ص 41
الفصل الثاني
دلالة الحديث الشريف
ص 43
معنى الولي
المولى والولي وصفان من الولاية، وحقيقتها الجارية في جميع مشتقاتها - القيام بأمر
والتقلد له - كما يستفاد من كتب اللغة. قال في الصحاح (1): ولي الوالي البلد،
وولي الرجل البيع، ولاية فيهما. وأوليته معروفا. ويقال في التعجب: ما أولاه
للمعروف. وتقول: فلان ولي وولي عليه. وولاه الأمير عمل كذا، وولاه بيع الشيء، وتولى
العمل: أي تقلده. وقال في النهاية (2): والولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل
- إلى أن قال -: وكل من ولي أمرا فهو مولاه ووليه - إلى أن قال -: وقول عمر لعلي:
أصبحت مولى كل مؤمن، أي ولي كل مؤمن. وقال في القاموس (3): ولي الشيء وعليه
ولاية وولاية أو هي المصدر، وبالكسر الخطة والإمارة والسلطان، وأوليته الأمر وليته
إياه - إلى أن قال -: تولى الأمر تقلده... وأولى على اليتيم: أوصى... واستولى على
الأمر: بلغ الغاية.
(هامش)
(1) ج 6 / 2529 - ولى -. (2) ج 5 / 227 - 228 - ولا -. (3) ج 4 / 401 - 402 - الولي
-. (*)
ص 44
وقال في لسان العرب (1): قال سيبويه: الولاية - بالكسر - الاسم مثل الإمارة
والنقابة، لأنه اسم لما توليته وقمت به، فإذا أرادوا المصدر فتحوا. - إلى أن قال -:
والولي ولي اليتيم الذي يلي أمره ويقوم بكفايته، وولي المرأة: الذي يلي عقد النكاح
عليها ولا يدعها تستبد بعقد النكاح دونه. وفي الحديث: أيما امرأة نكحت بغير إذن
مولاها فنكاحها باطل (2)، وفي رواية وليها أي متولي أمرها. انتهى. فحقيقة كلمة
المولى من يلي أمرا ويقوم به ويتقلده، وما عدوه من المعاني له فإنما هي مصاديق
حقيقتها، وقد أطلقت عليها من باب إطلاق اللفظ الموضوع لحقيقة على مصاديقها، كإطلاق
كلمة الرجل على زيد وعمرو وبكر، فيطلق لفظ المولى على الرب لأنه القائم بأمر
المربوبين، وعلى السيد لأنه القائم بأمر العبد، وعلى العبد لأنه يقوم بحاجة السيد،
وعلى الجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر لأنهم يقومون بنصرة صاحبهم فيما
يحتاجون إلى نصرتهم، وهكذا فاللفظ مشترك معنوي. فمعنى قوله صلى الله عليه وآله:
من كنت مولاه فعلي مولاه ، من كنت متقلدا لأمره وقائما به فعلي متقلد أمره والقائم
به. وهذا صريح في زعامة الأمة وإمامتها وولايتها، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله
زعيم الأمة ووليهم وسلطانهم والقائم بأمرهم، فثبت لعلي عليه السلام ما ثبت له من
الولاية العامة والزعامة التامة. هذا ما يقضي به التأمل في كلام أئمة اللغة وإن
أبيت إلا عن تعدد
(هامش)
(1) ج 15 / 407 - ولي -. (2) سنن الترمذي: 1 / 204، نهاية ابن الأثير: 4 / 229،
وسائل الشيعة: 7 / 206. (*)
ص 45
معاني المولى وأنه مشترك لفظي ووضع لكل واحد واحد منها بوضع على حدة. فمن جملة
معانيها لا محالة بشهادة أرباب اللغة كالجوهري في الصحاح الأولى وذكروا قول
لبيد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها (1) وتعرض لذكره
جماعة من الأقدمين. قال أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، المتوفى عام 209 هـ، وهو
من أئمة علوم العربية في كتابه غريب القرآن : المولى بمعنى الأولى، واستشهد بقول
لبيد المتقدم وقول الأخطل (2) في يزيد بن معاوية: فأصبحت مولاها من الناس كلهم *
وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه تفسير
المشكل في القرآن ما لفظه: الولي والمولى: الأولى بالشئ. وقال الزجاج والفراء -
كما في تفسير الفخر - (3): المولى يجئ بمعنى الأولى.
(هامش)
(1) هذا البيت من المعلقات السبع، راجع لمعرفته والوقوف على معناه كتاب شرح
المعلقات السبع للحسين بن أحمد الزوزني: 126، و شرح المعلقات العشر للتبريزي :
150. (2) هو غياث برغوث التغلبي، لقب بالأخطل لبذاءة لسانه. انظر ديوانه ص 84. (3)
ج 29 / 227. ط مصر. التزام عبد الرحمان محمد. (*)
ص 46
وقد حكي عن أبي العباس المبرد أنه قال: الولي الذي هو الأولى والأحق، ومثله المولى.
وقد ذكر جماعة كثيرة من مفسري العامة في تفسير قوله تعالى: *(النار هي موليكم)*(1)
أي أولى بكم. ونحن لا نذكر - لضيق المجال - إلا أنموذجا منها، ومن شاء فليراجع: 1 -
الطبري في تفسيره: ج 27 ص 117 ط مصر، قال: هي مولاكم أولى بكم. 2 - ابن كثير في
تفسيره: ج 4 ص 310 ط مصر 1356 هـ، قال: هي مولاكم أي هي أولى بكم من كل منزل على
كفركم وارتيابكم. 3 - الزمخشري في تفسيره: ج 4 ص 66 ط مصر 1354 هـ، قال: وحقيقة
مولاكم محراكم ومقمتكم، أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم. 4 - قال الفخر في
تفسيره: ج 29 ص 227 ط مصر، التزام عبد الرحمان محمد، عند تفسير الآية المذكورة: قال
الكلبي: يعني أولى بكم، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة. وبالجملة لم يمنع أحد
من المتكلمين في الطبقات المختلفة مجئ كلمة المولى بمعنى الأولى. وأما تعين معنى
الأولى للارادة من الحديث دون غيره من معاني كلمة المولى، فلأن لفظ المولى إما أن
يكون مشتركا لفظيا بين هذا المعنى وغيره من
(هامش)
(1) سورة الحديد: 15. (*)
ص 47
المعاني المشار إليها آنفا، أو يكون حقيقة في أحدها ومجازا في الباقي، وعلى أي
تقدير يتعين حمله على معنى الأولى . أما على التقدير الثاني فلما ذكره جماعة
منهم: الحلبي في التقريب من أن المولى حقيقة في الأولى لاستقلالها بنفسها ورجوع
سائر الأقسام في الاشتقاق إليها، لأن المالك إنما كان مولى لكونه أولى بتدبير رقيقه
وتحمل جريرته، والمملوك مولى لكونه أولى بطاعة مالكه، والمعتق والمعتق كذلك،
والناصر لكونه أولى بنصرة من نصره، والحليف لكونه أولى بنصرة حليفه، والجار لكونه
أولى بنصرة جاره والذب عنه، والصهر لكونه أولى بمصاهره، والإمام لكونه أولى بمن
يليه، وابن العم لكونه أولى بنصرة ابن عمه. وإذا كانت لفظة مولى حقيقة في الأولى
وجب حملها عليها دون سائر معانيها لافتقارها إلى القرينة الصارفة عن الموضوع له
والمعينة لأحدها بخلاف الأولى كما لا يخفى. وأما على التقدير الأول فلوجهين:
أحدهما ما ذكره العلامة ابن بطريق الأسدي الحلي، المتوفى سنة 600 هـ، قال في
العمدة (1) ما لفظه: مقدمة الكلام التي بدأ بذكرها وأخذ إقرار الأمة بها من قوله
صلى الله عليه وآله: ألست أولى منكم بأنفسكم؟ ثم عطف عليها بلفظ يحتملها ويحتمل
غيرها دليل على أنه لم يرد بها غير المعنى الذي قررهم عليه من دون إحدى محتملاتها،
وأنه قصد بالمعطوف ما هو معطوف عليه، فلا يجوز أن يرد من الحكيم تقرير بلفظ مقصور
على معنى مخصوص، ثم يعطف عليه بلفظ يحتمله إلا ومراده المخصوص الذي ذكره وقرره دون
أن
(هامش)
(1) ص 115 - 116. (*)
ص 48
يكون أراد بها غيره ما عداه. يوضح ذلك ويزيده بيانا لو قال: ألستم تعرفون داري التي
في موضع كذا؟ ثم وصفها وذكر حدودها، فإذا قالوا: بلى، قال لهم: فاشهدوا أن داري وقف
على المساكين، وكانت له دور كثيرة، لم يجز أن يحمل قوله في الدار التي وقفها إلا
على أنها الدار التي قررهم على معرفتها ووصفها. وكذلك لو قال لهم: ألستم تعرفون
عبدي فلانا النوبي؟ فإذا قالوا: بلى، قال لهم: فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله تعالى،
وكان له مع ذلك عبيد سواه لم يجز أن يقال: إنه أراد إلا عتق من قررهم على معرفته
دون غيره من عبيده وإن اشترك جميعهم في اسم العبودية. وإذا كان الأمر على ما ذكرناه
ثبت أن مراد النبي صلى الله عليه وآله بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه معنى
الأولى الذي قدم ذكره وقرره، ولم يجز أن يصرف إلى غيره من سائر أقسام لفظة المولى
وما يحتمله، وذلك يوجب أن عليا عليه السلام أولى بالناس من أنفسهم بما ثبت أنه
مولاهم، كما أثبت النبي صلى الله عليه وآله لنفسه أنه مولاهم، وأثبت له القديم
تعالى أنه أولى بهم من أنفسهم، فثبت أنه أولى بهم من أنفسهم، فثبت أنه أولى بلفظ
الكتاب العزيز، وثبت أنه مولى بلفظ نفسه. فلو لم يكن المعنى واحدا لما تجاوز ما حد
له في لفظ الكتاب العزيز إلى لفظ غيره، فثبت لعلي عليه السلام ما ثبت له صلى الله
عليه وآله في هذا المعنى من غير عدول إلى معنى سواه. انتهى. وحيث أجاد فيما أفاد،
وأتى فوق ما يؤمل ويراد، نقلنا عبائره بعينها تتميما للفائدة، وتعميما للمائدة.
ص 49
الوجه الثاني ما ذكره سيدنا الشريف المرتضى علم الهدى ذو المجدين في كتاب
الشافي في الإمامة (1)، وغيره في غيره، وهو أن ما تحتمله لفظة مولى ينقسم إلى
أقسام: (منها) ما لم يكن عليه السلام عليه. و(منها) ما كان عليه ومعلوم لكل أحد أنه
عليه السلام لم يرده. و(منها) ما كان عليه ومعلوم بالدليل أنه لم يرده. و(منها) ما
كان حاصلا له ويجب أن يريده لبطلان سائر الأقسام، واستحالة خلو كلامه من معنى
وفائدة. فالقسم الأول: هو المعتق والحليف لأن الحليف هو الذي ينضم إلى قبيلة أو
عشيرة فيحالفها على نصرته والدفاع عنه فيكون منتسبا إليها متعززا بها، ولم يكن
النبي صلى الله عليه وآله حليفا لأحد على هذا الوجه. والقسم الثاني: ينقسم إلى
قسمين: أحدهما : معلوم أنه لم يرده لبطلانه في نفسه، كالمعتق والمالك والجار
والصهر، و الآخر : معلوم أنه لم يرده من حيث لم يكن فيه فائدة وكان ظاهرا شائعا
وهو ابن العم. والقسم الثالث: الذي يعلم بالدليل أنه لم يرده هو ولاية الدين
والنصرة فيه والمحبة أو ولاء العتق، والدليل على أنه لم يرد ذلك أن كل أحد يعلم من
دينه وجوب تولي المؤمنين ونصرتهم، وقد نطق الكتاب به، وليس يحسن أن يجمعهم على
الصورة التي حكيت في تلك الحال، ويعلمهم ما هم مضطرون إليه من دينه، وكذلك هم
يعلمون أن ولاء العتق لبني العم قبل الشريعة وبعدها، وقول ابن
(هامش)
(1) ج 2 / 268 وما بعدها. (*)
ص 50
الخطاب في الحال على ما تظاهرت به الرواية لأمير المؤمنين عليه السلام: أصبحت مولاي
ومولى كل مؤمن (1)، يبطل أن يكون المراد بالخبر ولاء العتق أو إيجاب النصرة في
الدين استبعد أن يكون أراد به قسم ابن العم لاشتراك خلو الكلام عن الفائدة بينهما،
فلم يبق إلا القسم الرابع الذي كان حاصلا له عليه السلام ويجب أن يريده وهو الأولى
بتدبير الأمة وأمرهم ونهيهم. انتهى.
(هامش)
(1) انظر: مسند أحمد: 4 / 281، تاريخ بغداد: 8 / 290، الرياض النضرة: 2 / 169،
الملل والنحل: 1 / 163. (*)
ص 51
الرد على الآلوسي
ومن جميع ذلك ظهر فساد ما ذكره الآلوسي في تفسيره روح البيان
(1) حيث أظهر في المقام عناده وتعصبه، وبغضه لعلي عليه السلام، فقال بعد الآية ما
لفظه: وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله وجهه وقد زادوا فيه
إتماما لغرضهم زيادات منكرة، ووضعوا في خلاله كلمات مزورة، ونظموا في ذلك الأشعار،
وطعنوا على الصحابة بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار. فقال إسماعيل بن محمد
الحميري عامله الله تعالى بعدله من قصيدة طويلة.. ثم ذكر القصيدة. ثم قال ما لفظه:
إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال، وأنت تعلم أن أخبار الغدير
التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا،
ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين، ولنوضح الغث منه والسمين، ثم نعود على استدلال
الشيعة بالإبطال، ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال.
(هامش)
(1) ج 6 ص 193 (ط - بيروت). (*)
ص 52
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله خطب في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من
حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم. ثم تكلم كثيرا، ونقل روايات متعددة في
ذلك المقام. ثم قال: وقد اعتنى بحديث - الغدير - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري،
فجمع فيه (مجلدين) أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين، والصحيح
والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من
غير تمييز بين صحيح وضعيف. وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر، أورد أحاديث
كثيرة في هذه الخطبة، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه ونحوه مما ليس فيه خبر
الاستخلاف كما يزعمه الشيعة. وعن الذهبي: أن من كنت مولاه فعلي مولاه متواتر
يتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وآله قاله. وأما اللهم وال من والاه فزيادة
قوية الإسناد. وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح. ولا والله نزلت تلك
الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام. والشيخان لم يرويا خبر الغدير
في صحيحيهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة : أن ذلك لقصور
وعصبية فيهما، وحاشاهما من ذلك. ووجه استدلال الشيعة بخبر من كنت مولاه فعلي
مولاه أن المولى
ص 53
بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة، ولا يخفى أن أول الغلط في هذا
الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى . وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة، بل
قالوا: لم يجئ مفعل بمعنى أفعل أصلا، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي
متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: *(هي مولاكم)*(1) أي أولى بكم، ورد
بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان، كما يصح فلان أولى من فلان، واللازم باطل
إجماعا، فالملزوم مثله. وتفسير أبي عبيدة بيان لحاصل المعنى، يعني النار مقركم
ومصيركم والموضع اللائق بكم، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى. وفيه
مواقع للنظر: الأول: إن قوله: بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي صلى الله عليه وآله فيه
أن الشيعة قد قطعوا بأن العامة خالفوا نص النبي صلى الله عليه وآله في علي
عليه السلام، بل لا ريب فيه أصلا باعتراف أكثرهم. كيف وأنتم مضافا إلى مخالفتكم نص
النبي صلى الله عليه وآله قد خالفتم أنفسكم، وسيأتي ما عن الغزالي واعترافه بأن عمر
قال: بخ بخ لك يا علي! لكن بعد ذلك قد غلب عليه هواه، وهو أعلم وأزهد وأتقى من
الآلوسي بمراتب كثيرة باعتراف جميع علمائكم، بل كان مثل الغزالي فيكم عزيز
الوجود وقد اعترف بعصيان عمر نص النبي صلى الله عليه وآله وكيف عن تبعه. وسبط
ابن الجوزي منا أو منكم، وقد أبطل جميع معاني المولى إلا
(هامش)
(1) سورة الحديد: 15. (*)
ص 54
بمعناه العاشر ، وهو أولى . وهو أعرف من الآلوسي وأعلم. غاية الأمر
إنصافه أوقعه في إظهار الحق، وترك العناد، وأنت - أيها الآلوسي - من كثرة العناد
والتعصب كدت تموت غيظا، حتى قلت في حق - الحميري - أولا: عامله الله تعالى بعدله،
وثانيا: لا غفر الله عثرته ولا أقال. يا هذا، أهذا من الانصاف؟ أيكون دأب الناظر في
كلام الغير إساءة الأدب، والدعاء عليه، مع أنه حرام قطعا؟ ألا ترى بأن الدعاء أعرف
بموضعه وبمكانه وبمن وقع عليه وبما استقر فيه؟ أما تعرف بأن دعاءك يضرب على رأسك.
الثاني: إن قوله: غير صحيحة عند أهل السنة. فيه إن أهل السنة كمثلك في شدة العناد
والتعصب، وليس فيكم منصف إلا نادرا. ومع ذلك قد رأيت من العبارات الكثيرة التي
نقلتها قبلا أن أكثرهم قد اعترفوا تمامية النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه
وآله في حق علي بن أبي طالب عليه السلام خصوصا حديث المقام . وكم من العامة
اعترفوا بكونه نصا في إمامة علي عليه السلام لكثرة القرائن الواردة فيه - داخلية
وخارجية - بحيث إن من له أدنى تدبر وتأمل يعرف أن الغرض من ذلك في ذلك الموقع
والموضع ليس إلا نصب علي عليه السلام بالإمامة. وكان الأمر بمثابة من الوضوح حتى لا
يخفى ذلك على أحد، ولم يكن موضع ترديد وريب.
ص 55
وقد عرفت أنه لما بلغ ذلك الحارث بن النعمان، وكان مثلك - أيها الآلوسي - في
العناد، جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله مع كمال العناد والتعصب، ووقع بينهما ما
مر. أكان هذا الاهتمام في مقام إظهار المحبة ونحوها؟ كلا ثم كلا. الثالث: إن قوله:
وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر محمد بن جرير الطبري. أليس قد اعترفت بأنه جمع
أخبار الغدير في مجلدين ، وهو أعلم منك بمراتب؟ أليس في مجلدين من
الأخبار صحيح ، ودال على المراد؟ وقد اعترفت أنت بأنه جمع فيها الصحيح والسقيم.
سلمنا في المجلدين مخلوط من الصحاح وغيرها فلا أقل كان نصفها صحيحا ونصفها سقيما،
ومن المعلوم أن السقيم منها ليس يخالف الصحاح منها، بل الجميع بمفاد واحد أقصاه
أنها لم يكن بنفسها دليلا لضعفها، أما لو كانت مع الصحاح كانت الصحاح جابرة لضعفها،
وصار المجموع دليلا. سلمنا عدمه وأنت تسقط الضعاف منها ويكون على اعترافك بقدر
مجلد من الأخبار صحيح. سلمنا أقل من ذلك، أليس في مقدار المجلدين عدة قليلة
من الصحاح الدالة على المقصود، وهو كاف؟ والفرض أن الضعاف غير مخالف لها في
المضمون كي يسقط الجميع عن الاعتبار.
ص 56
الرابع: قوله: وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة. وكذا،
قوله: وعن الذهبي أن من كنت مولاه فعلي مولاه متواتر. فما الداعي على التنصيص
بهذه الأخبار المتواترة؟ الخامس: قوله: والشيخان لم يرويا خبر الغدير في
صحيحيهما . ومن المعلوم أن عدم روايتهما فيهما إما لعنادهما كما هو الحق فزعم
الشيعة في محله، وإما لجهلهما. فإنه إذا جمع الطبري هذه الأخبار في مجلدين ،
وادعى الذهبي تواترها، فعدم ذكرهما إما لجهل وإما لعناد. وكيف لا وإنهما رويا
أحاديث كثيرة مكذوبة في حق أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعائشة و... و...، وتركا ما
هو النص في إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام، فإذا تعرف أن قولك: لا غفر الله له،
بمن يرجع. أما فهمت أنه لا يصدر عن النبي صلى الله عليه وآله أمر لغو؟ أيكون هذا
الفعل منه مع هذه الشدة لأجل أن يفهم أن عليا عليه السلام ناصركم؟ في مجئ مفعل
بمعنى أفعل السادس: قوله: بل قالوا: لم يجئ مفعل بمعنى أفعل . وفيه أولا
- أن معيار المجئ وعدمه هو: الكتاب والسنة وكلمات العرب والفرض قد ورد فيهما.
ص 57
أما الأول: فقوله *(مأواكم النار هي مولاكم)*(1) - أي النار أولى بكم - وما أمكن
إرادة نفس المعنى من اللفظ لا يصح إرادة غيره، ولو كان هو حاصل المعنى أو عبارة
أخرى عنه، ولو لم يصح إرادة الأولى لم يصح إيراده منه تعالى في ذلك المقام.
فقول أبي عبيدة حق، وتمسكه بالآية صحيح، ولا معنى للمولى حينئذ إلا
الأولى . وأما في السنة و الفرض أن وروده بمعنى الأولى في المقام غير
منكر. وقد عرفت عبارة سبط ابن الجوزي وقد استدل على بطلان كل من معانيه إلا
بمعنى الأولى . ونحن لم نذكر العبارة جميعها خوفا للإطالة، وهو أعلم وأدرى منك،
بل القرائن الحالية والمقالية دلت على عدم صحة إرادة غير الأولى من المولى .
وأنت مضافا إلى جهلك بموارد اللغة لم تكن تفهم المطالب بضميمة القرائن، ومن ثم لا
اعتماد بكل شيء ذكرتموه، وأفتيتم به، فإنه يدور بين كونه عن جهل أو عناد. أفهذه
الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المكان كلها ضعيفة أو غير دالة، وأن في مثل المقام
كان المولى بمعنى المحب و الناصر ؟ فلو كان هذا فهم الآلوسي وفهم
أمثاله، لكانوا إما من الجهال، أو من أشد الناس عداوة لعلي بن أبي طالب عليه
السلام.
(هامش)
(1) سورة الحديد: 15. (*)
ص 58
وممن أظهر التعصب والعناد في إنكار مجئ مفعل على أفعل الفخر الرازي ،
فقال بعد نقله معنى الأولى عن جماعة ما نصه: قال تعالى: *(مأواكم النار هي
مولاكم وبئس المصير)*، وفي لفظ المولى هاهنا أقوال: أحدها - قال ابن عباس:
مولاكم - أي مصيركم، وتحقيقه أن المولى موضع الولي وهو القرب، فالمعنى:
إن النار هي موضعكم الذي تقربون منه، وتصلون إليه. والثاني - قال الكلبي: يعني أولى
بكم، وهو قول الزجاج و الفراء و أبي عبيدة ، واعلم أن هذا الذي قالوه
معنى، وليس بتفسير اللفظ، لأنه لو كان مولى و أولى بمعنى واحد في اللغة لصح
استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر، فكان يجب أن يقال: هذا مولى من فلان، ولما
بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه: معنى وليس بتفسير، انتهى موضع الحاجة. ولا يخفى ما
فيه، فإنه نقل كلام أئمة اللغة وتصريحهم بأن المولى بمعنى أولى ، وقولهم
هو الحجة في هذا الفن، وهم الذين يرجع الناس إليهم في فهم المعاني. ثم قال من شدة
عناده: بأن الذي قالوه: يكون معنى ولا يكون تفسير اللفظ. وهذا من الغرائب، ومراده
أن الذي قاله أعاظم أئمة اللغة من كون المولى بمعنى الأولى هو حاصل
المعنى لا نفس معنى اللغة وتفسيرها. وهذا منه عجيب، إذ اللغوي لو بين شيئا وفسره،
كان ذلك بحكم وظيفته
ص 59
بيان معناه في اللغة التي هي شأنه، فإذا قال معنى اللفظ الفلاني كذا، ليس لأحد أن
يقول: أنه حاصل معناه وليس بتفسير له. وهذا أمر واضح. على أنا نقول: لو كان ما ذكره
أئمة اللغة من أن المولى بمعنى الأولى حاصل المعنى ولم يكن تفسيرا للفظ
المولى فما معنى نفس المولى فهل له معنى في قوله تعالى: *(هي مولاكم)* أو لا،
والثاني كما ترى. وعلى الأول: فإن كان معنى المولى هو أولى فهو المطلوب،
وكان قول أئمة اللغة معناه، وإن كان غيره نسأل بأنه ما معنى نفس اللفظ حينئذ؟ فإن
قلت: أحد معانيه الأخر سوى الأولى فبطلانه كما ترى، وإن كان غيرها مثل المصير
والمقر - أي النار مصيركم ومقركم - فيرد عليه: بأنك قد اعترفت بأنه ليس معنى اللفظ،
بل هو تفسيره، فما معناه؟ والحاصل: أنه في المقام لا يمكن الالتزام بعدم المعنى
للمولى ولا الالتزام بغير الأولى من سائر معانيه، فثبت تعين إرادة الأولى
من المولى . وأما توهم عدم صحة استعمال المولى مكان الأولى فهو أول
الكلام، وعدم الاستعمال غير عدم الصحة، وقد يكون شيء وضع في اللغة لمعنى خاص، ولكن
لم يستعمل فيه، ولفظة من وضع للابتداء وتكون مرادفا مع لفظة الابتداء الاسمي
عند بعض المحققين. ومع ذلك لا تستعمل مكان لفظة الابتداء، فلا يقال: من خير من
الانتهاء، كما يقال: الابتداء خير من الانتهاء.
ص 60
اعتراف الغزالي بعصيان عمر
قال سبط ابن الجوزي في تذكرته ما لفظه: وذكر أبو
حامد الغزالي في كتاب سر العالمين وكشف ما في الدارين (1) ألفاظا تشبه هذا،
فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام يوم غدير خم : من
كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ يا أبا الحسن! أصبحت مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة. قال: وهذا تسليم ورضاء وتحكيم، ثم بعد هذا غلب الهوى حبا
للرئاسة، وعقد البنود، وخفقان الرايات، وازدحام الخيول في فتح الأمصار، وأمر
الخلافة ونهبها، فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا،
فبئس ما يشترون. قال: ولما مات رسول الله صلى الله عليه وآله، قال قبل وفاته بيسير:
ائتوني بدواة وبيضاء لأكتب لكم كتابا لا تختلفون فيه بعدي ، فقال عمر: دعوا
الرجل فإنه ليهجر. وقال: إن العباس وعليا وولده وبني هاشم لم يحضروا البيعة ثم
خالفهم
(هامش)
(1) ذكر ذلك في المقالة الرابعة. (*)
ص 61
الأنصار يوم السقيفة ، انتهى موضع الحاجة، وفي عبارة سر العالمين أدنى تفاوت
فراجع (ص 21) وفيه: بدواة وبياض لأزيل عنكم إشكال الأمر وأذكر لكم من المستحق لها
بعدي . ولا يخفى أن عباراته، ونقل عبارة الغزالي وعدم رده صريحة في تصديق كون
الحق مع علي بن أبي طالب عليه السلام، وأن الروايات نصت في تصريح النبي صلى الله
عليه وآله بأنه الخليفة بعده، وأن عمر خالف عليا للهوى، وغصب حقه عصيانا،
وأن الإجماع على خلافة أبي بكر غير تام من حيث مخالفة جمع كثير منهم: العباس وعلي
وولده وبني هاشم فإنهم لم يحضروا البيعة مع أنه لو كانت خلافة أبي بكر حقا عند
علي بن أبي طالب عليه السلام لما خالفه، فإنه عليه السلام ليس بمثل أبي بكر وعمر
متابعا للهوى، ومريدا للعصيان، وسيأتي في مسألة إجماعهم مخالفة أبي سفيان، وقوله
لعلي عليه السلام: أبسط يدك أبايعك، إلخ. وقد صرح رضي الله عنه بأن المراد من
المولى هو الإمامة ، وقد قبلا واعترفا بأن الخليفة هو علي بن أبي طالب عليه
السلام. وقال أيضا في تذكرته بعد الحديث ما لفظه: اتفق علماء السير على أن قصة
الغدير كانت بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله من حجة الوداع في الثامن
عشر من ذي الحجة، جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين ألفا، وقال: من كنت مولاه فعلي
مولاه الحديث، نص صلى الله عليه وآله على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة
(انتهى). أفلا يكفي ذلك؟ ألا ترى قول الغزالي مستشهدا بآية: *(واشتروا به ثمنا
ص 62
قليلا فبئس ما يشترون)*(1). وهو صريح في أنه بئس ما عمل الشيخان، وبئس ما يشترون،
وأنهما باعا الآخرة الباقية بالخلافة وهي ثمن قليل، وتركا الدار الباقية لأجل رئاسة
سنتين. أليست الآية واردة في ذم اليهود وأهل الكتاب الذين لم يقبلوا نبوة محمد صلى
الله عليه وآله مع حصول علمهم بذلك، حبا للدنيا؟ أليس مراد الغزالي بنقل قصة -
الدواة والبيضاء - في ذلك المقام هو بيان أن غرض النبي صلى الله عليه وآله في هذه
الحالة هو تثبيت أمر الخلافة لعلي عليه السلام، وأن عمر فهم مقصوده صلى الله عليه
وآله، فقال ما قال فيمن كان كلامه وحيا محضا كما هو صريح قوله عز من قائل: *(وما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)*(2)، فهل النبي صلى الله عليه وآله يهجر؟ أليس
ذلك رد لقول الله تعالى وقول النبي صلى الله عليه وآله؟ فيا أهل الانصاف، لو سئل
أحد منكم بأنه ما حال من رد قول الله تعالى، وقول الرسول صلى الله عليه وآله، فماذا
أجبتم في جوابه؟ أليس ذلك منظور الغزالي و ابن الجوزي ؟ أفهمت - يا آلوسي -
أيكون الغزالي منا أم منكم؟ أيصح نقض هذا العهد؟ ألا ترى قوله تعالى: *(فبما نقضهم
ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية
(هامش)
(1) سورة آل عمران: 187. (2) سورة النجم: 3 و4. (*)
ص 63
يحرفون الكلم عن مواضعه)*(1) الآية؟ أتعرفون خلفاءكم؟ وهذا الذي غلبه هواه بمثابة
غصب حق الخلافة، وجعل أقوال النبي صلى الله عليه وآله ووصاياه تحت قدميه يليق لذلك
المقام؟ أما قرأت القرآن: *(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض
ولا فسادا)*(2). فمن ليس له دار الآخرة في صورة الإرادة فضلا عن الفعلية، كيف يكون
خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ والظاهر من الآية عدم دار الآخرة لمن كان
كذلك. ونقل رضي الله عنه في تذكرته (3) أيضا رواية البراء بن عازب، ثم قال بعد
ذلك ما هو نصه: فإن قيل: فهذه الرواية التي فيها قول عمر: أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة ضعيفة. فالجواب: إن هذه الرواية صحيحة، وإنما الضعيف حديث رواه أبو
بكر أحمد بن ثابت الخطيب، عن عبد الله بن علي بن محمد بن بشر، عن علي بن عمرو
الدارقطني، عن أبي نضر خيشون بن موسى بن أيوب الخلال، رفعه إلى أبي هريرة، وقال في
آخره: لما قال النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه ، نزل قوله
تعالى: *(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي)*(4) الآية.
(هامش)
(1) سورة المائدة: 13. (2) سورة القصص: 83. (3) تذكرة الخواص: 29. (4) سورة
المائدة: 3. (*)
ص 64
قالوا: وقد انفرد بهذا الحديث خيشون ، ونحن نقول: نحن ما استدللنا بحديث خيشون
بل بالحديث الذي رواه أحمد في الفضائل عن البراء بن عازب، وإسناده صحيح.
ورواية حديث خيشون مضطربة، لأنه قد ثبت في الصحيحين أن قوله تعالى: *(اليوم
أكملت لكم دينكم)* الآية نزلت عشية عرفة في حجة الوداع . على أن الأزهري
قد روى عن خيشون ولم يضعفه، فإن سلمت رواية خيشون احتمل أن الآية نزلت
مرتين: مرة بعرفة ومرة يوم الغدير ، كما نزلت *(بسم الله الرحمن الرحيم)*
مرتين: مرة بمكة ومرة بالمدينة . انتهى كلامه، وهذا توجيه حسن على زعمهم،
وقد عرفت أنه قوت هذه الجملة الرواية التي قالها عمر. وأيضا مقتضى ما ذكره هذا
المنصف أن حديث نزول آية *(اليوم)* الخ في يوم الغدير غير ضعيف، فلم يكن حجة
من ضعفه بتمام. مضافا إلى أن الآية عند الإمامية نزلت في غدير خم عندما نصب
النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام. على أن نزولها إن كان في يوم الغدير
فلا كلام. وإلا فلنا أولا - سؤال: إن الآية صريحة في نزولها في اليوم حيث قال
*(اليوم أكملت)*، وعشية عرفة ليست بيوم، فلو صحت للزم أن يقال: الليلة أكملت
لكم دينكم. وثانيا - أن عشية عرفة التي كانت ليلة نزول الآية، كيف يكون زمانا
ص 65
أكمل فيه الدين، ويتم فيه النعمة، وأن هذا الاكمال فيها هل يكون بلا سبب، أو مع
ورود حكم فيه؟ والأول: - كما ترى -، إذ الشيء بلا سبب لا يصير كاملا فضلا عن
صيرورته إكمالا مضافا إلى كونه ترجيحا بلا مرجح، فإن كان المرجح فضيلتها كانت ليال
القدر أفضل منها بلا كلام مع أن الأفضلية غير موجب للاكمال. وعلى الثاني: ما كان
هذا الحكم الذي ورد فيه وكيف يكون سببا لإكمال الدين، فإن المسائل غير متناهية،
فكيف بورود حكم أكمل الدين ويتم النعمة الدينية؟ وهل ينزل في ذلك اليوم أو الليلة
من الأحكام الكثيرة بمقدار أكمل الدين بحيث لا يبقى حكم للناس إلا وقد نزل في هذا
اليوم أو الليلة أو حكم واحد. والثاني باطل جدا، ولا سبيل إلى الأول لكونه على خلاف
الوجدان، فكم من موضوعات لم يبين حكمها في هذا اليوم بل حكم ما لم يذكر أكثر مما
ذكر، لأن الأزمان والأيام غير متناهية تقريبا إلى زمان فناء الجميع، وفي كل يوم قد
تحقق موضوع غير مذكور حكمه. فإن كان المراد هو إكمال أحكام الحج، فمضافا إلى عدم
صحة إسناد الاكمال إلى الجميع حينئذ نسأل من خصوصية أوجبت لإكمال الحج في السنة
الأخيرة، فإنه إن كان أكمل في السنوات الماضية فلا معنى للإسناد إلى الأخير، وإن لم
يكمل قبلا فما علة عدم بيان أحكام الحج قبلا؟ وكيف يجوز ذلك؟ فهل يكون الحج من
السابقين باطلا لعدم إكمال أحكامه؟! فربما يقع لهم شيء يحتاج إلى بيان حكمه وكان
مما أبطل فقده، وكيف يصح من الحكيم تنقيص أحكام الحج في السنوات السابقة وإكماله في
السنة الأخيرة.
ص 66
وبالجملة لا يتصور إكمال الأحكام في العادة حتى على مذهب الإمامية حيث إن
الحجة عندهم اثنا عشر وزمان مكثهم قريب ثلاثمائة سنة، فكم من روايات صدرت عنهم في
هذه المدة الكثيرة حتى كتبوا من الأصول المتلقاة عنهم عليهم السلام أربعمائة أصولا
سميت ب الأصول الأربعمائة ومع ذلك لم ينقل عنهم عليهم السلام في غاية الكثرة.
فضلا عن العامة التي يكون مدرهم منحصرا فيما وصل إليهم عن النبي صلى الله عليه وآله
فكم من روايات لم تكن في الأخبار النبوية عين منها ولا أثر. وما كان أيضا لم يكن
حجة إذ حال رئيسهم معلوم، وناقلي الأخبار ينقلون مع علمهم بهذا الحال فلا إشكال
حينئذ في إبطال جميع ذلك، ولا يصح إلا إذا كان النزول بعد نصب الإمام، فإنه بالإمام
قد تمت النبوة والرسالة، فلو مات النبي صلى الله عليه وآله، وبقي من الموضوعات التي
لم يبين حكمها لعدم كون زمانه مقتضيا لبيانها، لقد بينها الإمام بعد النبي صلى الله
عليه وآله. ولو لم يبق أيضا فالإمام بعده فيصدر من الأئمة الاثني عشر في مدة (260)
تقريبا جميع كليات ما يحتاج إليه الناس. وما بقي أيضا استنبطه العلماء العاملين من
الأصول التي تتلقاها من الأئمة بخلاف ما إذا لم يعين الإمام فلا إكمال للدين، ولا
إتمام للنعمة على الناس، بل يقع الهرج والمرج، وتقع ودائع النبوة في يد الخائنين
المتبعين للهوى، وينتفي ويندرس بمرور الأيام ما صدر عن النبي لعدم بقاء حافظ لها.
والحاصل: لا معنى للآية إلا ما إذا أريد إكمال الدين بنصب إمام حافظ له
ص 67
إلى يوم القيامة، فإنه بذلك يكمل الدين، ولا مدخلية للأيام أصلا وفي أي يوم وساعة
نصب الإمام أكمل الدين وتم. ولذا اتفق الخاصة بأن الآية نزلت في يوم الغدير بعد
تبليغ النبي صلى الله عليه وآله رسالته في علي عليه السلام، وقد اعترف به أيضا كثير
من العامة. وفي الدر المنثور (1): عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نصب رسول الله
صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام يوم غدير خم فنادى له بالولاية، هبط جبرئيل
عليه السلام بهذه الآية: *(اليوم أكملت لكم دينكم)*(2). وكذا غيره، فراجع كتبهم تجد
كثيرا منهم نصوا على ذلك. والحاصل: لا سبيل لرد سند هذه الأحاديث، كما لا سبيل لرد
دلالتها، فإن المولى وإن كان بمعنى الناصر والولي أيضا، وكان من الألفاظ
المشتركة، إلا أن اللفظ المشترك لا يصح استعماله إلا مع القرينة والفرض، إن القرينة
الحالية والمقالية موجودتان لقوله صلى الله عليه وآله: أولى من أنفسكم
فالأولوية هي الأولوية اللازمة المساوقة لمعنى الإمام والتي أثبتها الله لنبيه صلى
الله عليه وآله، وأما الحالية لفهم أبي بكر وعمر منها معنى الأولوية لبداهة أنه لا
معنى للتهنية فيما كان المراد غير هذا المعنى، وأن الذي فهمه ابن النعمان هو معنى
الولاية المساوقة لمعنى الإمامة .
(هامش)
(1) ج 2 / 259. (2) سورة المائدة: 3. (*)
ص 68
في الرد على ما نسجه ابن حجر ومن جميع ما ذكرنا ظهر عناد ابن حجر المكي في
الصواعق المحرقة ، فإنه قال فيه: الفصل الخامس - في ذكر شبهة الشيعة والرافضة، ثم
بين واحدا بعد واحد، فقال: الحادية عشرة - زعموا أن من النص التفصيلي المصرح بخلافة
علي قوله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم - موضع بالجحفة مرجعه من حجة الوداع
. ثم رفع يد علي، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من
عاداه، فأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه
حيث دار . قالوا: فمعنى المولى - الأولى ، أي فلعلي عليه السلام عليهم من
الولاء ماله صلى الله عليه وآله عليهم منه، بدليل قوله: ألست أولى بكم لا
الناصر، وإلا لما احتاج إلى جمعهم، كذلك مع الدعاء له، لأن ذلك يعرفه كل أحد.
قالوا: ولا يكون هذا الدعاء إلا لإمام معصوم مفترض الطاعة. قالوا: فهذا نص صريح
صحيح على خلافته. ثم شرع في الجواب عنها واحدا بعد واحد بما قد ظهر فساده من عدم
ص 69
كون الحديث متواترا، وكون المولى بمعنى الناصر ونحوه. ثم قال: ثالثها - على
تسليم كون المولى بمعنى الأولى لا نسلم أن المراد أنه الأولى بالإمامة، بل
بالاتباع والقرب منه، كقوله تعالى: *(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه)*(1)،
ولا قاطع ولا ظاهر على نفي هذا الاحتمال، بل هو الواقع إذ هو الذي فهمه أبو بكر
وعمر، وناهيك بهما من الحديث فإنهما لما سمعاه قالا له: أمسيت يا بن أبي طالب مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة - أخرجه الدارقطني. وأخرج أيضا أنه قيل لعمر: إنك تصنع لعلي
شيئا لا تصنعه بأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله! فقال: إنه مولاي. رابعها -
سلمنا أنه أولى بالإمامة فالمراد المآل وإلا كان هو الإمام مع وجوده صلى الله عليه
وآله ولا تعرض فيه لوقت المآل، فكان المراد حين يوجد عقد البيع له فلا ينافي حينئذ
تقديم الأئمة الثلاثة عليه لانعقاد الإجماع حتى من علي عليه كما مر وللأخبار
السابقة المصرحة بإمامة أبي بكر. وأيضا فلا يلزم من أفضلية علي على معتقدهم بطلان
تولية غيره لما مر من أن أهل السنة أجمعوا على صحة إمامة المفضول مع وجود
الفاضل بدليل إجماعهم على صحة خلافة عثمان، واختلافهم في أفضلية علي. والجواب: أما
التواتر فلا كلام في أن حديث الغدير متواتر، بل لم يكن في جميع ما ورد من
الأحاديث أصولا وفروعا حديث بمثله، فلو لم يكن متواترا لم يكن حديث متواتر أصلا،
وأما كون المولى بمعنى الناصر فقد
(هامش)
(1) سورة آل عمران: 68. (*)
ص 70
عرفت بطلانه، وقبح صدور مثله من الحكيم في مثل هذا الموضع، وهكذا سائر معانيه. وأما
كون المولى بمعنى الأولى بالاتباع والقرب فلا شك في أنه حينئذ ليس إلا
بمعنى الإمامة، بل ما ذكره من أنه بمعنى الأولى بالاتباع والقرب أيضا هو الإمام
فإنه لولا كون علي عليه السلام إماما لا وجه لاتباعه لعدم وجوب اتباع غير الإمام
والقرب إلى النبي صلى الله عليه وآله ليس إلا لمن كان بمنزلته ونفسه، وإلا فلا يحصل
القرب إلى النبي صلى الله عليه وآله لكل أحد، فإذا سلم هذا الخصم كون المولى
بمعنى الأولى فلا يتصور له معنى غير الإمامة. وأما كون الإمامة المسلمة بالمآل
وعند انعقاد البيعة فلا أدري أهذا جهل أم تجاهل؟ فلو قلت لأحد أبنائك أو أصدقائك:
أنت أولى من غيري بعدي، أو أنت بمنزلتي بعدي، أو أنت قائم في مقامي بعدي. هل يكون
معناه تصرفه وتصديه بعد تصرفات الغير وتغييراته كيف كان ولو بعد سنين عديدة؟ فهذا
معنى كلامه. فكيف يكون هذا الكلام ظاهرا في هذا المعنى، فضلا عن الصراحة، مضافا إلى
أن الظهور بل الصراحة للخلافة خصوصا بعد وجود القرائن، وخصوصا بعد فهم أبي بكر وعمر
كما نقلت أنت قولهما. أفيصح بخ - بخ - لهما لعلي إذا علما ذلك بعد خلافتهما
بداهة أنه على هذا المعنى لكان على علي أن يقول: بخ - بخ - لهما، فإن التهنية حينئذ
لأبي بكر لا لعلي، فإن خلافته عاجل ولعلي آجل، فلا مورد لتهنيتهما أصلا، بل لعله
يعد من القبائح، بل يضحك به كل أحد، بل يكون التهنية والفضل والكرامة حينئذ لأبي
بكر لتقدمه
ص 71
وفعلية خلافته، بل اللازم بحكم العقل لو كان خلافة أبي بكر فعلا ولعلي عليه السلام
بعد الخلفاء الثلاثة هو كون التشريفات لأبي بكر. لم ينصف ابن حجر، ولم ينظر موقفه
بين يدي الله يوم القيامة، فليمهد نفسه للجواب. وأنا أسأله: إذا كانت هذه التشريفات
لأبي بكر، ورسول الله صلى الله عليه وآله نصبه، وقال فيه ما قال لعلي عليه السلام.
هل أوردت عليه بمثل هذه الشبهات أم كنت تسليما لأمره صلى الله عليه وآله وقبلت منه
بلا إيراد وإشكال، أما قال لك الغزالي ولأمثالك: واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما
يشترون؟ فكم من رواياتكم فيها التصريح بلفظ بعدي . ففي مسند أحمد : (1) بسنده
عن عمران بن حصين، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله سرية، وأمر عليهم علي بن
أبي طالب عليه السلام فأحدث شيئا في سفره فتعاهد، قال عفان: فتعاقد أربعة من أصحاب
محمد صلى الله عليه وآله أن يذكروا أمره لرسول الله صلى الله عليه وآله. قال عمران:
وكنا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله صلى الله عليه وآله فسلمنا عليه، قال:
فدخلوا عليه، فقام رجل منهم، فقال: يا رسول الله، إن عليا فعل كذا وكذا. فأعرض عنه.
ثم قام الثاني، فقال: يا رسول الله، إن عليا فعل كذا وكذا. فأعرض عنه. ثم قام
الثالث، فقال: يا رسول الله، إن عليا فعل كذا وكذا. فأعرض عنه. ثم قام الرابع،
فقال: يا رسول الله، إن عليا فعل كذا وكذا.
(هامش)
(1) ج 4 / 437. (*)
ص 72
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الرابع وقد تغير وجهه، فقال: دعوا عليا،
دعوا عليا، إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي . ونظيره بأدنى تفاوت، وفي
آخره: ثم قام الرابع، فقال مثل ما قالوا: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله
والغضب يعرف من وجهه، فقال: ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إن عليا مني
وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي (1). فلفظة من بعدي هل تكون بمعنى بعد خلافة
الخلفاء، فحينئذ يكون بعده غيره، فهل يقول صلى الله عليه وآله: بعدي أبو بكر، بئس
ما تحكمون. ولعمري أنهم يتبعون آباءهم بلا علم تقليدا لهم. فظاهر كلماتهم يوحي
بأنهم ليسوا من أهل العلم، وإلا فلو كانوا فصحاء بلغاء ذوو فطانة لعلموا قطعا بأنه
لو كان نظر رسول الله صلى الله عليه وآله إلى صيرورة علي عليه السلام خليفة بعد
الخلفاء لما تصح هذه التشريفات منه بمحضر مائة وعشرين ألف من الناس. إذ حينئذ كان
على الناس الاعتراض به وبعمله بمثل أن هذا التحريض والترغيب إنما يلزم في حق من هو
خليفة ابن حجر و الآلوسي بلا فصل وهو أبو بكر ، فلا مورد لعلي عليه
السلام أصلا، ولا جواب لرسول الله صلى الله عليه وآله حينئذ. ألم يكن قول ابن حجر
مساوقا لإنكار جميع ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله في علي عليه السلام.
أبهذا المنطق يقال: إن من ترك طريقة الشيخين كان في النار؟
(هامش)
(1) صحيح الترمذي: ج 2 ص 297. (*)
ص 73
أبذلك يحكم بأن الرافضة - أي الشيعة - من كلاب النار؟ أف لكم ولما تحكمون، مع أن
فضائل شيعة علي عليه السلام ملأت كتب العامة، فإذا حكم رسول الله صلى الله عليه
وآله بحكم من جانب الله أكان معناه هو الالتزام به بالمآل ولو بعد خمس وعشرين سنة.
وأما قول ابن حجر : وإلا كان هو الإمام مع وجوده صلى الله عليه وآله، فهذا أمر
يعرفه الأصاغر من الطلاب فضلا عن أكابرهم، بأن مقصوده صلى الله عليه وآله من ذلك،
هو إمامته عليه السلام بعده بلا فصل، لوجود القرائن الكثيرة على ذلك - كما عرفت -.
(ومنها): ما ذكره الهيثمي في مجمعه (1) قال: وعن عبد الله بن مسعود، قال:
استتبعني رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الجن فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى
مكة، فخط لي خطا - وساق الحديث إلى أن قال - قال - أي النبي صلى الله عليه وآله -:
إني وعدت أن يؤمن بي الجن والإنس، فأما الإنس فقد آمنت بي، وأما الجن فقد رأيت،
قال: وما أظن أجلي إلا قد اقترب ، قلت: يا رسول الله، ألا تستخلف أبا بكر؟ فأعرض
عني، فرأيت أنه لم يوافقه، قلت: يا رسول الله، ألا تستخلف عليا؟ قال: ذاك والذي
لا إله إلا هو إن بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنة أكتعين . قال: رواه الطبراني.
(ومنها): ما ذكره المناوي في كنوز الحقائق (2) قال: من قاتل عليا
(هامش)
(1) مجمع الزوائد: ج 8 / 314. (2) ص 145. (*)
ص 74
على الخلافة، فاقتلوه كائنا من كان . قال: أخرجه الديلمي. (ومنها): ما رواه الخطيب
البغدادي في تاريخه (1): بسنده عن أحمد بن حنبل، قال: كنت بين يدي أبي جالسا
ذات يوم، فجاءت طائفة من الكرخيين فذكروا خلافة أبي بكر، وخلافة عمر بن الخطاب،
وخلافة عثمان بن عفان، فأكثروا، وذكروا خلافة علي بن أبي طالب عليه السلام وزادوا
فأطالوا، فرفع أبي رأسه إليهم، فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي عليه
السلام، بل علي عليه السلام زين الخلافة، قال الخطيب: قال السياري: فحدثت بهذا بعض
الشيعة، فقال لي: قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض. (ومنها):
ما رواه ابن الأثير الجزري في أسد الغابة (2): بسنده عن المدائني، قال: لما دخل
علي بن أبي طالب عليه السلام الكوفة دخل عليه رجل من حكماء العرب، فقال: والله، يا
أمير المؤمنين، لقد زنت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما رفعتك، وهي كانت أحوج إليك
منك إليها. فهل تكفي هذه التصريحات؟ أليس صريح ما نقله الهيثمي هو الإعراض عن خلافة
الخلفاء؟ أليس هذا وأمثاله وهذه النصوص كاف في أن الخليفة هو علي عليه السلام لا
غير؟ في تاريخ ابن جرير الطبري (3): روي بسنده عن ابن عباس، عن علي بن
(هامش)
(1) تاريخ بغداد: 1 / 135. (2) ج 4 / 32. (3) تاريخ الطبري: 2 / 62. (*)
ص 75
أبي طالب عليه السلام، قال: لما نزلت هذه الآية: *(وأنذر عشيرتك الأقربين)*(1)
على رسول الله صلى الله عليه وآله دعاني رسول الله، فقال لي: يا علي، إن الله أمرني
أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى أبدأهم بهذا الأمر رأيت
منهم ما أكره، فصمت عليه - أي سكت - حتى جاءني جبرئيل، فقال: يا محمد، إنك إن لم
تفعل ما أمرت به يعذبك ربك فاصنع صاعا من الطعام واجعل عليه رجل شاة واملأ عسا من
لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به، ثم
دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة
والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعا بالطعام الذي صنعته لهم فجئت به، فلما
وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها
في نواحي الصحفة ثم قال: كلوا باسم الله، فأكلوا حتى ما لهم إلى شيء من حاجة، وأيم
الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمته لجميعهم، ثم قال:
اسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعا، وأيم الله إن كان
الرجل منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكلمهم بدره أبو
لهب إلى الكلام، فقال: لشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى
الله عليه وآله. فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي، إن
هذا الرجل قد سبقي إلى ما سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا اليوم
إلى مثل ما صنعت بالأمس ثم اجمعهم لي، ففعلت، ثم جمعتهم، ثم دعا بالطعام فقربته
لهم، ففعل مثل ما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء من
(هامش)
(1) سورة الشعراء: 214. (*)
ص 76
حاجة، ثم قال: اسقهم، فجئتهم بذلك العس، فشربوا منه جميعا حتى رووا. ثم تكلم رسول
الله صلى الله عليه وآله، فقال: يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم أن شابا في
العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني
الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي
منكم، فأحجم القوم عنه جميعا، فقلت: أنا، وإني لأحدثهم سنا، وأرمضهم عينا، وأعظمهم
بطنا، وأحمشهم ساقا، أنا يا رسول الله، أكون وزيرك عليه، فأعاد القول، فأمسكوا عنه،
وأعدت ما قلت، فأخذ برقبتي، ثم قال لهم: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له
وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب رضي الله عنه: قد أمرك أن تسمع
لابنك وتطيع (1). فانظروا إلى هذا الاستهزاء، وإلى من يرجع، وقد أطلت بنقل هذه
الأحاديث لئلا يقول ابن حجر وأمثاله بأن المقصود من بعدي هو البعد بالمآل.
حكمة
أخيرة:
كل الدلائل توضح أن المقصود من كلمة مولى وولي في الحديث، هو الخليفة
والقائد للأمة الإسلامية، ولا يمكن أن ينسجم مع معنى آخر.. وإليك الدليل:
1 - علمنا
مما سبق أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخشى من طرح حديث الغدير... ولم يفعل ذلك
إلا بعد أن ورد إليه الأمر الصريح وباللهجة الشديدة كما عرفت.
(هامش)
(1) رواه الثعلبي في تفسيره وغيره مسندا إلى البراء بن عازب. (*)
ص 77
فهل يمكننا إذن أن نقول إن المقصود من حديث الغدير هو تذكير الناس بصداقة النبي
صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام؟ وإن كان هذا هو القصد والهدف فما هو المبرر
للخشية من الإفصاح بهذا...؟ ولماذا يهدد هذا وحدة المسلمين وأخوتهم...؟ ثم هل تستحق
مسألة الصداقة بينهما صلوات الله عليهما أن يحشر الحجيج في بقعة من الأرض جرداء...؟
تكويهم الشمس من جهة... ورمضاء الهجير من جهة أخرى فيضطر أحدهم أن يضع طرفا من ثوبه
تحت رجليه... والآخر فوق رأسه كما يحدثنا التاريخ؟ (1)
2 - إن النبي صلى الله عليه
وآله قبل أن يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه أخذ من المسلمين الاعتراف بأنه أولى
بهم من أنفسهم، وهذا يدل بوضوح على أن الولاية التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله
لعلي عليه السلام هي عين الولاية التي هي له صلى الله عليه وآله. وهذه الولاية ليست
صداقة أو محبة، بل هي ولاية عامة وقيادة مطلقة... وإن كانت تتضمن المحبة والعطف فهو
صلى الله عليه وآله بالمؤمنين رؤوف رحيم.
3 - إن حسان بن ثابت قد نظم واقعة
الغدير شعرا بإجازة النبي صلى الله عليه وآله، وقد انتشر ذلك الشعر وشاع برضى
النبي صلى الله عليه وآله وعلمه... وقد ورد في شعر حسان تصريح بالخلافة والإمامة...
ومع ذلك لم يعترض عليه معترض من ذلك الجمع الغفير، قائلا له: إنك قد أخطأت في تفسير
كلمة مولى ... بل إن الجميع استحسنوا شعره ومدحوه، وإليك بعض شعر حسان:
(هامش)
(1) الغدير: 1 / 10. (*)
ص 78
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه *
فكونوا له أتباع صدق مواليا (1) لقد فسر حسان قول النبي صلى الله عليه وآله بأنه نص
على الإمام بالخلافة ولم يعترض عليه أحد مما يدل على أن الجميع قد فهموا نفس ما
فهمه حسان وما نفهمه نحن الآن.
4 - إن النبي صلى الله عليه وآله بعد الانتهاء من
الخطبة الشهيرة أمر أن تنصب خيمة يجلس فيها الإمام علي عليه السلام للتهنئة، وأمر
المسلمين حتى نساءه هو صلى الله عليه وآله أن يهنئوه ويبايعوه ويسلموا عليه بإمرة
المؤمنين (2)، ومن البديهي أن هذه المراسم لا تنسجم إلا مع الولاية والخلافة.
5 -
قال النبي صلى الله عليه وآله: هنئوني هنئوني، إن الله تعالى خصني بالنبوة وخص
أهل بيتي بالإمامة (3).
6 - لأهمية الحديث الفائقة فقد رواه طائفة كثيرة من علماء
الفريقين، وبألفاظ متقاربة، منهم: 1 - أحمد بن حنبل. 2 - ابن ماجة. 3 - النسائي. 4
- الشيباني. 5 - أبو يعلى. 6 - الطبري. 7 - الترمذي. 8 - الطحاوي. 9 - ابن عقدة.
(هامش)
(1) الغدير: 2 / 34 - 41، تذكرة خواص الأمة: 20. (2) الغدير: 1 / 270 - 271. (3)
الغدير: 1 / 274. (*)
ص 79
10 - العنبري. 11 - أبو حاتم. 12 - الطبراني. 13 - القطيعي. 14 - ابن بطة. 15 -
الدارقطني. 16 - الذهبي. 17 - الحاكم. 18 - الثعلبي. 19 - أبو نعيم. 20 - ابن
السمان. 21 - البيهقي. 22 - الخطيب. 23 - السجستاني. 24 - ابن المغازلي. 25 -
الحسكاني. 26 - العاصمي. 27 - الخلعي. 28 - السمعاني. 29 - الخوارزمي. 30 -
البيضاوي. 31 - الملا. 32 - ابن عساكر. 33 - أبو موسى. 34 - أبو الفرج. 35 - ابن
الأثير. 36 - ضياء الدين. 37 - قزاوغلي. 38 - الگنجي. 39 - التفتازاني. 40 - محب
الدين. 41 - الوصابي. 42 - الحمويني. 43 - الإيجي. 44 - ولي الدين. 45 - الزرندي.
46 - ابن كثير. 47 - الشريف. 48 - شهاب الدين. 49 - الجزري. 50 - المقريزي. 51 -
ابن الصباغ. 52 - الهيثمي. 53 - الميبدي. 54 - ابن حجر. 55 - أصيل الدين. 56 -
السمهودي. 57 - كمال الدين. 58 - البدخشي. 59 - الشيخاني. 60 - السيوطي. 61 -
الحلبي. 62 - السهارنيوري.
7 - دعاء النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه
السلام بقوله: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله
يدل على أن الأمر الذي بلغه في حق علي يحتاج إلى النصر والموالاة له، وأنه سيكون
له أعداء وخاذلون، ويدل أيضا على عصمته، وأنه لا يقدم على أمر إلا في رضا الله
تعالى.
8 - قوله صلى الله عليه وآله: إنه يوشك أن أدعى فأجيب يدل على مخافته من
ترك أمر مهم يجب عليه تبليغه قبل ارتحاله، وليس هو إلا ولاية علي.
9 - قوله صلى
الله عليه وآله بعد التبليغ: فليبلغ الحاضر الغائب يدل على اهتمامه الشديد في
إيصال هذا الموضوع إلى جميع المسلمين.
ص 80
10 - وقوله صلى الله عليه وآله بعد التبليغ أيضا: اللهم أنت شهيد عليهم أني قد
بلغت ونصحت يدل على أنه قد بلغ أمرا جليلا عظيما وأداه إلى الناس، وأتم الحجة
عليهم، وأفرغ ذمته بأدائه. وهكذا يرى القارئ العزيز أن هذه الشواهد توضح حديث
الغدير ولا تبقي فيه أي إبهام.