فصل في سبق إسلام أمير المؤمنين ورسوخ إيمانه وغزارة علمه وكثرة فضائله :
عن ابن المغازلي بسنده عن سلمان قال: قال رسول الله أول الناس ورودا على الحوض وأولهم إسلاما علي بن أبي طالب، والترمذي بسنده عن أنس بن مالك قال بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الإثنين وصلى علي يوم الثلاثاء. وروى هذا الحديث جماعة منهم الحمويين في زوائد المسند لعبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده عن ابن عباس قال علي أول من أسلم. وأيضا بسنده عن الحسن البصري وغيره، ابن المغازلي بسنده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله (ص) صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين لأنه لم يكن من الرجال غيره، وأيضا بسنده عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى السابقون السابقون قال سبق يوشع بن نون وسبق مؤمن آل فرعون إلى موسى وسبق صاحب يسين إلى عيسى وسبق علي إلى محمد (ص) أيضا إبن المغازلي بسنده عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن علي بن الحسين (ع) قال: قال رسول الله لعلي يا أبا الحسن لو وضع إيمان الخلائق وعملهم في كفة ميزان ووضع عملك يوم أحد على كفة أخرى لرجح عملك على جميع عمل الخلائق وأن الله باهى بك يوم أحد الملائكة المقربين ورفع الحجب من السماوات السبع وأشرقت إليك الجنة وما فيها وابتهج بفعلك رب العالمين وأن الله تعالى يعوضك ذلك اليوم ما يغيظ كل نبي ورسول وصديق وشهيد. أيضا ابن المغازلي عن علقمة عن ابن مسعود قال كنت عند النبي (ص) فسئل عن علي فقال
[ 26 ]
قسمت الحكم عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء واحد وهو أعلم بالجزء الباقي أيضا عن ابن المغازلي بسنده عن محمد بن عبد الله قال حدثنا علي بن موسى الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: قال رسول الله (ص) يا علي أنا مدينة العلم وأنت بابها كذب من زعم أنه يدخل المدينة بغير الباب قال الله تعالى وأتو البيوت من أبوابها وقال (ع) علمني رسول الله ألف باب من العلم فانفتح في كل باب ألف باب. عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال سألت رسول الله عن قوله تعالى (قال الذي عنده علم من الكتاب) قال ذاك وزير أخي سليمان بن داود وسألته عن قول الله عز وجل قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب قال ذاك أخي علي بن أبي طالب. مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص) لو أن الشجر أقلام والبحر مداد والجن حساب والأنس كتاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب (ع).
فصل في اختصاص أمير المؤمنين (بالنبي دون غيره):
في سنن النسائي عن عبد الله عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين (ع) كانت لي منزلة من رسول الله (ص) لم تكن لأحد من الخلائق فكنت آتيه كل سحر أقول السلام عليك يا نبي الله فإن تنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه وكان لي مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار.
فصل في أن عليا قسيم الجنة والنار :
إبن المغازلي بسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله يا علي إنك قسيم الجنة والنار وأنت تقرع باب الجنة وتدخلها أحبائك بغير حساب. وفي الأربعين عن إسحاق بن محمد النخعي أن بعض الفقهاء من أهل الكوفة جاؤا عند الأعمش عند مرضه وقالوا
[ 27 ]
إنك كنت تحدث بفضائل علي (ع) قال أسندوني فأسندوه فقال حدثني أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص) إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى لي ولعلي بن أبي طالب (ع) أدخلا النار من أبغضكما وأدخلا الجنة من أحبكما وذلك قوله تعالى (وألقيا في جهنم كل كفار عنيد) أي عنيد بنبوتي وعنيد عن إطاعة علي (ع). وفي كتاب جواهر العقدين أخرج الدار قطني عن أبي الطفيل عامر بن وائلة الكناني أن عليا قال حديثا طويلا في الشورى وفيه أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله (ص) أنت قسيم الجنة والنار غيري قالوا أللهم لا.
فصل في ثواب من احب عليا (وعقاب من أبغضه) :
في كتاب الأصالة يحيى بن عبد الغفار الأنصاري قال سمعت رسول الله يقول من أحب عليا في محياته ومماته كتب الله تعالى له الأمن والأيمان، ابن المغازلي عن الزهري قال سمعت انس بن مالك يقول والذي لا اله إلا هو سمعت رسول الله يقول، عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب احمد بن حنبل بسنده الى سليمان قال سمعت رسول الله يقول حب علي حسنة لا يضر معها سيئة وبغض على سيئة لا تنفع معها حسنة وأيضا رواه الترمذي وابن ماجه عن انس بن مالك عن أبو نعيم عن أبي ذر قال رأيت رسول الله، اخذ بيد علي بن أبي طالب (ع) وهو يقول يا علي انت أخي وصفي ووزيري واميني مكانك مني مكان هارون من موسى إلا أنه لا نبي من بعدي، من مات وهو يحبك ختم الله عز وجل له بالا من والأيمان، ومن مات وهو يبغضك لم يكن له نصيب من الأسلام، ابن المغازلي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما مثل علي في هذه الأمة كمثل (سورة قل هو الله أحد)، احمد بن حنبل في المسند عن أبي سعيد
[ 28 ]
الخدري قال: قال رسول الله " ص " من سره ان يحيي حياتي ويموت مماتي ويتمسك بالقضيبة الحمراء الياقوته غرسها الله بيده فليتمسك بولاية علي بن أبي طالب (ع) وهذا الحديث رواه أبو نعيم أيضا والحمويني بسنده عن مالك ابن انس عن جعفر الصادق (ع) عن آبائه عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا جمع الله الأولين والأخرين يوم القيامة نصب الصراط على جهنم ولم يجز عنها احد إلا من كانت معه برائة من علي بن أبي طالب (ع) مناقب الخوارزمي باسناده عن عمار بن ياسر قال سمعت رسول الله يقول لعلي طوبى لمن أحبك وصدق فيك وويل لمن أبغضك وكذب فيك. وفيه باسناده الى سلمان قال له رجل يوما ما أشد حبك لعلي بن أبي طالب، قال سمعت رسول الله يقول من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني.
المجلس الأول
(في ولادته وكفالة النبي له، وحديث مبيته على فراش النبي وفيه ثلاثة ابواب)
الباب الأول
في حديث ولادته
روى ابن شهرآشوب رحمه الله في كتاب المناقب قال: خطب أبو طالب في نكاح فاطمة بنت أسد فقال الحمد لله رب العالمين رب العرش العظيم والمقام الكريم والمشعر والحطيم الذي اصطفانا اعلاما وسدنة وعرفاء خلصا وحجبة بهاليل أطهارا من الخنا والريب والأذى والعيب وأقام لنا المشاعر وفضلنا على العشائر نحب آل ابراهيم وصفوته وزرع اسماعيل في كلام له ثم قال وقد تزوجت فاطمة بنت أسد وسقت المهر ونفذت الأمر فاسئلوه: واشهدوا فقال أسد زوجناك ورضينا بك ثم اطعم الناس
[ 29 ]
فقال أمية بن الصلت:
اغمرنا عرس أبي طالب * * وكان عرسا لين الجانب
اقرائه البدو باقطاره * * من راجل خف ومن راكب
فنازلوه سبعة احصيت * * ايامها للرجل الحاسب
أقول: فلم تزل فاطمة بنت أسد الى ان ولدت منه طالبا وعقيلا وجعفرا وأم هاني وكل اكبر من صاحبه بعشر سنين كما تقدم وفي حديث عن الصادق ان آمنة بنت وهب لما ولدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم جائت فاطمة بنت أسد رحمها الله الى أبي طالب مبشرة بمولوده فقال لها أبو طالب اصبري لي سبتا أتيك بمثله الا النبوة قيل والسبت ثلاثون سنة وكان بين رسول الله وأمير المؤمنين ثلاثون سنة وفي حديث أخر قال أبو طالب لفاطمة الزهراء بنت أسد ستلدين غلاما يكون وصي هذا المولود ووزيره. وروى في المناقب أيضا عن القاضي أبي عمر وعثمان بن أحمد شيخ السنة في خبر طويل أن فاطمة بنت أسد رأت النبي (ص) يأكل تمرا له رائحة تزداد على كل الأطائب من المسك والعنبر من نخلة لا شماريخ لها فقالت ناولني آكل منها قال عليه السلام لا تصلح إلا ان تشهدي معي لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله فشهدت الشهادتين فناولها فأكلت فازدادت رغبتها وطلبت أخرى لأبي طالب فعاهدها ان لا تعطيه إلا بعد الشهادتين فلما جن عليها الليل شم أبو طالب (ع) نسيما ما شم مثله فاظهرت ما معها فالتمسه منها فأبت عليه الا أن يشهد الشهادتين فلم يملك نفسه أن شهد الشهادتين فأعطته ما معها فاوى الى زوجته فعلقت بعلي في تلك الليلة ولما حملت بعلي ازداد حسنها فكان يتكلم في بطنها فكانت في الكعبة فتكلم مع جعفر فغشي عليه فألقت الأصنام خرت على وجوهها فمسحت على بطنها وقالت يا قرة العين تخدمك الأصنام داخلا فكيف شأنك خارجا وذكرت لأبي طالب ذلك فقال هو شئ قال لي الأسد في طريق الطائف. أقول: وكان من خبر هذا الأسد ما ذكره في المناقب أيضا كانت السباع تهرب من أبي طالب فأستقبله أسد في طريق الطائف وبصبص وتمرغ بقدميه فقال أبو طالب بحق خالقك ان تبين لي مالك فقال الأسد انما أنت أبو أسد الله وناصر نبي الله ومربيه فازداد
[ 30 ]
أبو طالب في حب النبي (ص) والأيمان به قال والأصل في ذلك أن النبي قال خلقت أنا وعلي من نور واحد نسبح الله يمنة العرش قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام الخبر. وفي البحار عن العلل ومعاني الأخبار وأمالي الصدوق عن الدقاق عن الأسدي عن البخعي عن النوفلي عن محمد بن سنان عن المفضل عن ثابت بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال يزيد بن قعنب كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بازاء بيت الله الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين " ع " وكانت حاملة به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق فقالت ربي أني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب وأني مصدقة بكلام جدي ابراهيم الخليل " ع " وأنه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى هذا البيت وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت على ولادتي قال يزيد بن قعنب فرأينا البيت وقد انفتح من ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح فعلمنا أن ذلك أمر من الله عز وجل ثم خرجت بعد اليوم الرابع وبيدها أمير المؤمنين (ع) ثم قالت أني فضلت على من تقدم مني من النساء لأن آسية بنت مزاحم عبدت الله عز وجل سرا في موضع لا يحب أن يعبد الله إلا اضطرارا وأن مريم بنت عمران هزت النخلة اليابسة بيدها حتى أكلت منها رطبا جنيا وأني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وارزاقها فلما أردت أن اخرج هتف بي هاتف يا فاطمة سميه عليا فهو علي والله العلي الأعلى يقول أني شققت اسمه من اسمي وأدبته بادبي ووقفتة على غامض علمي وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي ويقدسني ويمجدني فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن ابغضه وعصاه أقول: وروى أبو الفضل شاذان بن جبرئيل القمي (ره) باسناده عن جابر ابن عبد الله الأنصاري رضوان الله عليه قال سئلت رسول الله (ص) عن ميلاد علي فقال اه اه يا جابر سألت عجبا عن خير مولود بعدي على سنة المسيح أن الله تعالى خلقه نورا من نوري وخلقني نورا من نوره وكلانا من نور واحد وخلقنا من قبل أن يخلق سماء مبنية وأرضا مدحية ولا كان طول ولا عرض ولا ظلمة ولا ضياء ولا برد ولا بحر ولا هواء بخمسين ألف عام ثم أن الله عز وجل سبح نفسه فسبحنا وقدس ذاته فقدسنا
[ 31 ]
ومجد عظمته فمجدناه فشكر الله تعالى ذلك لنا فخلق من تسبيحي السماء فسمكها والأرض فبطحها والبحار فعمقها وخلق من تسبيح علي الملائكة المقربين فجميع ما سبحت الملائكة لعلي (ع) وشيعته يا جابر أن الله عز وجل وجعل نسلنا فقذفنا في صلب آدم فأما أنا فاستقررت في جانبه الأيسر ثم أن الله عز وجل نقلنا من صلب آدم في الأصلاب الطاهرة فيما نقلني من صلب إلا ونقل عليا معي فلم نزل كذلك حتى طلعنا الله تعالى فأطلعني من ظهر طاهر وهو عبد الله ومسنود عني خير رحم وهي أمنة فلما أظهرت ارتجت الملائكة وضجت وقال الهنا وسيدنا ومولانا ما بال وليك على الا نراه مع النور الأزهر يعنون بذلك نور محمد فقال الله عز وجل أنى اعلم بوليي واشفق عليه منكم فأطلع الله عليا (ع) من ظهر طاهر من بني هاشم فمن قبل أن صار بالرحم كان رجل في ذلك الزمان يقال له المثرم بن رعيب بن الشيقان وكان من العباد وكان قد عبد الله مائة وتسعين سنة لم يسأل حاجة وكان قد جعل الله تعالى في قلبه الحكمة والهمه حسن طاعته لربه فسأل الله تعالى ان يريه وليا له فبعث الله تعالى أبا طالب فلما بصر به المثرم قام إليه وقبل رأسه وأجلسه بين يديه ثم قال له أنت يرحمك الله تعالى فقال من تهامه فقال من عبد مناف ثم قال من هاشم فوثب العابد وقبل رأسه ثانية وقال الحمد لله الذي لم يميتني حتى أراني وليه ثم قال الأثرم يا هذا فأن العلي الأعلى الهمني ما فيه بشارتك فقال أبو طالب وما هو قال ولد يولد من ظهرك هو ولي الله عز وجل امام المتقين ووصي رسول رب العالمين فأن أنت أدركت ذلك الولد من ظهرك فاقرأه مني السلام وقل له أن المثرم يقرئك السلام ويقول (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله به تتم النبوة وبعلي تتم الوصية) قال فبكى أبو طالب (ع) وقال ما اسم المولود قال اسمه علي، قال أبو طالب أني لا اعلم حقيقة ما تقول إلا ببرهان مبين ودلالة واضحة قال المثرم ما تريد قال أريد أن أعلم أن تقول حق من رب العالمين الهمك ذلك قال فما تريد أن أسئل لك من الله تعالى أن يطعمك في مكانك هذا قال أبو طالب أريد طعاما من الجنة في وقتي هذا قال فدعا الراهب ربه قال جابر قال رسول الله فما استتم المثرم الدعاء حتى أوتي بطبق عليه فاكهة من الجنة وغدق رطب وعنب ورمان فجاء به المثرم الى أبي طالب
[ 32 ]
فتناول منه رمانة ثم ذهب من ساعته الى فاطمة بنت أسد فلما أتاها استودعها الله النور وأدرجت الأرض وتزلزلت بهم سبعة أيام حتى أصاب قريشا من ذلك شدة ففزعوا فقالوا مروا بآلهتكم الى ذروة جبل أبي قبيس وهو ريح أو ثجاجا ويضطرب اضطرابا فتساقطت الألهة على وجوهها فلما نظروا ذلك قالوا لا طاقة لنا ثم صعد أبو طالب الجبل وقال لهم، أيها الناس اعلموا أن الله تعالى عز وجل قد أحدث في هذه الليلة حادثا وخلق فيها خلقا فإن لم تطيعوه وتقروا له بالطاعة وتشهدوا له بالأمامة المستحقة وإلا لم يسكن ما بكم حتى لا يكون سكن قالوا يا أبا طالب أنا نقول بمقالتك فبكى ورفع يديه وقال الهي وسيدي إسئلك بالمحمدية المحمودة والعلوية العالية والفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة قال جابر قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فو الذي فلق الحبة وبرئ النسمة قد كانت العرب تكتب هذه الكلمات فيدعون بها عند شدائدهم في الجاهلية وهي لا تعلمها وهي لا تعرف حقيقتها حتى ولد علي بن أبي طالب عليه السلام فلما كان في الليلة التي ولد فيها عليه السلام اشرقت الأرض وتضاعفت النجوم فابصرت من ذلك عجبا فصاح بعضهم في بعض وقالوا إنه قد حدث في السماء حادث أترون من اشراق السماء وضيائها وتضاعف النجوم بها قال فخرج أبو طالب وهو يتخلل سكك مكة ومواقعها واسواقهم ويقول لهم أيها الناس ولد الليلة في الكعبة حجة الله تعالى وولي الله تعالى فبقى الناس يسألونه عن علة ما يرون في السماء من الأشراق فقال لهم ابشروا فقد ولد هذه الليلة ولي من أولياء الله عز وجل يختم به جميع الخير ويذهب به جميع الشر ويتجنب الشرك والشبهات ولم يزل يكرر هذه الألفاظ حتى اصبح فدخل الكعبة وهو يقول هذه الأبيات:
يا رب الغسق الدجي * * والقمر المبتلج المضئ
بين لنا من حكمك القضي * * ماذا ترى لي في اسم ذا الصبي
قال فسمع هاتفا يقول:
خصصتها بالولد الزكي * * والطاهر المطهر المرضي
أن اسمه من شامخ علي * * علي اشتق من العلي
[ 33 ]
فلما سمع هذا خرج من الكعبة وغاب عن قومه اربعين صباحا قال جابر فقلت يا رسول الله عليك السلام اين غاب ؟ قال مضى المثرم ليبشره بمولد علي بن أبي طالب في جبل لكام فان وجده حيا بشره وإن وجده ميتا انذره فقال يا جابر اكتم ما تسمع فأنه من سرائر الله تعالى المكتومة وعلومه المخزونة أن المثرم كان قد وصف لأبي طالب (ع) كهفا في جبل لكام وقال له أنك تجدني هناك حيا أو ميتا فلما أن مضى أبو طالب الى ذلك الكهف ودخله فأذا هو بالمثرم ميتا جسده ملفوف في مدرعته مسجى بها وإذا بحيتين أحدهما بيضاء أشد بياضا من القمر والأخرى سوداء أشد سوادا من الليل المظلم وهما يدفعان عنه الأذى فلما بصر أبا طالب غابا في الكهف فدخل أبو طالب وقال السلام عليك ياولي الله ورحمة الله وبركاته فاحيا الله بقدومه المثرم وقام قايما يمسح التراب عن وجهه وهو يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن عليا ولي الله هو الأمام من بعده ثم قال المثرم بشرني يا أبا طالب فقد كان قلبي متعلقا حتى من الله تعالى على بك وبقدومك فقال له أبو طالب أبشر فأن عليا قد طلع الى الأرض قال فما كان علامة الليلة التي ولد فيها حدثني بأتم ما رأيت في تلك الليلة قال أبو طالب نعم شاهدته فلما مر من الليل الثلث أخذ فاطمة بنت أسد ما يأخذ النساء عند ولادتها فقرأت عليها الأسماء التي فيها النجاة فسكنت بأذن الله تعالى فقلت لها أنا آتيك بنسوة من احبائك ليعينونك على أمرك قالت الرأي لك فأجتمعت النسوة عندها وإذا بهاتف يهتف من وراء البيت أمسك عنهن يا أبا طالب فأن ولي الله لا يمسه إلا يد طاهرة فلم يتم الهاتف كلامه وإذا قد أتى محمد بن عبد الله ابن أخي فطرد تلك النسوة وأخرجهن من البيت وإذا أنا باربع نسوة قد دخلن عليها وعليهن ثياب حرير بيض وإذا روايحهن أطيب من المسك الأذفر فقلن لها السلام عليك ياولية الله فأجابتهن بذلك فجلسن بين يديها ومعهن جونة من فضة فما كان إلا قليل حتى ولد أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين أسد الله الغالب غالب كل غالب مظهر العجائب والغرائب علي بن أبي طالب فلما أتيتهن وإذا به قد طلع عليه السلام فسجد على الأرض وهو يقول أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا رسول الله تختم به النبوة وتختم بي الوصية فأخذت به أحديهن على الأرض ووضعته في حجرها فلما حملته نظر الى وجهها
[ 34 ]
ونادى بلسان طلق يقول السلام عليك يا أماه فقالت وعليك السلام يا بني فقال كيف والدي فقالت في نعم الله عز وجل فلما سمعت ذلك لم اتمالك وقلت يا بني أو لست أنا أباك قال نعم ولكن أنا وأنت من صلب آدم فهذه أمي حواء فلما سمعت ذلك غططت وجهي ورأسي غطيته بردائي والقيت نفسي حياء منها عليها السلام ثم دنت أخرى ومعها جونة مملؤة من المسك والعنبر وأخذت عليا فلما نظر الى وجهها قال السلام عليك يا اختاه فقالت وعليك السلام يا أخي فقال ما خبر عمي فقالت بخير فهو يقرء عليك السلام فقلت يا بني من هذي ومن عمك فقال هذي مريم بنت عمران وعمي عيسى فضمخته بطيب كان معها ثم اخذته اخرى فأدرجته في ثوب كان معها، قال أبو طالب فقلت للنسوة لو طهرناه كان اخف عليه وذلك أن العرب تطهر أولادها في يوم ولادتها فقلن له أنه ولد طاهر مطهر لأنه لا يذيقه الله من الحديد إلا على يدي رجل يبغضه الله تعالى وملائكته والسماوات والأرض والجبال وهو أشقى الأشقياء فقلت لهن من هو قلن هو عبد الرحمن بن ملجم لعنة الله عليه وهو قاتله بالكوفة سنة ثلاثين من وفاة محمد (ص) قال أبو طالب فأنا كنت في استماع قولهن فأخذه محمد بن عبد الله ابن أخي من يدهن ووضع يده في يده وتكلم معه وسأله عن كل شئ فخاطب محمد عليا وخاطب عليا محمدا (ص) بأسرار كانت بينهما ثم غابت النسوة فلم أرهن فقلت في نفسي ليتني كنت أعرف الأمرتين الأخرتين وكان علي " ع " أعلم بذلك وسئلته عنهن فقال لي يا ابتاه أما الأولى فكانت أمي حواء وأما الثانية التي ضمختني بالطيب مريم بنت عمران وأما التي اذرجتني بالثوب فهي آسية بنت مزاحم وأما صاحبة الجونة فكانت أم موسى " ع " ثم قال علي الحق بالمثرم يا أبا طالب وبشره وأخبره بما رأيت فأنك تجده في كهف كذا وكذا فلما فرغ من المناظرة مع ابن أخي محمد (ص) ومن مناظرتي عاد الى طفوليته الأولى فأتيتك وأخبرتك ثم شرحت لك القصة بما عاينت يامثرم قال: قال أبو طالب فلما سمع المثرم ذلك مني بكى بكاء شديدا وفكر ساعة ثم سكن وتمطى ثم غطى رأسه وقال بل غطني بفضل مدرعتي فغطيته فتمدد فإذا هو ميت كما كان فأقمت عنده ثلاثة أيام اكلمه فلم يجبني فاستوحشت لذلك فخرجت الحيتان فقالتا الحق بولي الله عز وجل فأنك أحق بصيانته
[ 35 ]
وكفالته من غيرك فقلت لهما من انتما قالتا نحن عمله الصالح خلقنا الله عز وجل على الصورة التي ترى نذب عنه الأذى ليلا ونهارا الى يوم القيامة فإذا كانت الساعة فاحدانا قائدته والأخرى سائقته ودليله الى الجنة ثم انصرف أبو طالب (ع) الى مكة قال: جابر بن عبد الله قال لي رسول الله " ص " اشرحت لك ما سألتني ووجب عليك الحفظ فأن لعلي (ع) عند الله من المنزلة الجليلة والعطايا الجزيلة ما لم يعطي احدا من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين وحبه واجب على كل مسلم فأنه قسيم الجنة والنار ولا يجوز أحد على الصراط إلا ببرائة من اعدائه عليه السلام انتهى هذا الخبر. وعن رسول الله في خبر طويل رواه جماعة من الأصحاب منهم سلمان وابو ذر والمقداد وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم في جملة كلام له قد خلقت أنا وعلي من نور واحد وأن نورنا كان يسمع تسبيحه من أصلاب آبائنا وبطون امهاتنا في كل عصر وزمن الى عبد المطلب فكان نورنا يظهر في وجوه أبائنا فلما وصل الى عبد المطلب انقسم النور نصفين نصف الى عبد الله ونصف الى أبي طالب عمي وانهما كانا إذا جلسا في ملأ من الناس يتلألأ نورنا في وجهيهما من دونهم حتى أن السباع والهوام كانت تسلم عليهما لأجل نورنا حتى خرجنا الى دار الدنيا وقد نزل علي جبرئيل عند ولادة ابن عمي علي بن أبي طالب " ع " وقال يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك الآن ظهرت نبوتك واعلان وحيك وكشف رسالاتك إذ أيدك الله تعالى بأخيك ووزيرك وخليفتك من بعدك والذي أشد أزرك وأعلا به ذكرك على أخيلك وابن عمك فقم إليه واستقبله بيدك اليمنى فإنه من أصحاب اليمين وشيعته الغر المحجلين قال صلى الله عليه وآله وسلم فقمت فوجدت أمي بين النساء والقوابل من حولها وإذا بسجاف قد ضربه جبرئيل بيني وبين النساء فإذا هي قد وضعته قال (ص) فاستقبلته ففعلت ما أمرني ربي ومددت يدي اليمنى نحو أمه فإذا علي مائل على يدي واضع يده اليمنى في أذنه يؤذن ويقيم بالحنفية ويشهد بالواحدانية لله تعالى وبرسالتي ثم انثنى إلي وقال السلام عليك يارسول الله فقلت وعليك السلام إقرأ يا أخي فوالذي نفسي بيده قد ابتدء بالصحف التي أنزلها الله تعالى على آدم (ع) وأقام بها ابنه شيث فتلاها من أولها إلى آخرها حتى أنه لو حضر آدم لأقر له أنه
[ 36 ]
احفظ لها منه ثم تلا صحف نوح (ع) ثم صحف إبراهيم ثم تلا التوراة حتى لو حضر موسى لشهد له أنه أحفظ لها منه ثم قرء الانجيل حتى أنه لو حضر عيسى (ع) لاقر له أنه احفظ لها منه ثم قرء القرآن الذي أنزل الله علي من أوله إلى آخره ثم خاطبني وخاطبته بما يخاطب به الأنبياء ثم عاد إلى حال طفوليته وهكذا أحد عشر إماما من ذريته يفعل في ولادته مثل ما يفعل الأنبياء عليهم السلام وفي رواية شعبة عن قتادة عن أنس عن العباس بن عبد المطلب وهي المروية عن الحسن بن محبوب عن مولانا الصادق (ع) وهو الحديث المختصر أنه انفتح البيت من ظهره ودخلت فاطمة بنت أسد فيه ثم عادت الفتحة والتصقت وبقيت فيه ثلاثة أيام وأكلت من ثمار الجنة فلما خرجت ودخلت دارها وكان أبو طالب (ع) هناك مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسلم عليهما أمير المؤمنين ثم تنحنح وقال: بسم الله الرحمن الرحيم (قد أفلح المؤمنون) الآية فقال رسول الله (ص) قد أفلحوا بك أنت والله أميرهم وتميرهم من علمك فيمتارون وأنت والله دليلهم وبك والله يهتدون ووضع رسول الله لسانه في فيه فانفجر اثنتي عشرة عينا قال فسمى ذلك اليوم يوم التروية فلما كان من غد وبصر علي (ع) رسول الله وضحك في وجهه وجعل يشير إليه فأخذه رسول الله (ص) فقالت فاطمة عرفه فسمي ذلك اليوم عرفه فلما كان اليوم الثالت وكان اليوم العاشر من ذي الحجة اذن أبو طالب في الناس أذانا جامعا وقال هلموا إلى ولادة إبني علي ونحر ثلثمائة من الإبل وألف رأس من البقر والغنم واتخذ وليمة وقال هلموا وطوفوا بالبيت سبعا وادخلوا وسلموا على علي ولدي ففعل الناس وجرت به السنة من ذلك. أقول وفي الخبر منافاة للمشهور من ولادته (ع) كانت في اليوم الثالث عشر من رجب ولعل لفظ ذي الحجة زيادة من الراوي وأن الأسماء المذكورة كانت لأيام من رجب أيضا وان ذلك الطواف كان طواف سنه كما يشعر بذلك آخر الخبر وفي خبر آخر إنه (ع) لما قربت ولادته أتت فاطمة بنت أسد إلى بيت الله وقالت أي ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب مصدقة بكلام جدي إبراهيم فبحق الذي بنى هذا البيت وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت على ولادتي فانفتح البيت
[ 37 ]
ودخلت فيه فإذا هي بحواء ومريم وآسية وأم موسى (ع) فلما ولد سجد على الأرض يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد أن عليا وصيه بمحمد تتم النبوة وبي تتم الوصية وأنا أمير المؤمنين فأتاه النبي (ص) وفتح فاه بلسانه وحنكه وأذن في اذنه اليمنى وأقام في اليسرى ففتح (ع) عينيه وضحك في وجه رسول الله فأتاه أبوه وقال أن ولدي قد عرف ابن عرف ابن عمه وفي الخبر أن فاطمة بنت أسد شدته وقمطته بقماط فبتر القماط فأخذت قماطا جيدا فشددته به فبتره (ع) ثم جعلته في قماطين فبترهما ثم جعلته في ثلاثة فبترها فجعلته في أربعة اقمطة من رق مصر لصلابته فبترها فجعلته في خمسة اقمطة من ديباج لصلابته فبترها كلها فجعلته في ستة من ديباج وواحدة من الادم فبترها وتمطى فيها فقطعها كلها بأذن الله تعالى ثم قال بعد ذلك يا اماه لا تشدي يدي فأني احتاج أن ابصبص لربي باصبعي. وفي البحار عن انس عن عمر بن الخطاب ان عليا رأى حية وهو في مهده وقد شدت يداه فأخرج يده وأخذ بيمينه عنقها وغمزها غمزة حتى ادخل اصابعه فيها وامسكها حتى ماتت فلما رأت امه نادت واستغاثت فأجتمع الحشم ثم قالت كأنك حيدرة فسمى بذلك. وعن جابر الجعفي كان ظئر علي التي ارضعته من هلال فخلفته في خبائها مع أخ له من الرضاعة كان أكبر منه بسنة وكان عند الخباء قليب فمر الصبي نحو القليب فنكس رأسه فتعلق بفرد قدميه وفرد يده فجائت امه فأدركته فنادت في الحي يا للحي من غلام ميمون أمسك علي ولدي فسمى الميمون عندهم ولله در الحميري حيث قال:
ولدته في حرم الأله وأمنه * * والبيت حيث فنائه والمسجد
بيضاء طاهرة الثياب كريمة * * طابت وطاب وليدها والمولد
في ليلة غاب نحوس نجومها * * وبدي مع القمر المنير الأسعد
ما لف في خرق القوابل مثله * * إلا ابن أمنة النبي محمد
وقال محمد بن منصور:
ولدته منجبة وكان ولادها * * في جوف كعبة افضل الاكنان
وسقاه ريقته النبي ويا لها * * من شربة تغني عن الالبان
[ 38 ]
وقال مؤلف الكتاب عفى الله عنه:
زهرت به اكتار مكة غدى * * ميلاده في البيت ذي الاستار
ما البيت شرفه ولكن شرف * * البيت الحرام بساطع الانوار
وقال عبد الباقي افندي العمري البغدادي:
أنت العلي الذي فوق العلى رفعا * * ببطن مكة وسط البيت إذ وضعا
وأنت حيدرة الغاب الذي أسد * * البرج السماوي عنه خاسئا رجعا
ولمؤلف الكتاب أيضا:
لا تعجبوا إذ أتى في البيت مولده * * فليس ذلك لا والله بالعجب
لأن فوق الثرى من أجله رفع * * البيت العتيق ومنه فاز في الرتب
الباب الثاني
(في حديث كفالة النبي (ص) له وتربيته إياه)
قد صح في اخبار كثيرة رواها الثقات أنه لما ولد أمير المؤمنين كان النبي (ص) لا يفارقه في حال من الأحوال حتى قالت فاطمة بنت أسد كنت مريضة فكان محمد يمص عليا لسانه في فيه فيرضع بأذن الله تعالى. وفي نهج البلاغة قال أمير المؤمنين (ع) من خطبة وضعني النبي (ص) في حجره وأنا وليد يضمني الى صدره ويلفني في فراشه ويمسنى جسده ويشمني عرفه وكان يمضغ الشئ، ثم يلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل. أقول وقد روى كل من كتب في مناقبه (ع) باسانيد كثيرة أنه أصابت قريش أزمة شديدة وسنة مجدية وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله لحمزة والعباس أن أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترون من هذه الأزمة فانطلقا بنا نخفف من عياله فدخلوا عليه وطالبوه بذلك فقال إذا تركتم لي عقيلا فأفعلوا ما شئتم فبقى عقيل عنده وأخذ العباس طالبا وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين كسن النبي (ص) يوم اخذه أبو طالب ورباه فبقى أمير المؤمنين عند النبي وربته خديجة والمصطفى
[ 39 ]
وروى ان النبي (ص) قال لأعمامه اخترت من أختاره الله لي عليكم. أقول وقد مر في احوال عقيل رواية أخرى وفي مناقب ابن شهر أشوب وذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من طرق ثلاثة أن النبي حين تزوج بخديجة قال لعمه أبي طالب أني أحب أن تدفع إلي بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني واشكر بلاك عندي فقال أبو طالب (ع) خذ أيهم شئت فأخذ عليا، ولله در من قال:
ومن كفل النبي له صبيا * * صغير السن عام المسنتينا
وغذاه بحكمته فأضحى * * يفوق بها جميع العالمينا
وقال عبد الباقي افندي العمري حشره الله مع من أحب:
لقد ترعرعت في حجر عليه لذى * * حجر براهين تعظيم بها قطعا
ربيب طه حبيب الله أنت ومن * * كان المربى له طه فقد برعا
ولما جمع رسول الله (ص) بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا يومئذ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا فيما ذكره الرواة وأمر أن يصنع لهم طعاما فطبخ لهم شاة مع مد من البر وأعد لهم صاعا من اللبن وقد كان الرجل منهم معروفا يأكل الجذعة في مقام واحد ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقعد فأراد باعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم اظهار الآية لهم في شبعهم ويريهم مما كان لا يشبع واحد منهم ولا يرويه ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى ثملوا منه ولم يبين ما أكلوه منه وشربوه فبهرهم بذلك وبين لهم آية نبوته وعلامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب يا بني عبد المطلب أن الله بعثني إلى الخلق كافة وبعثني اليكم خاصة فقال وانذر عشيرتك الأقربين وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين في اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الأمم وتدخلون بهما الجنة وتسجون من النار شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فمن يجبني إلى هذا الأمر ويوازرني عليه وعلى القيام به يكن أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي فلم يجب له أحد منهم فقال أمير المؤمنين (ع) فقمت بين يديه من بينهم وأنا إذ ذاك أصغرهم سنا واخمشهم ساقا وارمضهم
[ 40 ]
عينا فقلت أنا رسول الله (ص) اوازرك على هذا الأمر فقال أجلس ثم أعاد القول على القوم ثانية فاصمتوا فقمت أنا وقلت مثل مقالتي الأولى فقال أجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت وقلت أنا اوازرك يا رسول الله (ص) على هذا الأمر فقال اجلس فأنت أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب يا أبا طالب ليهنيك اليوم ان دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميرا عليك. أقول وهذا الخبر مشهور قد أجمع العلماء على نقله بأسانيد مختلفة، ولله در الحميري حيث يقول في ذلك:
أبو حسن غلام من قريش * * أبرهم أكرمهم نصابا
دعاهم أحمد لما أتته * * من الله النبوة فاستجابا
فأدبه وعمله وأملى * * عليه الوحي يكتبه كتابا
فأحصى كلما أملي عليه * * وبينه بابا فبابا
وقال مؤلف الكتاب عفي عنه بمحمد وآله:
ويوم دعاه المهيمن قم * * وأنذر عشيرتك الأقربين
فجمعهم ثم ناداهم * * بلفظ بليغ وهم أربعون
ألا من يجيبني على ما أقول * * فيرفعه الله دنيا ودين
ويغدو وصيي ووارثي * * ويخلف بعدي على العالمين
أحببت الذي قاله دونهم * * فأصبحت أنت الإمام المبين
ولما فرضت الصلاة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حضرت خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من قومه فيصليان الصلاة فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك زمانا رواه ابن شهر آشوب عن تاريخ الطبري وكتاب محمد بن إسحاق وغيره عن غيرهما وكان من اتصال أمير المؤمنين بالنبي ما روي أن النبي كان إذا نزل عليه الوحي ليلا لم يصبح حتى يخبر به عليا وإذا نزل عليه الوحي نهارا لم ينم حتى يخبر به عليا وأجاد من قال:
[ 41 ]
هاشمي مهذب أحمدي * * من قريش القرى وأهل الكتاب
خازن الوحي والذي أوتي الحكم * * صبيا طفلا وفصل الخطاب
كان لله ثاني اثنين سرا * * وقريش تدين للأنصاب
الباب الثالث
(في حديث مبيته على فراش النبي)
في كتاب الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي لما بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من الأنصار ببيعة العقبة الأولى وكانوا ستة أنفس منهم بشر بن سعد وحارثة بن النعما وسعد بن عبادة الصامت وعبد الله بن رواحة فلما كان في القابل أقبلوا أولئك الستة ومعهم ستة آخرون منهم بشير بن زيد والبراء بن معرور وعبد الله بن أنيس وسهل بن زيد وعبادة بن الصامت والهيثم فلقوا النبي وبايعوه على أنهم لا يشركون بالله ولا يسرقون ولا يزنون ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق لا يأتون ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصونه في معروف فقالوا يا رسول الله إنا إذا تركنا من هذه الشرايع واحدة ماذا يكون فقال النبي يكون الأمر في ذلك إلى الله عز وجل إن شاء عفى وان شاء عذب فقالوا رضينا يارسول الله (ص) فابعث معنا رجلا من أصحابك يقرء علينا القرآن ويعلمنا شرايع الإسلام والناس يؤمنون الواحد بعد الواحد والرجل بعد الرجل والإمرأة بعد الإمرأة فلما كان العام االثالث وهي البيعة الأخيرة التي بايعه فيها منهم ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان بايعوا رسول الله عليه أن يمتعوه مما يمتعون منه نسائهم وأنفسهم فاختار رسول الله منهم اثني عشر نقيبا وانصرفوا إلى المدينة فصار كلما اشتد البلاء على المؤمنين بمكة يستأذنون رسول الله (ص) في الهجرة إلى المدينة فيأذن لهم فيخرجون ارسالا متسللين أولهم فيما قيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وقيل أولهم مصعب بن عمير فعند قدومهم المدينة على الأنصار
[ 42 ]
أكرموهم وأنزلوهم في دورهم وآووهم ونصروهم وواسوهم فلما علم المشركون بذلك وأنه صار للمسلمين دار هجرة وان أكثر من أسلم قد هاجر إليها شق عليهم ذلك فاجتمع رؤساء قريش بدار الندوة وكانت موضع مشورتهم لينظروا ما يصنعون بالنبي وكانوا عشرة ومنهم: شيبة وعتبة ابني ربيعة وبنية ومنية إبنا الحجاج وأبي وأمية ابني خلف وأبو جهل بن هشام ونضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط. فهؤلاء العشرة اجتمعوا للمشورة فجاءهم إبليس في صورة شيخ نجدي عليه جبة صوف وفي يده عكاز يتوكأ عليه فقال لهم قد بلغني الاجتماع لمشورتكم فأحببت أن أحضركم فيما تعدمون مني رايا حسنا فأدخلوه معهم وأول من تكلم عتبة بن ربيعة فقال الرأي أن تحبسوا محمدا في بيت مغلق ليس له غير طاقة واحدة يدخل إليه منها طعامه وشرابه وتربصون به ريب المنون قال إبليس ليس هذا برأي فإن له عشيرة فتحملهم الحمية على أن لا يمكنوا من ذلك فتقاتلوا فقالوا صدق الشيخ فقال شيبة بن ربيعة الرأي أن تركبوا محمدا جملا شرودا قد شددتموه بافشاع عليه وتطلقوه نحو البادية فيقع على أعراب حفاة فيكدر عليهم بما يقول فيقتلونه فيكون هلاكه على يد غيركم فتستريحون منه فقال الشيطان لعنه الله بئش الرأي تتعمدون إلى رجل قد أفسد سفهائكم وجهالكم فتخرجون إلى غيركم فيفسدهم ويستتبعهم بعذوبة لفظه وطلاقة لسانه لئن فعلتم ليجمعن الناس عليكم جمعا ويقاتلكم بهم ويخرجكم من دياركم فقالوا صدق الشيخ فقال أبو جهل لأشيرن عليكم برأي لا رأي غيره وهو أن تأخذوا من كل بطن من قريش غلاما وسطا وتدفعوا إلى كل غلام سيفا فيضربوا محمدا ضربة رجل واحد فإذا قتلوه يفرق دمه في القبائل كلها فلا يقدر بنو هاشم على حرب قريش كلها فيرضون بالعقل فتعطونهم عقله وتخلصون منهم فقال إبليس هذا هو الرأي قد صدق فيما قال وأشار به وهو أجود آراءهم فلا تعدلوا عنه فتفرقوا على رأي أبي جهل لعنه الله مجتمعين على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتى جبرئيل إلى النبي وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في موضعه الذي كان ينام فيه فعند ذلك أخبر عليا (ع) بامورهم وأمره أن ينام عوضه في مضجعه على فراشه الذي كان ينام فيه وقال له لن يصل إليك منهم أمر تكرهه ووصاه بحفظ ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس
[ 43 ]
وكانت قريش تدعوا النبي (ص) في الجاهلية بالأمين وأمره أن يبتاع رواحل له للفواطم فاطمة بنت النبي (ص) وفاطمة بنت أسد أم علي وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ومن يهاجر معه من بني هاشم ومن ضعفاء المؤمنين وقال لعلي (ع) إذا أبرمت ما أمرتك به كن على الأهبة للهجرة إلى الله ورسوله وسر لقدوم كتابي عليك ثم خرج عنه رسول الله (ص) وقال له إذا جائك أبو بكر فوجهه خلفي نحو بئر أم ميمون وكان ذلك في فحمة العشاء والرصد من قريش قد اطافوا بالدار ينتظرون انتصاف الليل وأن ينام الناس فأخذا النبي قبضة من تراب وقرء عليها وحثاها في وجوههم فخرج فلم يروه ونام على فراشه فدخل عليه أبو كبر وهو يظنه رسول الله (ص) فقال له علي أن رسول الله خرج نحو بئر أم ميمون وهو يقول لك ائتيني فلحقه أبو بكر ومضيا جميعا يتسايران حتى أتيا جبل ثور فدخلا الغار واختفيا فيه وجائت العناكب الذكور والأناث من أسفل الغار يستقبل بعضها بعضا حتى نسجت على الغار نسج أربع سنين في ساعة واحدة وأقبلت حمامتان من حمام مكة حتى سقطتا جميعا على باب الغار وباضت الأنثى منهما من ساعتهما بقدرة الله تعالى وحضنت على البيض وذهب من الليل ما ذهب وعلي (ع) نائم على فراش رسول الله (ص) والمشركون يرجمونه فلم يضطرب ولم يكترث ثم أنهم تسوروا عليه ودخلوا شاهرين سيوفهم فثار في وجوههم فعرفوه فقالوا هو أنت أين صاحبك فقال لا ادري فخرجوا عنه وتركوه ولم يصل إليه منهم مكروه وكفاه الله شرهم. قال ابن الصباغ قال بعض أصحاب الحديث واوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل عليهم السلام ان انزلا إلى علي عليه السلام واحرساه إلى الصباح فنزلا إليه وهما يقولان بخ بخ من مثلك يا علي وقد باهى الله بك ملائكته، واورد أبو حامد الغزالي في كتابه احياء العلوم أن ليلة بات بها علي على فراش رسول الله (ص) اوحى الله تعالى الى جبرئيل وميكائيل أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما اطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فأختارا كلاهما الحياة وأحباها فأوحى الله تعالى إليهما افلا كنتما مثل علي بن أبي طالب حين آخيت بينه وبين محمد (ص) فبات على فراشه يفتديه بنفسه
[ 44 ]
ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فأحفظاه من عدوه وكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي ويقول بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فأنزل الله عز وجل (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد) وفي تلك الليلة انشأ علي (ع) يقول:
وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى * * واكرم خلق طاف بالبيت والحجر
وبت ارعى منهم ما يسوئني * * وقد صبرت نفسي على القتل والأسر
وبات رسول الله في النار آمنا * * وما زال في حفظ الأله وفي الستر
قال واصبح قريش وقد خرجوا في طلب النبي يقصون اثره في شعاب مكة وجبالها فلم يتركوا موضعا لم ياتوه حتى أنهم وقفوا على باب الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدوا العنكبوت ناسجا على بابه ووجدوا حمامتين وحشيتين قد نزلتا بباب الغار وباضتا فقال لهم عتبة بن ربيعة ما وقوفكم هيهنا لو دخل محمد هذا الغار لخرق هذا النسخ الذي ترون ولطار الحمامتان وجعل القوم يتكلمون فحزن أبو بكر وخاف فقال له النبي (ص) يا أبا بكر نحن اثنان والله ثالثنا فما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن أن الله معنا. أقول وروى أنه لما سمع أبو بكر قعقعة الرجال اراد أن يتكلم حتى يسمعوا كلامه وياتون إلى النبي فأخرسه الله تعالى فمد أصبعه فأمر الله تعالى عقربا هناك فلدغه فجذبها إلى نفسه وفي قصة الغار يقول الأرزي رحمه الله:
أو لا ينظرون ماذا دهتهم * * قصة الغار عن مساوي دهاها
يوم طافت طوائف الحزن حتى * * اوهنت من حبا عتيق قواها
أن يكن مؤمنا فكيف عدته * * يوم خوف سكينة وعداها
أن للمؤمنين فيها نصيبا * * وهو يوم الوبال اقصى وقاها
كم وكم صحبة جرت حيث لا * * ايمان والله في الكتاب حكاها
وكذا في برائة لم يبسمل * * حيث جلت بذكرة بلواها
ثم سلها من بعد مارد عنها * * صاحب الغار غاثبا من فلاها
[ 45 ]
أين هذا من راقد في فراش * * المصطفى يسمع العدى وبراها
فأستدارت به عتات قريش * * حيث دارت به رحى بغضاها
وأدارت به مكائد سوء * * فشفى الله دائها بدواها
ورأت قسورا لو اعترضته * * الجن والأنس في وغى افناها
مد كف الردى فلو لم تكفكف * * عنه اثار غيها لمحاها
نظرت نظرة إليه فلاقت * * قدرة الله لا يرد قضاها
فتولت عنه وللرعب فيها * * فلك دائر على اعضاها
قال صاحب الفصول نقل المسعودي في شرحه لمقامات الحريري عند ذكره طوق الحمامة في المقامة الأربعين عن أبي مصعب المكي قال أدركت انس بن مالك وزيد بن ارقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون في أمر رسول الله (ص) ليلة الغار فقالوا بعد ان دخل رسول الله الغار ومعه أبو بكر أمر الله سبحانه وتعالى شجرة فنبتت على فم الغار قبالة وجه النبي (ص) وأمر حمامتين وحشيتين فنزلتا بباب الغار وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وبهراويهم وسيوفهم على عواتقهم حتى إذا كانوا قريبا من الغار ونظروا الى الحمامتين بباب الغار فرجعوا وقالوا إلا ننظر بالغار غير حمامتين وحشيتين ولو كان به أحد لطارتا فدعا النبي (ص) للحمام بالبركة وفرض خرائهن في قتلهن بالجرم فكن بالحرم امنات قال وما أحسن قول الفيوتي في تخميسه البردة:
هذا الحمام بباب الغار قد نزلا * * والعنكبوت حكت من نسجها حللا
فالصاحبان هنا يا قوم ما دخلا * * ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت
على خير البرية لم تنسج ولم تحم
قال وأقام رسول الله ثلاثة أيام في الغار وقريش يطلبونه فلا يقدرون عليه ولا يدرون اين هو واسماء بنت أبي بكر تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما قال فلما كان بعد الأيام الثلاثة أمرها النبي أن تخبر عليا بموضعه وأن تقول له يؤجر لهم دليلا ويأتيهم معه بثلاثة من الأبل بعد مضى النصف من الليلة الأتية.
[ 46 ]
قال فجائت اسماء الى علي فأخبرته بذلك فأستأجر لهما الأمام (ع) رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثي وأرسل معه ثلاثة من الأبل فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلا، قال وسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم برغاء الأبل فنزل من الغار هو وأبو بكر إليه فعرفاه فعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله الأسلام فقبل اسلم وقيل لم يسلم وجعل يقول:
شد العرى على المطى وأخرى * * وودعا غاركما والحرما
وشمرا هديتما وسلما * * لله هذا الأمر حقا فأعلما
سينصر الله النبي المسلما
قال وركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل وساروا فأخذهم الدليل أسفل مكة ومضى بهما على طريق الساحل، فاتصل الخبر بأبي جهل لعنه الله ثاني يوم، فنادى في أهل مكة فجمعهم فقال أنه بلغني أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران فأيكم يأتينا بخبره ؟ قال: فوثب سراقة بن مالك بن جعثم المدلجي أحد بني كنانة فقال أنا محمد يا أبا الحكم ثم أنه ركب راحلته وأستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له اسودا كان من الشجعان المشهورين فساروا في اثر النبي (ص) سيرا عنيفا نحو الساحل فلحقا به قال فألتفت أبو بكر فنظر الى سراقة بن مالك مقبلا فقال يا رسول الله قد دهينا هذا سراقة بن مالك بن أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور فلان فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم فلما قرب منهم قال النبي (ص) اللهم أكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت وأنى شئت قال فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك قال فلما نظر سراقة إلى ذلك أهاله فرمى بنفسه من الفرس إلى الأرض ورمى برمحه وقال يا محمد أنت آمن وأصحابك فأدع ربك أن يطلق لي جوادي ولك علي عهد وميثاق أن ارجع عنك ولا بأس عليك مني فرفع النبي صلى الله عليه وآله يديه إلى السماء وقال اللهم أن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده قال فأطلق الله تعالى جواده حتى وقف على الأرض صحيحا سليما، فأخرج سراقة
[ 47 ]
سهما من كنانته وقال يا محمد خذ هذا السهم معك فأنك ستمر بأبل غلام لي يرعاها خذ منها ما شئت فأدفع إليه السهم واستعرض من اباعري بعيرا أو بعيرين ما أردت أن توصل به ولي غنم أيضا ترعى امامك خذ منها ما شئت فاذبحه فقال له النبي على أنك تؤمن بالله وتشهد بشهادة الحق في وقتك هذا فقال يا محمد أما الأن فلا ولكني أصرف عنك الناس فقال النبي (ص) يا سراقة إذا بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في مالك قال وانصرف سراقة راجعا إلى مكة وسار النبي يريد يثرب فلما رجع سراقة إلى مكة وأجتمع إليه أهلها وقالوا أخبرنا ما ورائك يا سراقة فقال ما رأيت لمحمد أثرا ولا سمعت عنه خبرا والأبل التي بلغكم أنها متوجه نحو يثرب أبل لعبد القيس فقال أبو جهل لعنه الله أما واللات يا سراقة أن نفسي تحدثني أنك رأيت محمدا ولحقت به لكنه خدعك فانخدعت ودعاك فأجبت. قال فتبسم سراقة من قول أبي جهل لعنه الله، وقال أنك لو عاينت من فرسي هذا ما عاينت لصرفت عني كلامك ونهض عنهم قائما ثم أخبرهم بقصته مع النبي (ص) قال ومضى النبي وأبو بكر والدليل بين أيديهما حتى أخذ بهما أسفل عسفان ثم خرج بهما على قديد ثم على الفجاج ثم سار بهما إلى أن قربا من المدينة والأوس والخزرج قد بلغهم خروج النبي من مكة يريد يثرب وكانوا يخرجون كل يوم إذا صلوا الظهر إلى ظاهر الحر يجلسون هناك ينتظرون قدومه فلا يزالون كذلك حتى يبلغ منهم حر الشمس فإذا لم يروا شيئا رجعوا منازلهم قال فوصل رسول الله إلى قبا يوم الأثنين لأثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ونزلوا على كلثوم بن الهرم أخي بني عمرو بن عوف وقال قوم نزلوا على سعد بن خيثمة قال والصحيح أنهم نزلوا على كلثوم بن هرم غير أنه كان إذا خرج من منزل كلثوم يجلس للناس سعد بن خيثمة وراودوه على الدخول إلى المدينة فقال ما أنا بداخلها حتى يأتي ابن عمي وابنتي يعني عليا وفاطمة سلام الله عليهما. قال أبو يقضان ولما وصل رسول الله إلى قبا حدثنا بما أرادوا به قريش من المكر ومن مبيت علي على فراشه وبين مؤاخاة الله تعالى بين جبرئيل وميكائيل (ع)
[ 48 ]
وجعل عمر أحدهما اطول من الأخر الحديث المقدم بتمامه كما ذكره صاحب الكشاف أيضا قال وكتب النبي الى علي (ع) يأمره بالمسير إليه والمهاجرة هو ومن معه وكان علي بعد أن توجه رسول الله قام صارخا بالأبطح ينادي من كان له قبل محمد رسول الله أمانة فليات نرد إليه أمانته. أقول: روى المجلسي (ره) في البحار عن الواقدي وإسحاق الطبري أن عمير بن وائل الثقفي أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدعي على علي عليه السلام ثمانين مثقالا من الذهب الأحمر وأنها كانت وديعة عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه هرب من مكة وأنت وكيله فأن طلب ببينة الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب منها قلادة عشرة مثاقيل فجاء وادعى على علي (ع) فأظهر الودايع كلها ورأى عليها اسماء أصحابها ولم يكن لما ذكره عمير خبر فنصح له نصحا كثيرا فقال أن لي من يشهد بذلك وهو أبو جهل وعكرمة وعقبة بن أبي معيط وأبو سفيان وحنظلة فقال عليه السلام مكيدة تعود إلى من دبرها ثم أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة ثم قال لعمير يا أخ ثقيف أخبرني الأن حين دفعت وديعتك هذه الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الاوقات كان قال ضحوة نهار فأخدها بيده إلى عنده ثم استدعى بأبي جهل لعنه الله وسئله عن ذلك قال ما يلزمني ذلك ثم استدعى بأبي سفيان وسأله قال دفعها عند غروب الشمس وأخذها من يده وتركها في كمه ثم استدعى بحنظلة وسأله عن ذلك فقال كان ذلك عند وقوف الشمس في كبد السماء وتركها بين يديه إلى وقت انصرافه ثم استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال تسلمها بيده وانفذها في الحال إلى داره وكان وقت العصر ثم استدعى بعكرمة وسأله عن ذلك فقال كان عند بزوغ الشمس اخذها فانفذها من ساعته إلى بيت فاطمة ثم أقبل على عمير وقال له أراك قد اصفر لونك وتغيرت أحوالك قال أقول الحق ولا يفلح غادر وبيت الله ما كان لي عند محمد (ص) وديعة وانهما حملاني على ذلك وهذه دنانير وعقد هند عليها اسمها مكتوب ثم قال علي (ع) أيتوني بالسيف الذي في زاوية الدار فأخذه وقال أتعرفون هذا السيف فقالوا هذا لحنظلة فقال أبو سفيان هذا مسروق فقال علي أن كنت صادقا في قولك فما فعل مهلع عبدك
[ 49 ]
الأسود قال مضى إلى الطائف في حاجة لنا فقال هيهات أن تعود تراه أبعث إليه احضره إن كنت صادقا فسكت أبو سفيان ثم قام علي في عشرة عبيد لمنادات قريش فبعثوا تبعة عرافها فإذا العبد مهلع قتيل فأمرهم بأخراجه فأخرجوه وحملوه الى الكعبة فسأله الناس عن سبب قتله فقال أن أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقة وحثاه على قتلي في الطريق ووثب علي ليقتلني فضرب رأسه وأخذت سيفه فلما بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية له عليه السلام في طريق الهجرة قال ابن الصباغ وقضى حوائجه وجميع أموره وابتاع ركائب واجمالا بسبب المهاجرة ولم يكن ينتظر غير ورود كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما ورد عليه الكتاب خرج بالفواطم وخرج معه أم ايمن مولاة النبي (ص) وجماعة من ضعفاء المؤمنين. قال مؤلف الكتاب عفى عنه ويعجبني أن أذكر ما جرى على الامام في الطريق وهو خبر ذكره جماعة ولم يذكره ابن الصباغ. فأقول: قال جماعة من أهل التاريخ منهم الواقدي في ذيل الخبر الذي نقلناه من البحار لما هاجر النبي (ص) من مكة لحقه أمير المؤمنين (ع) بالهوادج والفواطم فبلغ الخبر إلى روساء قريش فلما أن سمعوا ذلك قاموا من ساعتهم وخروا للأصنام وقام حنظلة ونادى يا معاشر قريش أيخرج علي بن أبي طالب من بيننا على رغم آنافنا ألا وحق اللات والعزى والهبل الأعلى لا أكلت طعاما ولا شربت مداما إلا أطلب بثار عبدي مهلع وكان قتله أمير المؤمنين (ع) فقال أبوه اسكت يالكع الرجال فما أنت في يد علي إلا كالعصفور في يد الصقر فقال والله لأفعلن ثم نادى في معاشر قريش فأجتمع عليه جماعة شاكين أسلحتهم راكبين خيولهم فترتبوا وتأهبوا وساروا راكبين خيولهم شاهرين سيوفهم فنظر أبو جهل الى راعي غنم فقصده وقال له يا غلام هل مر بك خمسة هوادج فقال نعم ومن خلفها فارس تنبئك رؤيته عن شجاعته وهو يلتفت إلى ورائه كأنه أسد ضاري يلتفت على فريسته وقال لي أن مر بك جمع أو خيل أو رجال وسألوك عني فقل لهم ها هو منتظر لقدومكم متوان في مشيته فرجع أبو جهل وأخبر القوم بذلك فانفرد من العسكر عبد أسود ومعه رجلان فجعلوا يركضون على خيولهم فلم يشعر الامام إلا وقد هجموا عليه فقال العبد يا علي رد الظمائن قبل أن اذيقك المنية وتأكلك
[ 50 ]
السيوف الهندية فصاح به الامام (ع) تأخر يابن الخنا أن دون رجع الهوادج قطع الغلاصم وفلق الجماجم بالسيوف الصوارم فتعرضه العبد المشؤم مرة ثانية فضربه الامام (ع) ضربة كان فيها خروج روحه فلما نظر الرجلان ما حل بصاحبهم حملا على الأمام (ع) فحمل أبو الحسن وقبض أحدهما من مراق بطنه وجلد به الآخر فكسر أضلاعهما جميعا ثم أقبل الى الفواطم وقال لا عليكن وأنا علي بن أبي طالب ثم قصد القوم بنفسه فبينما هم سائرون وإذا بفارس طلع عليهم من كبد البر وهو مضيق لثامه فنظروا إليه جميعا فمنهم من قال هذا قاصد اليكم ومنهم من قال هو قاطع طريق ومنهم من قال غير ذلك فنظره أبو جهل لعنه الله فقال أما الركبة فقرشية وأما الشمائل فمضرية وأما القامة فهاشمية ولا أظنه إلا علي بن أبي طالب فما استتم كلامه والامام عليه السلام كالبازي فوق رؤسهم وهو ينادي يا حنظلة يا حنظلة ها أنا قد جئتكم فأستعدوا للحرب ومكافحة الطعن والضرب فقال أبو جهل مهلا مهلا يا علي أن العجلة تورث الغضب وداعية النصب والامهال من شيمة الأجواد وأنت فرع من شجرتنا وغصن من أغصاننا ومن قطع أنامله وجد الألم في مفاصله فقال له الامام (ع) أنت تقول وأنا أقول ما هو بعجيب أن يخرج الخبيث من الطيب والله نحن الطيبون وأما جموعكم فو الله لو أجتمعت العرب والعجم إليها فما هي عندي إلا كرجل واحد فلما سمعت قريش ذلك من الامام حملت عليه حملة رجل واحد فأدارها أبو الحسن دوران الرحاء في الطاحونة وهو ينادي إلي من تفرون وأنا الفتى الكرار والفارس المغوار إلي أين تولون وأنا الشهاب الثاقب وأنا ليث بني غالب أنا علي بن أبي طالب فغاص في أوساطهم وطلع من أعراضهم وقلب الميمنة منهم على الميسرة والميسرة منهم على الميمنة حتى خاضت الخيل بالدماء وانهزم الباقون يدعون بالويل والثبور فرجع الامام (ع) الى الفواطم وسار بها ونزل الأمين جبرئيل (ع) وأخبر النبي (ص) بما جرى من الامام على القوم اللئام فخرج (ص) يستقبل عليا عليه السلام. قال مؤلف الكتاب قال صاحب الفصول فأتوا النبي (ص) وهو نازل بقبا على بني عمرو بن عوف لم يدخل المدينة فلما أن جاؤا خرج صلى الله عليه وآله وسلم من قبا يوم الجمعة بجمع
[ 51 ]
من بني سالم ومن معه يومئذ مائة رجل فخرج أهل المدينة وجعلوا يكلمونه بالنزول عليهم ويأخذون بخطام ناقته فيقول (ص) خلوا سبيلها فأنها مأمورة فبركت عند موضع قبره وهو مؤبد لسهل وسهيل غلامين لبني مالك ابن النجار اشتراهم رسول الله (ص) بعشرة دنانير وقيل امتنعوا من بيعه وبذلوه لله تعالى، قال وهو الصحيح فأتخذه النبي (ص) مسجدا وهو مكان مسجده اليوم.