الروض النضير في معنى حديث الغدير

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الروض النضير في معنى حديث الغدير

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 321

خاتلا، على مبغضيه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم التناد. قال الزمخشري في ربيع الأبرار : كان ابن عباس يقول في علي بن أبي طالب عليه السلام: كان والله يشبه القمر الباهر، والأسد الخادر، والفرات الزاخر، والربيع الباكر، فأشبه من القمر ضوءه وبهاءه، ومن الأسد شجاعته ومضاءه، ومن الفرات جوده وسخاءه، ومن الربيع خصبه ورخاءه. وروى محمد بن جرير الطبري، بإسناده عن الفضل بن العباس بن ربيعة، قال: وفد عبد الله بن العباس على معاوية، قال: فوالله إني لفي المسجد إذ كبر معاوية في الخضراء، فكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبيرة أهل الخضراء، فبلغ ابن عباس فراح فدخل على معاوية، قال: علمت - يا ابن عباس - أن الحسن عليه السلام توفي. قال: لذلك كبرت؟ قال: نعم. قال: أما والله ما موته بالذي يؤخر أجلك، ولا حفرته بسادة حفرتك، ولأن أصبنا به فلقد أصبنا بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، ثم بعده بسيد الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة، ورفع تلك المعرة. فقال: ويحك يا ابن عباس، ما كلمتك إلا وجدتك معدا. أقول: لابن عباس مع معاوية أخبار كثيرة اقتصرنا منها على هذا المقدار خشية الاكثار. وأخرج الموفق في مناقبه ، عن سعيد بن جبير، قال: بلغ ابن عباس أن قوما يقعون في علي عليه السلام، فقال لابنه علي بن عبد الله: خذ بيدي فاذهب بي إليهم، فأخذ بيده حتى انتهى إليهم.

ص 322

فقال: أيكم الساب الله؟ فقالوا: سبحان الله! من سب الله فقد أشرك. فقال: أيكم الساب رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقالوا: من سب رسول الله صلى الله عليه وآله فقد كفر؟ فقال: أيكم الساب لعلي عليه السلام؟ قالوا: قد كان ذلك. قال: فاشهدوا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من سب عليا عليه السلام فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سب الله أكبه الله على وجهه في النار . ثم ولى عنهم، فقال لابنه علي: كيف رأيتهم؟ فأنشأ يقول: نظروا إليك بأعين محمرة * نظر التيوس إلى شفار الجازر قال: زدني، فداك أبوك، فقال: خزر الحواجب ناكسي أذقانهم * نظر الذليل إلى العزيز القادر قال: زدني، فداك أبوك، فقال: ما أجد مزيدا، قال: لكني أجد: أحياؤهم خزي على أمواتهم * والميتون فضيحة للغاير وأخرج الطوسي في أماليه : عن يونس بن عبد الوارث، عن أبيه، قال: بينا ابن عباس رحمه الله يخطب عندنا على منبر البصرة إذ أقبل على الناس بوجهه، ثم قال:

ص 323

أيتها الأمة المتحيرة في دينها، أما والله لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وجعلتم الوراثة والولاية حيث جعلها الله ما عال سهم من فرائض الله، ولا عال ولي الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، فذوقوا وبال ما فرطتم فيه بما قدمت أيديكم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وروي: أنه لما خرج الحسين من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن عباس بيده على منكب ابن الزبير: يالك من قبرة بمعمر * خلالك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري * هذا الحسين سائر فابشري خلى الجو والله لك يا ابن الزبير، سار الحسين عليه السلام إلى العراق فقال ابن الزبير: يا بن عباس، والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم، ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس. فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في شك، ونحن من ذلك على يقين، ولكن أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر. قال: بشرفي. قال: بماذا شرفت إن كان لك شرف، فإنما هو بنا، فنحن أشرف منك لأن شرفك منا. وعلت أصواتهما، فاعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما. وأخرج النسائي في صحيحه ، عن أبي مليكة، قال: كان بين ابن عباس وبين ابن الزبير شيء، فغدوت على ابن عباس، فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله، فقال: معاذ الله، أن الله كتب ابن الزبير و بني أمية محلين

ص 324

للحرام، وإني والله لا أحله أبدا. وروى المسعودي، عن سعيد بن جبير: إن ابن عباس دخل على ابن الزبير، فقال له ابن الزبير: إلى م تؤنبني وتعنفني، فقال ابن عباس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: بئس المسلم يشبع ويجوع جاره ، وأنت ذلك الرجل. فقال ابن الزبير: والله، إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة. وتشاجرا فخرج ابن عباس من مكة فأقام بالطائف حتى مات. وروى غيره: أن ابن الزبير حبس عبد الله بن العباس مع محمد بن الحنفية رضي الله عنهما في رجال من بني هاشم في شعب غارم حتى أرسل المختار من الكوفة جيشا فاستخلصوهم منه. وروى المدائني قال: لما أخرج ابن الزبير عبد الله بن عباس من مكة إلى الطائف مر بنعمان، فصلى ركعتين ثم رفع يديه يدعو. فقال: اللهم إنك تعلم أنه لم يكن بلد أحب إلي من أن أعبدك فيه من البلد الحرام، وأني لا أحب أن تقبض روحي إلا فيه. إن ابن الزبير أخرجني ليكون الأقوى في سلطانه، اللهم فأوهن كيده، واجعل دائرة السوء عليه، فلما دنى من الطائف تلقاه أهلها، فقالوا: مرحبا يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، أنت والله أحب إلينا، وأكرم علينا ممن أخرجك، هذه منازلنا تخيرها، فأنزل منها حيث أحببت، فنزل منزلا فكان يجلس إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر فيتكلم بينهم. قال المسعودي في مروج الذهب : ذهب بصر ابن عباس لبكائه على

ص 325

علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم السلام، وهو الذي يقول: إن يأخذ الله من عيني نورهما * ففي لساني وقلبي منهما نور قلبي ذكي وعقلي غير مدخل * وفي فمي صارم كالسيف مشهور وأخرج الكشي، عن سلام بن سعيد، عن عبد الله بن عبد يا ليل - رجل من أهل الطائف -، قال: أتينا ابن عباس نعوده في مرضه الذي مات فيه، قال: فأغمي عليه في البيت، فأخرج إلى صحن الدار، قال: فأفاق، فقال: إن خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله، قال: إني سأهاجر هجرتين، وإني سأخرج من هجرتي فهاجرت هجرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وهجرة مع علي عليه السلام، وإني سأعمى فعميت، وإني سأغرق فأصابني حكة فطرحني أهلي في البحر، فغفلوا عني فغرقت، ثم استخرجوني بعد، وأمرني أن أبرء من خمسة من، الناكثين: وهم أصحاب الجمل ، ومن القاسطين: وهم أهل الشام ، ومن الخوارج: وهم أهل النهروان ، ومن القدرية: وهم الذين ضاهوا النصارى في دينهم، فقالوا: لا قدر، ومن المرجئة: الذين ضاهوا اليهود في دينهم، فقالوا: الله أعلم. قال: ثم قال: اللهم إني أحيى على ما حي عليه علي بن أبي طالب عليه السلام، وأموت على ما مات عليه علي بن أبي طالب عليه السلام. قال: ثم مات فغسل وكفن، ثم صلى على سريره، قال: فجاء طائران أبيضان فدخلا في كفنه، فرأى الناس إنما هو فقهه، فدفن. (1)

(هامش)

(1) رجال الكشي: 56 ح 106، البحار: 42 / 152 ح 20. (*)

ص 326

وأخرج أحمد بن حنبل في سننه ، عن السدي، عن أبي صالح، قال: لما حضرت عبد الله بن عباس الوفاة، قال: اللهم أني أتقرب إليك بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام. وتوفي ابن عباس بالطائف سنة (68 هـ) أيام ابن الزبير، وقيل: سنة (69 هـ)، وقيل: سنة (70 هـ)، وقيل: سنة (73 هـ) وهو أضعفها. وله من العمر (70) سنة، وقيل: (71) سنة وقيل: (74) سنة. ودفن بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية رضي الله عنه، وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، وضرب على قبره فسطاطا. قالت العامة: مرويات ابن عباس في كتب الحديث ألف وستمائة وستون، وكان له من الولد: العباس وبه كان يكنى، وعلي السجاد، والفضل، ومحمد، وعبد الله، ولبانة، وأسماء. ويقال: ما رؤي قبور إخوة أكثر تباعدا من قبور بني العباس، قبر عبد الله بالطائف، وقبر عبيد الله بالمدينة، وقبر قثم بسمرقند، وقبر عبد الرحمان بالشام، وقبر معبد بافريقية.

 47 - عبد الله بن عمر بن الخطاب:

 ولد في العام الثالث من الهجرة، صحب النبي صلى الله عليه وآله وروى عنه كثيرا، ووضع على لسانه كثيرا، وهو كأبي هريرة من رجال الصحاح ، وممن تدور عليه قطب رحاها. ويمكننا أن نستوضح حاله جليا، ونعرف مبلغ ما وصل إليه من التدين

ص 327

ببيعة يزيد، وحض أولاده على التمسك والاعتصام بحبلها. فهذا مسلم يحدثنا، عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد لله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمان وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: من خلع يدا من طاعة لقي الله تعالى يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (1). ويحدثنا أحمد بن حنبل، عن نافع أيضا، قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد، ثم قال: أما بعد، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان، وأن من أعظم الغدر أن لا يكون له الإشراك بالله تعالى أن يبايع رجل رجلا على بيعة رسوله ثم ينكث ببيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون صلى الله عليه وآله بيني وبينه (2). وغريب جدا أن يأتي ابن عمر فيبايع يزيد على أثر ما فعل - يوم الحرة - من قتل الأطفال الرضع، والشيوخ الركع، وهتك النساء المخدرات، وغير ذلك من الفظائع التي كل واحدة منها بمجردها تدل على الأقل على فسقه. وعجيب منه أن يحض أولاده على البقاء على بيعته مع ما علم من فسقه وفجوره وشربه للخمور، مما هو مستفيض عنه، وقتله الإمام الحسين عليه

(هامش)

(1) صحيح مسلم: 2 / 121. (2) مسند أحمد: 2 / 48. (*)

ص 328

السلام وأولاده وإخوته وبني عمومته وأصحابه وبسبي عياله وتمثيله بقتلهم. تلك المشاهد المؤلمة التي لم يحك لنا التاريخ حتى اليوم وقعة تشاكلها، مما يجعلنا أن نعتقد أن يزيد لم يكن على شيء من الإسلام، كما يشهد لذلك قوله: لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل إن ابن عمر نفسه يحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (1). وأظن أن وقعة الحرة، وقتل الحسين عليه السلام، وهدم الكعبة المشرفة كلها أمر بطاعة بنظر عبد الله بن عمر، لذا وجب عليه طاعته والوفاء ببيعته. وإن ابن الأثير يحدثنا في تاريخه : أنه لما عزم معاوية على البيعة ليزيد أرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درة فقبلها، فلما ذكر البيعة ليزيد، قال ابن عمر: هذا أراد، إن ديني عندي إذا لرخيص، وامتنع (2). وإذا كان ابن عمر يرى أن البيعة ليزيد دليل على رخص الدين بنظره، فما الذي عكس بعد ذلك القضية وغير المجرى؟؟ وما هي الأسباب التي دفعت ابن عمر أن يقف خطيبا في أهله وولده حاضا لهم على التمسك بيزيد، محذرا لهم من خلع طاعته، ونكث بيعته، مع أن الناس كافة أجمعت على خلعه ونبذه وعدم الانقياد له؟؟

(هامش)

(1) صحيح مسلم: 2 / 116. (2) تاريخ ابن الأثير: 1 / 199 (*)

ص 329

شكلا أن ذلك منه لأغراض دنيوية، ودون ما يظهره من التمسك بالحديث المشهور المصرح: بأن من مات وليس بعنقه بيعة مات ميتة جاهلية . لأن بيعة فاسق كيزيد ليست بجائزة كما لا يخفى. والذي أظنه أن ابن عمر إنما امتنع عن بيعة يزيد أولا لقرب عهده بالنبي صلى الله عليه وآله، ونزول الوحي. فإن الأحاديث النبوية الذهبية كانت لا تزال في ذلك العهد ترن في آذانه، وكانت الحكم والمواعظ والحقائق لا تزال شاخصة أمام بصره تبغضه ببيعة يزيد وأبيه، وتصور له فضاعة الدعوة له، أما وقد بعد العهد، وكثرت الفتن، وتتابعت الخطوب، فقد ضعفت تلك العقيدة الدينية، وتحولت بنظره الأشياء، حتى آل الأمر أن جعلت بيعة يزيد - وهي التي كانت يومذاك بنظره موجبة لرخص الدين - بيعة لازمة في عنقه، يجب الإقرار بها: *(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)*(1). وإن شخصا هذه نفسيته، وهذا مبلغ تدينه، لا نستطيع - والحالة هذه - أن نعول على أحاديثه، ونأخذ بآرائه ونظرياته، على أن كثيرا من رواياته خرافية وصريحة الكذب. روى البخاري، عن عبد الله بن عمر، قال: ارتقيت فوق بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله يقضي حاجته، مستدبرا القبلة، مستقبل

(هامش)

(1) سورة آل عمران: 144. (*)

ص 330

الشام (1). وهذا خلاف لما أجمعت عليه الأمة من عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها. وخلاف لما روى البخاري من أن النبي صلى الله عليه وآله، قال: إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا (2). وخلاف لما اشتهر عنه صلى الله عليه وآله من أنه ما رؤي على بول أو غائط قط. وقد ارتبك بعض شراح البخاري عند ذكر هذا الحديث، وحمله حسن ظنه بابن عمر أن يجعل فعل النبي صلى الله عليه وآله هذا من خواصه، ومن جملة الأحكام التي اختص بها دون غيره. وليس هذا الاحتمال بأقل غرابة من رواية ابن عمر، فإنا نقول: إن خواص النبي صلى الله عليه وآله معلومة لدى كافة الأمة الإسلامية، وليس هذا الفعل من جملتها. وثانيا - إن خواصه فيها دلالة قوية على رفيع منزلته وعظمته عند الله لما في هذه الخواص من المزية الظاهرة التي لا ينالها غير النبي صلى الله عليه وآله، وليس في هذا الفعل الذي رواه ابن عمر ما يشعر بذلك، بل على العكس فإن النبي صلى الله عليه وآله ما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها إلا كرامة لها. وهو صلى الله عليه وآله أحق بكرامتها، وأجدر بتعزيزها، فإنها قبلة

(هامش)

(1) صحيح البخاري: 1 / 117 طبع سنة (1320 هـ). (2) صحيح البخاري: 1 / 36. (*)

ص 331

المصلي التي يتجه بها العبد نحو ربه. روى البلاذري في أنسابه : أنه لما قتل الحسين عليه السلام، كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أما بعد - فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، وحدث في الإسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم الحسين عليه السلام. فكتب إليه يزيد: أما بعد - يا أحمق، فإنا جئنا إلى بيوت منجدة، وفرش ممهدة، ووسائد منضدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن يكن الحق لغيرنا، فأبوك أول من سن هذا وابتز، واستأثر بالحق على أهله. ومما نقله أصحاب التواريخ في ذمه ما ذكره ابن مسكويه في نديم الفريد ، فقال ما هذا لفظه: ومما يؤثر في الكلام الواقع موقعه شدة شكيمة المتكلم ما يحكى عن - عبد الله بن الحرث - المعروف ب‍ بتة ، وذلك أنه دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فرأى عبد الله بن عمر جالسا في نفر من أصحابه، فسلم عليه وجلس عنده، فلم يهش له عبد الله، ولا أحسن مساءلته، ولا نهض إليه لما رآه. قال: كأنك لم تثبتني يا أبا عبد الرحمان؟! فقال: بلى، ألست ببتة؟ فقال: ما حملك على ذكر اللقب وترك الاسم؟ قد أحسب أن السنين أفادتك رأيا غير ما كنت تعرف به، وتنسب إليه. ما أشبهت أباك؟! ولكنك ورثت جدك وخالك. ثم أقبل على القوم، فقال: إن جد هذا - الخطاب - ابتاع من رجل ذهبا ثم اقتضاه اليماني فعمد، ابتاع من رجل خمرا على حلته ذهبا، ثم اقتضاه اليماني

ص 332

فعمد، فكتب فيه ذهب حتى ملأها، ثم دفعها إلى اليماني، فاستعدى عليه عند الزبير بن عبد المطلب، فضربه وأغرم. وأما خاله - قدامة بن مظعون - فقد شرب الخمر على عهد عمر، فلما أراد أن يجلده، قال: أمسك، فإن الله تعالى يقول: *(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا)*(1). فظن عمر أن هذه الآية تبطل الحدود، فورثتهما إشارة إلى هذا. وكان أيضا يجالس النبي صلى الله عليه وآله صباحا ومساء، فأراد أن يطلق امرأة فلم يحسن، فردها رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يعلم طلاقها. ثم أقبل عليه، فقال له: أتيت علي بن أبي طالب عليه السلام، وله قرابة وسابقة وفضائل عديدة، فبايعته طائعا غير مكره، قاصدا إليه، ثم جئته، فقلت: أقلني بيعتي، فأقالك. ثم أتيت تدق الباب على أصحاب الحجاج، تقول: خذوا بيعتي، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: من بات ليلة وليس في عنقه بيعة إمام، مات ميتة جاهلية . ثم اضطرب الحبل بالناس، فزعمت أنك لا تعرف حقا فتنصره، ولا باطلا فتقاتل أهله. فقال عبد الله بن عمر: حسبك يا أبا محمد، فما أردت إلا خيرا، وكلمته الجماعة أن يكف.

(هامش)

(1) سورة المائدة: 93. (*)

ص 333

وقد شهد ابن عمر على نفسه بالطعن فيما يرويه، قال: كنا نتقي الكلام والإنبساط إلى نسائنا على عهد النبي صلى الله عليه وآله خوفا أن ينزل فينا شيء، فلما توفي النبي صلى الله عليه وآله تكلمنا وانبسطنا (1).

 48 - عبد الله بن مسعود الهذلي:

 حليف بني زهرة بن كلاب، أبو عبد الرحمان، شهد بدرا، توفي بالمدينة سنة (32 هـ) وهو ابن بضع وسبعين سنة، وكان ابتنى بالكوفة دارا وقد بعثه عمر إلى الكوفة وزيرا. كان عبد الله بن مسعود وهو المعروف بأمانته وإخلاصه خازنا لبيت المال في الكوفة، وحدث أن اقترض الوليد بن عقبة مقدارا من المال من بيت المال، فطالبه ابن مسعود عند الأجل فتجاهل ذلك، وأمام الحاجة أرسل الوليد برسالة إلى عثمان يطلب منه تعنيفه، فكتب إليه عثمان: إنما أنت خازن لنا فلا تعرض إلى الوليد فيما أخذ من بيت المال، فاغتاظ ابن مسعود وترك وظيفته، وأقام في داره مكتفيا بالوعظ والإرشاد، وتحول داره إلى معقل للمعارضة ولكل غاضب على السلطة، واشتد ابن مسعود في تحركه ضد الخليفة عثمان فأرسل إليه. فعندما دخل عليه المسجد قابله بكلمات لا تليق بالخليفة، وأخرج من المسجد بالقوة، وضرب بالأرض فكسر أحد أضلعه، وقطع عنه الخليفة عطاءه، وحظر عليه الخروج من المدينة ليصبح تحت عيونهم وساءت أحواله الصحية،

(هامش)

(1) صحيح البخاري: 6 / 146. (*)

ص 334

فمرض فعاده الخليفة بغية كسب رضاه فلم يبال بوجوده فأراد عثمان أن يعيد إليه العطاء، فقال ابن مسعود: حبسته عني حين احتجت إليه وترده إلي حين لا حاجة لي به، فقال عثمان: يكون لأهلك، قال ابن مسعود: رزقهم على الله. ثم توفي ابن مسعود وصلى على جنازته عمار بن ياسر، ولم يخبروا عثمان بوفاته، فغضب عثمان وهو يقول: سبقتموني به، قال عمار: فإنه أوصى ألا تصلي عليه، فأسرها عثمان في نفسه وكانت من أسباب غضبه على عمار (1). 49 - عثمان بن حنيف الأنصاري: بفتح الحاء المهملة وفتح النون والفاء بعد الياء المثناة من تحت، ابن واهب بن الحكم بن تغلبة بن مخدعة بن الحارث بن عمر الأنصاري ثم الأوسي، يكنى أبو عمرو، وقيل: أبو عبد الله. كان أحد الأشراف عمل لعمر ثم لأمير المؤمنين عليه السلام، وولاه عمر مساحة الأرضين وجبايتها بالعراق، وضرب الخراج والجزية على أهلها، وولاه أمير المؤمنين عليه السلام على البصرة. قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام. قال أبو مخنف: وحدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن الزبير وطلحة أجدا السير بعائشة حتى انتهوا إلى حفر أبي موسى الأشعري وهو قريب من البصرة، وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامل علي عليه السلام

(هامش)

(1) إسلاميات / طه حسين: 781. (*)

ص 335

على البصرة: أن خل لنا دار الأمان. فلما وصل كتابهما إليه بعث إلى الأحنف بن قيس: إن هؤلاء القوم قدموا علينا ومعهم زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله، والناس إليها سراع كما ترى. فقال الأحنف بن قيس: إنهم جاؤك بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألبوا على عثمان الناس، وسفكوا دمه، وأراهم والله لا يزايلوا حتى يلقوا العداوة بيننا، ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به أن تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع، فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فتكون الناس لهم أطوع منهم لك. فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت لكني أكره الشر وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين عليه السلام ورأيه فأعمل به. ثم أتاه بعد الأحنف، حكيم بن جبلة العبدي من بني عمرو بن وديعة فأقرأه كتاب طلحة والزبير. فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف. فقال له حكيم: فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام وإلا نابذتهم على سواء. فقال عثمان: لو كان ذلك رأي لسرت إليهم بنفسي. قال حكيم: أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر، لينقلن قلوب كثير من الناس إليهم، ولينزلنك عن مجلسك هذا وأنت أعلم، فأبى عليه عثمان.

ص 336

قال: وكتب علي عليه السلام إلى عثمان لما بلغه مشارفة القوم البصرة: من عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حنيف: أما بعد - فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا وتوجهوا إلى مصرك وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضي الله والله أشد بأسا وأشد تنكيلا، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقوه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين. وكتبت كتابي هذا من الربذة وأنا معجل المسير إليك إن شاء الله، وكتب عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين . قال: فلما وصل كتاب علي عليه السلام إلى عثمان أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي، وعمران بن الحصين الخزاعي، فأمرهما أن يسيرا حتى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم؟ فانطلقا حتى أتيا حفر أبي موسى وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة، وسألاها ووعظاها وأذكراها وناشداها الله. فقالت لهما: ألقيا طلحة والزبير، فقاما من عندها ولقيا الزبير، فكلماه، فقال لهما: إنا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو الناس إلى أن يؤدوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان، من هم؟ وأين هم؟ وأنت وصاحبك وعائشة كنتم أشد الناس عليه، وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا من أنفسكم، وأما إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم عليا عليه السلام طائعين غير مكرهين.

ص 337

وأنت يا أبا عبد الله، لن يعد العهد بقيامك دون الرجل يوم مات رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت آخذ قائم سيفك، تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه، ولا أولى بها منه، وامتنعت من بيعة أبي بكر، فأين ذلك الفعل من هذا القول؟ فقال لهما: اذهبا فألقيا طلحة، فقاما إلى طلحة، فوجداه خشن الملبس شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة، وإضرام نار الحرب. فانصرفا إلى عثمان بن حنيف، فأخبراه، وقال له أبو الأسود: يا بن حنيف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر وابرز لها مستلثما وشمر فقال ابن حنيف: إي والحرمين لأفعلن، وأمر مناديه، فنادى بالناس: السلاح السلاح، فاجتمعوا إليه، وقال أبو الأسود شعرا: وأحسن قوليهما فادح * يضيق به الخطب مستنكد وقد أوعدونا بجهد الوعيد * فأهون علينا بما أوعدوا فقلنا: ركضتم ولم ترملوا * وأصدرتم قبل أن توردوا فإن تلقحوا الحرب بين الرجال * فملقحها جده الأنكد وإن عليا لكم مصحر * ألا إنه الأسد الأسود أما إنه ثالث العابدين * بمكة والله لا يعبد فرخوا الخناق ولا تعجلوا * فإن غدا لكم موعد

ص 338

قال: وأقبل القوم فلما انتهوا إلى المربد قام رجل من بني جشم، فقال: أيها الناس، أنا فلان الجشمي وقد أتاكم هؤلاء القوم، فإن كانوا أتوكم خائفين لقد أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وإن كانوا إنما أتوكم بطلب دم عثمان فغيرنا ولى قتله. فأطيعوني أيها الناس، وردوهم من حيث أقبلوا فإنكم إن تفعلوا تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر. قال: فحضر ناس من أهل البصرة إلى المربد حتى ملأوه مشاة وركبانا. فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب، فسكتوا بعد جهد. قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة والفضيلة، ومن المهاجرين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فنزل القرآن ناطقا بفضلهم، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فاعتبنا، فعدا عليه من ابتز هذه الأمة أمرها غصبا بغير رضى منها ولا مشورة فقتله وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار فقتل محرما بريئا تائبا. وقد جئناكم - أيها الناس - نطلب بدم عثمان وندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر مشورة بين المسلمين، وكانت خلافته رحمة للأمة جميعا فإن كل من أخذ الأمر عن غير رضى من العامة ولا مشورة منها ابتزازا كان ملكه عضوضا وحدثا كبيرا. ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة، فقام إليهما ناس من أهل البصرة، فقالوا لهما: ألم تبايعا عليا عليه السلام فيمن بايعه، ففيم بايعتما ثم نكثتما؟

ص 339

فقالا: بايعناه وما لأحد في أعناقنا بيعة، وإنما استكرهنا على بيعته. فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول وقطعا بالصواب. وقال ناس: ما صدقا ولا أصابا بالقول، حتى ارتفعت الأصوات. قال: ثم أقبلت عائشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع: أيها الناس، أقلوا واسكتوا، فأسكت الناس لها، فقالت: إن عثمان قد غير وبدل ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوما تائبا، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأمير الشبان، وحماية موضع الغمامة، فقتلوه محرما في حرمة الشهر وحرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل. ألا وإن قريشا رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إياه شيئا، ولا سلكت به سبيلا قاصدا. أما والله، ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم، وتقيم الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم يسومونهم سوء العذاب، إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه مصتموه كما يماص الثوب الرخيص، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا وغصبا. أتروني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم، ألا إن عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم عمر بن الخطاب ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. قال: فماج الناس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل يقول:

ص 340

وما هي وهذا الأمر؟ إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها، وارتفعت الأصوات وكثر اللغط حتى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى. ثم إن الناس تمايزوا فصاروا فرقتين: فريق مع عثمان بن حنيف رضي الله عنه وفريق مع عائشة وأصحابها. قال أبو مخنف: فلما أقبل طلحة والزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف، فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضوا حتى انتهوا إلى موضع الدباغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورمتهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها مليا حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة ثم أتوا السبخة دار الرزق فنزلوها وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه. فقال لطلحة: يا أبا محمد، ما هذه كتبك إلينا، قال: بلى. قال: فكتبت بالأمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله حتى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه، فلعمري ما هذا رأيك ولا تريد إلا هذه الدنيا؟ مهلا إذا كان هذا رأيك فلم قبلت من علي عليه السلام ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعا راضيا ثم نكثت بيعتك ثم جئت لتدخلنا في فتنتك. فقال: إن عليا دعاني إلى بيعته بعد ما بايعه الناس فعلمت أني لو لم أقبل ما عرض علي لم يتم لي ثم يغري بي من معه، ثم أصبحا من غد فصفا للحرب. وخرج عثمان بن حنيف رضي الله عنه إليهما في أصحابه فناشدهما الله

ص 341

والإسلام، وذكرهما بيعتهما عليا عليه السلام. فقالا: نحن نطلب بدم عثمان، فقال لهما: وما أنتما وذاك؟ أين بنوه وابن عمه الذين هم أحق به منكم؟ كلا والله ولكنكما حسدتماه حيث اجتمع الناس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له، وهل كان أحد أشد الناس على عثمان منكما؟ فشتماه شتما قبيحا وذكرا أمه. فقال للزبير: أما والله لولا صفية ومكانها من رسول الله صلى الله عليه وآله فإنها أدنتك إلى الظل. وإن الأمر بيني وبينك يا بن الصعبة - يعني طلحة - أعظم من القول، لأعلمتكما من أمركما ما يسوؤكما. اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين، ثم حمل عليهم، واقتتل الناس قتالا شديدا، ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهما كتاب صلح. فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وطلحة والزبير ومن معهما من المسلمين من شيعتهما أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة ولا يضار بعضهم بعضا في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شريعة ولا مرفق حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة وإن أحبوا ألحق كل قوم بهواهم وما أحبوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذه على نبي من

ص 342

أنبيائه من عهد وذمة، وختم الكتاب. ورجع عثمان بن حنيف حتى دخل دار الإمارة، وقال لأصحابه: ألحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم، فمكثوا كذلك أياما. ثم إن طلحة والزبير، قالا: إن قدم علي عليه السلام ونحن على هذه الحالة من الضعف والقلة ليأخذن بأعناقنا. فأجمعا على مراسلة القبائل، واستمالة العرب، فأرسلا إلى وجوه الناس وأهل الرياسة والشرف يدعونهم إلى الطلب بدم عثمان وخلع علي عليه السلام وإخراج ابن حنيف من البصرة. فبايعهم على ذلك الأزد، وضبة، وقيس بن عيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم، فجاءه طلحة والزبير إلى داره فتوارى عنهما، فقالت له أمه: ما رأيت مثلك؟ أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما، فلم تزل به حتى ظهر لهما وبايعهما ومعه بنو عمرو بن تميم كلهم وبنو حنظلة إلا بني يربوع فإن عامتهم كانوا شيعة لعلي عليه السلام وبايعهم بنو دارم كلهم إلا نفرا من بني مجاشع ذوي دين وفضل. فلما استوسق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر ومعهما أصحابهما قد لبسوا الدروع وظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر. وقد سبقهم عثمان بن حنيف رضي الله عنه إليه وأقيمت الصلاة فتقدم عثمان ليصلي بهم فأخره أصحاب طلحة والزبير.

ص 343

فقدموا الزبير فجاءت السبابجة وهم الشرط - حرس بيت المال - فأخروا الزبير، وقدموا عثمان. فغلبهم أصحاب الزبير فقدموه، وأخروا عثمان. فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس أن تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون الله يا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله، وقد طلعت الشمس؟ فغلب الزبير فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته صاح بأصحابه المتسلحين: أن خذوا عثمان، فأخذوه بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفيهما. فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة من رأسه ووجهه، وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلا، فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقال لإبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك، وأعانت على قتله. فنادى عثمان بن حنيف رضي الله عنه: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير، إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب عليه السلام على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم ورهطكم وأهلكم فلا يبقى أحدا منكم. فكفوا عنه وخافوا أن يوقع سهل بن حنيف رضي الله عنه بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة فتركوه، وأرسلت عائشة إلى الزبير: أن اقتل السبابجة فإنه بلغني الذي صنعوا بك، فذبحهم والله الزبير كما تذبح الغنم، وولى ذلك منهم عبد الله ابنه وهم سبعون رجلا وبقية طائفة متمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه

ص 344

إليكم حتى يقدم أمير المؤمنين عليه السلام، فسار إليهم الزبير في جيش ليلا فأوقع بهم وأخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا. قال أبو مخنف: وحدثنا الصقب بن زهير، قال: كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل. وقال: كان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف رضي الله عنه أول غدر كان في الإسلام، وكانت السبابجة أول قوم ضرب أعناقهم من المسلمين صبرا. قال: وخيروا عثمان بن حنيف رضي الله عنه بين أن يقيم أو يلحق بعلي عليه السلام فاختار الرحيل، فخلوا سبيله، فلحق بعلي عليه السلام. فلما رآه بكى، وقال له: فارقتك شيخا وجئتك أمردا، فقال علي عليه السلام: إنا لله وإنا إليه راجعون قالها: ثلاثا. قلت: السبابجة - بالسين المهملة والباء وبعد الألف باء موحدة وبعدها جيم ثم هاء - لفظة معربة قد ذكرها الجوهري في كتاب الصحاح (1)، قال: هم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة وحراس السجن، والهاء للعجمة والنسب، قال يزيد بن مفرغ الحميري: وطماطيم من سبابج خزر * يلبسوني مع الصباح القيودا وسكن عثمان بن حنيف رضي الله عنه الكوفة بعد وفاة علي عليه السلام ومات بها في زمن معاوية.

(هامش)

(1) الصحاح: 1 / 321 - سبج -. (*)

ص 345

50 - عثمان بن عفان:

 هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. لقد بلغ الطعن في أصل عثمان ونسبه ما ذكره أبو المنذر هشام بن محمد بن السايب الكلبي في كتاب المثالب ما هذا لفظه: وممن كان يلعب به ويتخنث، ثم ذكر من كان كذلك، قال: وعفان بن أبي العاص بن أمية، ثم قال: وفي عفان بن أبي العاص يقول عبد الرحمان بن حنبل يعير عثمان بن عفان، وكان عفان يضرب بالدف: زعم ابن عفان وليس بهازل * إن الفرات وما حواه المشرق خرج له من شاء أعطى فضله * ذهبا وتيك مقالة لا تصدق أنى لعفان أبيك سبيكة * صفرا فأطعم العتاب الأزرق ورثته دفا وعودا يراعة * جوعا يكاد يلبسها يستنطق يودنا لو كنت تأتي مثله * فيكون دف فتاتكم لا تفتق (1) وفي تسميته نعثل أقوال: ففي حديث شريك: أن عائشة وحفصة قالتا له: سماك رسول الله صلى الله عليه وآله نعثلا تشبيها بكر يهودي. وقال الكلبي: إنما قيل: نعثلا تشبيها برجل لحياني من أهل مصر، وقيل: من خراسان.

(هامش)

(1) الطرائف: 2 / 499. (*)

ص 346

وقال الواقدي: شبه بذكر الضباع فإنه نعثل لكثرة شعره، وقال: إنما شبه بالضبع لأنه إذا صاد صيدا قاربه ثم أكله، وإنه أتي بالمرأة لتحد فقاربها ثم أمر برجمها، ويقال: النعثل: التيس الكبير العظيم اللحية. وقد أحدث عثمان أمورا، منها: أنه ولى أمر المسلمين من لا يؤتمن عليه ولا علم له به، التفاتا عن حرمة الدين إلى حرمة القرابة. فولى الوليد بن عقبة فظهر منه شرب الخمر والفساد، وفيه نزل: *(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا)*(1)، قال المفسرون: المؤمن علي عليه السلام، والفاسق الوليد، وفيه نزل: *(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)*(2)، وصلى بالناس في إمارته سكرانا، فقال: أأزيدكم؟ قالوا: لا. حكى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني : أن الوليد بن عقبة كان زانيا شريب خمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم، وقال لهم: أأزيدكم؟ وتقيأ في المحراب وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته: علق القلب الرباب * بعد ما شابت وشابا وهذا ما دفع الحطيئة إلى أن يقول: شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * إن الوليد أحق بالعذر

(هامش)

(1) سورة السجدة: 19. (2) سورة الحجرات: 7. (*)

ص 347

نادى وقد نفذت صلاتهم: * أأزيدكم ثملا وما يدري ليزيدهم خيرا ولو قبلوا * منه لزادهم على عشر فأبوا أبا وهب ولو فعلوا * لقرنت بين الشفع والوتر حبسوا عنانك إذ جريت ولو * خلوا سبيلك لم تزل تجري وعندما صدر منه ذلك خرج في أمره إلى عثمان أربعة نفر، وعندما وصلوا إليه أوعدهم وتهددهم. وقال الواقدي: إن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطا، فأتوا عليا عليه السلام فشكوا ذلك إليه، فأتى عثمان، فقال له: عطلت الحدود وضربت قوما شهدوا على أخيك، فقلبت الحكم، وقد قال عمر: لا تحمل بني أمية وآل أبي معيط خاصة على رقاب الناس . وبعد إلحاح شديد وطلب أكيد من الإمام عليه السلام استدعى عثمان الوليد، فلما شهد عليه في وجهه وأراد عثمان أن يحده لم يجرأ أحد أن يحده خوفا من غضب عثمان، حتى قام الإمام عليه السلام بنفسه وأخذ السوط. وفي لفظ الأغاني : قال له الوليد: نشدتك بالله وبالقرابة، فقال له علي عليه السلام: اسكت أبا وهب، فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود ، فضربه وقال: لتدعوني قريش بعد هذا جلادها . وولى سعيد بن العاص الكوفة، فقال: إنما السواد بستان لقريش، تأخذ منه ما شاءت، فمنعوه دخولها، وتكلموا فيه، وفي عثمان، حتى كادوا يخلعونه، فعزله قهرا.

ص 348

وولى عبد الله بن أبي سرح مصر، فتكلموا فيه، فولى محمد بن أبي بكر وكاتبه أنه يقتل ابن أبي بكر وكل من يرد عليك وتستمر، فلما ظفر بالكتاب كان سبب حصره وقتله. قالوا: ذلك مروان لا عثمان، قلنا: فكان يجب على عثمان تعزيره والتبري منه، فلما لم يفعل ذلك دل على خبثه وكذبه، ومن هذا حاله لا يصلح لأدنى ولاية مع إجماع الصحابة على قتله، وترك دفنه ثلاثا لما تحققوا من أحداثه. قالوا: والحسين عليه السلام جرى له مثل ذلك، قلنا: لا قياس لإجماع المسلمين على أنه قتل ظلما، ولم يحدث حدثا بخلاف عثمان. فقد روى الواقدي: أن أهل المدينة منعوا من الصلاة عليه، وحمل ليلا ليدفن فأحسوا به فرموه بالحجارة، وذكروه بأسوأ الذكر. وقد روى الجوزي في زاد المسير : أن عثمان من الشجرة الملعونة في القرآن. ومنها: أنه آوى الحكم بن العاص طريد رسول الله صلى الله عليه وآله من المدينة. قال الواقدي من طرق مختلفة، وغيره: إن الحكم قدم المدينة بعد الفتح فطرده النبي صلى الله عليه وآله ولعنه لتظاهره بعداوته، والوقيعة فيه، والعيب بمشيته، وصار اسم الطريد علما عليه، فكلمه عثمان فيه، فأبى عنه، وكلم الشيخين في زمن ولايتهما فيه، فأغلظا القول عليه، وقال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه وآله وتأمرني أن أدخله؟ والله لو أدخلته لم آمن من قائل: غير عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، فإياك أن تعاودني.

ص 349

فلو كان النبي صلى الله عليه وآله أذن له لاعتذر عثمان إليهما به، ولما لامه علي عليه السلام وعمار وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمان، قال: إنه قرابتي، وفي الناس من هو شر منه. وقال: لو نال أحد من القدرة ما نلت فكان قرابته لأدخله. فغضب علي عليه السلام، وقال: لتأتينا بشر من ذلك إن سلمت، وسترى غب ما تفعل . وقد روى صاحب كتاب الشفا من الجمهور، قول النبي صلى الله عليه وآله من أحدث في المدينة حدثا فعليه لعنة الله . وأورده البخاري في أول الكراس الثاني من الجزء الرابع، وزاد: والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا، ولا عدلا. ومثل هذا أورد الحميدي في الحديث الثامن عشر من الجمع بين الصحيحين ، ومثله أيضا في الحديث الثامن والأربعين من أفراد مسلم. ومنها: أنه كان يؤثر قومه بالأموال، فأعطى مروان مائة ألف دينار (1)، قال ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي: وصحت فيه فراسة عمر، إذ قد أوطأ بني أمية رقاب الناس، وأولاهم الولايات، وأقطعهم القطائع، وافتتحت أرمينيا في أيامه، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان، فقال عبد الرحمان بن حنبل الجمحي: أحلف بالله رب الأنام * ما تر الله شيئا سدى ولكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلي بك أو نبتلى

(هامش)

(1) الإمامة والسياسة: 1 / 53. (*)

ص 350

فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة * ولا جعلا درهما في هوى وأعطيت مروان خمس البلاد * فهيهات سعيك ممن سعى وأقطع مروان فدكا وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله تارة بالميراث، وتارة بالنحلة فدفعت عنها. وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح أفريقية. وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية، وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه. وهذا زيد - صاحب بيت المال - جاء بالمفاتيح ووضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال عثمان: أتبكي إن وصلت رحمي؟ قال: لا، ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا، فقال عثمان: ألق المفاتيح يا ابن أرقم، فإنا سنجد غيرك (1). ودفع إلى أربعة زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار. قالوا: ربما كان ذلك من ماله، قلنا: روى الواقدي: أن عثمان قال: إن أبا بكر وعمر كانا يناولان من هذا المال قرابتهما وإني ناولت منه صلة رحمي. وروى الواقدي: أنه قسم مال البصرة بين ولده وأهله بالصحاف، وأن إبلا

(هامش)

(1) شرح النهج الحديدي: 1 / 66. (*)

ص 351

من الصدقة وهبها عثمان للحارث بن الحكم بن أبي العاص، وولى الحكم بن أبي العاص على صدقات قضاعة، فبعث ثلاثمائة ألف فوهبها له، وأعطى سعيد بن العاص مائة ألف دينار، فأنكر الناس عليه، وقسم بيت المال على المقاتلة وغيرهم. وطلب إليه أبو عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم، وتصدق رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف - بمهروز - على المسلمين، فأقطعهما عثمان ابن الحرث بن الحكم - أخا مروان بن الحكم. وحمى المراعي كلها حول المدينة من حواشي المسلمين كلهم إلا عن حواشي بني أمية، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف درهم من بيت المال الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف دينار من بيت المال. وقد ذكر المسعودي وغيره بعض الأمثلة على هذه الثروات الضخمة في ذلك الوقت: فقد بلغت ثروة الزبير خمسين ألف دينار وألف فرس وألف عبد وضياعا وخططا في البصرة والكوفة ومصر والاسكندرية. وكانت غلة طلحة بن عبيد الله من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل: أكثر، وبناحية الشراة أكثر مما ذكرنا. وكان على مربط عبد الرحمان بن عوف مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة، وبلغ ربع ثمن ماله بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا. وحين مات زيد بن ثابت خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار. ومات يعلى بن منية وخلف خمسمائة ألف دينار.

ص 352

أما عثمان نفسه فكان له يوم قتل عند خازنه مائة وخمسون ألف دينار، ومليون درهم، وخلف خيلا كثيرا وإبلا. ثم قال المسعودي بعد ذلك: وهذا باب يتسع ذكره، ويكثر وصفه فيمن تملك الأموال في أيامه (1). وقال أهل التواريخ، وصاحب الإستيعاب منهم: لما مات خلف ثلاث زوجات أصاب كل واحدة منهن ثلاثة وثمانون ألف دينار، فجملة المتروك أضعافها، فمن له هذا التكالب على الدنيا، كيف يصلح لخلافة الأنبياء؟ كما وجد إلى جانب هذه الطبقة الارستقراطية طبقة أخرى فقيرة معدمة أنشأها عمال عثمان، باستئثارهم بالفئ لله، وليس للمحارب إلا أجر قليل يدفع إليه (2). قالوا: ذلك بالاجتهاد، قلنا: الله ورسوله أعلم بمصالح العباد، فإذا عينا لبيت المال جهة مخصوصة لم يجز العدول عنها بالاجتهاد. ومنها: ما ذكره عبد الله بن طاهر في كتاب لطائف المعارف : أنه كسر ضلع ابن مسعود لما أبى أن يأتيه بمصحفه ليحرقه، ومنعه العطاء وأنه كان مع كونه عظيم الشأن يكفر عثمان. ففي مسلم والبخاري: قيل لابن مسعود: صلى عثمان بمنى أربع ركعات فاسترجع، وقال: صليت مع النبي صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر وعمر ركعتين، ونحوه في مسند أحمد .

(هامش)

(1) مروج الذهب: 2 / 341 - 343. (2) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي: 1 / 358. (*)

ص 353

وفي تاريخ الطبري : قال له علي عليه السلام: لقد عهدت نبيك يصلي ركعتين وأبا بكر وعمر، فما أدري ما ترجع إليه ؟ قال: رأي رأيته. وعاده عثمان في مرضه، وسأله الاستغفار له، فقال أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي، وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان. ولما مر ابن مسعود من العراق معتمرا وجد أبا ذر على الطريق ميتا مكفنا فدفنه، فضربه عثمان أربعين سوطا، ذكر ذلك ابن طاهر في لطائف المعارف . وقد كان عثمان نفاه إلى الشام، فكان يخطئ معاوية الأحكام، ويتحسر على الإسلام، وكان عثمان الذي نصب معاوية مع علمه عدم استحقاقه، فولاه بغضا لمن جعله الله مولاه، فبعث إلى عثمان يشكوه فبعث إليه أن يحمله إليه مهانا فحمله على قتب حتى سقط لحم فخذيه. فروى الواقدي: أنه لما دخل على عثمان، قال له: لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب؟ أنت الذي تزعم أنا نقول: يد الله مغلولة وأن الله فقير ونحن أغنياء. فقال: لو كنتم لا تزعمون ذلك لأنفقتم مال الله على عباده، أشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثون رجلا جعلوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دخلا (1). فقال للجماعة: هل سمعتم هذا من النبي صلى الله عليه وآله؟ فقال علي

(هامش)

(1) كتاب الفتن لنعيم بن حماد: 1 / 130 ح 316، كتاب نسب قريش: 110، مسند أحمد: 3 / 80، مسند أبي يعلى: 2 / 383 - 384 ح 1152، وج 11 / 402 ح 6523، المعجم الكبير: 12 / 236 ح 12982، وج 19 / 382 - 383 ح 897، مستدرك الحاكم: 4 / 480، دلائل النبوة للبيهقي: 6 / 507 وص 508، مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 1 / 173. (*)

ص 354

عليه السلام والحاضرون: نعم سمعناه يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق من أبي ذر . فنفاه إلى الربذة، وقال لعلي عليه السلام: بفيك التراب، فقال علي عليه السلام: بل بفيك التراب وسيكون ، قال جماعة: فلقد رأينا عثمان مقتولا وبفيه التراب. وروى الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وآله رآه نائما في المسجد، فقال: كيف تصنع إذا أخرجوك منه ؟ قلت: ألحق بالشام، قال: فإذا أخرجوك منها ، قلت: أرجع إلى المسجد، قال: فإذا أخرجوك منه ، قلت: أضرب بسيفي، قال: هل أدلك على خير من ذلك؟ انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع فسمعت وأطعت. فهذه الروايات ترد قول القاضي: أنه خرج باختياره. ومنها: أنه ضرب عمارا حتى أحدث به فتقا، ولما قتل قال عمار: قتلنا كافرا. فابن مسعود وعمار مع كونهما صدرين عظيمين، كانا لعثمان في حياته وبعد موته مكفرين، وباقي الصحابة لم يدفعوا القتل عنه، حيث علموا موجبه، وترك بغير غسل ولا كفن ملقى على المزبلة ثلاثا. وأمير المؤمنين عليه السلام الذي هو مع الحق والحق معه، لم ينه عن ذلك، فدل على تكفيره. لأن الفاسق لا يجوز التخلف عن دفنه مع تكفنه، وكان لعلي عليه السلام المكنة حيث إنه كان في ذلك الوقت خليفة.

ص 355

قال البرقي: ألم يدس بطن عمار بحضرته * ودق للشيخ عبد الله ضلعان وقد نفى جندبا فردا إلى بلد * ناء المحلة من أهل وجيران وقد روى أحمد في مسنده ، عن أنس: أنه لما ماتت رقية بنت النبي صلى الله عليه وآله بضرب زوجها عثمان لعنه النبي صلى الله عليه وآله خمس مرات، وقال: لا يتبعنا أحد ألم بجاريته البارحة لأجل أنه كان ألم بجارية رقية، فرجع جماعة وشكى عثمان بطنه ورجع، ولعنه جماعة حيث حرموا الصلاة عليها بسببه. ومنها: أنه لم يحضر بدرا ولا بيعة الرضوان واعتذروا له بأنه أشغله عن بدر مرض زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بإذنه، فضرب له بسهم من غنائهما، فكان حكمه حكم حاضرها، ووضع النبي صلى الله عليه وآله في بيعة الرضوان إحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه عن عثمان . وهذه الاعتذارات خالية من دليل إلا أن يسلمها خصمه، وليس إلى ذلك من سبيل. ومنها: أنه هرب يوم أحد ، ولم يرجع إلى ثلاثة أيام، وقد حكم عليه الشيطان كما نطق به القرآن: *(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان)*(1). وقد شرط المخالف شجاعة الإمام، والمؤالف عصمته، فدل على عدم

(هامش)

(1) سورة آل عمران: 155. (*)

ص 356

صلاحه فراره وخطيئته. قالوا: نطق القرآن بالعفو عنه، قلنا: فيه التزام بالذنب منه، على أن العفو عنهم قد يراد به أكثرهم مثل *(قرآنا عربيا)*(1) فلا يتعين العفو عن عثمان ولجاز كون العفو في الدنيا عن تعجيل المعاقبة، ولأنه لا يلزم من العفو عن الذنب العفو عن كل ذنب. ومنها: أنه كان يستهزئ بالشرائع ويتجرأ عليها بالمخالفة لها، ففي صحيح مسلم : ولدت امرأة لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: *(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا)*(2). فعانده فبعث فرجمها *(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)* *(هم الكافرون)* في آيات (3). وقتلها فحق عليه قوله تعالى: *(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما)*(4). ومنها: جرأته على رسول الله صلى الله عليه وآله فروى الحميدي أن السدي قال: لما توفي أبو سلمة وخنيس بن صداقة وتزوج النبي صلى الله عليه وآله زوجتيهما حفصة وأم سلمة، قال طلحة وعثمان: ينكح محمد نساءنا ولا ننكح نساءه؟ والله لو مات لأجلنا عليهن بالسهام، وكان طلحة يريد عائشة وعثمان يريد أم سلمة. فأنزل الله سبحانه: *(وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا

(هامش)

(1) سورة يوسف: 2، سورة طه: 113، سورة الزمر: 28، سورة فصلت: 3، سورة الزخرف: 3. (2) سورة الأحقاف: 15. (3) سورة النساء: 44 و45. (4) سورة النساء: 93. (*)

ص 357

أزواجه من بعده أبدا)*(1). وأنزل الله سبحانه: *(إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)*(2). ومنها: أن عثمان باع عليا أرضا وأنكره، فقال: حاكمني إلى النبي صلى الله عليه وآله ، فقال: إنه ابن عمك، ويحابيك. فنزل: *(في قلوبهم مرض)*(3) أي كفر. وفي تفسير الثعلبي : قضى النبي صلى الله عليه وآله عليه ليهودي فغضب، فنزل فيه: *(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)*(4). ومنها: ما ذكره عكرمة ومجاهد والسدي والفراء والزجاح والجبائي وابن عباس وأبو جعفر عليه السلام: أنه كان يكتب الوحي ويغير، فكتب موضع *(غفور رحيم)* - سميع عليم - عزيز حكيم، فأنزل الله فيه: *(ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله)*(5) حين ارتد ولحق بمكة وقال ذلك. ويقال: إن هذه القصة لابن أبي سرح، وكان كاتبا للوحي، فارتد ولحق بمكة، ثم آمن وبعد ذلك ولاه عثمان على مصر. ورووا أنه كان يخطب فرفعت عائشة قميص النبي صلى الله عليه وآله 

(هامش)

(1) سورة الأحزاب: 53. (2) سورة الأحزاب: 57. (3) سورة البقرة: 10. (4) سورة النساء: 65. (5) سورة الأنعام: 93. (*)

ص 358

وقالت: قد أبليت سنته وهذا قميصه لم يبل، فقال: اسكتي أنت كامرأة نوح وامرأة لوط - الآية (1). وروى أبو وائل: أن عمارا قال: ما كان لعثمان اسم في أفواه الناس إلا الكافر حتى ولى معاوية. وروى حذيفة أنه قال: لا يموت رجل يرى أن عثمان قتل مظلوما إلا لقي الله يوم القيامة يحمل من الأوزار أكثر مما يحمل أصحاب العجل. وقال: ولينا الأول فطعن في الإسلام طعنة، والثاني فحمل الأوزار، والثالث فخرج منه عريان وقد دخل حفرته وهو ظالم لنفسه، وقد اجتمع خمسة وعشرون ألفا لقتله. ومنها: ما رواه السدي: أنه لما غنم النبي صلى الله عليه وآله بني النضير وقسم أموالهم، قال عثمان لعلي عليه السلام: آت النبي واسأله كذا، فإن أعطاك فأنا شريكك، وأنا أسأله فإن أعطاني فأنت شريكي. فسأله عثمان أولا فأعطاه، فأبى أن يشرك عليا عليه السلام فقاضاه إلى النبي صلى الله عليه وآله فأبى، وقال: إنه ابن عمه، فأخاف أن يقضي له. فنزلت: *(فإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون - إلى قوله - بل أولئك هم الظالمون)*(2). فلما بلغه ما أنزل فيه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله، وأقر بالحق لعلي عليه السلام.

(هامش)

(1) سورة التحريم: 11 و12. (2) سورة النور: 48 - 50. (*)

ص 359

ومنها: ما رواه السدي في تفسير قوله تعالى: *(لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)*(1)، لما أصيب النبي صلى الله عليه وآله بأحد قال عثمان: لألحقن بالشام فإن لي بها صديقا يهوديا فآخذ منه أمانا إني أخاف أن يدل علينا. وقال طلحة: إن لي بها صديقا نصرانيا فآخذ منه أمانا. قال السدي: فأراد أحدهما أن يتهود، والآخر أن يتنصر. فاستأذن طلحة النبي صلى الله عليه وآله في المسير إلى الشام معتلا أن له بها مالا. فقال صلى الله عليه وآله: تخذلنا وتخرج وتدعنا؟ ، فألح عليه، فغضب علي عليه السلام، وقال: ائذن له يا رسول الله، فوالله لا عز من نصر، ولا ذل من خذل . فنزل: *(ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم)*(2). ومنها: في تفسير الثعلبي في قوله تعالى: *(إن هذان لساحران)*(3)، قال عثمان: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، فقيل: لا تغيره؟ فقال: دعوه فإنه لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا. إن قيل: إنما قصد بنفي التحريم تلك الآية خاصة فظاهر خلوها عن الأمر

(هامش)

(1) سورة المائدة: 51. (2) سورة المائدة: 53. (3) سورة طه: 63. (*)

ص 360

والنهي، وإنما هي إخبار وحكاية، قلنا: لو كان كذلك لأضاف اللحن إليها لاإلى القرآن. إن قيل: الضمائر التي في كلام عثمان عايدة إلى اللحن فإنه أقرب، قلنا: قوله: وستقيمه العرب عائد إلى القرآن إذ اللحن لا يمكن أحد إقامته وإنما توهم ذلك لجهله باللغة فإنها لغة كنانة، وقيل: لغة بني الحارث، فإنهم يثبتون ألف التثنية في النصب والجر، فيقولون: من يشتري الخفان؟ ومررت بالزيدان، ولبعضهم إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها هذا قوله! مع قولهم: إنه جمع القرآن، فإن اعتقد أن اللحن من الله فهو كفر، وإن اعتقده من غيره فكفر آخر، حيث لم يغيره إلى ما أنزل عليه، ولم يؤد الأمانة فيه. وذكر الحديث عنه ابن قتيبة في كتاب المسلك . لقد قرر الثوار انطلاقا من مبدأ الإحساس برسالتهم الإسلامية تأليب الناس على الخليفة الأموي عثمان، وجمعوا طاقاتهم والدعوة إلى شعار التوحيد، وصرخوا بوجه عثمان عاليا: إن القوة لله جميعا و لا حكم إلا لله . وهكذا فإنهم وباتكال على قدرة الله الأزلية انتصروا على الخليفة الناهب لثروات المسلمين، وضربوا ضربتهم القاتلة ليحققوا وعد الله: *(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين)*(1). ذكر علماء المذاهب الأربعة وغيرهم: إنه لما اجتمع المسلمون على خلع

(هامش)

(1) سورة القصص: 5. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

الروض النضير في معنى حديث الغدير

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب