ص 428
إن استفهام الرسول صلى الله عليه وآله عن هذه الدرجة من الولاية له أبعاد وله أثره
في تهيأة النفوس لتلقي العهد بالقبول والاذعان ولو مؤقتا وفي ذلك الموقف لأن المهم
في تلك الساعة أن يمر تبليغ هذا الأمر العظيم بسلام دون ردود فعل عنيفة أو صارخة
تؤثر سلبيا على الدين من حيث الأساس، لأن الاستفهام والجواب عليه يقطع الألسن في
تلك اللحظة من اللغط والشغب، فالرسول صلى الله عليه وآله إنما يبلغ عن الله وضمن
صلاحياته التي هي جزء من ولايته. والولاية لم تكن أمرا جديدا، فالمسلمون يشهدون
بثبوت أعلى درجاتها وهي كون النبي صلى الله عليه وآله أولى بالمؤمنين من أنفسهم،
وإذا ثبتت الدرجة العليا فمن باب أولى تثبت الدرجات الأقل منها، ومن ضمنها الولاية
على الأمر المشترك بين المسلمين، فلا حاجة لتعداد درجات الولاية الأقل من هذه
الدرجة. ثم ننظر بالنص نفسه: من كنت مولاه فعلي مولاه . إن التحول من صيغة
الأولوية في المقدمة إلى هذه الصيغة فيه دلالات إيجابية أيضا. فكلمة (المولى) أو
كلمة (الولي) أوسع دائرة من كلمة أولى، وهي أساس لها أيضا، والأولوية واحدة من
درجاتها، فإذا ذكر بالأولوية وذكر المعنى الأوسع ثبتت الأولوية تلقائيا. إن النبي
صلى الله عليه وآله كان ولي المؤمنين، وولايته عليهم فرع ولاية الله وذكرت معها في
الآية الكريمة بلا فصل فهي طريق لولاية الله ومن خلالها تتجسد.
ص 429
ومن ثم هو أولى بكل مؤمن من نفسه، لا لأن هذه الدرجة من الولاية أضيفت إلى ولايته
العامة عليهم، وإنما لطبيعة الدين الذي يشمل المجال الفردي كما يشمل المجال
المجموعي والاجتماعي. وولاية علي بن أبي طالب عليه السلام امتداد لهذه الولاية فهي
إذن في كل من المجالين. فهو ولي كل مؤمن بصفته عضوا في المجتمع وهو وليه بصفته فردا
أيضا. والشق الثاني هو معنى (أولى به من نفسه). والرسول صلى الله عليه وآله يريد أن
يبين الولاية بكل أبعادها وكل درجاتها وكل مجالاتها، وهذا التعبير يكفي لأنه جامع
مانع. إنه ليكفي لبيان أن الإمام عليه السلام ولي المجموع بالأمور العامة، وهو
يتضمن معنى أولى بهم من أنفسهم كمجموع. ويكفي لبيان أنه ولي كل فرد من المجموع -
بالأمور العامة أو التي لها علاقة بها أيضا كالقضاء والجهاد وحفظ الأمن فله أن
يتصرف بأي من المؤمنين في هذه المجالات، ويكفي لبيان أنه ولي كل فرد بأموره الخاصة
والشخصية وهو معنى الأولوية بهم من أنفسهم كأفراد. فيكون معنى الحديث: من جعلت بينه
وبيني الولاية الإسلامية المعهودة لديكم، والتي أعلى درجاتها أنني أولى بكم من
أنفسكم جعلت بينه وبين علي عليه السلام نفس الولاية بلا فرق بما في ذلك تلك الدرجة
العليا والأولوية. لأنه أطلق الكلام وعممه، وقرنه بنفسه، ولو أراد شيئا دون ولايته
أو يختلف عنها شيئا لوضحه، لأنه في مقام التبليغ عن الله سبحانه وفي مقام بيان
ولاية دينية فلا يصح منه في ذلك المقام الاجمال المحير، وفعلا لم يتحير بكلامه
ص 430
أحد من الحاضرين. مع أنه بإمكانه جدا أن يختار غير هذه الكلمات لو أراد شيئا آخر
كما يذكر البعض، فبإمكانه أن يبين أن لعلي عليه السلام على المؤمنين ذلك الحق
مباشرة بغير لفظ الولاية، وتبقى حصة الإمام في الولاية بين المؤمنين على فاعليتها
وله ذلك الأمر الإضافي أيضا. وفي روايات الطرفين أحاديث عن الحب والنصرة لأفراد
وجماعات من المسلمين صرح فيها بالمعنى المراد ولم يطلق عليها لفظ الولاية، ولم
يقرنها بولايته، ولم يقدم لها بهذا المستوى الأعلى الأولوية . فهو صلى الله عليه
وآله في تقديمه ب ألست أولى؟ يشير إلى المستوى الأعلى من ولايته على المسلمين،
وبقوله: من كنت مولاه يقرن ولاية علي عليه السلام بولايته وأنها من سنخ واحد
ولها سعة واحدة، وأن ولايته المعهودة المركوزة في أذهان المسلمين هي نفسها ثابتة
إلى أمير المؤمنين عليه السلام. والواقع أن هذا المعنى يتحصل - ولو في النتيجة -
على أي من التفسيرين الآخرين اللذين (1) يذكرهما المخالفون للتصديق بوجود ولاية
للإمام بهذا المستوى. لأن كلا منهما لا بد أن يؤدي بالالتزام بباقي جوانب الولاية.
فالحب الذي يقرن بحب النبي صلى الله عليه وآله لا بد وأن يكون بدرجة عالية جدا
تنقضها المخالفة والمعصية والخذلان وتفضيل الغير وتأميره. وقد احتج القرآن الكريم
بهذا المعنى في أكثر من موضع، منها قوله تعالى:
(هامش)
(1) ما يذكره المخالفون لهذا الرأي لا يخرج عن معنيي الحب والنصرة مجتمعين أو
منفردين. (*)
ص 431
*(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)*(1)، نعم، لو كان بيان الحب بغير
هذه الصيغة وغير لفظ الولاية لأمكن الهروب من هذه النتيجة. فلو كان قوله صلى الله
عليه وآله: أحبوا عليا فإن حبه واجب ومفروض على كل مؤمن لأمكن القول أن هذا
الحب يختلف درجة وملاكا عن الحب الذي تلازمه الولاية الكاملة بأبعادها بما فيها
تقديم النفس رخيصة طوعا بين يديه. وهذا أيضا واضح في أحاديث حب فاطمة الزهراء عليها
السلام وكان المسلمون يفهمونه، ولولا المرتكز الذهني عن الولاية الإسلامية التي
تتضمن معنى عدم تأمير النساء لفهم من تلك الأحاديث ولاية الزهراء سلام الله عليها
على الإمرة أيضا، على أن المسلمين مع هذا المرتكز كانوا يدركون أيضا أن أحاديث
النبي صلى الله عليه وآله في حب الزهراء عليها السلام تتضمن وجوب طاعتها لو أمرت
بشيء، ولكنهم يعلمون أيضا أنها سوف لن تتأمر عليهم بموجب هذه الأحاديث للمرتكز
الذهني عن الإمرة المذكورة. ولكن لو أمرت بشيء عرضا بصفتها هذه التي بينها الرسول
صلى الله عليه وآله وأنها صاحبة هذا الحق الكبير على المسلمين فمن القبيح التخلف عن
أمرها. لذلك كان المسلمون يعيرون أهمية بالغة لموقفها، بما في ذلك الذين تشددوا ضد
علي بن أبي طالب عليه السلام. وفرض النصرة بهذه الدرجة كذلك يؤدي بالنتيجة إلى وجوب
الطاعة، بل وجوب المبادرة إلى النصرة والحيلولة دون الخذلان.
(هامش)
(1) سورة آل عمران: 31. (*)
ص 432
وأي خذلان أكبر من ترك علي بن أبي طالب عليه السلام وتجاوزه حتى ولو على مستوى
المشورة وإشراكه في الرأي؟ ففرض النصرة يوجب أولا: عدم التجاوز للإمام. وثانيا:
يوجب منع التجاوز. وثالثا: يوجب طاعة الإمام والوقوف معه بكل قوة مهما كان رأيه في
الأمر، وأي رأي مقابل رأيه هو خذلان، وأكبر منه الاصرار على الخلاف له، وأكبر منه
الاصرار على إبعاده عن الأمر ونصرة غيره عليه. إن النصرة لم تكن محصورة في حالة
الحرب حتى يقال: لم يحارب الإمام فلم تقع مخالفة لولاية النصرة، بل النصرة إذا وجبت
بمثل هذا البيان الذين اتبعه الرسول صلى الله عليه وآله في خطبة الغدير تثبت في كل
شيء في الموقف وفي الرأي وفي الحرب. وتشتد هذه المعاني تبادرا إلى الذهن عند ملاحظة
التعبير عن النصرة بالولاية لكون معنى الولاية أغنى من معنى النصرة وأوسع منه كما
أسلفنا. وكذلك تتحصل النتيجة لو كان المراد معنى: من كنت أولى به من نفسه فعلي
أولى به من نفسه وأن كلمة أولى مرادفة لكلمة مولى، لأن هذا اللسان يجعل كل فرد من
المسلمين محكوما لولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، فلا يجوز أن يتصرف بنفسه خلاف
ما يريده الإمام، ولو على مستوى الموقف والرأي والتصدي لاستلام المسؤوليات. ولكن مع
ذلك ما ذكرناه هو المعنى الذي يستقيم مع السياق ومع المرتكز الذهني للولاية ولولاية
الرسول صلى الله عليه وآله. والدعاء وإن كان لا يضيف على المعنى شيئا ولم يكن تبادر
المعنى متوقفا على وجوده ولكنه يؤكد المعنى ويحث على الالتزام والتمسك به،
ص 433
والدعاء يضم كل المعنى، فهو يتضمن الولاية، ويتضمن النصرة، ويتضمن عدم الخذلان وعدم
العداوة التي هي تقابل الولاية. والدعاء جعل المرء بين اثنين: بين الولاية وبين
العداوة ولم يكن لهما ثالث فمن لا يوالي أصبح معاديا، ومن لا يعادي لا بد أن يوالي.
وهذه من طبيعة الولاية الإسلامية فمن لا يدخل فيها هو معادي لها لأنها فرض، وترك
الفرض نقض له، ومحاربته أيضا نقض ولكن بشكل أشد. وكذلك بالنسبة للنصرة والخذلان،
فإن الدعاء حصر الخيار بينهما وذلك لما بيناه من أن النصرة إذا كانت بهذا المستوى
من القوة وبهذا المستوى من الغرض والأمر الإلهي يكون تركها والإعراض عنها أو عدم
التلبس بها والحضور والاستعداد والمبادرة لعرضها بين يدي صاحبها - خاصة عند الحاجة
- خذلانا. والكثير من الروايات تذكر الحب والبغض في الدعاء وبنفس المستوى فهو بين
خيارين أيضا، لأن انصراف النفس عن حب الأمر المقدس المأمور بحبه بدرجة الأمر بحب
الله ورسوله صلى الله عليه وآله لا يكون حيادا وإنما هو كاشف عن دوافع مضاده للحب
أقوى من دافع الحب وقد تغلب عليه وطغى. ثم إن ذكر الدعاء لهذه المعاني كلها يدل على
المغايرة فيما بينها وبين معنى الولاية، وأنها ذات علاقة بالولاية، فدعا أولا لمن
يتمسك بالولاية وعلى من يتخلى عنها ويقع في حيز المضاد لها وهو العداوة . ثم دعا
لمن يؤدي حق الولاية أو من يتمسك بالمصداق الصعب من مصاديقها وهو النصرة وخاصة
المبادرة إليها ودعا على من يتخلى عن هذا المصداق ويقع في حيز المضاد له وهو
الخذلان وعدم المبادرة.
ص 434
ودعا أيضا لمن يتمسك بشعوره ووجدانه بجانب من الولاية له أثر كبير في تكوين الدافع
الباعث نحو باقي الجوانب وهو جانب العاطفة وحب الولاية وصاحبها ودعا على من ينسلخ
من هذا الجانب ويتلبس بضده وهو البغض الذي يدفعه إلى مخالفة الأمر الإلهي والتخلي
عن الولاية. وتهنئة الخليفة عمر بن الخطاب فهي جديرة بالتأمل والدراسة أيضا فإن
فيها جوانب ملفتة للنظر. منها أسلوبه فيها وتأكيده على نفسه أصبحت مولاي
وأسلوبها من جانب آخر ينم على أمر في نفس الفاروق ويمكن اعتبارها من علائم وجود
تحرك يعلم تفاصيله أو له علاقة به. ومن الأمور الملفتة للنظر فيها هذا الاهتمام من
قبل الصحابة والتابعين المعايشين لتلك الأحداث في نقلها وإبرازها بشكل خاص يتميز عن
عامة المسلمين الذين كانوا يعدون بعشرات الآلاف في تلك الحادثة. ولعل أحد دواعي ذكر
الخليفة شخصيا والتأكيد عليه بهذه الكثرة هو موقفه العنيف المتصلب ضد ولاية علي بن
أبي طالب عليه السلام ودوره الكبير في تجميدها وصرف الناس عنها والالتفاف عليها
وإصراره على هذا الموقف وهذا الدور إلى آخر لحظة من حياته طيلة هذه السنوات
العديدة.
ص 435
الفصل السابع
ما هو يوم الغدير
ص 437
يوم الغدير، هو اليوم الذي أعلن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله للمسلمين وعلى
أوسع نطاق وبأوضح لهجة نبأ دنو أجله، وأنه مفارق قريبا، وأن حجه ذاك هو آخر حج في
حياته وأنه في مقام الوصية، وتثبيت العهد والولاية من بعده. وهو اليوم الذي عهد فيه
الرسول صلى الله عليه وآله العهد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
واستخلفه على أمته من بعده، وأخذ منهم البيعة وأمرهم بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين،
وتهنئته بالتنصيب الإلهي المقدس وبإكمال الدين وإتمام النعمة. وهو اليوم الذي نزل
فيه قوله تعالى: *(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا)*(1). وسمي بيوم الغدير نسبة إلى غدير خم وهو موضع يقع على مفترق الطرق
المؤدية إلى مكة المكرمة من أنحاء الوطن الإسلامي آنذاك في أواخر حياة الرسول
الأعظم صلى الله عليه وآله.
(هامش)
(1) سورة المائدة: 3. (*)
ص 438
حيث خطب الرسول صلى الله عليه وآله خطبة الوداع وكانت خطبة سياسية مطولة وبموجبها
عهد العهد للإمام عليه السلام. وهو اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام. وقد
كان في آخر سنة من عمر الرسول صلى الله عليه وآله وفي آخر حجة حجها الرسول صلى الله
عليه وآله وبعد فراغه من الحج ورجوعه إلى المدينة وقبل أن يفترق عنه الحجاج من
الآفاق من غير أهل المدينة. وقد قبض الرسول صلى الله عليه وآله بعد هذا اليوم بأقل
من ثلاثة شهور حيث كانت وفاته في آواخر صفر من السنة الحادية عشرة. ما هي حجة
الوداع وحجة الوداع هي آخر حجة يحجها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، وكانت في
السنة العاشرة من الهجرة. وهي أول سنة تتحقق فيها الولاية الكاملة على الحج للرسول
وللمسلمين. وهي أول سنة يخلص فيها الحج للأمة الإسلامية فلا يشركهم فيه مشرك. وهي
أول سنة يبسط الإسلام نفوذه وسلطانه على معظم أطراف الجزيرة العربية. وهي أول سنة
يتم فيها الحج كله على الصورة الصحيحة، فلم يطف بالبيت عريان... ولم تتميز فيه فئة
على سائر الناس، ولم تتبع فيه الأهواء، ولم تسيطر الخرافات، وانفرد فيه الإسلام
بالتشريع للحج من خلال الرسول الأعظم صلى
ص 439
الله عليه وآله. وهي أول سنة يكون فيها الرسول صلى الله عليه وآله أمير الحاج، وهي
آخر سنة كذلك. وفي هذه المناسبة رأى عشرات الآلاف من أطراف الجزيرة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسمع صوته وأنعم بمحضره المبارك الميمون. فرسول الله صلى الله عليه
وآله بعد أن هاجر إلى المدينة بقي خمس سنوات لا يستطيع الحج لأن قريشا كانت تمنعه
وهي المسيطرة على الحرم الشريف. وفي السنة السادسة من الهجرة توجه الرسول صلى الله
عليه وآله ومعه حوالي الألف وخمسمائة مسلم ليعتمر فمنعته قريش ووقع بينه وبينهم صلح
الحديبية المشهور والذي كان أحد بنوده أن يرجع الرسول صلى الله عليه وآله في عامه
ذاك إلى المدينة ولا يدخل مكة، وله أن يعود في العام القابل للعمرة، وأن تخلي له
قريش الحرم ثلاثة أيام. وفي السنة السابعة من الهجرة أدى عمرة القضاء وفق الاتفاق.
وفي السنة الثامنة للهجرة نقضت قريش العهد من جانبها وكان ذلك سببا في فتح مكة
وضمها إلى سلطة دولة الإسلام. وفي السنة التاسعة للهجرة حج بعض المسلمين ولم يحج
رسول الله صلى الله عليه وآله. وفي هذا الموسم - السنة التاسعة للهجرة - نزلت سورة
براءة فبعث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ليقرأها على الناس في الموسم
يوم
ص 440
الحج الأكبر بمنى إذا اجتمعوا وقال: أذن في الناس أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا
يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله
عليه وآله عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم تنادي ليرجع كل قوم
إلى مآمنهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة وحمل عليا عليه السلام على ناقته العضباء
(1)، وقام علي عليه السلام بمنى على ما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله فلم تمض
سنة حتى دخلت العرب في الإسلام (2). وصف حجة الوداع خرج صلى الله عليه وآله ومعه
نساؤه جميعا وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام وكان قد فرق عماله في أنحاء
الجزيرة: البحرين واليمامة واليمن وغيرها، وكتب إليهم ليتوجهوا بالنساء للحج ليتعلم
الناس مناسكهم من الرسول صلى الله عليه وآله مباشرة. وكان أمير المؤمنين عليه
السلام في اليمن، بعد أن أسلمت على يديه وبعد أن عاهدت نصارى نجران اليمن الرسول
وصالحوه على الجزية، فجاء كتاب الرسول صلى الله عليه وآله بأن يقدم مع جيشه ليشهدوا
الحج مع الرسول صلى الله عليه وآله، فلما قارب مكة وجد الرسول صلى الله عليه وآله
قد دخلها فأسرع للقائه وأحرم وأهل بما أهل به الرسول صلى الله عليه وآله فأشركه في
حجه وفي هديه.
(هامش)
(1) انظر: التنبيه والاشراف للمسعودي: 237. (2) هذه حقائق متواترة ومذكورة في
غالبية كتب السير والتواريخ، فراجع منها مثلا: سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري. (*)
ص 441
وكان الرسول صلى الله عليه وآله قد ساق الهدي معه، فلما وصل قرب مكة جعل الله متعة
الحج لمن لم يكن الهدي معه، فأمر الرسول صلى الله عليه وآله المسلمين بذلك وأن يحل
بعد العمرة كل من لم يكن قد ساق الهدي. وكان في كل فصل من فصول الحج يوضح ويبين
للناس الأحكام والمناسك. ولم ينزل في دور مكة وقال: ما كنت لأنزل بلدة أخرجت منها
ونصب مخيما في بعض أطرافها، ولما فرغ من الحج أسرع بالانصراف إلى المدينة وكان
معه جموع المسلمين حتى افترقوا بعد خطبة الغدير حيث مفترق الطرق. وقد سميت هذه
الحجة بحجة الوداع لأنها كانت آخر حجة للرسول صلى الله عليه وآله، بل كان آخر موسم
من حياته صلى الله عليه وآله. وسميت حجة البلاغ لأن الرسول صلى الله عليه وآله بلغ
فيها ما أنزل إليه من ربه، وسميت حجة الإسلام لأنها أول حجة يحجها الرسول بعد
الهجرة وبعد أن خلصت الولاية للإسلام على الحج، وسميت حجة الكمال لأن فيها أكمل
الله الدين وأتم النعمة. الإمام علي عليه السلام وحجة الوداع في موسم حجة الوداع
وقبلها تكشفت ظاهرة وعوامل التوتر والحسد
والغيض من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. ويبدو أنه كان وراء هذه الظاهرة
تحركات مبرمجة هادفة.
ص 442
وأن تلكم الحركات كانت تستغل حالة استثقال العرب من الإسلام من حيث الأساس ومن
ولاية الرسول صلى الله عليه وآله، ومن دوره الرئيسي في تثبيت دعائم الإسلام وإخضاع
العرب لسلطانه والدخول فيه، وتستغل كذلك الأضغان الدفينة والثأرات. ولكي تكتمل صورة
تقريبية لهذه الظاهرة نستعرض عدة حوادث وقضايا كانت في السنتين الأخيرتين من حياة
الرسول صلى الله عليه وآله كمعالم وشواهد على هذه الظاهرة:
1 - ذكر العلامة يوسف بن
قزاوغلي بن عبد الله البغدادي (سبط بن الجوزي) الحنفي، في كتابه تذكرة الخواص
(1)، عن الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: دعا رسول الله صلى
الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الطائف فانتجاه طويلا، فقال الناس:
لقد طالت نجواه مع ابن عمه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: ما
انتجيته ولكن الله انتجاه وذكر ذلك ابن المغازلي في كتاب مناقب علي بن أبي طالب
عليه السلام من خمسة طرق (2).
2 - ذكر الطبري في تاريخه (3) - في سنة تسع -
أنه لما نزلت سورة براءة بعث بها النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر ليقرأها على
الناس في الحج وأمره على
(هامش)
(1) ص 42. (2) وقد ذكر محققه - البهبودي - في الهامش عدة مصادر أخرى للحديث، ولا
يخفى أنه مذكور في جل المصادر التي تذكر الفضائل. (3) 2 / 382. (*)
ص 443
الحج. فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعلي بن أبي طالب عليه السلام
فأخذها منه. فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، بأبي
أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال صلى الله عليه وآله: لا، ولكن لا يبلغ عني غيري
أو رجل مني . وفي رواية أخرى أنها نزلت بعد مضي أبي بكر للحج وبعث بها الإمام عليه
السلام ليقرأها على الناس. وذكر هذه الحادثة ابن الأثير في الكامل الجزء الثاني
- سنة تسع -. وابن هشام في السيرة - في سنة تسع - وأضاف: قيل له: يا رسول الله،
لو بعثت بها إلى أبي بكر؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل
بيتي . وذكرها المسعودي في كتابه مروج الذهب سنة تسع للهجرة، وفي التنبيه والاشراف . وذكرها المحب الطبري في ذخائر العقبى من عدة طرق، وسبط ابن الجوزي
في تذكرة الخواص . وقد تعرض لهذه الحادثة ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب
(1) في فصل الاستنابة والولاية وذكر الكثير من المصادر التي ذكرتها وقال: بإجماع
(هامش)
(1) 2 / 391 - 393. (*)
ص 444
المفسرين ونقلة الأخبار، وذكر الطبري والبلاذري والترمذي والواقدي والشعبي والسدي
والثعلبي والواحدي والقرطبي والقشيري والسمعاني وأحمد بن حنبل وابن بطة ومحمد بن
إسحاق وأبو يعلى الموصلي والأعمش وسماك بإسنادهم إلى عدة من الصحابة، وذكر بعض
التفاصيل المهمة. وأورد حديثا عن النبي صلى الله عليه وآله يقارن فيه بين موسى بن
عمران عليه السلام وخوفه من آل فرعون حيث قتل منهم نفسا واحدة وبين موقف أمير
المؤمنين عليه السلام هذا حيث لم يخف من أهل مكة وممن حضر الموسم وقد قتل الكثير من
صناديدهم.
3 - وذكر الحافظ الموفق بن أحمد الحنفي، المعروف بأخطب خوارزم، وهو تلميذ
الزمخشري في كتابه المناقب - الفصل الرابع عشر - بإسناده إلى الرسول صلى الله
عليه وآله أنه قال لوفد ثقيف حين جاؤوه: لتسلمن أو ليبعثن الله رجلا مني - أو
قال: مثل نفسي - فليضربن أعناقكم بالسيف، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم . قال
عمر بن الخطاب: فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ جعلت أنصب صدري له رجاء أن يقول:
هو هذا. قال: فالتفت إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فأخذ بيده ثم قال: هو هذا،
هو هذا . وكان وفد ثقيف في سنة تسع للهجرة - كما ذكر الطبري في تاريخه - الجزء
الثاني - في وقائع سنة تسع للهجرة، وانظر ينابيع المودة الباب السابع، ففيه عدة
أحاديث.
ص 445
وذكر هذه الحادثة أيضا سبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرة الخواص (1) وأضاف: قال
أبو ذر رضي الله عنه: فما راعني إلا برد كف عمر من خلفي، فقال: من تراه يعني؟ فقلت:
ما يعنيك وإنما يعني خاصف النعل علي بن أبي طالب عليه السلام، وذكر القندوزي في
ينابيع المودة (2) أواخر الباب الرابع عن عدة مصادر أن النبي صلى الله عليه وآله
بعد فتح الطائف خطب وقال: لتقيمن الصلاة ولتؤتين الزكاة أو لأبعثن إليكم رجلا
كنفسي يضرب أعناقكم ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: هو هذا . وقد ذكروا
حادثة أخرى مشابهة وقعت في عمرة الحديبية أن الرسول صلى الله عليه وآله قال لوفد
قريش ورؤساء المشركين ومنهم سهيل بن عمرو: يا معشر قريش، لتنتهن أو ليبعثن الله
عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين فقد امتحن الله قلبه على الإيمان . فقالوا:
من هو يا رسول الله؟ وقال أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول
الله؟ قال صلى الله عليه وآله: هو خاصف النعل وكان أعطى عليا عليه السلام نعله
يخصفها (3). وذكروا حادثة ثالثة مشابهة هي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال
لأصحابه: إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله قال:
(هامش)
(1) ص 40. (2) ص 38. (3) انظر: ذخائر العقبى: 61، كشف الغمة: 1 / 211 - 212. (*)
ص 446
فقام أبو بكر وعمر. فقال صلى الله عليه وآله: لا، ولكن خاصف النعل ، وعلي عليه
السلام يخصف نعله (1).
4 - وذكر المؤرخون ونقلة الأخبار: أن الرسول صلى الله عليه
وآله خلف في غزوة تبوك الإمام علي عليه السلام على أهله بالإقامة فيهم، فأرجف
المنافقون بعلي بن أبي طالب عليه السلام، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا
منه. فلما قالوا ذلك أخذ علي عليه السلام سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله
عليه وآله وهو بالجرف، فقال: يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني أنك
استثقلتني وتخففت مني. فقال صلى الله عليه وآله: كذبوا، ولكن خلفتك لما ورائي،
فارجع واخلفني في أهلي وأهلك. أفلا ترضى - يا علي - أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي (2).
5 - وذكروا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أرسل
عليا عليه السلام إلى
(هامش)
(1) انظر البهبودي على هامش مناقب علي بن أبي طالب للمغازلي: 298، وقد ذكره عن أحمد
بن حنبل في مسنده، والنسائي في الخصائص، والحاكم في مستدرك الصحيحين، وأبي نعيم في
حلية الأولياء، وابن الأثير في أسد الغابة، والمتقي الهندي في منتخب كنز العمال،
وانظر أيضا المتن في مناقب المغازلي: 289، وغير ذلك من كتب المناقب والفضائل، وقد
ذكر الفيروز آبادي في فضائل الخمسة عدة مصادر لهذه الحوادث. (2) انظر تاريخ
الطبري: 2 / 368. (*)
ص 447
اليمن وقد كان أرسل قبله خالد بن الوليد إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه. وفي
رواية مكث ستة أشهر ولم يجبه أحد وامتنعوا منه، فأرسل عليا عليه السلام وأمره أن
يقيل خالدا ومن شاء من أصحابه، ففعل. وقرأ علي عليه السلام كتاب رسول الله صلى الله
عليه وآله على أهل اليمن فأسلمت همدان كلها في يوم واحد. فكتب بذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله، فقال: السلام على همدان - يقولها ثلاثا -. ثم تتابع أهل اليمن
على الإسلام، وكتب علي عليه السلام بذلك إلى رسول الله فسجد شكرا لله تعالى (1).
وذكر ابن شهرآشوب في المناقب : أن النبي صلى الله عليه وآله بعث بعثين إلى
اليمن: على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، وقال صلى الله عليه
وآله: إذا التقيتما فعلي على الناس، وإذا افترقتما فكل واحد على جنده . وقال:
فكان صلى الله عليه وآله يؤمره على الناس ولا يؤمر عليه أحد. وقد روى أخطب خوارزم
في كتابه المناقب بإسناده إلى عمران بن حصين قال: بعث رسول الله صلى الله عليه
وآله سرية واستعمل عليهم علي بن أبي طالب عليه السلام، فمضى علي عليه السلام في
السرية فأصاب جارية فأنكروا ذلك عليه، فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله إذا لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرناه بما صنع علي عليه
السلام.
(هامش)
(1) انظر: تاريخ الطبري: 2 / 389، الكامل في التاريخ: 2 / 301، ذخائر العقبى: 109.
(*)
ص 448
قال عمران: فكان المسلمون إذا قدموا من سفر بدؤوا برسول الله صلى الله عليه وآله
فنظروا إليه وسلموا عليه ثم ينصرفون إلى رحالهم. فلما قدمت السرية سلموا على رسول
الله صلى الله عليه وآله فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله، ألم تر عليا صنع كذا
وكذا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم قام الثاني فقال مثل ذلك، فأعرض
عنه. ثم قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قام الرابع فقال: يا رسول الله،
ألم تر عليا صنع كذا وكذا؟ فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله والغضب في وجهه
فقال: ما تريدون من علي؟ إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة . وانظر
أيضا ينابيع المودة للقندوزي فقد أخرجه عن الترمذي في الباب السابع (1). وأخرج
أيضا بإسناده إلى عمرو بن شاس الأسلمي قال: خرجنا مع علي عليه السلام إلى اليمن
فجفاني في سفره ذلك حتى وجدت في نفسي، فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد حتى بلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: فدخلت المسجد ذات غداة ورسول الله صلى الله
عليه وآله في ناس من أصحابه، فلما رآني أحدني عينيه (قال يقول حدد إلي النظر) حتى
إذا جلست قال صلى الله عليه وآله: يا عمرو أتحاد الله؟ لقد آذيتني.
(هامش)
(1) 1 / 51. (*)
ص 449
فقلت: أعوذ بالله أن أوذيك يا رسول الله! قال صلى الله عليه وآله: بلى، من آذى
عليا فقد آذاني (1). وذكر مثل الرواية السابقة للقندوزي في ينابيع المودة (2)
وذكر أن خالد بن الوليد كذلك كتب كتابا للنبي صلى الله عليه وآله يشكو عليا عليه
السلام وينكر عليه أخذ الجارية، فلما قرئ له كتاب خالد تغير لون الرسول صلى الله
عليه وآله، واستنكر فعل خالد.
6 - روى الخطيب الخوارزمي في مقتل الحسين عليه
السلام (3) بإسناده إلى أنس أنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله بطائر
فوضع بين يديه فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير، فقرع
الباب فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام،
فقلت: سبحان الله! سأل النبي الله ربه أن يأتيه بأحب خلقه إليه... وقد ذكر العلامة
الشيخ نجم الدين العسكري في كتابه علي والوصية (4) في تعليقته على الحديث
الثالث والثلاثين - هذا الحديث من عدة طرق وعدة مصادر. ولأنس هذا مواقف مشابهة
يتمنى فيها بعض ما لعلي عليه السلام أن يكون لأحد من قومه الأنصار. منها ما ذكره
الخوارزمي نفسه في المناقب في باب غزارة علمه
(هامش)
(1) انظر المناقب للخوارزمي: 92 و93. (2) ص 52. (3) الفصل الرابع: ص 46. (4) ص 74.
(*)
ص 450
بإسناده إلى أنس وأن النبي صلى الله عليه وآله قال له: إن أول من يدخل عليك من هذا
الباب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين، قال: فقلت:
اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته إذ جاء علي عليه السلام.. الحديث.
7 - صرح أهل
التواريخ والسير وكتب الحديث والمناقب والفضائل أن أمير المؤمنين علي عليه السلام
كان في اليمن حينما توجه الرسول صلى الله عليه وآله إلى مكة لحجة الوداع، وأنه توجه
من اليمن مع جيشه الذي كان معه إلى مكة لأداء فريضة الحج مع الرسول صلى الله عليه
وآله. ولما قاربها كان الرسول صلى الله عليه وآله قد قاربها أيضا، وكان قد بين حكم
من لم يسبق الهدي معه وهو أن يجعلها عمرة ويحل ثم يحرم للحج ثانية والإحلال بين
الإحرامين سمي متعة الحج. ولما قارب أمير المؤمنين عليه السلام مكة تقدم الجيش
وأسرع للقاء النبي صلى الله عليه وآله وخلف عليهم رجلا منهم فأدرك النبي صلى الله
عليه وآله وقد أشرف على مكة فسلم عليه وخبره بما صنع وبقبض ما قبض وأنه سارع للقائه
أمام الجيش. فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وابتهج. فلما عاد إلى جيشه وجدهم قد
لبسوا الحلل التي كانت معهم - وهي التي قبضها أمير المؤمنين عليه السلام من نصارى
نجران اليمن جزية فأنكر ذلك عليهم وقال للذي كان استخلفه عليهم: ويلك ما دعاك إلى
أن تعطيهم الحلل من قبل أن ندفعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أكن أذنت
لك في ذلك؟ فقال: سألوني أن يتجملوا بها ويحرموا فيها ثم يردوها علي. فانتزعها أمير
المؤمنين عليه السلام من القوم وشدها في الأعدال
ص 451
فاضطغنوا عليه، فلما دخلوا مكة كثرت شكاياهم من أمير المؤمنين عليه السلام. فأمر
رسول الله صلى الله عليه وآله مناديا فنادى في الناس: ارفعوا ألسنتكم عن علي بن أبي
طالب عليه السلام فإنه خشن في ذات الله عز وجل، غير مداهن في دينه (1).
8 - ذكر
الإمام نور الدين علي بن محمد المالكي الشهير بابن الصباغ في كتابه الفصول المهمة
(2) نقلا عن الإمام أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره - بإسناده إلى الإمام الصادق
عليه السلام - أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما كان بغدير خم نادى الناس
فاجتمعوا فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فشاع ذلك في أقطار البلاد،
وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله على ناقته
فأناخ راحلته ونزل عنها وقال: يا محمد، أمرتنا عن الله عز وجل أن نشهد أن لا إله
إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه، وأمرتنا أن
نصوم رمضان فقبلناه، وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك
تفضله علينا، فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله عز وجل؟ فقال
النبي صلى الله عليه وآله: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله عز وجل . فولى
الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول
(هامش)
(1) انظر إرشاد المفيد: 92، وكذلك تاريخ الطبري، وسيرة ابن هشام، والكامل في
التاريخ. (2) ص 42. (*)
ص 452
محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إلى راحلته
حتى رماه الله عز وجل بحجر سقط على هامته فخرج من دبره فقتله. فأنزل الله عز وجل:
*(سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج)*(1).
9 - وذكر
الشيخ محمد بن علي الصبان في كتابه إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل أهل
بيته الطاهرين المطبوع على هامش نور الأبصار (2) للشيخ الشبلنجي المصري: أن
العباس شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ما تفعل قريش من تعبيسهم في وجوههم
وقطعهم حديثهم عند لقائهم. فغضب صلى الله عليه وآله غضبا شديدا حتى احمر وجهه ودر
عرق بين عينيه وقال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله
ولرسوله . وروى أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ما بال أقوام يتحدثون
فإذا رأوا الرجل من أهل بيتي قطعوا حديثهم؟ والله لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى
يحبهم لقرابتهم مني . وروى أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله خرج مغضبا حتى استوى
على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال يؤذونني في أهل بيتي؟ والذي
نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني، ولا يحبني حتى يحب ذريتي .
(هامش)
(1) سورة المعارج: 1 - 3. وانظر نور الأبصار للشبلنجي: 87. (2) ص 122. (*)
ص 453
ومن هذه الحوادث والأحاديث وأمثالها نلتمس عدة معالم واضحة لعدة حقائق وظواهر في
المجتمع آنذاك كلها كانت تتظافر وتتظاهر ضد أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت تشكل
الجو العام الذي يكتنف حجة الوداع، وما أمر الله رسوله أن يبلغه فيها من أمر عظيم
ثقيل على النفوس.
ومن الجدير أن نشير إلى بعض تلك الظواهر:
1 - إن العرب بصورة عامة
كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وأن الدين كان ثقيلا عليهم، وكان الكثير منهم قد دخلوا
الإسلام كرها واضطرارا لغلبته على الجزيرة وكانت الولاية بصورة خاصة أثقل عليهم من
جوانب الدين الأخرى.
2 - إن العرب بصورة عامة وقريش بصورة خاصة كانت تستثقل علي بن
أبي طالب عليه السلام ودوره في تثبيت دعائم الإسلام وبسط نفوذه، وتقوية ظهر الرسول
صلى الله عليه وآله والذب عنه. وأن الكثير من القبائل كانت تحقد عليه وتشعر أنها
موتورة بأبطالها الذين قتلهم، وقريش كانت كذلك.
3 - إن العرب بصورة عامة وقريش
بصورة خاصة كانت تتضايق في أن يستمر عز بني هاشم وأن تجتمع الخلافة مع النبوة فيهم،
وأن تبقى الإمامة فيهم إلى يوم القيامة.
4 - إن بعض الصحابة كانوا يتوقون ويتطلعون
دائما بل ويتحسرون أن يشاركوا الإمام ببعض منزلته وخصائصه وأدواره. ويبدو أن بعضهم
كان يعمل من أجل أن تكون له بعض أدوار الإمام، وربما كان يعمل لأن يقدم بعض
المقدمات التي تسهل عليه ادعاءها له أو تجعل من الممكن الالتفاف عليها واحتوائها.
ص 454
ومن ذلك كان التعرض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله رجاء أن يصدر منه ما يمكن
التمسك به أو حتى رجاء سكوته واستغلاله كعلامة على ما يمكن أن يدعوه أو يتمنوه.
5 -
ويبدو أن الخليفتين أبا بكر وعمر كانا حريصين جدا على أن تكون لهما بعض الأدوار
الخطيرة للإمام سواء في حياة الرسول صلى الله عليه وآله أو بعد مماته. وقد تكرر
منهما إظهار ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وآله، وتعرضهما للرسول صلى الله عليه
وآله رجاء أن يقرهما أو يكون في حالة يمكن لهما معها ابتغاء الدور أو المنزلة التي
يختص بها الإمام دون المؤمنين.
6 - كان الإمام يتفوق على الصحابة جميعا في جميع
المواقف والخصائص ومن جميع الوجوه وكان يتفوق في بعض المواقف على أهل الطموح من
الصحابة وعلى أهل العناوين الصارخة من قريش كخالد بن الوليد وغيره، بحوادث هامة لها
أثرها في النفوس، كفتح اليمن وفتح خيبر.
7 - ولم يسلم وسط الأنصار من تمني بعض ما
للإمام من خصائص، وما مواقف أنس إلا من معالم هذه الظاهرة.
وينبغي أن نختم الكتاب
بهذا الكلام، والحمد لله على توفيق الإتمام. اللهم أبلغ صلاتي وسلامي إلى جناب نبيك
وآله الأطهار، واجعل مودتهم يوم القيامة سببا لإجارتي من النار، فإنك تعلم أن
ولاءهم في قلبي مكنون، وقلبي بولائهم مشحون، وهذا عندك وسيلتي، وللنجاء عن الدركات
جبلتي، وأرجو لمحبة العترة الطاهرة الفوز بمقاصد الدنيا والآخرة.
|