الصفحة 157
الصفحة 158
الصفحة 159
لمْ يرغب عمرو بن العاص أنْ يسلم أحد مِن صحابة علي (عليه السلام) ورجال مدرسته، فقد كان يكره بيت أبي طالب كُرْها لا هوادةَ فيه. وقد دفعه هذا الحقد أنْ يروي مرةً حديثاً عنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يضعه دون حياء، فيقول: (سمعتُ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء، إنّما وليِّيَ الله، وصالح المؤمنين).
ولم يكنْ هذا فحسب، بل كان يتحرّى الفرصة؛ لينقض على أبي الحسن (عليه السلام). ويدخل ذات يوم على عائشة، فيقول لها: (لَوَدَدْتُ أنّك كنتِ قُتِلتِ يوم الجمل، فقالتْ: وَلِمَ ،لا أباً لك، فقال: كنتِ تموتين بأجلك، وتدخلين الجنّة ونَجْعلك أكبر تشنيع على عليٍّ).
وتمادى عمرو في تتبّع أصحاب علي (عليه السلام) لدى معاوية؛ ليقطع آثارهم ويضع الأحاديث، لينقص من شأن علي، ومع هذا وذاك فإنّه يَعرف عليّاً حقّ المعرفة، إذْ يقول مرةً لمعاوية: (أحرقتَ كبدي بقصصك، أترى إنّا خالفنا عليّاً لفضلٍ منّا عليه، لا والله إنْ هي إلاّ الدنيا نتكالب عليها، و أيْمُ الله لَتَقْطَعَنّ لي قطعةً من دُنْياك، أو لأُنَابِذَنَّك) فأعطاه معاوية مصر وسكت..
هكذا كان عمرو، وكان أكثر مِن هذا..
وأرّق ابن العاص أنْ يبقى رجال مِن أصحاب علي (عليه السلام) لم يُصابوا بسوءٍ، ومنهم أبو الأسود الدؤلي، فهو مِن المخلصين لعليٍّ
الصفحة 160
والمُتَفَانين بمحبّته، ومِن زعماء شيعته، فرسم له خطّة؛ ليوقعه عند معاوية ويتخلّص منه.
واستأذن على معاوية في غير وقت سَمَرِهِ، ودخل عليه فقال له معاوية: ما أعجلك قبل وقْتِ السمَر.
يا أمير المؤمنين إنّ الأمر الذي أتيتُ مِن أجله، أوجعني وأرّقني وغاظني، وهو ـ من بعد ذلك ـ نصيحة لك.
وطغى على معاوية شيء من الاهتمام والجِدّ، وحَمْلَقَ في وجه ابن العاص متسائلاً: وماذا ذاك يا عمرو؟.
قال: ـ وهو يمسح العرق الذي غطّى جبهته، وعلى عينَيه جذوة حِقد؛ يا معاوية، إنّ أبا الأسود رجل مَفُوْهٌ، له عقل وأدب، ومن مثله للكلام يُذْكَر، وقد أذاع بِمِصْرِكَ من الذكر لعلي، والبغض لعدوّه، وقد خشيتُ عليك أنْ يسترسل في ذلك حتّى يؤخذ لِعُنُقِكَ..
وقد رأيتُ أنْ ترسل إليه، وتُرهِبُه، وتُرعبه، وتسيِّره وتُخيِّره، فإنّك من مسألته على أحد أمرين:
أمّا أنْ يبدي حبّه وتشيِّعه لعلي، فينكشف أمره، وترى فيه رأيك.
وأمّا أنْ يجامِلَك، فيقول ما ليس من رأيه، فتستفيد من قوله..
وغام معاوية في تفكيرٍ، فإنّه لا يرغب في إثارة موضوعٍ جديدٍ عليه، وأبو الأسود رجل عُرِفَ بالثبات والجرأة والصمود، فلا تغرّه سيوف السلطان، كما لا تَفُلّ عزيمته أموال بني أميّة.
الصفحة 161
لكنّ عمرو بن العاص يلحّ على أبي يزيد، ويقول له: أنا صاحبك يوم رفْع المصاحف بصفِّين، وقد عرفتَ رأيي وإخلاصي لك، أقْدِمُ على ذلك، ولا يرهبك الموقف، ولم يبقَ من هذه الزمرة المُجَافية لمجد بني عبد شمس إلاّ فلولٌ، وسوف تَنْهار عن قريب.. أَلَيْسَ القائل أبوك يوم دخل على عثمان، وهو لا يُبصر طريقه، هل في المجلس مَن يُخْشَى منه، فقيل له: أبدا،ً فقال اللّهم اجعل الأمر أمر جاهليّة، والمُلك مُلْك غاصِبِيّة، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميّة..
فمَن تخشى؟! لقد دانتْ لك القبائل، وأسْكَتَّ الأبطال. وقبرتَ الفُصَحاء، ثم انتهيتَ إلى أبي الأسود فتجنَّبْتَ أَمْرَهُ؟..
ولم يزل به حتّى أقْنَعَهُ، فأرسل خلفه. وجاءتْ الجلاوزة بأبي الأسود، وأُدخِل عليه.
فرحّب به معاوية. وأجلسه منه مَجلِساً لائقاً، ثم التفتَ إليه قائلاً:
يا أبا الأسود، خلوتَ أنا وعمرو فَتَنَاجَزْنَا في أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد أحببتُ أنْ أكون مِن رأْيِك على يقينٍ؟.
فقال أبو الأسود: سل ما بدا لك.
واعتدل معاوية في مجلسه، وقبض ابن العاص على لحيته يسرح بها، وعيناه تقدحان شرراً.
قال معاوية: يا أبا الأسود أيُّهم كان أحبّ إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
الصفحة 162
فقال الدؤلي: أشدُّهم حبّاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأوقاهم له بنفسه. فنظر معاوية إلى عمرو، وأشار إليه برأْسِه، وعاد إلى سؤاله قائلاً: يا أبا الأسود فأيُّهم كان أفضلهم عندك؟.
قال الدؤلي: أتقاهم لربّه، وأشدّهم خوفاً لِدِيْنِه.
فاغتاظ معاوية، وانتشرتْ على سِحْنَتِهِ كآبةٌ، وسُرّ ابن العاص لذلك، فإنّ الذي كان يتطلّبه، هو أنْ يُوْقِع الدؤلي في الفخّ، وهو منه لقريب.
ـ ثم التفتَ معاوية إلى أبي الأسود قائلاً: فأيُّهم كان أعلم؟
ـ قال أبو الأسود: أقْوَلَهُم للصواب، وأفْصَلَهُم للخطاب.
ـ وأيهم كان أشجع؟
ـ أعظمهم بلاء، وأحسنهم عناء، وأصبرهم على اللقاء.
ـ فأيّهم كان أوثق عند الرسول؟.
ـ مَنْ أوصى إليه فيما بعده.
ـ فأيّهم كان صديقاً للنبي؟.
ـ أوّلهم به تصديقاً.
فأقبل معاوية بوجهه إلى عمرو بن العاص، وهو متأثّر قائلاً: لا جزاك الله خيراً، هل تستطيع أنْ تردّ على ما قال شيئاً؟!
وخيّم على المجلس صمتٌ، برهةً من الوقت، ثمّ بدّده صوتُ أبي الأسود يخاطِب معاوية.
الصفحة 163
يا أبا يزيد، إنّي قد عرفتُ مِن أين أتيتَ، فهل تأذن لي فيه؟.
قال: نعم، فقل ما بدا لك.
فقال: إنّ هذا الذي ترى، هجا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأبياتٍ من الشعر، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اللهمّ إنّي لا أُحْسِنُ أنْ أقول الشعر، فالْعن عمراً بكلّ بيتٍ لعنة، أفتراه بعد هذا نائلاً فلاحاً، أو مُدْرِكَاً رباحاً؟.. وايْمُ الله إنّ امرءاً لم يُعرف إلا بِسَهْمٍ أُجِيْلَ عليه فجال، لَحَقيقٌ أنْ يكون كليلَ اللسان، ضعيفَ الجِنَان، مُسْتَشْعِراً للاستِكَانَة، مُقارِنَاً للذُلّ والمَهَانة، غيرَ ولوجٍ فيما بين الرجال، ولا ناظرَ في تسطير المَقَال، إنْ قالتْ الرجال أصغى، وإنْ قامتْ الكرام أقعى(1)، متعيص لدينه لعظيم دينه، غيرُ ناظر في أبهة الكرام، ولا منازِع لهم، ثمّ لمْ يزل في دجَّةٍ ظلماء مع قلّة حياء، يعامِل الناس بالمَكر والخداع، والمَكر والخداع في النار.
ولم يتمكّن ابن العاص من تحمّل هذا الكلام القارص، بل هاجم أبي الأسود قائلاً: يا أخا بني الدؤل، والله إنّك لأنت الذليل القليل، ولو لا ما تمّت به مِن حسب كنانة لاختطفْتُك من حولك، اختطاف الأجدل الحِدْيَة(2) غير أنك بهم تطول وبهم تصول، فلقد استَطَبْتَ مع هذا لِسَاناً قوّالاً، سيصير عليك وبالاً.
ــــــــــــــــــــ
(1) أقعى الكلب ـ جلس على إسته.
(2) الأجدل: الصقر، والحِداة بكسر الحاء: طائر من الجوارح والعامّة تسمّيه الحدية.
الصفحة 164
وايْمُ الله إنّك لأعدى الناس لأمير المؤمنين قديماً وحديثاً، وما كنتَ قط بأشدّ عداوةً له منك الساعة، وإنّك لَتوالي عدوّه، وتعادي وليّه وتبغية الغوائل، ولئن أطاعني ليقطعنّ عنه لسانك، ولنُخرجنّ من رأسك شيطانك، فأنت العدو المُطْرِق له إطراق الأُفعوان(1) في أصل الشجرة.
ونطّتْ عيون ابن العاص، واضطرب المجلس، ثم واصل حديثه قائلا ألستَ أنت القائل:
وإنّ عليَاً لكم مُصْحر يُمَاثِلُهُ الأسد
أمَا إنّه أولُ العابدين بـمكةَ والله لا يُعْبَدِ
ولاحظ معاوية أنّ الجوّ قد تَكَهْرَبَ، فأسْكَتَ ابن العاص والْتفتَ إلى أبي الأسود قائلاً: أغرقْتَ في النّزْع، ولمْ تدعْ رجعةً لِصُلْحِك.
ثم التفتَ إلى عمرو، مُخاطِبَاً: فلم تُغرق، كما أغرقتَ، ولم تَبلغ ما بَلَغتَ غير أنّه كان من الابتداء، والاعتداء، والباغي أظلم، قوماً غير مطرودين..
فقام ابن العاص، وهو يقول:
لعمري لقد أَعْيَى القرونَ التي مَضَتْ نَـعْشُ ثـوى بـين الـفؤاد
كمينوقام أبو الأسود، وهو يقول:
ألا إنّ عـمـراً رام لـيثَ
خَـفْيَةٍ وكـيفَ يـنالُ الـذئبُ ليثَ عرينِـــــــــــــــــــ
(1) الأُفعوان، بضم الأوّل: ذكر الأفعى.
الصفحة 165
وانفضّ مجلس معاوية، وفي قلب ابن العاص أكثر من حقد يغلي على أبي الأسود، وقد فشل في مخططه، فقد كان يود أنْ يوقع بصاحب عليّ ويفري أوداجه بسيف معاوية.. لكنّ القدر لم يعثر في هذه المرّة، فقد كان لأبي الأسود قلب نابض، وإيمان صلد، فلم يهتم عندما جدّ الجِد أنْ يقول كلمته مهما كلّفه الأمر.
وكلمة الحق في ساعة المِحنة، كلمة الرجل الصادق المؤمن المجاهد في سبيل عقيدته.
الصفحة 166
جُوَيْرِيّة بْنُ مِسْهِر
الصفحة 168
الصفحة 169
سبقت الكوفة أخبار فيها الكثير من التشويش، وفيها الكثير من الرعب، لقد وَلِيَهَا زياد ابن أبيه من قبل معاوية. وهو يحثّ السير نحوها.
واستقبل القوم هذا النبأ بشيء من الوجوم، ماذا سيكون غَدُهُم مع هذا الوالي الجديد؟.
ولم يُطل التفكير بهم، فقد وصل زياد مدينة الكوفة وهو يحمل بين جنبَيه نفسيّة سيّده، حِقدٌ على كل شخص لا يحمل الولاء للأمويين، والطاعة لحكمهم، ومحاربة كل مَن يُظهر المحبة لعلي وآله.
وتجمّع المرتزقة حول زياد يوشون بهذا، ويتملّقون له بذاك وهو يفرش لهم مِن عوده طريقاً ملؤه الرياحين والآمال.
وعلى مقربة مِن القصر، مجلس يأوي إليه كلّ مُخْتَال نِفَاع.
قال واحد من تلك الحلقة: يا أبا طرفة هل لديك جديد للأمير؟.
حتّى الآن يا أبا كثير لم يمر على خاطري اسم جديد.
وقفز رجل مِن بينهم معتدل القامة، وقال: لقد تذكّرت شخصاً وهو ثقيل الظل علينا ما رأيكم، يا قوم في (جويريّة بن مسهر العبدي) فصفّق أصحابه له ارتياحاً.
الصفحة 170
وفي قصر الإمارة يتربّع زياد على دسّت الحكم، وحوله جمع من أعوانه ومساعديه، ويدخل الحاجب على أميره يستأذن لرجل من أهل الكوفة يطلب مقابلته على عجل.
ويدخل الرجل، وهو في هيئة مُفْتَعلة من الاهتمام، وقد لصق على شفتيه ضحكة متهرِّئة، كادتْ ـ مِن جرائها ـ أنيابه الطويلة تنطّ من وراء شعرات شارِبَيْه، ويقف بين يدي زياد.
أصلح الله الأمير: إني لك محب ولمعاوية مشفِق، ولا استطيع أنْ أكتم عنك خبراً يأكل في نفسي، كلّما رأيتُ عدوكم ينعم بالوجود.
ومسح زياد على لحيته، واصطنع بعينيه بعض اللامبالاة، ثم التفتَ إليه مُقْطِب الجبين، ورد عليه بشيء من الغلظة. قل يا رجل ولا تكتم. أنا اعلم إنّك لبني عبد شمس مُحِب، وقد أمرتُ الكاتب أنْ يزيد في عطائك.
وانتشرت على وجه الرجل فرحة تَنُمّ عن الرضا والقبول، لقد نال ما كان يتمنّاه. ومرّتْ عليه لحظات تصوَّرَ فيها زيادة عطائه، ثم أدرك أنّ الأمير على انتظار فقال له:
يا أمير: إنّ في القوم رجلاً لو تتبّعتَ الجميع، وبقي هذا لما فعلت شيئاً، لقد كان يحبّه عليٌّ، ويهواه حتّى قال الناس عنه: أتراه جعله وصياً له، كما يدّعي هو الوصيّة؟.
ولم يتمالك زياد مِن أنْ يتم الرجل الحديث، بل صرخ مُحتدِمَاً، قل: يا رجل ما اسم هذا الشخص.
وأطرق الرجل لحظة، كأنّه يتذكر اسمه جيداً، ثم رفع
الصفحة 171
رأسه، وقال: أصلح الله الأمير، اسم هذا الرجل (جُوَيْرِيَّة بْن مِسْهِر العَبْدِي) وقبل أنْ تنطبق شفتاه نادى زياد مدير شرطته، والشرر يتطاير من عينيه. وأمر بإحضار الرجل على الفور.
ووقف الواشي بين يدي زياد بِخُيَلاء وقال: لو يسمح سيدي الأمير أنْ أقوم بهذه المهمة، وآتي به الساعة إكراماً لفضل الأمير، وولاءً لسيدي الخليفة.
ولكنّ زياد اكتفى من الرجل بالإخبار، وأردف إليه: قم واذهب، وتعرّف على غيره، أمّا هذا فقد انتهى حسابه وعلينا تأديبه، ونكفيك أمره.
وخرج الرجل ينوء بثقل الوشاية، واستقبله قومه خارج القصر، فخفّوا إليه متسائلين عن جائزته، فقال: ـ وهو يمضغ الكلمات مضغاً ـ:
لقد وعد الأمير بزيادة عطائي.
وعرف أهالي الكوفة بطلب الأمير لجويريّة، وتحدّثوا عن مصيره ما شاء لهم الحديث، ورسموا عن مقتله صوراً شتّى، وكلُّ لِغَدِهِ مُرتقب.
وتمّ القبض على الرجل المطارَد، وانعقد المجلس في قصر الإمارة، ومِسْحة من حزنٍ تطفو عليه.
ووقف الرجل بقلب مِلْؤه الإيمان أمام زياد، وهو مشغول عنه يتحدّث مع بعض المقربين له، يعرّفه عَن مكانة جويريّة
الصفحة 172
لدى الإمام علي (عليه السلام)، وعن موقفه من الأمويين.
لقد سمع الإمام يكرر على مسمع ومرأى من الناس: يا جويريّة ((الْحَقْ بي سريعاً، ألا تعلم أني أهواك، وأُحبّك..)).
وقطب زياد جبينه، وزمّ شفتيه، وطفتْ على سِحنته سحابةٌ دَكْنَاء من غيظ، ورمقَ جويريّة بنظراتٍ طويلة، يتطاير منها الشرر والهَلَع.
ثم صرخ بوجه جويريّة، وهو يَزبد ويَرعد: نعفو عنك يا رجل، لو أعلنتَ براءتك من علي بن أبي طالب، وإنْ امتنعتَ فالسيف ينتظر رقبتك، والعذاب يبلغ أهلك..
وانتفض الأسير من هول ما سمع، ثم التفتَ إلى زياد بكل بطولة قائلاً: أبِالموت تخوّفني يا بن مرجانة، ما أثقل ما طلبتَ لا كان ذلك أبداً.
فالتفتَ إليه زياد قائلاً: إذاً فأنت مستعدّ لأنْ تنال جزائك من القتل، وعن قريب ستنال ذلك. وقبل أنْ يُنهي زيادٌ كلامه، قفز دَعِيٌّ من الجالسين، وخاطب أميره قائلاً: لو أمر الأمير أسيره جويريّة أنْ يذكر كيف اخبره صاحبه علي عن مقتله.
قال جويريّة: قال أبو الحسن: ((والله ليقتلنّك العُتُلّ الزنيم وليقطعنّ يديك، ورجلَيك، وليصلبنّك تحت جذعٍ كافر)).
فضحك زياد وقال: سنحقق قول صاحبك فيك، وإنْ عزّ علينا تصديقه، ولكنّها أبشع قتلة. خذوه يا غلمان ونفّذوا فيه ما أُريد، اقطعوا يديه، ورجليه، زيادة في
الصفحة 173
تعذيبه، ثم اصلبوه على جذع، واتركوه عاريا؛ لتحرقه الشمس، إلاّ أنْ يتراجع عن قوله، فَيَدِيْن لمعاوية بالطاعة.
وسحبتْه الجلاوزة، وخيّم على المجلس ظلُّ كآبة، ودار همسٌ ثقيل بين بعض الجالسين.
شيء غريب طباع الناس. وإلى هذا الحد يبلغ الحقد في النفوس، لقد أوغل معاوية وولاته في تتبّع أصحاب علي، وقتلهم وتهديدهم..
والتفت رجل ذرف على الشيخوخة، وأضعفتْ صوتَه السنون، وقد سمع بهذه الظاهرة، فحاول أنْ يتقصّى أخبارها ودوافعها. وتحامَلَ على نفسه؛ لينهض فيصل إلى زياد، ويطيل النظر إليه، وعلائم الدهشة تبدو عليه، ويدير عينيه في المحتشدين حول الأمير، يتملّقون إليه، ويسبّحون بكلماته..
هؤلاء القوم كانوا بالأمس مع علي بن أبي طالبٍ، في صفّين وفي حرب النهروان، وفي الجمل. ما الذي أدارهم اليوم، وهم بالأمس يرون القتال في صفّ عليٍّ عبادة.
ثم تمالك على نفسه، وخاطب زياد بكل صرامة:
يا أمير: أمَا اكتفيت بالدماء التي أرقتها ظلماً من أصحاب علي، وهم بين صحابة الرسول، وتابعيه، وإذا كان لبيتِ أبي سفيان حساب مع الهاشميين فماذا ذنب هذه النفوس المؤمنة بالله ورسوله.
والله يا زياد إنّ الحساب لعسير إذا جدّ الجد، والظلم لن يدوم، وإنْ دام دمّر.. اتقِ الله أنت وسيدك في الشام من
الصفحة 174
الولوغ وراء هذه الروح الحاقدة، وسفك الدماء البريئة..
وضاق زياد بالمتحدّث، والتفتَ إلى أحد زمرته، مستفسراً مِمَّنْ الرجل؟.
ومدَّ الرجلُ عنقَه ليهمس في أُذُنِ الأمير، مِنْ مِذْجَح!! وكاد يفتك به لو لا تَدَخُّل بعض الأشخاص، الذين أشاروا عليه أنْ لا يثيرها مشاكل قبليّة فسكتَ على مضضٍ، وقطب وجهه..
وعاد الجلاد إلى مجلس زياد، وسيفه يقطر من دم الشهيد وهو يضع رأس جويريّة بين يديه، ولم يكنْ عند الوالي إلاّ خاصّته.
ورفتْ وحشةٌ على الجالسين، وأطرق زيادٌ قليلاً، ثم التفتَ إلى جلاّسه، وقال: يعجبني إخلاص أصحاب أبي ترابٍ لصاحبهم.. ليت لنا مثلهم، نُعطي ونُكرم، ونَأمر، ونُغَنِّي، ولم نملك واحداً مثل هؤلاء!!.
وتحدّث الناس في أندية الكوفة عن صمود جويريّة في سبيل عقيدته بكل تقدير وإعجاب، وعن وفاء هذا المؤمن، وما ضربه من أروع الأمثلة على ذلك..
(أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون)؟!..
صدق الله العلي العظيم
مُحَمَّد بْنُ أَبِيْ حُذَيْفَة
الصفحة 176
الصفحة 177
تعيش الشام زماناً في رَهَجِ الفرحة، هائجة الأعصاب، ثائرة الأطراف، لنْ يهدأ لها ليلٌ، ولا يقرّ لها نهار، تتماوج الناس في مجلس معاوية غادية ورائحة، مهنّئة أبا يزيد بمقتل علي. وقد أمر بهذه المناسبة ـ إمعاناً في الفرحة، وزيادة في الشماتة ـ أنْ تظهر عاصمة الأمويين بأحلى حُلّة وأجمل مظهر.
فالتأريخ قد فتح للأمويين، باباً واسعةً يطل منها معاوية وأطماعه تتراقص حوله، بصورة رائعة، ومَنْظر جذّاب.
ولقد تحققتْ أحلام أبي يزيد بعد جُهد جَهِيد، إذ اليوم الذي كان يرْقَبُهُ، أصبح في متناول يده، وسيعمل لأحياء آمال أبي سفيان ما وسعه الجهد، فقد قالها بالأمس، صريحةً دون خجلٍ وهو يدخل على عثمان، ويقوده أحد بطانته، ويلتفتُ للجالسين قائلاً: هل يوجد أحد يختشم فقيل له: لا، فقال: اللهمّ اجعل، الأمر أمر جاهليّة، والملك ملك غاصبيّة، واجعل أوتاد الأرض لبني أُميّة.
وعلى رَبْوَة الشام تنتظِم حَلَقَةٌ، تَلُمُّ مِنْ عِلِّيَةِ القوم شيوخها وكبارها، ويلتفتُ أحدهم إلى أصحابه فيقول لهم: ما ترون هل يسكت معاوية عن الخلافة بعد مقتل علي؟.