[ 207 ]
القسم الثاني (من غزواته بعد رسول الله (ص) وهو قتاله مع الناكثين والقاسطين والمارقين لعنهم الله تعالى) :
(الأولى حرب الجمل) وهو أنه لما قتل عثمان بن عفان وآل الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام وبايعه الناس نهض طلحة والزبير ونكثا بيعته وتوجها إلى عائشة لما سمعوا أنها لما أتاها خبر قتل عثمان وخلافة علي " ع " قالت: لأطالبن بدمه فقيل لها: بالأمس كنت تقولين اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا تشبيها بيهودي أعرج كان يسمى نعثلا واليوم تقولين هذا قالت لم يقتلوه إذ قلت وتركوه حتى تاب وعاد كالسبيكة من الفضة وقتلوه، وخرج طلحة والزبير من المدينة على خفية ووصلا إلى مكة وأخرجا عائشة إلى البصرة، فقال بعض الشعراء في ذلك ولله دره:
جاءت مع الأشقين في هودج * * تزجي إلى البصرة أجنادها
كأنها في فعلها هرة * * تريد أن تأكل أولادها
وكانت عائشة عند خروجها قد التمست من أم سلمة الخروج فأبت، وسألت حفصة فأجابت ثم خرجت عائشة في أول نفر راكبة الجمل العسكر، وفي الخبر أنه كان شيطان، وسارت حتى انتهت الحوءب وهو ماء فصاحت كلابها فقالت عائشة: أي ماء هذا ؟ فقيل الحوءب فقالت إنا لله وإنا إليه راجعون سمعت رسول الله (ص) يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوءب، وفي رواية فصاحت: ردوني ردوني فساروا بها حتى وصلوا البصرة، وخرج أمير المؤمنين " ع " من المدينة
[ 208 ]
طالبا لهم فلما قرب من البصرة كتب الى طلحة والزبير: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد علمتم اني لم ارد الناس حتى ارادوني ولم ابايعهم حتى اكرهوني وانتما ممن أراد بيعتي وبايعتما ولم تبايعا لسلطان غالب ولا لغرض حاضر فان كنتما طائعين فتوبا الى الله تعالى عما أنتما عليه وإن كنتما مكرهين فقد جعلتما السبيل عليكما باظهاركما الطاعة وكتمانكما المعصية وانت يا زبير فارس قريش وانت يا طلحة شيخ المهاجرين ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما به وأما قولكما أني قتلت عثمان بن عفان فبيني وبينكما من تخلف عني وعنكما من أهل المدينة ثم يلزم كل امرئ بقتل ما احتمل وهؤلاء بنو عثمان إن قتل مظلوما كما تقولان أولياؤه وأنتما رجلان من المهاجرين وقد بايعتماني ونقضتما بيعتي وأخرجتما أمكما من بيتها التي أمرها الله تعالى أن تقر فيه والله حسبكما والسلام. وكتب (ع) إلى عائشة: أما بعد فإنك خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمرا كان عنك موضوعا ثم تزعمين أنك تريدين الإصلاح بين الناس فخبريني ما للنساء وقود العساكر وزعمت أنك طالبة لدم عثمان وعثمان رجل من بني أمية وأنت امرأة من بني تيم بن مرة ولعمري إن الذي عرضك للبلاء وحملك على المعصية لأعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان وما غضبت حتى أغضبتي وما هجت حتى هيجتي فاتق الله يا عائشة وارجعي إلى منزلك وأسبلي عليك سترك والسلام. فجاء الجواب إليه: يا ابن أبي طالب جل الأمر عن العتاب ولن ندخل في طاعتك أبدا فاقض ما أنت قاض والسلام. ثم تقارب الجمعان ورأى علي تصميم عزمهم على قتاله فجمع أصحابه وخطبهم خطبة بليغة قال فيها: الحمد لله على بلائه... ثم قال: واعلموا أيها الناس إني قد تأنيت هؤلاء القوم وناشدتهم كي ما يرجعوا ويرتدعوا فلم يفعلوا ولم يستجيبوا وقد بعثوا إلي أن أبرز إلى الطعان وقد كنت ما أهدد بالحرب وما أدعى إليها وقد أنصف القارة من راماها فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم وفرقت جماعتهم بذلك القلب القى عدوي وأنا على بينة من ربي لما وعدني من النصر والضفر وإني لعلى غير شبهة من أمري ألا وإن الموت لا يفوته مقيم ولا يعجزه هارب ومن لم يقتل يمت وإن أفضل الموت القتل والذي نفس علي
[ 209 ]
بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موتة على الفراش. ثم رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إن طلحة بن عبد الله أعطاني يمينه طائعا ثم نكث بيعتي ! اللهم فعاجله ولا تمهله، وإن الزبير بن العوام قطع قرابتي ونكث بيعتي وعهدي وظاهر عدوي ونصب الحرب لي وهو يعلم أنه ظالم، اللهم فأكفنيه كيف شئت وأنى شئت أقول: وفي كتاب (مروج الذهب) للمسعودي بإسناده عن المنذر بن الجارود قال: لما قدم علي (ع) البصرة دخل مما يلي الطف فأتى الزاوية. فخرجت أنظر إليه فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوة وثياب بيض متقلد سيفا معه راية وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة مدججين في الحديد والسلاح فقلت من هذا ؟ فقيل: أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله (ص) وهؤلاء الأنصار وغيرهم، ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء وثياب بيض متقلد سيفا متنكب قوسا معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس فقلت من هذا ؟ فقيل: هذا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين. ثم مر بنا فارس آخر على فرس كميت معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء متقلد سيفا متنكب قوسا وعليه قباء أبيض معقول في نحو ألف فارس من الناس ومعه راية فقلت: من هذا ؟ فقيل: أبو قتادة بن ربعي. ثم مر بنا فارس آخر على فرس أشهب عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه ومن خلفه شديد الأدمة عليه سكينة ووقار رافع صوته بقرائة القرآن متقلد سيفا متنكب قوسا معه راية بيضاء في ألف فارس من الناس مختلفي التيجان حوله مشيخة وكهول وشباب كأن قد أوقفوا للحساب أثر السجود قد أثر في جباههم فقلت من هذا ؟ فقيل: عمار بن ياسر في عدة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم. ثم مر بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء متنكب قوسا متقلد سيفا تخط رجلاه في الأرض في ألف من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة والبياض ومعه راية صفراء، فقلت: من هذا ؟ فقيل: هذا قيس بن سعد بن
[ 210 ]
عبادة في الأنصار وأبنائهم وغيرهم من قحطان. ثم مر بنا فارس على فرس أشهب ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض وعمامة سوداء قد سدلها بين يديه بلواء. فقلت: من هذا ؟ قيل: هو عبد الله بن العباس في عدة من أصحاب رسول الله (ص). ثم تلا موكب آخر في عدة من أصحاب رسول الله (ص) فيه فارس أشبه الناس بالأول فقلت: من هذا ؟ فقيل: هو عبد الله بن العباس. ثم تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين، قلت: من هذا ؟ قيل: القثم ابن العباس أو سعيد بن العاص، ثم اقبلت المواكب والرايات يقدم بعضها بعضا واشتبكت الرماح. ثم ورد موكب فيه خلق من الناس وعليهم السلاح والحديد مختلفوا الرايات في أوله راية كبيرة يقدمهم رجل كأنما كسر وجبر. قال المسعودي: قال ابن عائشة وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره الى الارض اكثر من نظره الى فوق وأصحابه كأن على رؤوسهم الطير، عن ميسرته شاب حسن الوجه وعن ميمنته شاب أشبه الناس برسول الله (ص) وأمامه شاب بيده راية عظيمة. قال جامع الكتاب: وفي بعض نسخ الرواية: وعلى كل قباء أخضر وعمامة مزركشة بالابريز، مجردين سيوفهم شاكين أسلحتهم، فقلت: من هؤلاء ؟ قيل: هذا علي بن أبي طالب (ع) وهذا الحسن (ع) والحسين (ع) عن يمينه وشماله وهذا محمد بن الحنفية بين يديه ومعه الراية العظمى، وهذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (ع) وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم من فتيان بني هاشم وهؤلاء المشائخ أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فساروا حتى نزل الموضع المعروف بالزاوية. قال جامع الكتاب: قال بعض الروات: وكانت عائشة في جملة من حضر من أهل البصرة فقالت ايها الناس انظروا إلى علي بن أبي طالب (ع) كأنه رسول الله (ص) بين أصحابه، والله كنا نعرفه بالشجاعة حتى عرفناه بالسلطان.
[ 211 ]
قال المسعودي: فصلى علي (ع) أربع ركعات وعفر خديه على التراب وقد خالط ذلك دموعه، ثم رفع يديه يدعو ويقول في دعائه: اللهم رب السماوات وما أظللت، ورب الأرضين وما أقلت ورب العرش العظيم هذه البصرة أسئلك من خيرها وأعوذ بك من شرها، اللهم انزلنا فيها منزل خير وأنت خير المنزلين، اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي ونكثوا بيعتي، اللهم إحقن دماء المسلمين، ثم تقاربوا وتعبؤا لابسين سلاحهم ودروعهم متأهبين للحرب، وكل ذلك وعلي (ع) بين الصفتين عليه قميص ورداء وعمامة سوداء وهو راكب على بغلته. فلما رأى انه لم يبق إلا مصافحة الصفاح والمطاعنة بالرماح، صاح (ع) بأعلى صوته: أين الزبير ابن العوام فليخرج إلي ؟ فقال الناس: يا أمير المؤمنين أتخرج إلى الزبير وأنت حاسر وهو مدجج بالحديد ! فقال (ع): ليس علي منه بأس، ثم نادى ثانية ؟ فخرج إليه ودنى منه فقال (ع): يا أبا عبد الله ما حملك على ما صنعت ؟ فقال الطلب بدم عثمان ! فقال (ع): عثمان انت وأصحابك قتلتموه، فيجب عليك ان تقيد من نفسك، ولكن أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد (ص) أما تذكر يوم قال لك رسول الله (ص) أتحب عليا ؟ فقلت وما يمنعني من حبي له وهو إبن خالي. فقال لك: اما انت فتخرج عليه يوما وانت عليه ظالم، فقال الزبير اللهم بلى فقد كان ذلك ! فقال (ع) فأنشدك الله الذي أنزل القرآن على نبيه محمد (ص) أما تذكر يوما جاء رسول الله (ص) من عند ابن عوف وانت معه وهو آخذ بيدك فاستقبلته أنا فسلمت عليه فضحك في وجهي وضحك أنا إليه. فقلت انت لا يدع ابن أبي طالب زهوه ابدا، فقال لك النبي: مهلا يا زبير فليس به زهو، ولتخرجن عليه يوما وانت ظالم له. فقال الزبير اللهم بلى ولكن نسيت ! فلأن ذكرتني ذلك فلأصرفن عنك ولو ذكرت ذلك لما خرجت عليك ثم رجع إلى عائشة فقالت ما ورائك يا أبا عبد الله. فقال الزبير والله اني ما وقفت موقفا في شرك ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة وانا اليوم على شك من امري وما اكاد ان ابصر موضع قدمي ثم شق الصفوف وخرج من بينهم فلقيه عبد الله ابنه فقال جبنا جبنا ! فقال يا بني قد علم الناس اني لست بجبان،
[ 212 ]
ولكن ذكرني علي (ع) شيئا سمعته من رسول الله (ص) فحلفت ان لا اقاتله. فقال دونك غلامك فلان اعتقه كفارة ليمينك ! فقال لا قاتلته ابدا فخرج ونزل على قوم من بني تميم. فقام إليه عمرو بن جرموز المجاشعي فقتله حين نام في ضيافته، فنفذت فيه دعوة أمير المؤمنين (ع). وروي ان عائشة قالت له لا والله بل خفت سيوف إبن أبي طالب (ع)، اما انها طوال حداد سواعد تجاد، فلئن خفتها فلقد خافها الرجال قبلك ! فرجع الى القتال فقيل لأمير المؤمنين (ع) انه رجع !. فقال (ع) دعوه فان الشيخ محمول عليه. ثم قال: أيها الناس غضوا أبصاركم وعضوا على نواجذكم واكثروا من ذكر ربكم وإياكم وكثرة الكلام فانه فشل، فنظرت إليه عائشة وهو بين الصفين فقالت انظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله يوم بدر، أما والله ما ينتظر بك الى زوال الشمس. فقال (ع) يا عائشة عما قليل لتصبحن من النادمين، فجد الناس في القتال فنهاههم أمير المؤمنين (ع) وقال اللهم اني أعذرت وأنذرت فكن لي عليهم من الشاهدين، ثم أخذ المصحف وطلب من يقرأ عليهم (وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلا فأصلحوا بينهما...) الآية ؟ فقال مسلم المجاشعي ها أنا ذا، فخوفه (ع) بقطع يمينه وشماله، فقال لا عليك يا أمير المؤمنين فهذا قليل في ذات الله، فأخذه ودعاهم إلى الله فقطعت يمينه ! فأخذه بيده اليسرى فقطعت ! فأخذه بأسنانه فقتلوه ! فقالت امه ترثيه :
يا رب ان مسلما أتاهم * * بمحكم التنزيل إذ دعاهم
يتلو كتاب الله لا يخشاهم * * فزملوه زملت لحاهم
قال المسعودي في كتابه (مروج الذهب) باسناده: وأمر على ان يصافوهم ولا يبدوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح حتى جاء عبد الله ابن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول وجاء قوم من الميسرة برجل قد رمى بسهم فقتل، فقال علي: اللهم اشهد واعذر، ثم قام عمار بن ياسر بين الصفين فقال أيها الناس ما أنصفتم نبيكم حتى كففتم عتقاء تلك الخدور وأبرزتم عقيلته للسيوف،
[ 213 ]
وعائشة على جمل في هودج من دفوف الخشب قد ألبسوه المسوح وجلود البقر وجعلوا دونه اللبود قد غشى على ذلك بالدروع ! فدنا عمار من موضعها فقال: إلى ماذا تدعين ؟ قالت الى الطلب بدم عثمان ! فقال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق. قال: وتواتر عليه الرمي واتصل فحرك فرسه وزال عن موضعه فقال ماذا تنتظر يا أمير المؤمنين وليس لك عند القوم إلا الحرب، فقام علي (ع) فقال: أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا اسيرا ولا تكشفوا عورة ولا تمثلوا بقتيل ولا تهتكوا سترا ولا تقربوا من اموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله. وفي (المناقب) بعد قتل مسلم المجاشعي أنذرهم (ع) فلم يقبلوا ! فقال (ع) الآن طاب الضراب، وقال لمحمد بن الحنفية والراية في يده: يا بني تزول الجبال ولا تزل عض ناجدك، أعر الله جمجمتك، ثد في الارض قدميك، إرم ببصرك أقصى القوم، وغض بصرك، واعلم ان النصر من الله، ثم صبر سويعة فصاح الناس من كل جانب من وقع النبال ! فقال (ع): تقدم يا بني، فتقدم وطعن طعنا منكرا، فأنشد أمير المؤمنين عليه السلام يقول لمحمد:
إطعن بها طعن أبيك تحمد * * لا خير في الحرب إذا لم توقد
بالمشرفي والقنا المسدد
ثم أمر الأشتر أن يحمل فحمل وقتل هاني بن وكيع صاحب ميمنة الجمل، ثم التحم القتال وجعل أمير المؤمنين (ع) يقرأ: " وان نكثوا أيمانهم من بعد عهودهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر أنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " ثم حلف (ع) انه ما قوتل عليها منذ نزلت حتى اليوم وإتصل الحرب وكثر القتل والجرح، فخرج عبد الله اليثربي قائلا:
يا رب اني طالب أبا حسن * * ذاك الذي يعرف قدما بالفتن
فأتاه أمير المؤمنين (ع) قائلا:
إن كنت تبغي ان ترى أبا حسن * * فاليوم تلقاه مليا فاعلمن
[ 214 ]
وشد عليه وضربه بالسيف فأسقط عاتقه ووقع قتيلا فوقف (ع) عليه وقال: لقد رأيت أبا حسن فكيف وجدته، فخرج بنو ضبة وجعلوا يقولون:
نحن ضبة اصحاب الجمل * * والموت احلى عندنا من العسل
ردوا علينا شيخنا بمرتحل * * ان عليا بعد من شر النذل
وقال بعضهم:
نحن بنو ضبة اعداء علط ! * * ذاك الذي يعرف فيهم بالوصي
وكان عمر بن اليثربي يقول:
ان تنكروني فانا ابن اليثربي ! * * قاتل عليا يوم هذا الجمل !
فبرز إليه عمار قائلا:
لا تبرح العرصة يابن اليثربي * * إثبت أقاتلك على دين علي
فأراده عن فرسه وجر برجله الى علي " ع " فقتله بيده، فخرج اخوه قائلا :
اضربكم ولو ارى عليا * * عممته ابيض مشرفيا
واسمر عطبطبا حظيا * * ابكي عليه الولد والوليا
فخرج إليه علي " ع " متنكرا وهو يقول:
يا طالبا في حربه عليا * * بمنحه أبيض مشرفيا
إثبت ستلقاه بها مليا * * مهذبا سميدعا كميا
فضربه " ع " فرمى نصف فرسه، فناداه عبد الله بن خلف الخزاعي أتبارزني ! فقال " ع " ما أكره ذلك ويحك يابن خلف ما راحتك في القتل وقد علمت من أنا، فقال ذرني من بذخك يا بن أبي طالب ! ثم انشد يقول:
ان تدن مني يا علي فترى * * فانني دان اليك شبرا
بصارم يسقيك كاسا مرا * * فان في صدري عليك وترا
فبرز إليه أمير المؤمنين " ع " وهو يقول:
يا ذا الذي يطلب مني الوترا * * ان كنت تبغي ان تزور القبرا
[ 215 ]
حقا وتصلى بعد ذاك جمرا * * فان تجدني أسدا هزبرا
أطعمك اليوم زعافا مرا
فضربه فطير جمجمته فخرج مازن الظبي قائلا :
لا تطمعوا في جمعنا المكلل * * اموت دون الجمل المجلل
فبرز إليه عبد الله بن نهشل قائلا :
إن تنكروني فأنا ابن نهشل * * فارس هيجاء وخطب فيصل
فقتله. وكان طلحة يحث الناس ويقول عباد الله الصبر الصبر... في كلام له. فقال مروان بن الحكم والله لا اطلب ثاري بعثمان بعد اليوم فرمى طلحة بسهم فأصاب ركبته فوقع قتيلا، فالتفت مروان الى ابان بن عثمان وقال لقد كفيتك احد قتله أبيك، وحمل أمير المؤمنين " ع " على بني ضبة فما رأيتهم إلا كرماد إشتدت به الريح في يوم عاصف. قال فعند ذلك انصرف الزبير فتبعه عمرو بن جرموز فحز رأسه وهو نائم. وقيل كان عمرو بن جرموز جالسا في حلقة قد اعتزلوا القتال فرؤا الزبير مقبلا، فسألوا عن شأنه، فقيل قد اعتزل القتال فقال عمرو بن جرموز تعسا له من شيخ سوء قد ألقى بين طائفتين مسلمتين واعتزلهم، والله لا فارقته حتى اقتله. ولما قتله أتى برأسه إلى أمير المؤمنين " ع " فقال " ع " سمعت النبي (ص) يقول ان الزبير وقاتله في النار، فغضب ابن جرموز وهو يقول :
أتيت عليا برأس الزبير * * وقد جئته طلب التحفة
فبشرني بعذاب الجحيم * * فبئس المبشر والتحفة
وسيان عندي قتل الزبير * * وضرطة عنز بذي الجحفة
وقيل ان ابن جرموز قال لعلي " ع " النار جزاءنا إن نصرناكم وإن خذلناكم ! وغضب وخرج وانه قتل نفسه، فكان امره كما أخبر به أمير المؤمنين " ع ". وقيل لعائشة قتل طلحة والزبير وجعل يخرج واحدا بعد واحد ويأخذ زمام الجمل ! حتى قتل ثمانية وتسعون رجلا منهم، والقتل يؤجج ناره والجمل يفني انصاره
[ 216 ]
قال: فخرج كعب بن سون الازدي وهو يقول :
يا معشر الناس عليكم امكم * * فانها صلاتكم وصومكم !
والحرمة العظمى التي تعمكم * * فاحضروها جدكم وحزمكم
لا يغلبن سم العدو سمكم * * ان العدو إن علاكم
زمكم وخصكم بجوره وعمكم * * لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم
فشد عليه الأشتر فقتله، فخرج ابن حفير الازدي يقول :
قد وقع الامر بما لم يحذر * * والنبل يأخذون وراء العسكر
وأمنا في خدرها المشهر
فبرز إليه الأشتر قائلا:
إسمع ولا تعجل جواب الأشتر * * واقرب تلاق كأس موت أحمر
ينسيك ذكر الجمل المشهر
فقتله، ثم قتل عمر الغنوي وعبد الله بن عتاب بن اسيد، ثم جال في الميدان جولا وهو يقول نحن بنو الموت به عدينا فخرج إليه عبد الله بن الزبير فطعنه الأشتر وأرداه وجلس على صدره ليقتله فصاح عبد الله اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي فقصدوا إليه من كل جانب فخلاه وركب فرسه، فلما رأوه راكبا تفرقوا عنه، فاخبرت عائشة بأن الأشتر بارز عبد الله فصاحت واثكل اسماء لو لا الناس لقتله فسب اصحاب الجمل بعضهم بعضا فخرج عوف بن قطن الظبي وهو ينادي ليس لعثمان ثار إلا علي بن أبي طالب (ع) وولده ! فأخذ خطام الجمل واستفتل حوله ثم جال وقال:
يا ام يا ام خلا مني الوطن * * لا ابتغي الغسل ولا ابغي الكفن
من هاهنا يحشر عوف بن قطن * * ان فاتنا اليوم علي فالغبن !
أو فاتنا اليوم حسين وحسن * * إذن أمت بطول هم وحزن !
ثم تقدم يضرب بسيفه فبدره أمير المؤمنين " ع " وقده نصفين.
[ 217 ]
وقيل: قتله محمد بن الحنفية، وشد رجل من الأزد على محمد بن الحنفية وهو يقول: يا معشر الازد كروا ! فضربه محمد فقطع يده فقال: يا معشر الازد فروا فخرج الاسود بن البختري السلمي يقول :
ارحم إلهي الكل من سليم * * وانظر إليهم نظرة الرحيم
فقتله عمرو بن الحمق رحمه الله فخرج جابر الازدي يقول :
ياليت اهلي من عمار حاضري * * من سادة الازد وكانوا ناصري
فقتله محمد بن ابي بكر فخرج بشر الظبي قائلا :
ضبة ابدى للعراق عمعمه * * واضر من الحرب العوان المضرمه
فقتله عمار بن ياسر، واخذت عائشة كفا من الحصا فحصبت به أصحاب علي (ع) وصاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه ! ! كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم حنين، فقال لها قائل: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ". ونادت عائشة ايها الناس عليكم بالصبر فانما يصبر الأحرار فأجابها رجل كوفي:
يا ام يا ام عققت فأعلموا * * والام تغذو ولدها وترحم
اما تري كم من شجاع يكلم * * ونجتلى هامته والمعصم
وقال آخر:
قلت لها وهي على صهوات * * ان لنا سواك امهات
في مسجد النبي ثاويات
وقال الحجاج بن عمر الانصاري:
يا معشر الانصار قد جاء الاجل * * اني أرى الموت عيانا قد نزل
فبادروه نحو اصحاب الجمل * * ما كان في الانصار جبن وفشل
فكل شئ ما خلا الله جلل وقال خزيمة بن ثابت:
لم يغضبوا لله لكن للجمل ! * * والموت خير من مقام في خمل
[ 218 ]
والموت احرى من فرار وفشل وقال شريح بن هاني:
لا عيش إلا ضرب اصحاب الجمل * * والقول لا ينفع إلا بالعمل
وما لنا بعد علي من بدل
وقال هاني بن عروة المذحجي:
يا لك حرب حثها جمالها * * قائده بنقصها ظلالها
هذا علي حوله اقبالها
وقال قيس بن سعد :
قل للوصي اجتمعت قحطانها * * ان يك حرب اضرمت نيرانها
وقال عمار بن ياسر :
اني لعمار وشيخي ياسر * * صاح كلانا مؤمن مهاجر
طلحة فيها والزبير غادر * * والحق في كف علي ظاهر
وقال مالك الاشتر :
هذا علي في الدجى مصباح * * لمن بدى في فضله مفتاح
وقال عدي بن حاتم الطائي :
أنا عدي ويماني حاتم * * هذا علي وبالكتاب عالم
لم يعصه في الناس إلا ظالم
وقال عمرو بن الحمق :
هذا علي قائد يرضى به * * أخو رسول الله في أصحابه
من عودة الناس ومن نصابه
وقال رفاعة:
إن الذين قطعوا الوسيلة * * ونازعوا الطهر على الفضيلة
في حربه كالنعجة الأكيلة
قال وشكت السهام الهودج حتى صار كأنه جناح نسر أو شوك قنفذ، وزحف
[ 219 ]
علي " ع " نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار وحوله بنوه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، فصاح بولده محمد وكانت الراية بيده إقدم بها حتى ركزها في عين الجمل ولا تقفن دونه، فتقدم محمد فرشقته السهام ! فقال محمد لأصحابه رويدا حتى تنفذ سهامهم فلم تبق إلا رشقة أو رشقات، فأنفذ علي " ع " إليه يستحثه ويأمره بالمناجزة، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن وقال له: إقدم لا أم لك. فكان محمد بعد أمير المؤمنين " ع " إذا ذكر ذلك يبكي ويقول: كأني أجد ريح نفسه في قفاي والله لا أنسى ذلك أبدا. ثم أدركت عليا رقة الوالد على ولده فتناول منه الراية بيده اليسرى وذو الفقار مشهور في يمناه، ثم حمل فغاص في عسكر الجمل، ثم رجع وقد انحنى سيفه فأقامه بركبته. فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين فلم يجب أحدا منهم ولا رد إليهم بصره. وظل يتحفظ ويزئر زئير الأسد حتى فرق من حوله وإنه لطامح ببصره نحو عسكر الجمل لا يبصر من حوله، ثم دفع الراية إلى محمد ثم حمل حملة ثانية وكبر تكبيرات فدخل وسطهم وضربهم بالسيف قدما قدما، والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة حتى خضب الأرض بدماء القتلى، ثم رجع وقد انحنى سيفه فاعصوصب به أصحابه وناشدوه الله في نفسه والإسلام وقالوا إنك إن عضبت يذهب الدين فامسك ونحن نكفيك، فقال: والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة. ثم قال لمحمد: هكذا تصنع يا ابن الحنفية، فقال الناس: من ذا الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين. قال: فاستدار الجمل كما تدور الرحى وتكاثف الرجال إلى حوله واشتد رغائه وزحام الناس عليه فنادى الحتات المجاشعي أيها الناس أمكم أمكم. واختلط الناس فضرب بعضهم بعضا وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل وكان دونه ناس كالجبال كلما حف قوم جاء أضعافهم فنادى علي " ع ": فرشقوا الجمل بالنبل،
[ 220 ]
وأخذت النبال تترامى عليه فلم يبق منه موضع إلا أصيب بالنبل ونادت الأزد وضبة يا لثارات عثمان ! ونادى أصحاب علي " ع ": يا محمد فاتخذوها شعارا، واختلط الفريقان فصاح علي " ع " ما أرى أحدا يقاتلكم غير هذا الجمل وهذا الهودج عرقبوا الجمل لعنه الله فإنه شيطان، وقال لمحمد بن أبي بكر انظر متى عرقب الجمل فادرك اختك فوارها، فوضع أمير المؤمنين (ع) سيفه في عاتقه وعطف نحو الجمل وأمر أصحابه بذلك ومشى نحوه والخطام مع بني ضبة فاقتتلوا قتالا شديدا. واستمر القتل في بني ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة هجم علي (ع) وأصحابه نحو الجمل فعرقب رجلا رجلا من الجمل فدخل تحته رجل ضبي وعرقب منه رجلا أخرى فدخل تحته رجل آخر فضربه بجير النخعي على عجزه وعبد الرحمن على جنبيه وعمار على طرفه، فحمله بنو ضبة فرشقوه بالسهام فوقع الجمل بجنبه وضرب بجرانه الأرض وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال ! كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب ! فضرب أمير المؤمنين (ع) على الهودج فقال يا عائشة أهكذا أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تفعلي ؟ فقالت: يا أبا الحسن ظفرت فاحسن وملكت فاسجح ! فقال (ع) لمحمد بن أبي بكر: شأنك باختك فلا يدنو أحدا منها سواك، فدنى منها محمد ولطمها في وجهها وقال لها ما فعلت بنفسك عصيت ربك وهتكت سترك ثم أبحت حرمتك وتعرضت للقتل، فقالت له ثكلتك أمك ليتها استبرئت حيضتها بخرقة ولم تلدك كان لك أن تستخلف مكان أبيك ! لازمت علي بن أبي طالب وصرت من بعض رجاله ! فقال لها: علي مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وان أباك غصب حقه وأغضب الله ورسوله بفعله، فسكتت عائشة. قال: فأمر أمير المؤمنين (ع) أن تحمل عائشة بهودجها إلى دار عبد الله بن خلف وأمر بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح، وقال (ع): لعنه الله من دابة فما أشبهه بعجل بني أسرائيل، ثم قرأ: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا). قال: فقالت عائشة لأخيها محمد أقسمت عليك أن تطلب عبد الله بن الزبير جريحا
[ 221 ]
كان أو قتيلا، فقال: انه كان هدفا للاشتر، فانصرف محمد الى العسكر فقال: اجلس ياميشوم اهل بيته فأتاها به فصاحت وبكت ثم قالت يا اخي إستأمن له من علي عليه السلام فأتى أمير المؤمنين (ع) فاستأمن له منه، فقال (ع): آمنته وآمنت جميع الناس وكان مع أمير المؤمنين (ع) في وقعة الجمل عشرون ألفا منهم البدريون وثمانون رجلا وممن بايع تحت الشجرة مائتا وخمسون ومن الصحابة خمسمائة رجل، وكان مع عائشة ثلاثون الفا أو يزيدون ومنهم المكيون ستمائة رجل وقتل منهم يوم الجمل عشرون الفا، ومن أصحاب علي (ع) ألف وسبعون رجلا، ولله در الازري حيث يقول:
يوم جاءت تقود بالجمل العسـ * * ـكر لا تتقي ركوب خطاها
فألحت كلاب حوءب نبحا * * فاستقلت به على حوباها
ياترى أي امة لنبي * * جاز في شرعها قتال نساها
اي ام للمؤمنين أساءت * * ببنيها وفرقتهم سواها
شتتهم في كل شعب وواد * * بئس ام عتت على أبناها
نسيت آية التبرج أم لم * * تدر أن الرحمن عنه نهاها
حفظت أربعين ألف حديثا * * ومن الذكر آية تنساها
ذكرتنا بفعلها زوج موسى * * إذ سعت بعد فقده مسعاها
قاتلت يوشعا كما قاتلته * * لم تخالف حمراؤها صفراها
واستمرت تجر أردية اللهو * * الذي عن إلهآها ألهاها
الثانية حرب صفين وهو انه لما فرغ أمير المؤمنين (ع) من حرب الجمل نزل بالرحبة في السادس من رجب وخطب فقال: الحمد لله الذي نصر وليه وخذل عدوه وأعز الصادق المحق
[ 222 ]
وأذل الناكث المبطل. ثم انه (ع) دعى الاشعث بن قيس من ثغر آذربيجان والاحنف بن قيس من البصرة وجرير بن عبد الله البجلي من همدان فأتوه الى الكوفة فوجه جرير الى معاوية يدعوه الى طاعته، فتوقف معاوية في ذلك ! حتى قدم شرحبيل الكندي ثم خطب فقال ايها الناس قد علمتم اني خليفة عمر وخليفة عثمان وقد قتل عثمان مظلوما وانا وليه وابن عمه واولى الناس بطلب دمه فماذا رأيكم ! فقالوا نحن طالبون بدمه، فدعى عمرو بن العاص على ان يعطيه مصر. فكان عمرو يأمر بالجمل والحط مرارا فقال له غلامه وردان تفكر ان الآخرة مع علي عليه السلام، والدنيا مع معاوية، فقال عمرو شعرا.
لا قاتل الله وردانا وفطنته * * لقد أصاب الذي في القلب وردان
فلما ارتحل قال له عبد الله بن عمر بن الخطاب:
ألا يا عمرو ما أحرزت نصرا * * ولا أنت الغدات الى الرشاد
ابعت الدين بالدنيا خسارا * * وانت بذاك من شر العباد
ومن طريق المخالفين عن الحسن البصري قال: علم معاوية والله ان لم يبايعه عمرو بن العاص لم يتم له أمر فقال له يا عمرو اتبعني قال لماذا الآخرة، فو الله ما معك آخره ام للدنيا، فو الله لا كان حتى اكون شريكك فيها، قال فانت شريكي فيها، قال فاكتب لي مصرا وكورها، وكتب له في آخر الكتاب وعلى عمرو السمع والطاعة، قال عمرو واكتب ان السمع والطاعة لا ينقصان من شرطه شيئا، قال معاوية لا ينظر الناس الى هذا، قال عمرو حتى تكتب قال فكتب. قال الحسن البصري والله ما كان معاوية يجد بدا من كتابتها، ودخل عتيبة بن ابي سفيان وهو يكلم عمروا في مصر وعمرو يقول له انما ابيعك بها ديني ! فقال عتبة ائتمن الرجل بدينه فانه من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتب عمرو الى معاوية.
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل * * به منك دينا فانظرن كيف تصنع
وما الدين والدينا سواء وانني * * لآخذ ما تعطي ورأسي مقنع
[ 223 ]
فان تعطني مصرا فاربح صفقة * * اخذت بها شيخا يضر ويمنع
ولما رأى جرير ما هم عليه انصرف فكتب معاوية الى أهل المدينة ان عثمان قتل مظلوما وعلي آوي قتلته ! فان دفعهم الينا كففنا عن قتاله وجعلنا هذا الامر شورى بين المسلمين كما جعله عمر عند وفاته فانهضوا رحمكم الله معنا الى حربه فأجابوه بكتاب فيه:
معاوى ان الحق أبلج واضح * * وليس كما ربصت أنت ولا عمرو
نصبت لنا اليوم ابن عفان خدعة * * كما نصب الشيخان إذ زخرف الامر
رميتم عليا بالذي لم يضره * * وليس له في ذاك نهي ولا أمر
وما ذنبه إذ نال عثمان معشر * * أتوه من الاحياء تجمعهم مصر
وكان على لازما قعر بيته * * وهمته التسبيح والحمد والذكر
فما انتما لا در در ابيكما * * وذكر كما الشورى وقد وضح الأمر
وما انتما والنصر منا وانتما * * طليق اسارى ما تبوح بها الخمر
وجاء أبو مسلم الخولائي بكتاب من عنده الى أمير المؤمنين (ع) يذكر فيه، وكان انصحهم لله خليفة خليفة ثم الخليفة الثالث المقتول ظلما فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت عرفنا ذلك ثم نظرت الشرور وقولك الهجر وتنفسك الصعداء وإبطائك عن الخلفاء. وفي ظل ذلك كله تقاد كما يقاد الجمل المغشوش ولم تكن لأحد منهم أشد حسدا منك لابن عمك وكان احقهم ان لا تفعل ذلك لقرابته وفضله فقطعت رحمه وقبحت حسنه فاظهرت له العداوة وبطنت له بالغش والبت الناس عليه فقتل معك في المحلة وأنت تسمع الهايعة ولا ترد عنه بقول ولا فعل. فلما وصل الخولاني وقرأه على الناس، قالوا: كلنا له قاتلون ولافعاله منكرون فكان جواب أمير المؤمنين " ع ": وبعد فاني رأيت قد اكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما المسلمون دخلوا فيه من بيعتي، ثم حاكم القوم إلي أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
[ 224 ]
وأما التي تريدها فهن خدعة الصبي عن اللبن ولعمري لئن نظرت بعقلك لعلمت اني من أبرأ الناس من دم عثمان، وقد علمت انك من ابناء الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة. وأجمع أمير المؤمنين " ع " على المسير وحرض الناس على ذلك ووقعت بينهما مكاتبات كثيرة غير ما ذكر أعرضنا عن ذكرها. قال أمير المؤمنين عليه السلام: قاتلت الناكثين وهم اهل الجمل، وهؤلاء القاسطون، وسأقتل المارقين. ثم ركب (ع) فرس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقصده تسعون ألفا منهم تسعمائة رجل من الأنصار وثمانمائة من المهاجرين فيهم مائة وثمانون رجلا من أهل بدر ومنهم تسعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان. وخرج معاوية في مائة وعشرين الفا يقدمهم مروان بن الحكم قد تقلد بسيف عثمان فنزل صفين في المحرم على شريعة الفرات وقال:
اتاكم الكاشر عن انيابه * * ليث العرين جاء في اصحابه
فأنفذ علي عليه السلام شبت بن ربعي وصعصعة بن صوحان فقالا في ذلك لطفا وعنفا، فقال انتم قتلتم عثمان عطشا، فقال علي (ع): ارووا السيوف من الدماء تروون من الماء والموت في حياتكم مقهورين خير من الحياة في موتكم قاهرين، فقال شاعر في ذلك شعرا:
أتحمون الفرات على رجال * * وفي أيديهم الاسل الضباء
وفي الأعناق أسياف حداد * * كأن القوم عندهم نساء
وقال الأشتر:
ميعادنا الآن بياض الصبح * * لا يصلح الزاد بغير الملح
وقال الاشعث بن قيس الكوفي:
لأوردن خيلي الفراتا * * شعث النواصي أو يقال ماتا
ثم صاح الاشعث:
ايها الناس من اراد الماء فليأتين ويسير معنا، فاجتمعت عليه
[ 225 ]
سبعة عشر ألف رجلا فحمل بهم حملة رجل واحد ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فاعرفه بنفسي انا الاشعث بن قيس. قال: فكأنه نادى انا ملك الموت، فتفرقوا من بين يديه وتطايروا للهرب فقتل منهم بعضا وانهزم الباقون، فأمر أمير المؤمنين (ع) أن لا يمنعوهم الماء وأمسكوا شهر محرم كله عن القتال. فلما إستهل شهر صفر أمر علي عليه السلام فنودي في أهل الشام بالأعذار والانذار ثم عين عسكره فجعل في ميمنته الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، وعلى ميسرته محمد ابن الحنفية ومحمد بن أبي بكر وهاشم بن عتبة المرقال، وعلى القلب عبد الله بن العباس وعباس بن ربيعة بن الحرث والأشتر والاشعث، وعلى الجناحين سعد بن قيس الهمداني وعبد الله بن بديل بن ورقة الخزاعي ورفاعة بن شداد البجلي وعدي بن حاتم الطائي وعلى الكمين عمار بن ياسر وعمرو بن الحمق وعامر بن وائل الكناني وقبيصة بن جابر الأسدي. وجعل معاوية على ميمنته ذا الكلاع الحميري وحوشب ذا الظليم، وعلى الميسرة عمرو بن العاص وحبيب بن سلمة، وعلى القلب الضحاك بن قيس الفهري وعبد الرحمن ابن خالد بن الوليد، وعلى الساقة بسر بن ارطاة الفهري، وعلى الجناح عبد الله بن مسعدة الفزاعي وهمام بن قبيصة النميري، وعلى الكمين أبو الأعور السلمي وحابس بن سعد الطائي قال: وبعث علي (ع) إلى معاوية: أن اخرج حتى أبارزك ؟ فلم يفعل فزحف الفريقان والتقى الجمعان والناس على راياتهم. قال إبن أبي الحديد باسناده: فخرج رجل من أهل العراق على فرس كميت غارقا في السلاح لا يرى منه إلا عيناه وبيده الرمح فجعل يضرب رؤوس اهل العراق بالقناة ويقول سووا صفوفكم رحمكم الله حتى إذا عدل الصفوف والرايات استقبلهم بوجهه وولى أهل الشام ظهره، ثم حمد الله وأثنى عليه وقال الحمد لله الذي جعل فينا إبن عم نبيه، أقدمهم هجرة وأولهم إسلاما، سيف من سيوف الله، صبه الله على أعدائه، فانظروا إذا حمى الوطيس وثار القتام وتكسر المران وجالت الخيل بالابطال فلا أسمع إلا الغمغمة أو
[ 226 ]
الهمهمة فاتبعوني وكونوا في أثري. ثم عمد على أهل الشام فكسر فيهم رمحه ثم رجع وإذا هو الأشتر انتهى أقول: وقد جرى بين العسكرين وقائع وفي الكل كانت الغلبة لأمير المؤمنين (ع) أولها - يوم الاربعاء بين الاشتر وحبيب بن سلمة. والثانية - بين المرقال وأبي الاعور. والثالثة - بين عمار وعمرو بن العاص. والرابعة - بين محمد بن الحنفية وعبيد الله بن عمر. والخامسة - بين عبد الله بن العباس والوليد بن عتبة. والسادسة - بين سعد بن قيس وذي الكلاع، الى تمام الاربعين وقعة آخرها ليلة الهرير خرج عوف الحارثي قائلا:
انى انا عوف أخو الحروب * * صاحبها ولست بالهروب
فبارزه علقمة قائلا:
يا عوف ان كنت امرء حازما * * لم تبرز الدهر الى علقمة
لقيت ليثا اسدا باسلا * * يأخذ بالانفاس والغلصمة
فقتله ورجع، وخرج احمر مولى عثمان بن عفان شاهرا سيفه وهو يقول:
ان الكتيبة عند كل تصادم * * تبكي فوارسها على عثمان !
فأجابه مولى لعلي " ع ":
عثمان ويحك قد مضى لسبيله * * فاثبت لحد مهند وسنان
فقتله الاحمر، فقال علي " ع ": قتلني الله إن لم اقتلك، ثم حمل واستقبله بالسيف وهو لا يعرفه، فمد علي " ع " يده فقبضه من درعه ورفعه عن فرسه وضرب به الارض فكسر منكبه وضلعه. وجعل " ع " يجول في الميدان وهو يقول:
لهف نفسي وقليل ما أسر * * ما أصاب الناس من خير وشر
لم أرد في الدهر يوما حربهم * * وهم الساعون في الشر الشمر
[ 227 ]
وكان لمعاوية غلام يسمى بحريث وكان فارسا بطلا وكان معاوية يحذره من التعرض لعلي عليه السلام فخرج الى الميدان، فقبض عليه أمير المؤمنين " ع " وحبسه في الهواء على يده، وجعل (ع) يجول في الميدان ويقول:
ألا إخذروا في حربكم أبا الحسن * * ولا تروموه فذا من الغبن
فانه يدقكم دق الطحن * * ولا يخالف في الكفاح من ومن
قال: وخرج من أهل الشام رجل يقال له محزان بن عبد الرحمن فوقف بين الصفين وسأل المبارزة، فخرج إليه رجل يقال له المؤمل بن عبيد المرادي فتضاربا بأسيافهما فقتله الشامي، ثم نزل وحز رأسه وكب الرأس على وجهه، ثم نزل إليه فتى من الأزد يقال له مسلم بن عبد ربه فقتله الشامي ونزل وحز رأسه وكب الرأس على وجهه !. فلما رأى علي ذلك تنكر للشامي وهو واقف بين الصفين فخرج إليه والشامي لا يعرفه، فطلبه ! فبدره (ع) فضربه على عاتقه فرمى بشقه فسقط فنزل وحز رأسه ورمى به الى السماء، ثم ركب ونادى: هل من مبارز ؟ فخرج إليه آخر من فرسان الشام فضربه وقتله ونزل واحتز رأسه وحل وجهه الى السماء، ثم ركب ونادى: هل من مبارز ؟ فلم يزل يخرج إليه فارس بعد فارس وهو يقتله ويفعل به مثل الاول، الى ان قتل منهم سبعة عشر، فأحجم الناس عنه ولم يعرفوه. فقال معاوية لعبد له يقال له حرب وكان بطلا شديدا يا حرب اخرج الى هذا الفارس واكفني أمره فانه قتل من اصحابي ما قد رأيت ! فقال له حرب اني والله أرى مقام فارس لو بارزه عسكرك كله لأفناهم عن آخرهم، فان شئت برزت إليه واعلم انه قاتلي لا محالة، وان شئت فاستبقني لغيره، فقال معاوية لا والله ما احب ان تقتل فقف مكانك حتى يخرج إليه غيرك. وجعل علي (ع) ينادي ويدعوهم فما خرج إليه احد، فرفع المغفر عن رأسه ورجع الى عسكره، فخرج من اهل الشام رجل يقال له كريب بن الصباح، فوقف بين الصفين وسأل المبارزة، فخرج له من أهل العراق رجل يقال له المبرقع الخولاني ففتله
[ 228 ]
الشامي، ثم خرج إليه الحرث الحكمي فقتله ايضا. فنظر علي (ع) الى مقام فارس بطل فخرج إليه بنفسه فوقف قبالته ثم قال: من أنت ؟ فقال كريب بن صباح الحميري فقال له علي (ع): ويحك ياكريب اني احذرك والله في نفسك وأدعوك إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال له ومن أنت ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فالله الله في نفسك فاني أراك فارسا بطلا فيكون لك ما لنا وعليك ما علينا وتصون نفسك عن عذاب الله ولا يدخلنك مع معاوية نار جهنم، فقال كريب إدن مني ان شئت ! وجعل يلوح بسيفه، فمشى إليه علي (ع) وإلتقيا بضربتين فقتله الامام عليه السلام، ثم وقف فخرج إليه الحرث الحميري فقتله أيضا، وهكذا الى ان قتل اربعة رجال وهو يقول: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن إعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما إعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين) ثم صاح علي (ع): يا معاوية هلم الى مبارزتي ولا تفنين العرب بيننا، فقال معاوية لا حاجة لي في مبارزتك فقد قتلت اربعة من سباع العرب فحسبك !. فصاح رجل من اصحاب معاوية اسمه عروة ان قال معاوية لا حاجة لي في مبارزتك فهلم الى مبارزتي يابن أبي طالب ! فذهب علي (ع) نحوه فبدره عروة بضربة فلم تعمل شيئا وضربه علي (ع) فأسقطه، ثم قال انطلق الى النار عليك لعائن الله. قال: وكبر على أهل الشام قتل عروة فلم يخرج احد الى المبارزة، فرجع أمير المؤمنين (ع). قال: وخرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد يقول.
قل لعلي هكذا الوعيد * * أنا ابن سيف الله لا مزيد
وخالد بن بنته الوليد * * قد فتر الحرب فزيد وازيدوا
فبرز إليه مالك الأشتر رحمه الله وهو يرتجز ويقول:
بالضرب أوفي موتة مؤخرة * * يا رب جنبني سبيل الفجرة
ولا تجنبني ثواب البررة * * واجعل وفاتي بأكف الكفرة
وساق ضربة الى عبد الرحمن فانصرف يقول أفنانا دم عثمان، فقال له معاوية
[ 229 ]
هذه فاشرة الصبا فاصبر فان الله مع الصابرين، وخرج معاوية وهو يقول مشيرا الى بني همدان رحمهم الله:
لا عيش إلا فلق قحف الهام * * من ارحب ويشكر شبام
قوم هم أعداء أهل الشام * * كم من كريم بطل همام
وكم قتيل وجريح دامي * * كذاك حرب السادة الكرام
فبرز سعيد بن قيس يقول:
لا هم رب الحل والحرام * * لا تجعل الملك لاهل الشام
فحمل وهو مشرع رمحه فضرب معاوية ودخل في غمار القوم هربا من ضربة قيس فجعل قيس يقول :
يا لهف نفسي فأتني معاوية * * على اطم كالعقاب هاوية
والراقصات لا يعود ثانية * * الا هوى معفرا في الهاوية
وبرز أبو الطفيل الكنائي قائلا:
تحامت كنانة في حربها * * وحامت تميم وحامت أسد
وحامت هوازن من بعدها * * فما حام منها ومنهم أحد
طحنا الفوارس يوم العجاج * * وسقنا الاراذل سوق الكند
وجال أمير المؤمنين (ع) قائلا:
أنا علي فأسألوني تخبروا * * ثم ابرزوا لي في الوغا وابدروا
سيفي حسام وسناني أزهر * * منا النبي الطاهر المطهر
وحمزة الخير ومنا جعفر * * وفاطم عرسي وفيها المفخر
هذا لهذا وابن هند محجر * * مذبذب مطرد مؤخر
فاستخلفه عمرو بن حصين السكوني على ان يطعنه فرآه سعيد بن قيس فطعنه وأنشد يقول:
أقول له ورمحي في حشاه * * وقد قرت بمصرعه العيون
ألا يا عمرو عمرو بني حصين * * وكل فتى ستدركه المنون
[ 230 ]
أتدرك ان تنال أبا حسين * * بمعضلة وذا ما لا يكون
وانفذ معاوية ذا الكلاع الى حرب همدان فاشتبكت الحرب بينهم الى الليل، انهزم اهل الشام ! فأنشد أمير المؤمنين (ع):
فوارس من همدان ليسوا بعزل * * غداة الورى من شاكر وشبام
يقودهم حامي الحمية ماجد * * سعيد بن قيس والكريم محامي
جزى الله همدان الجنان فانهم * * سهام العدا في كل يوم حمام
فلو كنت بوابا على باب جنة * * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وبرز أبو أيوب الأنصاري فنكلوا عنه، فحاذى معاوية حتى دخل فسطاطه فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
وعلمنا الحرب أبائنا * * وسوف نعلم منا البنينا
وخرج رجل شامي في براز رجل كوفي فصرعه فإذا هو اخوه فقالوا له خله فأبى ان يطلقه إلا بأمر علي عليه السلام، فأذن له بذلك، وبرز عبد الله بن خليفة الطائي في جماعة من طي وارتجز:
يا طي طي السهل والاجبال * * ألا إثبتوا بالبيض والعوالي
وقاتلوا ائمة الضلال
وخرج بسر بن ارطاة وهو يقول:
اكرم بجند طيب الاردان * * جاؤا يكونوا اولياء الرحمن
انى اتاني خبر شجاني * * ان عليا نال من عثمان
فبرز إليه سعيد بن قيس قائلا :
بؤسا لجند ضايع الايمان * * اسلمهم بسر الى الهوان
إلى سيوف لبني همدان * * أقسم بالرحيم والرحمن
إن عليا خير من عثمان * * وقيس خير من أبي سفيان
فانصرف بسر من طعنته مجروحا، وخرح ادهم بن لام القضاعي مرتجزا:
اثبت لوقع الصارم الصقيل * * فانت لا شك اخو قتيل
[ 231 ]
فقتله حجر بن عدي، فخرج الحكم بن الازهر قائلا:
يا حجر حجر بن عدي الكندي * * اثبت فاني ليس مثلي بعدي
فقتله حجر، فخرج إليه مالك بن مسهر القضاعي يقول:
اني انا ابن مالك بن مسهر * * انا ابن عم الحكم بن الازهر
فأجابه حجر بن عدي:
اتى حجر وانا ابن مسعر * * اقدم إذا شئت ولا تؤخر
وبرز علقمة فاصيب في رجله، وقتل من أهل العراق عمير بن عبيد المحاربي وبكر ابن هودة النخعي وابنه حيان وسعد بن نعيم وابان بن قيس. فحمل علي (ع) على أهل الشام فهزمهم، فقال معاوية كنت ارجو اليوم الظفر ! وبرز الأشتر فجعل يقتل واحدا بعد واحد، فقال معاوية في ذلك فبرز عمرو بن العاص في اربعمائة فارس إليه فتبع الاشتر مائتا رجل من نخع ومذحج، وحمل الأشتر عليه، فوقعت الطعنة في القربوس فانكسر وخر عمرو صريعا وسقطت ثناياه فاستأمنه، وبرز الأصبغ بن نباتة قائلا:
حتى متى ترجو البقا يا أصبغ * * ان الرجاء للقنوط يدمغ
وقال حتى حرك معاوية من مقامه، وخرج عوف المرادي قائلا:
انا المرادي واسمي عوف * * هل من عرافي عصاه سيف
فبرز إليه كعبر الاسدي قائلا :
الشام فيها الغري مغور * * انا العراق واسمي كعبر
فقتله ورأى معاوية على تل فقصد نحوه، فلما قرب منه حمل عليه مرتجزا وهو يقول:
ويلي عليك يا بني هند * * انا الغلام الأسدي حمد
فأخذه أهل الشام بالطعان والضراب ! فانسل من بينهم وهو يقول:
فلو نلته التي ليس بعدها * * من الأمر شيئا غير مين مقال
ولو مت من نيلي له ألف ميتة * * لقلت لما قد نلت لست ابالي
[ 232 ]
وخرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فبرز إليه حارثة بن قدامة السعدي فقتله وخرج أبو الاعور السلمي فانصرف من طعنه زياد بن كعب الهمداني مجروحا وقتل بنو همدان خلقا كثيرا من أهل الشام، فقال معاوية بنو همدان اعداء عثمان، وبرز عمير بن عطارد التميمي في قومه قائلا:
قد صابرت في حربها تميم * * لها حديث ولها قديم
دين قويم وهدى قويم
فقاتلوا الى الليل، وبرز قيس بن سعد بن عبادة وهو يرتجز ويقول:
انا ابن سعد وأبي عبادة * * والخزرجيون رجال سادة
حتى متى تثني لنا الوسادة * * يا ذا الجلال لقني الشهادة
فخرج بسر بن ارطاة يرتجز:
انا ابن ارطاة جليل القدر * * في اسرة من غالب وفهر
ان ارجع اليوم بغير وتر * * فقد قضيت في ابن سعد نذري
فخرج مجروحا من ضربة قيس، وخرج المخادع بن عبد الرحمن وقتل المرادي ومسلم الازدي ورجلين آخرين. فبرز إليه أمير المؤمنين " ع " متنكرا فقتله وقتل سبعة بعده. وخرج الصباح بن كريب فقتله أمير المؤمنين " ع ". وخرج مولى لمعاوية مرتجزا:
اني أنا الحارث ما به حذر * * مولى ابن صخر وبه قد انتصر
فقتله قنبر مولى أمير المؤمنين " ع " وخرج بريد الظبي قائلا:
لقد ضلت معاشر من نزار * * إذ انقادوا لمثل أبي تراب
فقتله الأشتر، وخرج شجع الحذامي فطعنه عدي بن حاتم الطائي، ونادى خالد السدوسي من يبايعني على الموت ؟ فأجابه تسعة آلاف فقاتلوا حتى بلغوا فسطاط معاوية فنهبوا فسطاطه فهرب معاوية، وانفذ معاوية إليه وقال يا خالد لك عندي إمرة خراسان متى ظفرت ويحك اقصر عن فعالك هذا ! فنكل عنها ! فتفل أصحابه في وجهه،
[ 233 ]
وحاربوا الى الليل. قال: وخرج من عسكر الشام قائلا لهاشم المرقال:
يا اعور العين وما فينا عور ! * * نلحي ابن عثمان ونلحي من عذر
فقتله المرقال وجعل يجول بفرسه في الميدان وهو يرتجز ويقول:
أعور يبغي أهله محلا * * قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد ان يغل أو يغلا * * أو أنه يفل أو يفلا
فكان أمير المؤمنين " ع " يأتيه ويدفعه بكعب الرمح ممازحا له ويقول: تقدم يا هاشم اعور وجبان، فكان يتقدم ويرقل إرقالا، حتى إذا بلغ وسط عسكر معاوية هجموا عليه من كل جانب ومكان فقتلوه ! فتأسف عليه أمير المؤمنين (ع). واخذ سفيان بن ثور رايته فقاتل حتى قتل، فأخذها عتبة بن المرقال فقاتل حتى قتل، فأخذها ابن الطفيل الكناني وهجم مرتجزا يقول:
يا هاشم الخير دخلت الجنة * * قتلت في الله عدو السنة
فقاتل حتى جرح فرجع القهقري، فأخذها عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي مرتجزا:
أضربكم رغما على معاوية * * الابرح العين العظيم الحاوية
هوت به في النار ام هاوية * * جاوره فيها كلاب عاوية
فهجموا عليه فقتلوه ! فأخذها عمرو بن الحمق قائلا:
جزى الله فينا عصبة أي عصبة * * حسان وجوه صرعوا حول هاشم
وقاتل أشد القتال، فخرج ذو الظليم قائلا:
أهل العراق ناسبوا وانتسبوا * * أنا اليماني واسمي حوشب
من ذي الظليم أين أين المهرب
فبرز إليه سليمان بن صرد الخزاعي قائلا:
يا أيها الحي الذي تذبذبا * * لسنا نخاف ذا الظليم حوشبا
فحملت الأنصار حملة رجل واحد وقتلوا ذا الكلاع وذا الظليم وجمعا ممن معهما
[ 234 ]
وكاد يؤخذ معاوية، فأنشد رجل من الأنصار يقول:
معاوى لا أفلت إلا بجرعة * * من الموت حتى تحسب الشمس كوكبا
فان تفرحوا بابن البديل وهاشم * * فانا قتلنا ذا الظليم وحوشبا
وخرج عبيد الله بن عمر يقول:
انا عبيد الله ينمني عمر * * خير قريش من مضى ومن غبر
فقتل اشر قتلة، وبرز عمار بن ياسر في رايات فقتل من أصحاب معاوية سبعمائة رجل، ومن أصحاب أمير المؤمنين (ع) مائتا رجل، وخرج عمرو بن العاص وهو يقول:
إني إذا الحرب تفرت عن كثر * * احمل ما حملت من خير وشر
فقصده الأشتر مرتجزا:
إني أنا الأشتر معروف السير * * إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست ربيعا ولست من مضر * * لكني من نخع الشر والغرر
فهزمهم وجرح عمرا، وخرج العباس بن ربيعة بن الحرث الهاشمي، فبرز له من أصحاب معاوية عراد بن أدهم وصاح يا عباس يا عباس هل لك في البراز ؟ فقال له العباس، وأنت هل لك في النزول ؟ قال نعم، فرمى العباس بنفسه عن فرسه ثم تلاقيا وكفى أهل الجيشين أعنة خيولهم ينظرون إلى الرجلين، ثم تضاربا بأسيافهما فما قدر أحدهما على صاحبه لكمال لامته وعلي (ع) يراهما فنظر العباس إلى وهن في درع عراد فضربه به عليه فقده باثنتين، فكبر العسكران، ثم عطف العباس وركب فرسه، فقال معاوية لاصحابه من خرج منكم إلى هذا فتولاه وقتله فله كذا وكذا من المال ! فوثب رجلان من بني لخم من أهل اليمن فقالا نحن نخرج إليه ! فقال أيكما سبق إلى قتله فله من المال ما بذلت وللآخر مثله ! فخرجا جميعا ووقفا في مقر المبارزة ! ثم صاحا بالعباس ودعياه إلى القتال ؟ فقال: أستأذن صاحبي وأبرز إليكما، فقال علي (ع): إدن مني ؟ فدنى منه، فأخذ سلاحه وفرسه وأعطاه سلاح نفسه ولباسه، ولبس سلاح العباس وركب فرسه، وخرج (ع) كأنه هو، فقالا له اللخميان إستأذنت فأذن لك مولاك
[ 235 ]
فتحرج (ع) عن الكذب وقرأ " إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير " فتقدم إلى أحدهما فقده نصفين وإلى الآخر فألحقه بصاحبه ! ثم جال جولة ورجع إلى موضعه. فعلم معاوية إنه علي (ع) فقال قبح الله اللجاج انه لقعود ما ركبته إلا خذلت فقال له عمرو بن العاص لمخذول والله اللخميان لا أنت، فقال له معاوية أيها الانسان ليس هذه ساعة من ساعاتك، قال عمرو فإن لم تكن هذه الساعة من ساعاتي فرحم الله اللخميين ولا أظنه يفعل فضحك معاوية.
اقدم اقدم الهزيز العالي * * في نصر عثمان ولا أبالي
فبرز عدي بن حاتم الطائي قائلا:
يا صاحب الصوت الرفيع العالي * * أفدي عليا ولدي ومالي
وعبى معاوية أربعة صفوف فتقدم أبو الأعور السلمي يحرضهم ويقول يا أهل الشام إياكم والفرار فإنها مسبة وعار، فدقوا على أهل العراق فإنها فتنة ونفاق فبزر سعيد بن قيس والأشتر وعدي بن حاتم والأشعث فقتلوا منهم ثلاثة آلاف ونيفا وانهزم الباقون. وخرج كعب بن جعيل شاعر معاوية يقول مرتجزا:
ابرز إلي الآن يا نجاشي * * فإنني ليث لدى الهراش
فبرز إليه النجاشي شاعر علي (ع) وهو يقول:
أربع قليلا فأنا النجاشي * * لست أبيع الدين بالمعاش
أنصر خير راكبا وماشي * * ذاك علي بين الرياش
وبرز عبد الله بن جعفر في ألف رجل، فقتل خلقا كثيرا حتى استغاث معاوية وعمرو ابن العاص، وأتى أويس القرني متقلدا بسيفين. وقيل: كان معه مرمات ومخلاة من الحصى فسلم على أمير المؤمنين (ع) وودعه وبرز مع رجاله ربيعة وقاتل مقتلة، ولما قتل صلى عليه أمير المؤمنين (ع) ودفنه
[ 236 ]
ثم أن عمار بن ياسر أتى أمير المؤمنين (ع) واستأذنه البراز ؟ فلم يأذن له فألح عليه فلم يفعل، فبكى وقال: يا أمير المؤمنين لعل هذا اليوم الذي أوعدني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال لي يا عمار تقتلك الفئة الباغية، فبكى علي (ع) وعانقه طويلا. ثم أذن له فشهر سيفه ومضى وهو يقول:
نحن ضربناكم على تنزيله * * واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام من مقيله * * ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
فلم يزل يقاتل حتى كمن له أبو العادية الفزاري ورما بسهم فوقع قتيلا على الأرض. ويروي أن ذلك السهم وقع في لبة قلبه ! وقيل في جنبه. وفي رواية أخرى: أن عمارا قاتل حتى غلب عليه العطش فأتى إلى عسكر أمير المؤمنين (ع) فضمه أمير المؤمنين (ع) إلى صدره، ثم جئ له بضياح من لبن، فكبر عمار وقال. صدق حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال لي: يا عمار تقتلك الفئة الباغية الطاغية ويكون آخر زادك من الدنيا ضياح من لبن. ولما شرب اللبن توجه إلى القتال فطعنه عبد يقال له يسار على خاصرته فوقع من على سرجه، فهجم أصحاب أمير المؤمنين (ع) وقتلوا قاتله. ويروى عن ابن عوف: أن معاوية قال بعد قتل عمار من أتاني برأسه أعطيته قنطارا من ذهب ! فأتاه وليد بن عتبة وابن الجوزا السكوني برأسه ! وادعي كل منهما أنه قتله ! فقال معاوية اذهبا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص يحكم بينكما ! فلما ذهبا إليه قال للوليد بن عتبة كيف قتلت عمارا ؟ فقال حملت عليه في المعركة وقتلته ! فقال عبد الله إني لست بقاتل عمار، فسأل من السكوني فقال اختلفنا أنا وهو بطعنتين فاستولى طعني عليه. ولما وقع من فرسه قال: لا ينجو من جسر بحضور جبرئيل وميكائيل، فأني سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: يا عمار لتقتلك فئة من أهل النار بين جبرئيل
[ 237 ]
وميكائيل، وكان عمار يقول هذا وهو ينظر إلى اليمين واليسار فقطعت رأسه ! فقال عبد الله خذ الجوائز وابشر بالعذاب، فألقى السكوني الجائزة وأتى إلى معاوية وأخبره بمقالة عبد الله فغضب معاوية ومنع عبد الله عن اظهار مثل هذا الكلام ! فقال عبد الله ما تكتفي يا معاوية أنا تبعناك على الباطل حتى تمنعنا عن أن نحدث بشئ سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال معاوية وما سمعت منه، قال سمعته أنا وجمع كثير وهو يقول لعمار: يا عمار تقتلك الفئة الباغية، فقال معاوية ان قاتل عمار من أخرجه إلى الحرب فقال عبد الله فعلى هذا يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب، فغضب معاوية غاية الغضب ولم يكلم عبد الله بعدها ثلاثة أيام ! وتألم أمير المؤمنين (ع) على عمار غاية التألم وكان يقول: من لم يتألم على عمار فما له من الاسلام من نصيب. وفي رواية: أنه (ع) لما أتاه خبر قتل عمار مشى إليه وألقى نفسه على جسده وبكى حتى إبتلت كريمته الشريفة وأنشد يقول:
ألا أيها الموت الذي هو قاصدي * * أرحني فقد أفنيت كل خليلي
أراك جديرا الذين أحبهم * * كأنك تأتي نحوهم بدليل
وفي رواية أخرى: أن أمير المؤمنين (ع) إحتمل عمارا وأتى به إلى خيمة وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول:
وما ضبية تسبى الضباء بصرافها * * إذا انبعثت خلنا بأجفانها سحرا
بأحسن ممن خضب السيف وجهه * * دما في سبيل الله حتى قضى صبرا
فاجتمع العسكر نحوه من فوق جسد عمار وبرز أمير المؤمنين (ع) ودعى معاوية وقال: أسألك أن تحقن الدماء وتبرز إلي وأبرز إليك ؟ فبهت معاوية ولم ينطق بشئ، فحمل (ع) على الميمنة فأزالها، ثم حمل على الميسرة فطحنها، ثم حمل على القلب فقلبه وقتل في هذه الحملات خلقا كثيرا وهو ينشد ويقول وكأنه يخاطب معاوية:
فهل لك في أبي حسن علي * * لعل الله يمكن من قفاكا
دعاك إلى البراز فكف عنه * * ولو بارزته بترت يداكا
[ 238 ]
ثم انصرف (ع) وبرز متنكرا. وخرج عمرو بن العاص قائلا ومخاطبا الكوفيين:
يا قادة الكوفة يا أهل الفتن ! * * يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن
كفى بهذا حزنا مع الحزن * * أضربكم ولا أرى أبا الحسن
فتلقاه أمير المؤمنين (ع) فولى عمرو هاربا ! فطعنه أمير المؤمنين (ع) فوقعت الطعنة في ذيل درعه فاستلقى على قفاه فرفع رجليه وأبدا عورته ! فصرف عنه أمير المؤمنين " ع " بوجهه. واقبل عمرو على معاوية فجعل معاوية يضحك من عمرو وقال احمد ربك الذي عافاك واشكر استك الذي وقاك، فقال عمرو والله لو بدا له من صفحتك مثل ما بدا له من صفحتي إذا لأوجع قذالك وأيتم عيالك وأنهب اموالك، فقال معاوية لو كنت تحتمل مزاحا لمازحتك، فقال عمرو وما أحملني للمزاح، ولكن لو لقي رجل رجلا فصد عنه ولم يقتله أقطرت السماء دما، فقال معاوية لا ولكن تعقب فضيحة الأبد وجبنا أما والله لو انك عرفته لما اقدمت عليه قال انا وانت سواء في هذه.
قال: وبرز أمير المؤمنين (ع) ودعا معاوية فنكل عنه. فخرج بسر بن ارطاة يطمع في علي " ع " فضربه " ع " فاستلقى على قفاه وكشف عورته! فأعرض عنه أمير المؤمنين ووثب بسر قائما فسقط المغفر عن رأسه، فصاح أصحاب علي " ع " يا أمير المؤمنين انه بسر بن ارطاة! فقال (ع) ذروه فعليه لعنة الله فجعل معاوية يضحك من بسر، ثم قال له لا عليك ولا تستحي فقد نزل بعمرو مثلها، فصاح كوفي: ويلكم يا اهل الشام أما تستحون من معاملة المخانيث لقد علمكم رأس المخانيث عمرو. وقد روى هذه السيرة عن أبيه عن جده في كشف الاستئاة وسط عرصة الحروب وأنشد شاعر:
أفي كل يوم فارس ذي كربهة * * له عورة وسط العجاجة
بادية يكف لها عنه علي سنانه * * ويضحك منها في الخلاء معاوية
[ 239 ]
فيا سوءها من حالة مستهانة * * فضيحتها بين البرية بادية
فقولا لعمرو وابن ارطاة ابصرا * * سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية
فلا تحمد إلا لا ستيكما هما * * لقد كانتا للنفس واقية
فلولا هما لم تنجيا من سنانه * * وتلك بما فيها عن العود ناهية
قال: وخرج غلام بسر بن ارطاة وكان اسمه لاحق قائلا:
ارديت بسرا والغلام ثائرة * * وكل آب من عليه قادرة
فطعنه الاشتر وهو يقول:
في كل يوم رجل شيخ بادرة * * وعورة وسط العجاح ظاهرة
ابرزها طعنة كف فاترة * * عمرو وبسر ذهبا بالقاهرة
ولما رأى معاوية كثرة براز أمير المؤمنين (ع) أخذ في الخديعة، فكتب الى ابن عباس وعروة، فما كتبه الى عبد الله بن عباس قوله:
طال البلاء فلا ندري له آسي * * بعد الاله سوى رفق أبن عباس
فكان جواب ابن عباس:
يا عمرو حسبك من غدر ووسواس * * فاذهب فما لك في ترك الهدآسي
إلا بوادر طعن في تحور كموا * * تشجي النفوس به في نقع احلاس
إن عادت الحرب عدنا فالتمس هربا * * في الارض أو سلما في الجو يا قاسي
ثم كتب معاوية إليه يذكر انما بقي من قريش ستة انا وعمرو بالشام وسعد وابن عمر بالحجاز وعلي وانت بالعراق على خطب عظيم ولو بويع لك بعد عثمان لاسرعنا فيه ! فأجابه عبد الله بن عباس:
دعوت إبن عباس الى السلم خدعة * * وليس لها حتى تموت مخادع
وكتب الى علي (ع) أما بعد فانا لو علمنا ان الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وان كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نؤم به ما بقى وقد كنت سألتك بالشام على ان لا يلزمني لك طاعة ولا بيعة ! فأبيت علي وانا ادعوك اليوم الى ما دعوتك إليه امس، فانك لا ترجو من البقاء إلا ما ارجو ولا تخاف من
[ 240 ]
الفناء إلا ما اخاف، وقد والله رقت الاجساد وذهبت الرجال ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا فضل على بعض يستذل به عزيز ويسترق به حر ! فأجابه عليه السلام: أما قولك ان الحرب قد أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أكله الحق فالى النار، واما طلبتك الشام فاني لم اكن لأعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما إستواءنا في الخوف والرضا فلست أمضي على الشك مني على اليقين وليس اهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة، وأما قولك نحن بنو عبد مناف، فكذلك نحن وليس امية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، وفي أيدينا فضل النبوة التي ذللنا بها العزيز ونعشنا بها الذليل. وفوض معاوية لابن الخديج الكندي ان يكاتب الاشعث والنعمان بن بشير وان يكاتب قيس بن سعد في الصلح، ثم انفذ عمرو وعتبة وحبيب بن مسلمة والضحاك بن قيس الى أمير المؤمنين (ع)، فلما كلموه ؟ قال أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فان يجيبوا الى ذلك فللرشد أصبتم، وان تابوا لم تزدادوا من الله إلا بعدا، فقالوا قد رأينا ان تنصرف عنا فنخلي بينكم وبين عراقكم وتخلون بيننا وبين شامنا ! فقال (ع) لم أجد إلا القتال أو تتبعون السنة والكتاب. قال وانصرفوا، ثم برز الاشتر وقال: سووا صفوفكم، ونادى أمير المؤمنين (ع) (قاتلوا ائمة الكفر فانهم لا ايمان لهم لعلهم ينتهون) ألا ان خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء والصبر خير من عواقب الامور، ألا انها احن بدرية وضغائن احدية وأحقاد جاهلية، ثم تقدم عليه السلام وهو يرتجز ويقول:
دبوا دبيب النمل لا تفوتوا * * واصبحوا في حربكم وبيتوا
كما تنالوا الدين أو تموتوا * * أو لا فاني طالما عصيت
قد قلتموا لو جئتنا فجيت فحمل في سبعة عشر ألف رجل فكسروا الصفوف، فقال معاوية لعمرو اليوم صبر وغدا فخر ! فقال عمرو صدقت يا معاوية ولكن الموت حق والحياة باطل، ولو حمل علي في أصحابه حملة اخرى فهو البوار، فقال أمير المؤمنين (ع) لأصحابه: ما انتظاركم ان كنتم تريدون الجنة، فبرز أبو الهيثم بن التيهان قائلا:
[ 241 ]
أحمد ربي فهو الحميد * * ذاك الذي يفعل ما يريد
دين قويم وهو الرشيد
فقاتل حتى قتل، وبارز خزيمة بن ثابت قائلا:
كم ذا يرجى ان يعيش الماكث * * والناس موروث وفيهم وارث
هذا علي من عصاه ناكث
فقاتل حتى قتل، وبرز عدي بن حاتم الطائي وهو يقول:
أبعد عمار وبعد هاشم * * وابن بديل صاحب الملاحم
ترجو البقاء من بعد يابن حاتم
فقاتل حتى فقئ عينه، وبرز الأشتر مرتجزا:
سيروا الى الله ولا تعرجوا * * دين قويم وسبيل منهج
وقتل جندب بن زهير، فلم يزالوا يقاتلون حتى دخلت وقعة الخميس وهي ليلة الهرير وكان أصحاب أمير المؤمنين (ع) يضربون الطبول من أربع جوانب عسكر معاوية ويقولون: على المنصور، وهو يرفع رأسه إلى السماء ساعة بعد ساعة ويقول: اللهم اليك نقلة الأقدام واليك أفضت القلوب ورفعت الأيدي ومدت الأعناق وطلبت الحوائج وشخصت الأبصار، اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وينشد عليه السلام:
الليل داج والكباش تنتطح * * نطاح اسد ما أرانا تصطلح
منها قيام وفريق منبطح * * فمن نجى برأسه فقد ربح
وكان (ع) يحمل عليهم مرة بعد مرة ويدخل غمارهم ويقول: الله الله في الحرم والذرية، فكانوا يقاتلون اصحابهم بالجهد، فلما أصبح كان قتلى عسكره أربعة آلاف وقتلى عسكر معاوية اثنين وثلاثين الف رجل، وقتل أمير المؤمنين (ع) بانفراده في هذه الليلة خمسمائة وثلاثة وعشرون فارسا، لانه كان كلما قتل فارسا أعلن بالتكبير،
[ 242 ]
فاحصيت تكبيراته في تلك الليلة، فكانت خمسمائة وثلاثة وعشرين تكبيرة بخمس مائة وثلاثة وعشرين فارسا قتيلا، وعرفوا قتلاه نهارا بضرباته، فانها كانت على وتيرة واحدة ان ضرب طولا قده وان ضرب عرضا قطه، وكانت كأنها مكواة، وفي تلك الليلة فتق درعه لثقل ما كان يسيل من كثرة الدم في دراعته. قال جابر بن نمير: والله لكأني اسمع عليا يوم الهرير، وذلك بعد ما طحنت رحى مذحج فيما بينها وبين عك ولخم وجذام والاشعريين بأمر عظيم تشيب منها النواصي، حتى استقلت الشمس وقام قائم الظهر وعلي عليه السلام يقول لأصحابه: حتى متى نخلي بين هذين الحيين قد فنينا وأنتم وقوف تنظرون، أما تخافون مقت الله. ثم إستقبل القبلة ونادى: يا الله يا الله يا رحمن يا رحيم يا واحد يا أحد يا صمد يا الله يا إله محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللهم إليك نقلت الأقدام ورفعت الأيدي ومدت الأعناق وشخصت الأبصار وطلبت الحوائج، اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا وغيبة ولينا وكثرة عدونا وتشتت اهوائنا، ربنا إفتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سيروا على بركة الله ثم نادى: لا إله إلا الله والله أكبر كلمة التقوى. قال: فلا والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما سمعنا رئيس قوم منذ خلق الله السماوات أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب، انه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة من اعلام العرب، يخرج سيفه منحيا ويقول معذرة إلى الله واليكم من هذا، لقد هممت ان أفلقه ولكن يحجزني عنه اني سمعت رسول الله (ص) يقول: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي، وأنا أقاتل به دونه (ص). قال: كنا نأخذه فنقوضه ثم يتناوله من ايدينا فيقتحم به في عرض الصفوف فلا والله ما رأيت بأشد منه نكاية في عدوه قال: وصاح اصحاب معاوية والله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا وصاح أصحاب أمير المؤمنين " ع ": والله لا نبرح اليوم العرصة حتى نموت أو يفتح لنا، فبادروا القتال رميا بالنبل حتى فنيت النبال وتطاعنوا بالرماح حتى تقصفت الرماح ثم نزل القوم عن خيولهم ومشى بعضهم لبعض بالسيوف حتى كسرت أجفانها وقام الفرسان في الركاب ثم اضطربوا بالسيوف وعمد الحديد، فلم يسمع السامعون إلا تغمغم
[ 243 ]
القوم وصليل الحديد في الهام. قال: وصاح عمرو بن العاص بعبد الرحمن بن خالد بن وليد اقحم يابن سيف الله فتقدم عبد الرحمن بلوائه، وتقدم أصحاب علي " ع " وصاح بالأشتر انه قد بلغ لواء معاوية حيث ترى، فدونك القوم فأخذ الأشتر لواء علي " ع " فضارب القوم حتى ردهم. وقال ابن الصباغ في (الفصول المهمة): ولما أصبح صباح ليلة الهرير عن ضيائه وحسر الليل عن ظلمائه كانت عدة القتلى من الفريقين ستة وثلاثون ألفا. وكانت هذه الليلة ليلة الجمعة، وأصبح أمير المؤمنين (عليه السلام) والمعركة كلها خلف ظهره وهو في قلب معسكره، والأشتر في الميمنة، وابن عباس في الميسرة، والناس يقبلون من كل جانب، ولوائح النصر لائحة لأمير المؤمنين " ع " والأشتر يزحف في الميمنة يقاتل بها ويقول لأصحابه: إزحفوا بأبي أنتم وامي قيد هذا الرمح، ويزحف بهم زحفة ثانية ويقول: ازحفوا قيد هذا القوس، وكلما اقتتلوا يزحف نحو اهل الشام ويقول مثل ذلك حتى ظهر الظفر من ناحيته، وكان الامام يمده برجال. وقال ابن أبي الحديد: قال ابن ديزل الهمداني: ولما إشتد القتال دعى علي " ع " ببغلة رسول الله (ص) فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله (ص) ونادى: أيها الناس من يشري نفسه لله، ان هذا يوم له ما بعده ؟ فانتدب معه اثني عشر ألف رجل، فحمل " ع " وحمل كلهم حملة واحدة فلم يبق لاهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا الى معاوية بفرسه ليفر. قال: وكان معاوية يحدث الناس بعد ذلك ويقول لما وضعت رجلي في الركاب ذكرت قول الشاعر: (مكانك تحمدي أو تستريحي) قال: فقال معاوية لابن العاص اعمل تدبيرا وإلا اخذنا ! فقال عمرو ترفع المصاحف وندعوهم إليها ! قال اصبت ! فرفعوها وكان عدتها خمسمائة وصاحوا الله الله في النساء والبنات، الله الله في دينكم، هذا كتاب الله بيننا وبينكم !
[ 244 ]
فقال (ع): اللهم انك تعلم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم، فاختلف اصحابه ! فقال بعضهم القتال القتال، وقال بعضهم المحاكمة بالكتاب. قال: فأتى مسعر بن فدكى وزيد بن حصين الطائي والاشعث بن قيس الكندي الى أمير المؤمنين (ع) وقالوا اجب القوم الى كتاب الله ! فقال (ع) ويحكم والله انهم ما رفعوا المصاحف إلا مكيدة وخديعة حين علوتموهم. قال: فاقبل إليه عشرون الف رجل يقولون يا علي أجب الى كتاب الله وإلا قتلناك أو بعثنا بك الى القوم، فقال (ع): احفظوا مقالتي فاني آمركم بالقتال فان تعصوني فافعلوا ما بدى لكم، قالوا فابعث الى الأشتر ليأتينك، فبعث إليه بزيد بن هاني السبيعي يدعوه ؟ فقال الأشتر: اني قد رجوت أن يفتح الله لا تعجلني، وشدد في القتال، فقالوا حرضه بالحرب ! فابعث إليه بعزيمتك ليأتينك وإلا والله اعتزلناك أو قتلناك ! فقال " ع ": يا يزيد عد إليه فقل له اقبل الينا، فان الفتنة قد وقعت، فأقبل الأشتر يقول: يا اهل العراق يا اهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم وعلموا انكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف خديعة ومكرا، كففتم عن قتالهم، فقالوا قاتلناهم في الله، فقال إمهلوني ساعة ؟ فقالوا لا ! قال امهلوني عدوة فرسي ؟ قالوا إنا لسنا نطيعك ولا صاحبك. قال: فسبهم وسبوه وضرب وجوه دوابهم، فلم يرجعوا، ووضعت الحرب. قال: فصاح الأشتر: يا أمير المؤمنين (ع) أحمل الصف على الصف، فتصايحوا ان أمير المؤمنين قد قبل الحكومة، وهو عليه السلام ساكت، فقال الأشتر ان كان فقد رضيت بما رضى به أمير المؤمنين " ع ". قال: وبعت أمير المؤمنين (ع) الى معاوية لماذا رفعتم المصاحف ؟ قالوا للدعاء الى العمل بمضمونها وان نقيم حكما وتقيموا حكما ينظران في هذا الأمر ويقران الحق مقره. قال: فتبسم أمير المؤمنين (ع) تعجبا وقال: يابن أبي سفيان أنت تدعوا إلى العمل بكتاب الله، وأنا كتاب الله الناطق إن هذا لهو العجب العجيب والأمر الغريب، ثم
[ 245 ]
قال: إنها خديعة فعلها ابن العاص لمعاوية، فلم يسمعوا وألزموه بالتحكيم. قال: فعين عمرو بن العاص وعين أمير المؤمنين (ع) عبد الله بن العباس، فلم يوافقوا، قال: فالأشتر ؟ فأبوا واختاروا أبا موسى الأشعري. وفي رواية ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم حدثنا عمر بن شمر عن جابر قال: سمعت تميم بن حريم يقول لما أصبحنا من ليلة الهرير نظرنا فإذا أشباه الرايات أمام أهل الشام في وسط الفيلق حيال موقف علي ومعاوية، فلما أسفرنا فإذا هي المصاحف قد ربطت في أطراف الرماح وهي عظام مصاحف العسكر وقد شدوا ثلاثة رماح جميعا وربطوا عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة رهط. قال نصر بن مزاحم قال أبو جعفر وأبو الطفيل: إستقبلوا عليا (ع) بمائة مجنة ووضعوا في كل مجنة مأتي مصحف، فكان جميعها خمسمائة مصحف، فاختلف أصحاب علي في الرأي. قال نصر قال الشعبي: فجاء عدي بن حاتم الطائي فقال يا أمير المؤمنين (ع) أنه لم يصب منا عصبة إلا وقد أصيب منهم مثلها وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما نحب، فناجزهم. وقام الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين (ع) إن معاوية لا خلف له من رجاله ولكن نحمد الله الخلف، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك، ولأنصرك، فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله الحميد. ثم قام عمرو بن الحمق فقال يا أمير المؤمنين (ع) إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك على الباطل ولا طلبنا إلا الحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا سنشري في اللجاج وطالت فيه النجوى، وقد بلغ الحق مقطعه وليس لنا معك رأي، فقام الأشعث بن قيس مغضبا فقال يا أمير المؤمنين أنا لك اليوم على الذي كنا عليه أمس وما من القوم أحد يخشى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني فأجب القوم إلى كتاب الله عز وجل فإنك أحق به منهم وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال، فقال علي عليه السلام: هذا أمر ننظر فيه، فنادي الناس من كل جانب الموادعة فقال (ع) أيها الناس إني أحق
[ 246 ]
من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن سملة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغارا ورجالا فكانوا شر صغار وشر رجال، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل، إنهم ما رفعوها وأنهم يعرفونها ويعملون بها ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة فأعيروني سواعدكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحق مقطعه، فلم يبق إلا أن يقطع دابر القوم الذين ظلموا، فجائه من أصحابه عشرون ألفا غارقين في الحديد شاهرين سيوفهم على عواتقهم قد اسودت جباههم من السجود يقدمهم مسعر بن فدكى وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد فنادوا باسمه لا بإمرة المؤمنين يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم ؟ فقال لهم: ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب إليه وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله، إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، قد أعلمتكم إنهم كادوكم وإنهم ليس العمل بالقرآن يريدون، قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتينك. قال ابن أبي الحديد قال نصر وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على عسكر معاوية ليدخله، فأرسل إليه يزيد بن هاني أن أئتيني ؟ فأتاه فأبلغه، فقال الأشتر أئته فقل له ليس هذه الساعة التي ينبغي لك أن تزيلني عن موضعي إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني، فرجع يزيد بن هاني إلى أمير المؤمنين (ع) فأخبره فما هو إلا انتهى إليه حتى ارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق، ودلائل الخذلان والإدبار لأهل الشام، فقال القوم لعلي (ع) والله ما نراك أمرته إلا بالقتال، قال أرأيتموني شاورت رسولي إليه ؟ إنما كلمته على رؤوسكم وعلانية أنتم تسمعونها، قالوا إن بعثت إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك، فقال (عليه السلام) ويحك يا يزيد قل له أقبل، فإن الفتنة قد وقعت، فأخبره فقال الأشتر ألا ترى يا يزيد إلى الفتح ؟ ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا، أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه ؟ فقال له يزيد: أتحب أنك ظفرت وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه
[ 247 ]
يفرج عنه ويسلم إلى عدوه، قال سبحان الله لا والله لا أحب ذلك، قال فإنهم قد قالوا له وحلفوا لترسلن إلى الأشتر ليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا أو لنسلمك إلى عدوك ! فأقبل الأشتر. أقول: قال ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة): فجاء الأشتر وقال: ما هذا أرفعت المصاحف قيل نعم، قال: والله ظننت أنها سترفع إختلافا وفرقة وإنها مشورة ابن العاص. ثم أقبل الأشتر على القوم من أصحابه وقال: يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم قاهرون ورفعوا المصاحف يدعوكم إلى ما فيها، ويلكم إمهلوني عدوة فرسي فإن الفتح والنصر قد حصل، فقالوا لا يكون ذلك أبدا ولا ندخل معك في خطيئتك ! فقال: ويلكم خبروني عنكم متى كنتم محقين أحين تقاتلون وخياركم يقتلون أم الآن حين أمسكتم عن القتال ؟ فقالوا دعنا عنك يا أشتر قاتلناهم في الله وندعهم في الله ! قال: خدعتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله تعالى، فلا أرى مراءكم إلا شقاء إلى الدنيا، يا أشباه البقر الجلالة، ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون، فسبهم وسبوه وضربوا وجه دابته وضرب وجوه دوابهم، فصاح الإمام به وبهم. قال: وجاء الأشعث إلى أمير المؤمنين " ع " وقال أرى الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن بينهم، فإن شئت أتيت معاوية فسألته عما يريد، قال أئته فأتاه، فقال لمعاوية لأي شئ رفعتم هذه المصاحف ؟ قال لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله تعالى في كتابه تبعثون رجلا ترضونه ونبعث رجل نرضاه وتأخذ عليهما أن لا يعملا إلا بما في كتاب الله تعالى لا يعدونه ثم نتبع ما اتفقنا عليه، قال الأشعث هو الحق، ورجع إلى علي (ع) وأخبره بما قال معاوية فقال الناس قد رضينا ذلك، فقال أهل الشام ترضى عمروا وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج فيما بعد نرضى بأبي موسى الأشعري، فقال لهم علي (ع) قد عصيتموني في أول الأمر فلا
[ 248 ]
تعصوني الآن، فإني لا أرى أن تولوا أبا موسى الحكومة فإنه يضعف عن عمرو ومكايده. وفي رواية عبد الحميد بن أبي الحديد عن نصر فقال لهم علي (ع) إني لا أرضى بأبي موسى فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكى في عصابة من القراء إنا لا نرضى به فإنه حذرنا ما وقعنا فيه، فقال (ع) انه ليس لي برضا فإنه فارقني وخذل الناس عني وهرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك، قالوا والله ما نبالي أكنت أنت أم ابن عباس ولا نريد إلا رجلا هو منك ومن معاوية سواء ليس إلى واحد منكما أدني من الآخر، قال (ع): فإني أجعل الأشتر فقال الأشعث وهل سعر الأرض نارا إلا الأشتر وهل نحن إلا في حكم الأشتر فقال (ع): وما حكمه ؟ قال حكمه أن يضرب بعضنا إلى بعض بالسيف حتى يكونن ما أردت وما أراد قال عبد الحميد قال نصر وحدثنا عمرو بن شمر عن جابر بن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) قال لما أراد الناس عليا (ع) أن يضع الحكمين، قال إن معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص وأنه لا يصلح للقرشي إلا مثله، فعليكم بعبد الله بن العاص فارموه به فإن عمروا لا يعقد عقدة إلا حلها عبد الله ولا يبرم أمرا إلا نقضه ولا ينقض أمرا إلا أبرمه، فقال الأشعث لا والله لا والله لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة ولكن أجعل رجلا من أهل اليمن إذا جعلوا من مضر، والله لا يحكما ببعض ما تكره واحدهما من أهل اليمن أحب إلينا أن يكون بعض ما تحب في حكمهما وهما مضريان. قال: وذكر الشعبي أيضا مثل ذلك. قال نصر: فقال علي (ع): قد أبيتم إلا أبا موسى ؟ قالوا نعم، قال: فأصبحوا ما شئتم، فبعثوا إلى أبي موسى وهو بأرض من أراضي الشام قد اعتزل القتال، فجاء حتى دخل عسكر علي (ع) فأتى الأشتر وقال لأمير المؤمنين (عليه السلام) الزني بعمرو بن العاص، فوالذي لا إله غيره لان ملئت عيني منه لأقتلنه، وجاء الأحنف بن قيس إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إني قد رميت بحجر الأرض ومن
[ 249 ]
حارب الله ورسوله انف الاسلام واني قد عجنت هذا الرجل - يعني ابا موسى - وحلبت اشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر وانه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يكون في اكفهم ويتباعد عنهم حتى يكون بمنزلة الفحم منهم، فان شئت ان تجعلني حكما فاجعلني، وان شئت ان تجعلني ثانيا وثالثا فاجعلني، فان عمرو لا يعقد عقدة إلا حللتها ولا يحل عقدة إلا عقدت لك عقدة أشد منها، فعرض أمير المؤمنين " ع " ذلك على الناس فقالوا لا يكون الا ابا موسى. قال عبد الحميد: قال نصر فلما رضى أهل الشام بعمرو وأهل العراق بابي موسى اخذوا في سطر كتاب الموادعة وكانت صورته: " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان " فقال معاوية بئس الرجل انا أن أقررت انه أمير المؤمنين ثم قاتلته. وقال عمرو بل يكتب اسمه واسم أبيه إنما هو أميركم، واما اميرنا فلا، فلما اعيد الكتاب أمر بمحوه، فقال الأحنف: لا تمح أسم أمير المؤمنين فاني أتخوف ان محوتها ان لا ترجع اليك ابدا فلا تمحها، فقال علي " ع ": ان هذا اليوم كيوم الحديبية حين كتب الكتاب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا ما يصالح به محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسهيل بن عمرو، فقال سهيل لو اعلم انك رسول الله لم اقاتلك ولم أخالفك ! اني اذن لظالم لك ان منعتك ان تطوف ببيت الله الحرام وأنت رسوله ! ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي اني لرسول الله واني محمد بن عبد الله ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم فامحها واكتب لهم ما أراد محوه، اما ان لك مثلها ستعطيها وأنت مضطهد. قال نصر بن مزاحم وقد روي ان عمرو بن العاص عاد بالكتاب الى علي (عليه السلام) فطلب منه ان يمحو اسمه من إمرة المؤمنين، فقص عليه وعلى من خصه قصة الحديبية قال ذلك الكتاب أنا كتبته بيننا وبين المشركين واليوم اكتب الى ابنائهم، ما كان رسول الله (ص) كتبه الى آبائهم شبها ومثلا، فقال عمرو سبحان الله اتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون ! فقال (عليه السلام) يابن النابغة ومتى لم تكن من المشركين ومتى لم تكن
[ 250 ]
للكافرين وليا وللمسلمين عدوا، فقام عمرو وقال والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم ! فقال (عليه السلام): اني لأرجو أن يظهرني الله عليك وعلى أصحابك. وجاءت عصابة واضعة سيوفها على عواتقها فقالوا: يا أمير المؤمنين مرنا بما شئت فقال لهم سهل بن حنيف: أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد شهدنا صلح رسول الله (ص) يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا. قال نصر بن مزاحم وقد روى أبو اسحاق الشيباني قال: قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبي برد في صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من اسفلها وخاتم من أعلاها على خاتم علي محمد رسول الله وعلى خاتم معاوية محمد رسول الله. وقيل لأمير المؤمنين عليه السلام حين أراد ان يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام: أتقر بانهم مؤمنون مسلمون ؟ فقال (عليه السلام) ما أقر لمعاوية ولا لاصحابه، انهم مؤمنون مسلمون ولكن يكتب معاوية لنفسه ما شاء ويقر ما شاء لنفسه ولاصحابه ويسمي نفسه بما شاء واصحابه، فكتبوا هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن ابي سفيان قاض علي بن أبي طالب على اهل العراق ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين وقاض معاوية بن أبي سفيان على اهل الشام ومن كان من شيعته انا ننزل عند حكم الله وكتابه ولا يجمع بيننا إلا اياه وان كتاب الله سبحانه بيننا من فاتحته الى خاتمته نحيي ما أحيي القرآن ونميت ما أمات القرآن، فان وجد الحكمان ذلك في كتاب الله ابتغياه وان لم يجداه اخذا بالسنة العادلة غير المتفرقة، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، وقد اخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين انهما أمينان على انفسهما واموالهما واهلهما والامة لهما انصار وعلى الذي يقضيان عليه وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين ان يعمل بما يقضيا عليه مما وافق الكتاب والسنة وان الامن والموادعة ووضع السلاح متفق عليه من الطائفتين الى ان يقع الحكم، وعلى كل واحد من الحكمين عهد الله ليحكمن بين الامة بالحق لا باللهو ولا بالهوى، وأجل الموادعة سنة كاملة فان احب الحكمان ان يعجلا الحكم عجلا وان توفى احدهما فالامير شيعته ان يختار مكانه رجلا لا يألو الحق والعدل، وان توفي أحد الاميرين كان نصب غيره الى اصحابه ممن يرضون امره ويحمدون طريقته.
[ 251 ]
قال نصر: وهذه رواية محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، والشعبي، وروى جابر عن زيد بن الحسن بن الحسن زيادات. قال الناقل وذكر تلك الرواية وساقها إلى أن قال: وشهد فيه من أصحاب علي عشرة، ومن أصحاب معاوية عشرة وتاريخ كتابته لليلة بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين. قال جامع هذا الكتاب غفر الله له: وذكر ابن الصباغ في (الفصول المهمة) اسماء الشهود فقال: وكتب من أهل العراق الأشعث بن قيس وعدي بن حجر وسعد بن قيس الهمداني وورقاء بن شمس وعبد الله بن عكل العجلي وحجر بن عدي الكندي وعقبة بن زياد الحظرمي ويزيد بن حجرة التميمي ومالك بن كعب الهمداني. وكتب من أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي وحبيب بن مسيلمة وزميل بن عمرو العدوي ومرة بن مالك الهمداني وعبد الرحمن بن خالد وسبيع بن يزيد وعتبة بن أبي سفيان ويزيد بن الحرث العبسي. ثم قال ابن الصباغ وخرج الأشعث بن قيس فقرءه على الناس. قال وكانت كتابته يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين. قال: واتفقوا على أن يكون إجتماع الحكمين بدومة الجندل - وهو موضع كثير النخل وبه حصن اسمه مادر - انتهى. أقول: وقال عبد الحميد قال نصر وحدثنا عمرو بن سعيد قال حدثني أبو حباب عن عمار بن ربيعة قال: لما كتبت الصحيفة دعي الأشتر ليشهد في الشهود فقال: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال ان كتبت لي، فبهذه الصحيفة اسم على صلح أو موادعة أو لست على بينة من أمري ويقين من ظلالة عدوي أو لستم قد رأيتم الظفران لم تجتمعوا على الحق، فقال له الأشعث بن قيس هلم فاشهد على نفسك واقرر بما كتب في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة لك عن الناس فقال الأشتر بلى والله لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة ولقد سفكت بسيفي هذا دماء رجال أنت عندي
[ 252 ]
بخير منهم ولا أحرم دما قال فكأنما قصع على أنفه. ثم قال الأشتر: ولكني دخلت فيما دخل به أمير المؤمنين (عليه السلام) وخرجت مما خرج منه، فانه لا يدخل إلا في الهدى والصواب. وقال عبد الحميد: لما تداعى الناس الى المصاحف وكتبت صحيفة الصلح والتحكيم قال علي (عليه السلام): انما فعلت ما فعلت لما بدى فيكم من الخور والفشل عن الحرب، فجاءت إليه همدان كأنها هم ركن حصين فيهم سعيد بن قيس وابنه عبد الرحمن غلام له ذوابة فقال ها أنا ذا وقومي لا نرد أمرك فقل ما شئت نعمله. وقال عبد الحميد قال نصر ثم ان الناس اقبلوا على قتلاهم فدفنوهم. قال نصر وروى أبو حباب الكلبي ان عمروا وأبا موسى لما إلتقيا بدومة الجندل اخذ عمرو يقدم ابا موسى في الكلام ويقول انك صحبت رسول الله (ص) قبلي وانت اكبر مني سنا فتكلم انت ثم أتكلم أنا، فجعل ذلك سنة ومادة بينهما وانما كان ذلك مكرا وخديعة وإغترارا له ان يقدمه فيبده بخلع علي (ع) ثم يرى رأيه. وقال في (كتاب صفين) اعطاه عمرو صدر المجلس وكان يتكلم قبله واعطاه التقدم في الصلاة وفي الطعام ولا يأكل حتى يأكل، فإذا خاطبه فانما يخاطبه بأجل الاسماء فيقول يا صاحب رسول الله حتى اطمئن إليه وظن انه لا يغشه. ولما اجتمعوا للحكومة قال عمرو ما رأيك يا أبا موسى ؟ قال ارى ان اخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون من شاؤا، فقال عمرو: الرأي والله ما رأيت، فأقبلا على الناس وهم مجتمعون، فتكلم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال ان رأيي ورأي عمرو قد اتفق على امر نرجو ان يصلح الله به شأن هذه الامة، فقال عمرو صدق، ثم قال له تقدم يا أبا موسى تكلم، فقام يتكلم. فدعاه ابن عباس: ويحك اني لأظنه خدعك ان كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك يتكلم به ثم تكلم انت بعده، فانه رجل غدار ولا آمن ان يكون قد اعطاك الرضا فيما بينك وبينه فإذا قمت به في الناس خالفك. قال وكان أبو موسى رجلا مغفلا، فقال إنا قد اتفقنا، فتقدم أبو موسى
[ 253 ]
فحمد الله وأثنى عليه ! ثم قال أيها الناس انا قد نظرنا في أمر هذه الامة فلم نر شيئا هو اصلح لأمرها وألم لشعثها من ان لا تبتز امورها وقد اجتمع رأيي ورأي صاحبي على خلع علي ! ومعاوية وان يكون الامر شورى بين المسلمين يولون امورهم من أحبوا واني قد خلعت عليا ومعاوية ! فأستقبلوا اموركم وولوا من رأيتموه لهذا الامر أهلا ثم تنحى. فقام عمرو بن العاص في مقامه فحمد الله واثنى عليه ثم قال ان هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه وأنا اخلع صاحبه كما خلعه ! واثبت صاحبي في الخلافة، فأنه ولي عثمان والطالب بدمه واحق الناس بمقامه. فقال له أبو موسى: ما بالك لا وفقك الله قد غدرت وفجرت، انما مثلك (كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) فقال له عمرو انما مثلك (كمثل الحمار يحمل أسفارا) أقول: وروي انه قيل لأبي موسى ما اضعفك عن عمرو ومكائده ؟ فقال ما اصنع وافقني على امر ثم غدر، فقال ابن عباس لا ذنب لك يا أبا موسى وانما الذنب لمن قدمك وأقامك هذا المقام. قال: وحمل شريح بن هاني على عمرو فطعنه. وقيل: فقنعه بالسوط، وحمل ابن عمرو على شريح فقنعه بالسوط وقام الناس فحجزوا بينهما. قال: وكان شريح يقول بعد ذلك: ما ندمت على شئ كندمي ان اكون ضربت عمروا بالسيف بدل السوط، والتمسوا أبا موسى فركب ناقته ولحق بمكة هاربا. وكان ابن عباس يقول: قبح الله أبا موسى لقد حذرته وهديته فما عقل. وكان أبو موسى يقول: حذرني ابن عباس غدرة الفاسق عمرو، ولكنني اطمأننت إليه وظننت ان هذا الفاسق لا يؤثر شيئا على نصيحة الامة. قال: وكان أبو موسى عثمانيا منحرفا عن علي بن أبي طالب عليه السلام !
[ 254 ]
الثالثة حرب النهروان وهو انه لما عاد أمير المؤمنين (ع) من صفين الى الكوفة بعد الذي من أمر الحكمين أقام ينتظر إنقضاء المدة التي كانت بينه وبين معاوية ليرجع الى المقاتلة والمحاربة إذ انعزل طائفة من أهل العراق وهم القراء واصحابهم وكان عدتهم اربعة آلاف نفر وخرجوا من الكوفة وخالفوا أمير المؤمنين (ع) وقالوا لا حكم إلا الله ولا طاعة لمن عصى الله ! وانحاز إليهم ما ينوف على ثمانية آلاف رجل ممن يرى رأيهم ! فساروا في اثني عشر الفا حتى نزلوا بحروراء وامروا عليهم عبد الله بن الكوى ! قال: فبينما هم يخوضون في ضلالهم إذ رأى عصابة منهم رجلا وهو عبد الله بن خباب على حمار فدعوه وانتهروه وأفزعوه وقالوا له: من أنت ؟ قال: أنا ابن صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا له افزعناك ؟ قال نعم، قالوا لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنفعنا به ؟ فقال: حدثني أبي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يمسي فيها ويصبح كافرا. قالوا لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر وعثمان ؟ قال وما أقول فيهم أساءوا أم احسنوا، فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده ؟ قال: انه أعلم بالله منكم وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة في أمره، فقالوا انك تتبع الهوى وتوالي الرجال على اسمائها لا على افعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناه احدا ! فاخذوه وكتفوه ثم اقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت رطبة فاخذها احدهم فتركها في فيه، فقال آخر اخذتها بغير حلها وبغير ثمن فألقاها ثم مر بماء خنزير لاهل الذمة فضربه احدهم بسيفه، فقالوا هذا فساد في الأرض، فلقى صاحب الخنزير فأرضاه.
[ 255 ]
فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما ارى فما أرى علي منكم من بأس، اني مسلم ما أحدثت في الاسلام حدثا ولقد آمنتوني قلتم لا روع عليك فأضحعوه فذبحوه فسال دمه في الماء ! واقبلوا الى المرأة فقالت: أنا امرأة ألا تتقون الله، فبقروا بطنها وقتلوا ثلاث نسوة من طي فقتلوا أم سنان الصيداوية ! كل ذلك وعلي (ع) لا يدري. قال: ولما شاع نزولهم بحر وراء كتب إليهم أمير المؤمنين عليه السلام: " من عبد الله أمير المؤمنين الى زيد بن حصين وعبد الله بن وهب وعبد الله بن الكوي ومن معهم من الناس. أما بعد: فان هذان الرجلين الذين إرتضيا حكمين قد خالفا كتاب الله واتبعا اهوائهما بغير هدى من الله ولم يعملا بالسنة ولم ينفذا للقرآن حكما، فإذا وصلكم كتابي هذا فاقبلوا، فإنا سائرون الى قتال عدونا وعدوكم ونحن على الأمر الاول الذي كنا عليه ". فكتبوا في الجواب: أما بعد فانك لم تغضب لربك وانما غضبت لنفسك ! فان شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نابذناك على سواء والله لا يحب الخائنين. فلما قرأ كتابهم رأى ان يدعهم ويمضي بالناس الى اهل الشام فيناجزهم، واشتغل عليه السلام بالاهتمام في ذلك. قال: فبينما هم جالسون إذ بلغ أمير المؤمنين عليه السلام ان الخوارج خرجوا على الناس وانهم قتلوا عبد الله بن خباب صاحب النبي (ص) وبقروا بطن امرأته وهي حامل وقتلوا ثلاث نسوة من طي وقتلوا ام سنان الصيداوية. فلما بلغه عليه السلام ذلك بعث إليهم الحرث بن مرة العبدي ليأتينهم وينظر صحة الخبر فيما بلغه عنهم، فلما دنى منهم قتلوه ! وأتى أمير المؤمنين عليه السلام الخبر وهو في معسكره، فقام إليه الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين (ع) علام ندع هؤلاء
[ 256 ]
وراءنا يخلفون في أموالنا وعيالنا، سر بنا إليهم، فإذا فرغنا منهم سرنا الى معاوية واتباعه وقام الاشعث بن قيس وتكلم مثل كلامهم، فأجمع عليه السلام الى المسير إليهم. فجاءه منجم يقال له مسافر بن عدي فقال يا أمير المؤمنين (ع) إذا أردت المسير الى هؤلاء القوم فسر إليهم في الساعة الفلانية فانك ان سرت في غيرها لقيت أنت وأصحابك ضررا شديدا، لأن طوالع النجوم قد إنتجست وسعد اصحاب النحوس ونحس أصحاب السعود، وقد بدأ المريخ يقطع في برج الثور وقد اختلف في برجك كوكبان وليس الحرب لك بمكان، فقال عليه الصلاة والسلام: ءأنت الذي تسير علي بالجاريات وتقضي علي بالحادثات وتنقلها مع الدقائق والساعات، فما السراري وما الزراري وما قدر شعاب المدبرات ؟ فقال سأنظر في الاسطرلاب واخبرك !. فقال (ع) أعالم أنت بما تم البارحة في وجه الميزان وبأي نجم اختلف برج السرطان ؟ وأية آفة دخلت على الزبرقان ؟ فقال لا أعلم. فقال أعالم أنت ان الملك البارحة انتقل من بيت الى بيت في الصين وفارت بحيرة ساوه وفاضت بحيرة خشرمة وقطعت باب الصخرة ونكس ملك الروم بالروم وولى اخوه مكانه وسقطت شرفات الذهب من قسطنطنية الكبرى وهبط سور سرانديب وفقد ديان اليهود وهاج النمل بوادي الرمل وسعد سبعون ألف عالم وولد في كل عالم سبعون ألفا والليلة يموت مثلهم ؟ فقال لا أعلم. فقال: أنت عالم بالشهب الخرس والأنجم والشمس ذات الذوائب التي تطلع مع الانوار وتغيب مع الاسحار ؟ فقال لا أعلم. فقال: أعالم أنت بطلوع النجمين الذين ما طلعا إلا عن مكيدة ولا غربا إلا عن مصيبة وانهما طلعا وغربا حين قتل قابيل هابيلا ولا يظهران إلا بخراب الدنيا ؟ فقال لا أعلم. فقال (ع) إذا كان طرق السماء لا تعلمها فانى أسئلك عن قريب اخبرني ما تحت حافر فرسي الايمن والايسر من المنافع والمضار ؟ فقال اني في علم الارض أقصر مني في علم السماء، فحفر تحت الحافر الايمن فخرج كنز من ذهب، وتحت الأيسر فخرج أفعى فتطوق
[ 257 ]
في عنق المنجم، فصاح يا مولاي الامان الامان لأطلين الركوع والسجود، فقال. سمعت خيرا فقل خيرا، اسجد لله واضرع بي إليه. ثم قال عليه السلام: نحن نجوم الارض وكواكب القطب وأعلام الفلك وان هذا العلم لا يعلمه إلا نحن، فآمن المنجم. ثم سار (ع) نحو الخوارج، فلما قرب منهم دنى بحيث انه يراهم ويرونه، نزل وأرسل إليهم، ان ادفعوا الينا قتلة اخواننا نقتلهم بهم وأترككم وأكف عنكم حتى ألقي أهل الشام، فلعل الله ان يقبل بقلوبكم ويردكم الى خير مما انتم عليه من اموركم، فقالوا كلنا قتلناهم وكلنا مستحلون لدمائكم ودمائهم !. فخرج قيس بن سعد بن عبادة فقال لهم: عباد الله ! اخرجوا لنا قتلة اخواننا منكم وادخلوا في هذا الأمر الذي خرجتم منه وعودوا الى قتال عدونا وعدوكم فانكم قد ركبتم عظيما من الأمر تشهدون علينا بالشرك وتسفكون دماء المسلمين، فقال عبد الله ابن سمرة السلمي ان الحق قد أضاء لنا، فلسنا نبايعكم. ثم أن أمير المؤمنين عليه السلام خرج إليهم بنفسه فقال لهم: أيتها العصابة التي اخرجها عداوة المراء واللجاج، ان انفسكم الامارة سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم أبتدئتموها وسألتموها وأنا لها كاره، وأنبأتكم ان القوم إنما فعلوه مكيدة فأبيتم إلي إباء المخالفين وعندتم علي عناد العاصين حتى صرفت رأيي الى رأيكم واني معاشرهم، والله صغار الهام سفهاء الاحلام، فأجمع رأي رؤوساءكم وكبرائكم ان اختاروا رجلين ! فأخذنا عليهما ان يحكما بالقرآن ولا يتعديانه فتاها وتركا الحق وهما يبصرانه ! فبينوا لنا بما تستحلون قتالنا والخروج عن جماعتنا ! ثم تعترضون الناس تضربون اعناقهم ان هذا لهو الخسران المبين، فنادوا لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقتال الرواح الرواح الى الجنة. فرجع عليه السلام عنهم الى أصحابه. ثم عبأ لهم للقتال فجعل على ميمنته حجر ابن عدي وعلى ميسرته معقل بن قيس وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري وعلى الرجالة أبا قتادة الانصاري وفي مقدمتهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري.
[ 258 ]
وعبأت الخوارج لعنهم الله تعالى انصارهم واصحابهم فجعلوا على ميمنتهم زيد بن قيس الطائي وعلى ميسرتهم شريح بن اوفى العبسي وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي وعلى رجالتهم حرقوص بن زهير السعدي. وأعطى أمير المؤمنين " ع " لأبي أيوب الانصاري راية أمان، فناداهم أبو أيوب من جاء الى هذه الراية فهو آمن ممن لم يكن قتل ولا تعرض لاحد من المسلمين بسوء ومن انصرف منكم الى الكوفة فهو آمن، ومن انصرف الى المدائن فهو آمن لا حاجة لنا بعد ان نصيب قتلة إخواننا في سفك دمائكم، فانصرف عروة بن نوفل الاشجعي في خمسمائة فارس، وخرج طائفة اخرى منصرفين الى الكوفة، وطائفة اخرى الى المدائن، وتقرق اكثرهم بعد ان كانوا اثني عشر الفا، فلم يبق منهم غير اربعة آلاف ! فزحفوا الى أمير المؤمنين (ع) وأصحابه. فقال عليه السلام لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤكم، فنادوا الرواح الرواح الى الجنة، فحملوا على الناس، فتفرق خيل أمير المؤمنين (ع) فرقتين حتى صاروا بينهم. عطفوا عليهم من الميمنة والميسرة واستقبلت الرماة وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الرجالة بالسيوف والرماح، فما كان بأسرع من ان قتلوهم عن آخرهم، وكانوا اربعة آلاف، فلم يفلت منهم إلا تسعة أنفس لا غير، وغنم أصحاب أمير المؤمنين (ع) غنائم كثيرة، وقتل من شيعة علي عليه السلام رجلان، ولم يسلم من الخوارج المقتولين غير التسعة. وهذه كرامة من كرامات أمير المؤمنين (ع) حيث قال قبل ذلك: نقتلهم ولا يقتل منا عشرة ولا يسلم منهم عشرة. قال أبن الأثير: قد روى جماعة: ان عليا عليه السلام كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج لعنهم الله: ان قوما يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية علامتهم رجل مخدع اليد، سمعوا ذلك منه مرارا. فلما خرج اهل النهروان وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه ان يطلبوا المخدع ؟ فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: ما هو فيهم وهو
[ 259 ]
يقول: والله انه لفيهم، والله ما كذبت ولا كذبت، ثم انه جاء رجل فبشره، فقال يا أمير المؤمنين (ع) قد وجدناه. وقيل: بل خرج علي عليه السلام بنفسه في طلبه قبل ان يبشره الرجل ومعه سليم بن ثمامة الحنفي بن صبره فوجدوه على شاطئ النهر في خمسين قتيلا، فلما إستخرجه نظر الى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت إمتدت حتى تحاذي يده الطولي ثم تترك فتعود الى منكبيه. فلما رآه قال: الله أكبر ما كذبت ولا كذبت لولا ان تكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قص الله على لسان نبيه لمن قاتلهم مستبصرا في قتالهم عارفا للحق الذي نحن عليه. وقال عليه السلام حين مر بهم وهم صرعى: بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم، قالوا: يا أمير المؤمنين (ع) من غرهم ؟ قال: الشيطان وأنفس أمارة بالسوء، غرتهم بالاماني وزينت لهم المعاصي ونبأتهم انهم ظاهرون. قيل: وما أخذ مما في عسكرهم من شئ، فأما السلاح والدواب وما شهر عليه فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والاماء والعبيد فانه رده على أهله حين قدم.