شيءٌ مِنَ الرعب. إنّ أهالي الكوفة قد عرفوا في هذا الوالي الجديد كيف يحمل في جنبيه حِقْداً عارِماً على البشر عامّةً، وعلى الإمام عليٍّ ودعاة الإسلام خاصّةً. وإنّ بغضه وحقده ناشئان مِنْ عُقَدٍ نفسيّة قد اختمرتْ في أعماقه تعود إلى الشكوك في نَسَبِهِ، وعدم معرفة الناس بأبيه مَنْ يَكُوْنُ؟!

   وكانتْ مِنَّةُ معاوية عليه أنْ نَسَبَهُ لأبيه، وزيادٌ لابُدَّ أنْ يقبل هذه المِنَّة، ويقابلها بالجزاء الأوفى.. لهذا كلِّه فهو ما أنْ أوصاه معاوية بالتشديد على مطاردة أصحاب خليفة رسول الله (عليه السلام) فحمل الناس على شَتْمِهِ، حتّى ألزم نفسه لتنفيذها أمراً أمراً، وأهالي الكوفة يعرفون قسوته، ويعرفون صلفه، ويعرفون تهوُّرَه. إذنْ لتستعد الكوفة إلى هذا الوالي، وتجاهِد أمرها في عهده.

   أمّا حزب المعارضة لسياسة الأمويين، فقد نشطوا في الأيّام الأخيرة قبل مجيئه، وعقدوا عِدَّة اجتماعات، يضعون فيها الخطط لمعارضته، ولمْ يبقَ أملٌ في التسوية، بعد أنْ أعلنَ عَنْ نصب زيادٍ للولاية، فهو جاء مِنْ أجلهم، وتصفِيَتِهِم.

   ووصل زيادٌ إلى الكوفة، واستقبله الناس إلاّ صحابة عليٍّ فقد أعرضتْ عَنْ ذلك، ولَمْ تُكلِّف نفسها مشقّةَ الاستقبال، أو أيّ إجراءٍ آخر يدل على اهتمامها له، وكاد ينْسَى زيادٌ هذه الحوادث لولا أفاعيل الحاشية حوله، يذكِّرونه بمعارِضِيْه والمؤمنين بالذات، ويثيرونه بكلّ ألوان الإثارة على هؤلاء.


الصفحة 83

   ومع الأيّام اتضحتْ المعارضة بأجلى صُوَرِهَا، يتحدّون زياداً وهو على المنبر، ويعلنون محاربته جِهَاراً، ولكنّ زياداً لَمْ يكنْ مِنْ الحَمِق إلى درجةٍ أنْ يُفْسَد عليه الأمر، وهو بعد لَمْ يتركّز في الكوفة.

   أمّا بالنسبة إلى أعداء هذه الصفوة، فقد بلغ مَبْلَغَاً كبيراً، بحيث صمَّمُوا على التخلُّص مِنْ مُعارِضِيْهِم، وخصوصاً أصحاب الحق مهما كلَّفَهُم الأمر؛ لأنّ وجودهم أصبح خَطَرَاً عليهم، وسدّاً دونَ أطماعهم المادِّيّة، ومنزلتهم عند الوالي.

   وفي مكانٍ مِنَ الكوفة عقدتْ الحاشية اجتماعها، يَتَوسَّطهم عمرو بن حريث، يفكّرون في أمر هؤلاء، فكانَ أَنْ اتفقوا على رأيٍ وخطّةٍ.

   وقَدِمُوا على زيادٍ صباح اليوم التالي، فوقف أمامه عمارةُ بن عقبة بن أبي مَعِيْط قائلا: إنّ عمرو بن الحَمِق يجتمع إليه مِنْ شيعة أبي تُرَاب، ويعمل على تقويض الحكم الأمويّ.

   ويسكُتُ زيادٌ ويُطيلُ التفكير، ويُبَدِّدُ عمرو بن حريث هذا الصمتَ بأَنْ يستمرَّ في غرضه، فيخاطِبُ زياداً: يا أمير ارفع هذا الأمر إلى معاوية إنْ كنتَ لا تحبُّ أنْ تَصْدُرَ في حقِّ أعداء آبائك حُكْمَاً.

   وتكلّم ثالثٌ مِنْ زاوية المجلس، وأيَّده رابعٌ. وكاد الهرج يسود المجلس، كلّ ذلك حَسْب الخطّة المرسومة، واعتقد زيادٌ أَنّ الزمام سَيَفْلِتُ مِنْه إنْ لَمْ يتداركْه بشيءٍ، فأمر رسوله أنْ يذهب إلى عمرو بن الحَمِق يبلِّغه بأَنّه عَلِمَ بأمر الاجتماعات التي تَتِمُّ عنده


الصفحة 84

كلّ يومٍ، ومِنَ الآن فصاعداً، مَنْ أراد الاجتماع به، وأراد أنْ يجتمع بِأَحَدٍ، لا يجوز له ذلك إلاّ في رَحُبَةِ المسجد، على مرأى ومَسْمَع مِنْ عيون الأمويين، وآذانهم.

   ورضي عمرو بن حريث بذلك، مُعتَقِدَاً أَنّ هذه البادِرَة هي الشرارة الأُولى لِحَرْقِ دُعَاةِ الله.

وقصد بعض الشيوخ، الذين يرغبون أن يكون البلد بمعزل عن المشاكل، إلى عمرو بن الحمق وحجر وجماعتهما، وطلبوا منهم الخلود إلى الهدوء والسكينة، لتبقى البلاد في دعة المشاكل.

   ولكنّ عمرو، ذلك الرجل الذي ما عرف المهادنة يوماً ما، لا يمكنه السكوت، والإغضاء عن الباطل مهما اقتضى الأمر، فهو عنيف في إيمانه لا تأخذه في الله لومة لائم.

   والتفتَ كوفي إلى صاحبه، وهما في زاوية من المسجد يتحدّثان عن موقف زياد والمعارضة.

اعتقد ـ يا أبا الوليد ـ إنّ عمرو بن الحمق سيجبُن عن مقابلة الأمير زياد.

فيرُدُّ عليه صاحبه قائلاً:

   كلاّ إنّ الرجل صلبٌ في إيمانه لا يخشى الموت، أليس هو أحد الأربعة الداخلين على عثمان داره؟ وقد جابهه وجهاً لوجهٍ بأغلاطه، وموقفه العاطفي مع الأمويين المنافي للإسلام.

   نعم هكذا يتحدّث المتحدِّثون، وتدل الوقائع بأنّ عثمان أعطى مرّةً لأبي سفيان مائتي ألف دينار ذهباً، كما أعطى لمروان بن الحكم مائة ألف من بيت مال المسلمين.


الصفحة 85

ـ وحجر ما رأيك فيه؟

ـ أليس هو الذي امتنع عن الصلح مع معاوية بعد صلح الحسن (عليه السلام)، إلاّ بعد مماطلةٍ وإصرار.

إنّ هذه الصلابة بالمبدأ هي طبيعة جميع شيعة علي، دعاة الإسلام ومخلصيه.

   أتعْلم يا أبا الوليد: إنّ هذا الخزاعي الذي يمثّل المعارضة لسياسة الأمير هو من أولئك الموالين لعليٍّ (عليه السلام)، والمتفانين في محبّته. ولقد قال لأبي الحسن مرةً: (والله ما جئتك لمالٍ من الدنيا تعطيها، ولا لالتماس سلطانٍ يرفع به ذكري، إلاّ لأنّك ابن عمِّ رسول الله، وأولى الناس بالناس، وزوج فاطمة الزهراء، سيدة نساء العالمين، وأبو الذرية التي هي بقية رسول الله، وأعظم سهماً للإسلام من المهاجرين والأنصار، والله لو كلَّفْتني بنقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي أبداً حتى يأتي عَلَيّ يَوْمِي، وفي يدي سيفي أهزُّ به عدوَّك، وأُقوِّي به وَلِيَّك، ويُعَلِّي به الله كَعْبَك، ويُفْلِح به حُجَّتك، ما ظننتُ أنّي أَدَّيتُ من حقِّك كلّ الحقّ الذي يجب لك عَلَيَّ) فما سمع منه عليٌّ (عليه السلام) هذا القول حتى رفع يديه للدعاء وقال:

   ((اللهم نوّر قلبه، واهده إلى الصراط المستقيم، ليت أنّ في شيعتي مائة مثلك)).

   وسمع أبو الوليد من صاحبه هذه الكلمات، التي ألقاها عمرو بن الحمق بين يدي إمامه في يوم من الأيّام، وهو غارق في بحرٍ من التفكير: وهزَّ رأسه دليل الإعجاب، ثمّ أردف إليه أبو


الصفحة 86

الوليد قائلاً: أَتَعْتقد مثل هذا المُخْلِص سيجْبُن أمام تهديدات زياد، أبداً، والذي نفسي بيده..

   ولم ينتهِ كلامهما حتى أطلَّ عمرو على المسجد، وزحف إليه الرجلان، وسَلّمَاَ عليه، ثمّ قال له أبو الوليد: ما ضرّك يا عمرو لو تهادنْتَ مع الأمير، وأمِنْتَ على حياتك من بطشه وجبروته، فإنّه ظلومٌ غشومٌ. وليس مِنْ قتلك ما يمنعه في جاهليته..

   غير أنّ عمرو التفت إليه، وضحك ضحكةً عاليةً فيها كلّ علائم السخرية، وقال: يا أبا الوليد لقد أتيتُ يوماً إلى رسول الله، وهو في المسجد الحرام. فقال لي: ((يا عمرو هل تريد أنْ أُرِيك رجلاً مِن أهل الجنّة، ورجلاً مِن أهل النار)). فقلتُ: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله أرينيهما. فجلسْنا هُنَيْهة حتى دخل علينا علي بن أبي طالب فَسَلّم وجلس، فالتفتَ إليَّ رسول الله وقال: ((يا عمرو هذا وقومه آية أهل الجنة))، ومضتْ هنيهة فدخل علينا معاوية، ثم أقبل فسلّم وجلس، فقال رسولُ الله: ((يا عمرو هذا وقومه آية أهل النار)).

   أتريد يا أبا الوليد أنْ أتَغَاضَى عن بغض معاوية، وهو آية أهل النار؟ وأنْ أَتَهاون في حبّ عليٍّ، وهو آية أهل الجنة؟ لا والذي نفسي بيده، لا أسكتُ عن الحق، ولا أكون عوناً للباطل.

   وساد الجميع سكونٌ عميق، ووقف عمرو يصلِّي لِرَبِّه ركعتين


الصفحة 87

بينما العيون لا تفارقه، وهو ينقطع لخالقه يرجوه القوّة والعزم؛ لمجابهة الظالمين.

   وضاق زياد ذرعاً بالمعارضة، واستشار سيِّده معاوية بأمرهم، فطلب منه أنْ يقبض عليهم ويقتلهم جميعاً.. وأرسل زيادٌ في طلب عمرو وبعض إخوانه في الجهاد، ودارتْ معاركٌ خفيفة بين القوم، ورجال زيادٍ، وتمكّن عمرو أنْ يفلتَ من أيدي الجنود، وهرب إلى خارج الكوفة، وأخبر زياداً بذلك. فثار غاضِباً، وصاح بجُنْدِه أنْ يأتوه بالخزاعي، ولا يرضى عنه بديلاً، ولو هدَّموا الكون داراً داراً.

   ولكنَّ محاولات الجنود باءت بالفشل، وعادوا لأميرهم خائبين، وتألَّمَ كثيراً، وقضى يومه، لمْ تظهر البسمة على شَفَتَيْهِ غضباً وحَنَقَاً، وتقدّم إليه عمارة بن عقبة وقال: لي رأيٌ بواسطته ستتمكّن من إلقاء القبض على طَلِبَتِكَ عمرو بن الحمق.

   فصاح به زيادٌ: قل ولا تُطِل الحديث، إنّي أكاد أجْزع.

   قال: عليك بزوجته فاحبِسْها، وشدِّد عليها النكير، وأعْلِن ذلك فسيسمع بهذا النبأ، وسيضْطر إلى التسليم، وتكشَّفَتْ أسارير جاهليّة زيادٍ، فرحاً لهذا الرأي، وصاح بجلاوزته: أسرعوا إلى دار عمرو بن الحمق، وأْتُونِي بزوجته (آمنة بنت الشريد) وفعلاً نفَّذوا ما أراد، وأحضروها، وساءلها عن زوجها فقالتْ: لا علم لي به، شَرَّدَهُ أمرُ معاوية.

   فصاح زياد بِجُنْده، وأَمَرَهم بِحَجزها ريثما يحصل على ضالَّته. والْتقى أبو الوليد في رَحُبَةِ المسجد، والليل في عنفوان