المجلس السابع

في كيفية شهادته ووصيته وغسله وكفنه والصلاة عليه عليه السلام ودفنه

 

وبعض قصائد رثي بها عليه السلام وأحوال قاتله لعنه الله والوقائع المتأخرة عن قتله وظهوره قبره ايام الرشيد والسفاح وكرامات ظهرت عند ضريحه المقدس وذكر بعض ما جاء في فضل أرض النجف وفضل زيارته عليه السلام وأحوال أزواجه وأولاده ومشاهير أصحابه (ع) وفيه ثلاثة ابواب،

الباب الاول

وفيه فصلان:


[ 366 ]

الفصل الاول في كيفية شهادته ووصيته وغسله وكفنه والصلاة عليه ودفنه (ع) :

لما فرغ أمير المؤمنين (ع) من قتال الخوارج عاد الى الكوفة في شهر رمضان، وقام في المسجد وصلى ركعتين، ثم صعد المنبر فخطب خطبة حسناء، ثم إلتفت الى ولده الحسن (ع) فقال: يا أبا محمد كم مضى من شهرنا هذا ؟ فقال: ثلاثة عشر يا أمير المؤمنين ثم سأل الحسين (ع) فقال: يا ابا عبد الله كم بقي من شهرنا هذا ؟ فقال: سبعة عشر يا أمير المؤمنين، فضرب (ع) يده الى لحيته وهي يومئذ بيضاء فقال: والله ليخضبنها بدمها إذ انبعث اشقاها، ثم قال (عليه السلام):

اريد حياته ويريد قتلي * * عذيرك من خليلك من مرادي

وكان عبد الرحمن بن ملجم يسمع فوقع في قلبه من ذاك شئ، فجاء حتى وقف بين يدي أمير المؤمنين (ع) وقال اعيذك بالله يا أمير المؤمنين هذه يميني وهذه شمالي بين يديك فاقطعهما أو فاقتلني، فقال (ع): وكيف اقتلك ولا ذنب لك إلي ولو أعلم انك قاتلي لم اقتلك، ولكن هل كانت لك حاضنة يهودية، فقالت لك يوما من الايام يا شقيق عاقر ناقة ثمود ؟ قال قد كان ذلك، فسكت علي (ع) قال المفيد (ره): ومن الأخبار الواردة بسبب قتله (ع) ما رواه جماعة من أهل السير، منهم: أبو مخنف واسماعيل بن راشد الرفاعي وابو عمرو الثقفي وغيرهم: ان نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا الامراء فعابوهم وعابوا اعمالهم وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم ! وقال بعضهم لبعض لو انا شرينا انفسنا لله فاتينا أئمة الضلال فطلبنا غرتهم فارحنا منهم العباد والبلاد واخذنا ثار اخواننا الشهداء بالنهروان فتعاهدوا عند انقضاء الحج على ذلك ! فقال عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله انا اكفيكم عليا، وقال البرك بن عبد الله التميمي انا اكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التيمي انا اكفيكم عمرو بن العاص، وتعاقدوا على ذلك وتواثقوا على الوفاء واتعدوا الشهر رمضان في ليلة تسع عشرة منه، ثم تفرقوا.


[ 367 ]

فاقبل ابن ملجم لعنه الله وكان عداده في كندة حتى قدم الكوفة فلقى بها اصحابه فكتمهم امره مخافة ان ينتشر منه شئ، فهو في ذلك إذ زار رجلا من اصحابه ذات يوم من تيم الرباب فصادف عنده قطام بنت اخضر التيمية، وكان أمير المؤمنين (ع) قتل اباها واخاها بالنهروان، وكانت من أجمل النساء، فلما رآها ابن ملجم لعنه الله، شغف بها واشتد اعجابه، فسأل في نكاحها وخطبها ! فقالت له ما الذي تسمى لي من الصداق ؟ فقال لها احتكمي ما بدا لك ؟ فقالت له انا محكمة عليك ثلاثة آلاف درهم ووصيفا وخادما وقتل علي بن أبي طالب ! قال فانى لي بذلك، فقالت تلتمس غرته فان انت قتلته شفيت نفسي وهناك العيش معي، وان قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا فقال انا والله ما اقدمني هذا المصر وقد كنت هاربا منه لا آمن من اهله إلا ما سألتيني من قتل علي بن أبي طالب فلك ما سألت ! قالت فانا طالبة لك بعض من يساعدك على ذلك ويقويك ! ثم بعثت الى وردان بن خالد من تيم الرباب فخبرته الخبر وسألته المعاونة لابن ملجم، فاحتمل ذلك لها. فخرج ابن ملجم فاتى رجلا من اشجع يقال له شبيب بن بحرة فقال له يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟ ! قال وما ذاك ؟ قال تساعدني على قتل علي بن أبي طالب وكان شبيب على رأي الخوارج، فقال له يابن ملجم هبلتك الهبول لقد جئت شيئا ادا وكيف نقدر على ذلك ؟ فقال له ابن ملجم نكمن له في المسجد الاعظم فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به ! فان نحن قتلناه شفينا انفسنا وادركنا ثارنا ! فلم يزل به حتى اجابه ! فاقبل معه حتى دخل المسجد على قطام وهي معتكفة في المسجد الأعظم قد ضربت عيلها قبة ! فقال لها قد اجتمع رأينا على هذا الرجل فقالت لهما فإذا اردتما ذلك فأتياني في هذا الموضع، فانصرفا من عندها. فلبثا اياما ثم اتياها ومعهما الآخر ليلة الأربعاء لتسع عشرة ليلة خلون من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة، فدعت لهم بحرير فعصبوا به صدورهم وتقلدوا سيوفهم ومضوا فجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين (ع) الى الصلاة ! وقد كانوا قبل ذلك القوا الى الاشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل


[ 368 ]

أمير المؤمنين (ع) وواطاهم على ذلك ! وحضر الاشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه. وكان حجر بن عدي (ره) تلك الليلة بائتا في المسجد، فسمع الاشعث بن قيس يقول لابن ملجم النجا النجا لحاجتك فقد فضحك الصبح ؟ فأحس حجر بما اراد الاشعث فقال له: قتلته يا اعور، وخرج مبادرا ليمضي الى أمير المؤمنين (ع) فيخبره ويحذره من القوم، فخالفه أمير المؤمنين (ع) فدخل المسجد، فسبقه ابن ملجم لعنه الله فضربه بالسيف ! فأقبل حجر والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين (ع). قال المفيد (ره): وذكر محمد بن عبد الله بن محمد الازدي قال: اني لاصلي تلك الليلة في المسجد الاعظم مع رجال من اهل المصر كانوا من اول الشهر الى آخره في المسجد الاعظم إذ نظرت الى رجال يصلون قريبا من السدة، وخرج علي بن أبي طالب للصلاة، فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة، فما ادري أنادى أم رأيت بريق السيوف، وسمعت قائلا يقول الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك ! وسمعت عليا يقول: لا يهولنكم الرجل، فإذا علي (ع) مضروب وقد ضربه شبيب فأخطأه ووقعت ضربته في الطاق وهرب القوم نحو ابواب المسجد ! وتبادر الناس لاخذهم. فأما شبيب بن بحرة فأخذه رجل فصرعه وجلس على صدره واخذ السيف من يده يقتله، ومضى شبيب هاربا حتى دخل على ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره، فقال له: ما هذا، لعلك قتلت أمير المؤمنين ؟ فأراد ان يقول لا فقال نعم، فمضى ابن عمه واشتمل على سيفه ودخل عليه وضربه حتى قتله. واما ابن ملجم لعنه الله تعالى فان رجلا من همدان لحقه فطرح عليه قطيفة كانت في يده ثم صرعه واخذ السيف من يده جاء به الى أمير المؤمنين، وأفلت الثالث ! فانسل بين الناس. فلما دخل ابن ملجم على أمير المؤمنين نظر إليه فقال عليه السلام: إن أنا مت فالنفس بالنفس، فاقتلوه كما قتلني، وان سلمت رأيت فيه رأيي، فقال ابن ملجم والله


[ 369 ]

لقد ابتعته بألف، فان خانني فابعده الله. قال: ونادته ام كلثوم: يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين، قال انما قتلت أباك، قالت يا عدو الله اني لأرجو ان لا يكون عليه بأس، قال لها إذن أراك انما تبكين علي أما والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الارض لاهلكتهم. فاخرج من بين يدي أمير المؤمنين (ع) وان الناس ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم سباع وهم يقولون: يا عدو الله ماذا صنعت أهلكت امة محمد (ص) وقتلت خير الناس وانه لصامت لم ينطق، فذهب به الى الحسن، وجاء الناس الى أمير المؤمنين (ع) وقالوا يا أمير المؤمنين مرنا بأمرك في عدو الله فقد اهلك الأنام وافسد المرام ؟ قال لهم أمير المؤمنين (ع): إن عشت رأيت فيه رأيي، وان هلكت فاصنعوا به مثلما يصنع بقاتل النبي اقتلوه، ثم احرقوه بعد ذلك بالنار. أقول: واما صاحب معاوية فانه قصده، فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته على إليته، فجاء الطبيب إليه، فنظر الى الضربة فقال ان السيف مسموم، فاختر اما ان احمي لك حديدة فاجعلها في الضربة، واما ان اسقيك دواء فتبرء وينقطع نسلك فقال أما النار فلا اطيقها ! واما النسل ففي يزيد الكفاية ! وفي عبد الله ما يقر عيني فسقاه الدواء فعوفى ولم يولد له بعد ذلك. وقال البرك بن عبد الله ان لك عندي بشارة، قال وما هي ؟ قال قتل علي (ع) فلما اتاه الخبر بان عليا (ع) قتل خلى سبيله !. واما صاحب عمرو بن العاص فانه وافاه في تلك الليلة وقد وجد علة فاستخلف رجلا يصلي بالناس يقال له خارجة بن ابي حبيبة، فخرج للصلاة فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف فاثبته واخذ الرجل فأتى به عمرو بن العاص فقتله ودخل من غد الى خارجة وهو يجود بنفسه، فقال اما والله يا ابا عبد الله انه ما اراد خارجة وما اراد غيرك قال عمرو ولكن الله اراد خارجة. قال المفيد (ره): ومن الأخبار التي جاءت بموضع قبر أمير المؤمنين (ع) وشرح الحال في دفنه ما رواه عباد بن يعقوب الرواجني قال: حدثنا حيان بن علي


[ 370 ]

العبري قال: حدثني مولى لعلي بن أبي طالب (ع) قال: لما حضرت أمير المؤمنين (ع) الوفاة قال للحسن والحسين عليهما السلام: إذا أنا مت فاحملاني على سرير ثم اخرجاني واحملا مؤخر السرير فانكما تكفيان مقدمه ثم أتيا بي الغريين فانكما ستريان صخرة بيضاء تلمع نورا فاحتفرا فيها فانكما ستجدان ساحة وادفناني فيها. قال: فلما مات (ع) أخرجناه وجعلنا نحمل مؤخره السرير ونكفى مقدمه، وجعلنا نسمع دويا وحفيفا حتى رأينا الغريين فإذا صخرة بيضاء تلمع نورا فاحتفرنا فإذا ساحه مكتوب عليها: (هذا مما إدخرها نوح لعلي بن أبي طالب ع " فدفناه فيها، فانصرفنا مسرورين باكرام الله تعالى لأمير المؤمنين " ع " فلحقنا قوم من الشيعة لم يشهدوا الصلاة عليه، فأخبرناهم بما جرى وباكرام الله أمير المؤمنين " ع "، قالوا نحب ان نعاين من أمره ما عاينتم ؟ فقلنا ان الموضع قد عفي أثره بوصية أمير المؤمنين " ع " فمضوا وعادوا الينا، فقالوا انهم احتفروا ! فلم يجدوا شيئا، قال (ره): عن محمد بن عبد الله بن محمد الازدي في خبر قال: فلما قضى أمير المؤمنين " ع " نحبه وفرغ أهله من دفنه أمر الحسن " ع " ان يؤتى بابن ملجم فلما وقف بين يديه امر به فضربت عنقه واستوهبت منه ام الهيثم بنت الاسود النخعية جيفته لتتولى إحراقها ؟ فوهبها لها فأحرقتها. اقول: والرواية مشهورة في شهادته " ع " وهي الجامعة بين روايات عديدة، روى بعضها المجلسي (ره): في (بحار الانوار) وعبد الحميد بن ابي الحديد في (شرح النهج) وغيرهم في غيرها عن لوط بن يحيى الازدي وغيره من مشايخ الكوفة. ورويت أيضا عن ابي الحسن البكري عن ابي مخنف واستغنينا عن الأسانيد لشهرتها. قال لوط بن يحيى واللفظ له في أغلب الأماكن: قالت ام كلثوم: كان أمير المؤمنين " ع " يفطر في شهر رمضان الذي قتل فيه ليلة عند الحسن وليلة عن الحسين وليلة عند ام كلثوم، قالت ام كلثوم: لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدمت إليه عند إفطاره طبقا فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش، فلما


[ 371 ]

فرغ من صلاته اقبل على فطوره، فلما نظر إليه وتأمله حرك رأسه وبكى بكاء شديدا عاليا وقال: يا بنية ما ظننت ان بنتا تسوء أباها كما اسأت انت إلي، قالت: وماذا يا أبا ؟ قال: أتقدمين الى أبيك أدامين في طبق واحد، أتريدين ان يطول وقوفي غدا بين يدي ربي عز وجل يوم القيامة، أنا اريد ان اتبع أخي وإبن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قدم إليه أدامان في طبق واحد الى ان قبضه الله تعالى إليه. يا بنية: ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلا طال وقوفه بين يدي الله عز وجل يوم القيامة. يا بنية: ان الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب. يا بنية: قد اخبرني حبيبي رسول الله (ص): ان جبرئيل نزل إليه ومعه مفاتيح كنوز الأرض وقال: يا محمد ربك يقرؤك السلام ويقول: ان شئت سيرت معك جبال تهامة ذهبا وفضة وهذه مفاتيح كنوز الأرض ولا ينقص من حظك يوم القيامة، قال: يا جبرئيل وما يكون بعد ذلك ؟ قال: الموت، فقال: إذن لا حاجة لي في الدنيا، دعني اجوع يوما واشبع يوما، فاليوم الذي اجوع فيه أتضرع الى ربي وأسأله، واليوم الذي اشبع فيه أشكر ربي وأحمده، فقال له جبرئيل: وفقت لكل خير ثم قال " ع ": يا بنية الدنيا دار غرور ودار هوان، فمن قدم شيئا وجده. يا بنية: والله لا آكل شيئا حتى ترفعين احد الأدامين، فلما رفعته تقدم الى الطعام فأكل قرصا واحدا بالملح الجريش، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قام الى مصلاه فلم يزل راكعاا وساجدا ومبتهلا ومتضرعا الى الله سبحانه، وكان يكثر من الدخول والخروج وينظر الى السماء فيقول: والله هي، ثم يرجع الى مصلاه وهو قلق يتململ ثم يقرأ سورة يس حتى ختمها، فرقد هنيئة وإنتبه مرعوبا وجعل يمسح وجهه بثوبه ونهض قائما على قدميه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم صلى حتى مضى بعض الليل، ثم جلس للتعقيب، ثم نامت عيناه وهو جالس، ثم إنتبه من نومه مرعوبا. قالت ام كلثوم: كأني به قد جمع أولاده وأهله وقال لهم: في هذا الشهر


[ 372 ]

تفقدوني، اني رأيت في هذا الليلة رؤيا أهالتني واريد ان أقصها عليكم: رأيت في هذه الساعة رسول الله (ص) في منامي وهو يقول: يا أبا الحسن انك قادم الينا عن قريب يجيئ اليك اشقاها فيخضب هذه - شيبتك من دم رأسك خ ل - من هذا، وأنا والله مشتاق اليك، فهلم الينا فما عندنا خير وأبقى، فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر. قالت ام كلثوم: ولم يزل تلك الليلة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كذبت ولا كذبت، انها الليلة التي وعدت، ثم يعود الى مصلاه ويقول: اللهم بارك لي في الموت، ويكثر من قول لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصلي على النبي وآله ويستغفر الله كثيرا. قالت ام كلثوم: فلما رأيته في تلك الليلة قلقا متململا كثير الذكر والاستغفار، أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه ما لي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد ؟ قال: يا بنية ان أباك قتل الابطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوف، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت: يا أبتاه ما لك تنعى نفسك منذ الليلة ؟ قال: يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل قالت ام كلثوم: فبكيت، فقال: يا بنية لا تبكين، فاني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (ص) ثم انه نعس وطوى ساعة، ثم استيقظ من نومه، وقال: يا بنية إذا قرب وقت الأذان فاعلميني، ثم رجع " ع " الى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع الى الله سبحانه. قالت ام كلثوم: فجعلت أرقب وقت الأذان، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقضته فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثم نزل الى الدار وكان في الدار أوز قد اهدي الى أخي الحسين (ع) فلما نزل خرجن ورائه وصحن في وجهه، وكن قبل تلك الليل لم يصحن، فقال (ع): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها


[ 373 ]

نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء، فقلت له: يا أبة هكذا تتطير، قال: يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به، ولكن قول جرى على لساني. ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، فقد حبست ما ليس له لسان، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش فاطعميه واسقيه، وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض، فلما وصل الى الباب عالجه ليفتحه، تعلق الباب بمئزره فانحل مئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:

اشدد حيازيمك للموت * * فان الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت * * إذا حل بناديك

ولا تغتر بالدهر * * وان كان يواتيك

كما أضحككك الدهر * * كذاك الدهر يبكيك

ثم قال: اللهم بارك لي في الموت. قالت ام كلثوم: وكنت أمشي خلفه، فلما سمعته يقول ذلك قالت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة، قال: يا بنية ما هو بنعاء، ولكن دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضا، فأمسكت عن الجواب، ثم فتح الباب وخرج. قالت ام كلثوم: فجئت الى أخي الحسن " ع " فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا، وقد خرج في هذا الليل الغلس، فقام الحسن (ع) وتبعه فلحق به قبل ان يدخل الجامع، فقال: يا أباه ما أخرجك في هذه الساعة وقد بقى من الليل ثلثه، فقال: يا حبيبي وقرة عيني خرجت لرؤيا رأيتها في هذه الليلة أهالتني وأزعجتني وأقلقتني، فقال له: خيرا رأيت وخيرا يكون فقصها علي ؟ فقال: يا بني رأيت كأن جبرئيل (ع) قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس فتناول منه حجرين ومضى بهما الى الكعبة وتركهما على ظهرها وضرب أحدهما على الآخر فصارت كالرميم ثم ذرهما في الريح، فما بقي بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد، فقال: له يا أبة ما تأويلها ؟ فقال: يا بني إن صدقت رؤياي فان أباك مقتول، ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ويدخله من ذلك غم ومصيبة من أجلي، فقال الحسن (ع): وهل تدري متى يكون


[ 374 ]

ذلك يا أبة ؟ قال: يا بني ان الله يقول: " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت " ولكن عهد إلي حبيبي رسول الله (ص) انه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان ويقتلني ابن ملجم المرادي، فقال الحسن (ع): يا أبتاه إذا علمت ذلك منه فاقتله، قال يا بني لا يجوز القصاص إلا بعد الجناية والجناية لم تحصل منه، يا بني لو اجتمع الانس والجن على ان يدفعوا ذلك لما قدروا، يا بني ارجع الى فراشك، فقال الحسن يا أبتاه اريد أمضي معك الى موضع صلاتك، فقال له اذهب بحقي عليك ونم في فراشك لئلا ينتغص عليك نومك. فرجع الحسن فوجد اخته ام كلثوم قائمة خلف الباب تنتظره، فدخل فأخبرها بالخبر وجلسا يتحادثان وهما محزونان حتى غلب عليهما النعاس، فقام كل واحد منهما ودخل في فراشه ونام. قال أبو مخنف وغيره: وسار أمير المؤمنين (ع) حتى دخل المسجد والقناديل قد خمد ضوئها فصلى في المسجد ورده وعقب ساعة، ثم اته قام وصلى ركعتين، ثم علا المأذنة ووضع سبابته في اذنيه وتنحنح، ثم أذن، وكان (ع) إذا تنحنح تضطرب الحيطان، وإذا أذن لم يبق في بلدة الكوفة بيت إلا إخترقه صوته (ع). قال راوي الحديث ! واما ابن ملجم لعنه الله فبات في تلك الليلة يفكر في نفسه ولا يدري ما يصنع ! فتارة يذكر قطام لعنها الله وحسنها وجمالها وكثرة مالها فتميل نفسه إليها ! وتارة يعاتب نفسه ويوبخها وتارة يخاف عقبى فعله ويهم ان يرجع، فبقى عامة ليله يتقلب في فراشه وهو يترنم بقوله :

ثلاثة آلاف وعبد وقينة * * وضرب علي بالحسام المسمم

فلا مهر أغلى من قطام وان غلى * * ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم

فاقسمت بالبيت الحرام ومن اتى * * إليه ولي من محل ومحرم

لقد فسدت عقلي قطام وانني * * لمنها على شك عظيم مذمم

لقتل علي خير من وطأ الثرى * * أخي العلم الهادي النبي المكرم

لقد خاب من يسعى بقتل إمامه * * وويل له من حر نار جهنم


[ 375 ]

فبينما هو في هذه الحالة إذ أتته الملعونة قطام ونامت في فراشه وقالت له يا هذا من يكون على هذا العزم لا يرقد، فقال والله انى اقتله الساعة وارجع إلي قرير العين مسرورا وافعل ما تريد فاني منتظرة لك. قال فوثب لعنه الله كأنه الفحل من الابل وقال هلمي الي بالسيف ثم اته اتزر بميزر واتسح بازار وجعل السيف تحت الازار مع بطنه وقال افتحي لي الباب ففي هذه الساعة اقتله ! فقامت فرحة مسرورة وقبلت صدره وبقى يقبلها ويترشفها ثم راودها عن نفسها ! فقالت له هذا علي أقبل الى الجامع وأذن فقم إليه فاقتله، ثم عد الي فها انا منتظرة رجوعك، فخرج من الباب وهي خلفه تحرضه بهذه الابيات (1).

أقول إذا ما حية اعيت الوفا * * وكان زعاق الموت منه شرابها

دسسنا إليها في الظلام ابن ملجم * * همام إذا ما الحرب شب التهابها

فخذها على فوق رأسك ضربة * * بكف سعيد سوف يلقى توابها

قال الراوي: فألتفت إليها وقال لها بل بكف شقي سوف يلقى عقابها. قال جامع الكتاب عفى عنه: هكذا روي، والصحيح المشهور في الكتب ان ابن ملجم لعنه الله بات في المسجد ومعه رجلان احدهما شبيب بن بحيرة والثاني وردان بن مجالد يساعدانه على قتل أمير المؤمنين " ع " وأصبحوا معهم اشعث بن قيس وغيره في رواية جماعة. قال الراوي: فلما نزل الامام " ع " من المأذنة جعل يسبح الله ويقدسه ويكثر من الصلاة على النبي (ص) وكان من كرم أخلاقه عليه السلام انه يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة يرحمك الله الصلاة قم الى الصلاة المكتوبة عليك، ثم يتلو عليه السلام: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ففعل ذلك كما كان يفعله على جاري عاداته مع النائمين في المسجد، حتى إذا بلغ الى اللعين رآه نائما على وجهه، قال له يا هذا قم من نومتك هذه، فانها نومة يمقتها الله تعالى وهي نومة الشياطين، ونومة اهل * هامش (1) * اقول إذا... الخ هذه الابيات تنسب الى بعض الخوارج، وقيل انها لعمران بن حطان.


[ 376 ]

النار، بل نم على يمينك فانها نومة العلماء، أو على يسارك فانها نومة الحكماء، أو على ظهرك فانها نومة الأنبياء. قال: فتحرك لعنه الله كأنه يريد ان يقوم وهو في مكانه، فقال له أمير المؤمنين (ع) لقد هممت بشئ (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا) ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك، ثم تركه وعدل عنه الى محرابه وقام قائما يصلي. وكان (ع) يطيل الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضرا قلبه، فلما احس اللعين به نهض مسرعا، فأقبل يمشي حتى وقف بأزاء الاسطوانة التي كان الامام عليه السلام يصلي عليها فامهله حتى صلى الركعة الاولى وركع الثانية وسجد السجدة الثانية، فعند ذلك اخذ السيف وهزه ثم ضربه على رأسه الشريف ! ! فوقعت الضربة على الضربة التي ضربه عمرو بن ود العامري ! ثم اخذت الضربة من مفرق رأسه الى موضع السجود ! فلما أحس " ع " لم يتأوه وصبر، فوقع على وجهه قائلا: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ثم صاح وقال: قتلني ابن ملجم، قتلني ابن اليهودية، فزت ورب الكعبة، أيها الناس لا يفوتنكم ابن ملجم، وسار السم في رأسه وبدنه، وثار جميع من في المسجد في طلب اللعين وماجوا بالسلاح. قال الراوي: فما كنت ارى إلا صفق الأيدي على الهامات وعلو الصراخات وكان ابن ملجم لعنه الله ضربة ضربة خائفا مرعوبا ! ثم ولى هاربا وخرج من المسجد وأحاط الناس بأمير المؤمنين وهو في محرابه يشد الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها، ثم تلا قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى ". ثم قال " ع ": جاء أمر الله وصدق رسول الله (ص)، ولما ضربه اللعين إرتجت الارض وماجت البحار والسماوات واصطفت أبواب المسجد وهبت ريح سوداء مظلمة. قال: وضربه اللعين شبيب بن مرة فأخطأه ووقعت الضربة في الطاق. قال الراوي: فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كل من كان في المسجد وصاروا


[ 377 ]

يدورون ولا يدرون اين يذهبون من شدة الصدمة والدهشة، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين (ع) وهو يشد رأسه بمئزره والدم يجري على وجهه ولحيته وقد خضبت بدمائه وهو يقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله. قال الراوي: واصطفقت أبواب الجامع وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف سوداء مظلمة ونادى جبرئيل بين السماء والارض بصوت يسمعه كل مستيقظ تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل إبن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل والله سيد الأوصياء، قتله اشقى الاشقياء. قال: فلما سمعت ام كلثوم نعي جبرئيل (ع) لطمت على وجهها وشقت جيبها وصاحت: وا أبتاه وا علياه وا محمداه وا سيداه، ثم أقبلت الى أخويها الحسن والحسين علهيما السلام فأيقظتهما وقالت لهما: والله قتل أبوكما، فقاما يبكيان، فقال لها الحسن (عليه السلام): يا اختاه كفي عن البكاء حتى ننظر صحة الخبر، كي لا تشمت الاعداء فخرج (عليه السلام) وإذا بالناس ينوحون وينادون: وا إماماه وا أمير المؤمنيناه، قتل والله امام عابد مجاهد لم يسجد لصنم كان أشبه الناس برسول الله، فلما سمع الحسن والحسين (ع) صرخات الناس ناديا: وا أبتاه وا علياه، ليت الموت أعدمنا الحياة وألقيا العمائم من رؤوسهما. فلما وصلا الجامع وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعة من الناس وهم مجتهدون ان يقيموا الامام في المحراب ليصلي بالناس، فلم يطق النهوض وتأخر عن الصف وتقدم الحسن (ع) فصلى بالناس، وأمير المؤمنين " ع " يصلي إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته الشريفة، يميل تارة ويسكن اخرى، والحسن " ع " ينادي: وا انقطاع ظهراه، يعز والله علي ان أراك هكذا، ففتح عينيه وقال: يا بني لا تجزع على أبيك، هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وامك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك، فطب نفسا وقر عينا، فكف عن البكاء، فان الملائكة قد ارتفعت أصواتهم الى السماء.


[ 378 ]

قال: ثم ان الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدورهن الى الجامع وهم ينظرون الى أمير المؤمنين (ع) فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن عليه السلام ورأس أبيه في حجره وقد غسل الدم عنه وشد الضربة، وهي تشخب دما ووجهه (ع) قد زاد بياضا بصفرة وهو يرمق السماء بطرفه ولسانه يسبح الله ويوحده وهو يقول: أسألك يا رب الرفيع الأعلى، وغشي عليه، فصاح الحسن " ع ": وا أبتاه وجعل يبكي بكاء عاليا، ففتح عينيه فرأى الحسن باكيا فقال يا بني أنجزع على أبيك وغدا تقتل بعدي مصموما ومظلوما، ويقتل أخوك بالسيف وتلحقان بجدكما وأبيكما وامكما ؟ فقال له الحسن يا أبتاه أما تعرفنا من قتلك ومن فعل بك هذا ؟ قال: قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم المرادي، فقال: يا أبتاه من أي طريق مضى ؟ فقال " ع " لا يمضي احد في طلبه، فانه سيطلع عليكم من هذا الباب - وأشار بيده الشريفة الى باب كندة -. قال: ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه، ثم أغمي عليه ساعة والناس ينظرون قدوم الملعون واشتغلوا بالنظر الى باب كندة وقد غص بهم الجامع وهم ما بين باك وباكية فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت وزمرة من الناس قد جاؤا بعدو الله ابن ملجم مكتوفا هذا يلعنه وهذا يضربه وهذا يبصق في وجهه. قال: فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه، وأقبلوا به لعنه الله وهم ينهشون لحمه بأسنانهم ويقولون له: يا عدو الله ماذا صنعت اهلكت امة محمد (ص) ؟ وقتلت خير الناس، وانه لصامت وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور برد الناس عن قتله وهو يقول هذا قاتل الامام أمير المؤمنين علي " ع " حتى أدخلوه المسجد وأوقفوه بين يدي الامام " ع "، فلما نظر إليه الحسن (ع) قال له ويلك يا عدو الله أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا امام المسلمين، هذا جزاؤه منك حيث آواك وداناك هل كان بئس الامام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي الاشقياء، فقال له اللعين يا أبا محمد فأنت تنقذ من في النار. فعند ذلك ضجت الناس بالبكاء والنحيب، فأمرهم الحسن (ع) بالسكوت، ثم


[ 379 ]

التفت الى حذيفة النخعي الذي جاء بعدو الله فقال له: كيف ظفرت به واين لقيته ؟ ؟ قال يا مولاي ان حديثي معه لعجيب، وذلك اني كنت البارحة نائما في داري وزوجتي الى جانبي وأنا راقد وهي مستيقظة إذ سمعت هي الزعقة وناديا ينعى أمير المؤمنين (ع) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى، قتل ابن عم المصطفى، قتله اشقى الاشقياء، فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم وقد قتل امامك علي بن أبي طالب، فانتبهت من كلامها فزعا مرعوبا، وقلت لها يا ويلك ما هذا الكلام فض الله فاك، لعل الشيطان القى في سمعك هذا أو حلم القى عليك، ان أمير المؤمنين (ع) ليس لاحد من خلق الله تبعة ولا ظلامة، وانه لليتيم كالأب الرؤف، وللأرملة كالزوج العطوف وبعد ذلك فمن الذي يقدر على قتل أمير المؤمنين (ع) وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام، فبينما أنا وهي مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وقائل يقول قتل أمير المؤمنين ! فنهضت من مكاني ومددت يدي الى سيفي وسللته من غمده وأخذته ونزلت مسرعا وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يمينا وشمالا وإذا بعدو الله يجول فيها يطلب مهربا فلم يجد، وقد انسد الطرقات في وجهه فلما نظرته كذلك راثي امره وناديته ويلك من أنت وما تريد في وسط هذا الدرب تروح وتجيئ، فتسمى بغير اسمه وانتمى الى غير كنيته ! فقلت له من أين اقبلت ؟ قال من منزلي، قلت والى اين تريد في هذا الوقت ؟ قال الى الحيرة، فقلت ولم لا تقعد حتى تصلي مع أمير المؤمنين " ع " صلاة الغداة وتمشي في حاجتك، قال اخشى ان اقعد للصلاة فتفوت حاجتي، فقلت يا ويلك اني سمعت صيحة وقائلا يقول قتل أمير المؤمنين " ع " فهل عندك من ذلك خبر ؟ قال لا علم لي بذلك ! قلت ولم لا تمضي معي تحقق الخبر ؟ فقال انا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك ؟ فقلت لا ام لك حاجتك احب اليك من التجسس لأمير المؤمنين وامام المسلمين، إذن والله يالكع الرجال ما لك عند الله من خلاق، وحملت عليه بسيفي وهممت ان أعلوه، فراغ عني. فبينما انا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت أزاره وإذا بسيف يلمع تحت الازار كأنه مرآة مصقولة، فلما رأيت بريقه قلت ويلك ما هذا السيف المشهور


[ 380 ]

تحت ثيابك لعلك انت قاتل أمير المؤمنين، فأراد ان يقول لا فأنطق الله لسانه ؟ فقال نعم ! فرفعت سيفي وضربته فرفع هو سيفه وهم ان يعلوني فضربته على ساقيه فأوقفته ووقع لحينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت اخذ سيفه فمانعني عنه فخرج أهل الجادة فأعانوني عليه حتى أوثقته كتافا، وجئتك به فها هو بين يديك، جعلني الله فداك، فاصنع به ما شئت. فقال الحسن " ع ": الحمد لله الذي نصر وليه وخذل وليه، ثم انكب على أبيه " ع " يقبله وقال له: يا أبتاه هذا عدو الله وعدوك قد أمكن الله منه، فلم يجبه، وكان نائما فكره ان يوقظه، ثم فتح عينيه وهو يقول: ارفقوا بي يا ملائكة ربي، فقال الحسن " ع " هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك. قال: ففتح " ع " عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه في عنقه، فقال له بضعف وانكسار وصوت رأفة ورحمة: يا هذا لقد ارتكبت امرا عظيما وخطبا جسيما، أبئس الامام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ ألم أكن شفيقا عليك وآثرتك، على غيرك ؟ وأحسنت اليك وزدت في عطائك ؟ ألم يكن لي فيك كذا وكذا ؟ وخليت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم انك قاتلي لا محالة ؟ ولكن رجوت الاستظهار من الله تعالى عليك يالكع، وعلى ان ترجع عن غيك، فغلبت عليك الشقاوة فتقتلني يا شقي الاشقياء. قال: فدمعت عينا ابن ملجم لعنه الله وقال يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار ؟ قال له صدقت. ثم التفت الى ولده الحسن " ع " وقال له: ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه واحسن إليه، ألا ترى الى عينيه قد طارتا في ام رأسه وقلبه يرجف خوفا ورعبا وفزعا ؟ فقال له الحسن " ع " يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به ؟ فقال له: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على المذنب علينا إلا كرما وعفوا الرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقي عليك إطعمه يا بني مما تأكل وإسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فان أنا مت فاقتص منه، بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة


[ 381 ]

وتحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل، فاني سمعت جدك رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور، وان أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه، فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب الينا إلا عفوا وكرما. قال محمد بن الحنفية: ثم ان أبي قال: إحملوني الى موضع مصلاي في منزلي ؟. قال: فحملناه إليه وهو مدنف، والناس حوله وهم في أمر عظيم وقد أشرفوا على الهلاك، من شدة البكاء والنحيب. ثم التفت الى الحسين (ع) وهو يبكي، فقال له: يا أبتاه من لنا بعدك، لا كيومك إلا يوم رسول الله (ص)، يعز والله علي ان أراك هكذا، فناداه (ع) وقال: يا حسين يا أبا عبد الله إدن مني، فدنى منه وقد قرحت أجفان عينيه من البكاء، فمسح الدموع من عينيه ووضع يده على قلبه وقال له: يا بني ربط الله قلبك بالصبر وأجزل لك ولإخوتك عظيم الأجر، فسكن روعك وأهدأ من بكائك، فان الله قد آجرك على عظيم مصابك، ثم ادخل الى حجرته (ع) وجلس في محرابه. قال: وأقبلت زينب وام كلثوم حتى جلستا معه على فراشه وأقبلتا تندبانه وتقولان: يا أبتاه من للصغير حتى يكبر، ومن للكبير بين الملأ، يا أبتاه حزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقى. قال: فضج الناس بالبكاء من وراء الحجرة وفاضت دموع أمير المؤمنين (ع) عند ذلك وجعل يقلب كفه وينظر الى أهل بيته وأولاده. قال: وجاؤا باللعين ابن ملجم مكتوفا الى بيت من بيوت القصر فحبسوه فيه، فقالت له ام كلثوم وهي تبكي: يا ويلك أما أبي فأرجو ان لا يكون عليه بأس، وان الله يخزيك في الدنيا والآخرة، وان مصيرك الى النار خالدا فيها، فقال اللعين إبك ان كنت باكية، فو الله لقد اشتريت سيفي بألف وسممته بألف، ولو كانت ضربتي هذه لجميع أهل الكوفة ما نجى منهم احد ! فصرخت ام كلثوم ونادت: وا أبتاه واعلياه، قال: ثم دعا أمير المؤمنين (ع) الحسن والحسين (ع) وجعل يحضنهما ويقبلهما، ثم اغمي عليه ساعة طويلة وأفاق، فناوله الحسن (ع) قعبا من لبن فشرب منه قليلا،


[ 382 ]

ثم نحاه عن فيه، وقال احملوه الى اسيركم. ثم قال للحسن (ع): بحقي عليك يا بني إلا ما طبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به الى حين موتي وتطعمه مما تأكل وتسقيه مما تشرب، حتى تكون أكرم منه، فعند ذلك حملوا إليه اللبن وأخبروه بما قال أمير المؤمنين (ع) في حقه، فأخذ اللبن وشربه. قال الأصبغ بن نباتة: عدونا على أمير المؤمنين (ع) أنا والحرث بن سويد بن غفلة وجماعة فقعدنا على الباب، فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج الينا الحسن بن علي (ع) فقال: يقول لكم أمير المؤمنين (ع): انصرفوا الى منازلكم، فانصرف القوم غيري، واشتد البكاء في منزله فبكيت، وخرج الحسن (ع) فقال ألم أقل لكم انصرفوا ؟ فقلت لا والله يابن رسول الله ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلاي ان انصرف حتى ارى أمير المؤمنين (ع). قال: فدخل ولم يلبث ان خرج فقال لي ادخل فدخلت على أمير المؤمنين فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء قد نزف دمه واصفر وجهه، ما ادري وجهه أصفر ام العمامة، فأكببت عليه، فقبلته وبكت، فقال لي: لا تبك يا أصبغ، فانها والله الجنة، فقلت له جعلت فداك اني اعلم والله انك تصير الى الجنة، وانما ابكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. وعن ابي حمزة الثمالي عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على سيدي ومولاي أمير المؤمنين (ع) بعدما عممه ابن ملجم المرادي وعنده الأشراف من القبائل وشرطة الخميس وما منهم احد إلا وماء عينيه يترقرق على سوادها، حزنا لأمير المؤمنين (ع) ورأيت الحسن والحسين ومن معهما من الهاشميين وما تنفس منهم احد إلا وظننت ان شظايا قلبه تخرج مع نفسه، وقد أرسلوا خلف أثير بن عمرو الجراح وكان يعالج الجراحات الصعبة، فلما نظر الى جرح أمير المؤمنين (ع) أمر برئة شاة حارة فاستخرج منها عرقا وارسله في الجرح، ثم استخرجه وقد تكلل من دماغ أمير المؤمنين (ع) وقد مال الى الخضرة، فقال الناس يا أثير كيف جرح أمير المؤمنين (ع) فخرس اثير عن جوابهم وتلجلج.


[ 383 ]

فعند ذلك يئس الناس من أمير المؤمنين وقام لهم بكاء وعويل، فأسكنهم الحسن (ع) لكيلا تهيج النساء ويضطرب أمير المؤمنين (ع) فسكتوا وصاروا ينشجون نشيجا خفيفا، إلا الأصبغ بن نباتة لم يملك نفسه دون ان شرق بعبرته وبكى بكاء عاليا، فأقاق أمير المؤمنين " ع " من غشوته فقال لا تبكي فانها والله الجنة، فقال نعم يا أمير المؤمنين وأنا اعلم والله انك تصير الى الجنة، وانما ابكي لفراقك يا سيدي. قال حبيب بن عمرو فما احببت ان الأصبغ يتكلم بهذا الكلام مع أمير المؤمنين " ع " فاردت ان ارفع ما وقع في قلب أمير المؤمنين " ع " من كلام الأصبغ فقلت لا بأس عليك يا أبا الحسن، فان هذا الجرح ليس بضائر وما هو باعظم من ضربة عمرو بن عبد ود، فان البرد لا يزلزل الجبل الأصم، ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخصم، والليث يضرى إذا خدش، والصل يقوى إذا ارتعش، فنظر الي نظرة رأفة ورحمة وقال هيهات يابن عمرو نفذ القضاء، وأبرم المحتوم، وجرى القلم بما فيه، واني مفارقك. فسمعت ام كلثوم كلامه فبكت، فقال لها أمير المؤمنين " ع " ما يبكيك يا بنتاه فقالت له يا أبة وكيف لا ابكي، وأنت قمر الهاشميين وشمس الطالبيين غصنها اليماني إذا اكهمت الحروب سيوفها وبدرها الشعشعاتي إذا اسدلت الظلماء سجونها عزنا إذا شاهت الوجوه ذلا وجمعنا إذا الموكب الكثير قلا، فقال لها يا بنية لو رأيت مثل ما رأيت لما بكيت على أبيك، فقالت وما رأيت يا أبة ؟ قال رأيت رسول الله (ص) قد نزل في كتيبة من الملائكة من السماء ومعه جمع من الأنبياء على نجب من نجب الجنة قوائمها من العنبر ووفرها من الزعفران واعناقها من الزبرجد الاخضر واعينها من الياقوت الأحمر وازمتها من اللؤلؤ الرطب في قباب من نور يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها وبأيديهم مجامر من نور تفوح منها رائحة العود، وقد أحدقوا برسول الله (ص) ليزفوا روح أبيك الى الجنة، كأني انظر إليها يا بنية دارا أرضها رضوان الله وسقفها عفو الله وجوها المتفرج رحمة الله بابها المسك وحصاها من ألوان الجواهر فيها قصور من لؤلؤ بيضاء مجوفة من كافور ابيض وفيها أنهار من السلسبيل والعسل المصفى، فسكتت عند ذلك ام كلثوم.


[ 384 ]

ودخلت عليه زينب فقالت يا أبتاه حدثتني ام أيمن بما يصدر علينا يوم كربلا، وأحببت ان اسمعه منك يا أبة ؟ فبكى أمير المؤمنين (ع) وقال: بنية الحديث ما حدثتك به ام أيمن، وكأني بك وبنيات أهلك سبايا بهذا البلد - يعني الكوفة - أذلاء صاغرين تخافون ان يتخطفكم الناس. قال محمد بن الحنفية: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان مع أبي وقد نزل السم الى قدميه وكان يصلي تلك الليلة من جلوس، ولم يزل يوصينا بوصايا يعزينا عن نفسه ويخبرنا بأمره وتبياته الى حين طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه ؟ فاذن لهم بالدخول فدخلوا وأقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام. ثم قال: أيها الناس سلوني قبل ان تفقدوني، وخففوا سؤالكم، لمصيبة إمامكم، قال فبكى الناس بكاء شديدا وأشفقوا ان يسألوه تخفيفا، فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:

يا أسفي على المولى التقي * * أبي الأطهار حيدرة الزكي

قتيلا قد غدى بحسام نغل * * لعين فاسق رجس شقي

فلما بصر به عليه السلام وسمع شعره قال له كيف بك يا حجر إذا دعيت الى البرائة مني فما عساك ان تقول ؟ ! فقال والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إربا إربا واضرم لي النار والقيت فيها، لآثرت ذلك على البرائة منك، فقال: وفقت لكل خير يا حجر جزاك الله خيرا عن أهل البيت. ثم قال: هل من شربة لبن ؟ فأتوه بلبن في قعب، فأخذه عليه السلام وشربه، فذكر الملعون ابن ملجم وانه لم يخلف له شيئا، فقال وكان أمر الله قدرا مقدورا، اعلموا اني شربت الجميع ولم أبق لأسيركم شيئا من هذا، ألا وانه آخر رزقي، فبالله عليك يا بني إلا ما سقيته مثل ما شربت، فحمل إليه ذلك فشربه. قال محمد بن الحنفية: لما كانت احدى وعشرين وأظلم الليل وهي الليلة الثانية من الكائنة جمع أبي أولاده وأهل بيته وودعهم، ثم قال لهم: الله خليفتي عليكم وهو حسبي ونعم الوكيل، وأوصا الجميع بلزوم الايمان والأديان والأحكام التي أوصى بها


[ 385 ]

رسول الله (ص). فمن ذلك ما نقل عنه انه أوصى به الحسن والحسين لما ضربه ابن ملجم وهي هذه: أوصيكما بتقوى الله، وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما، لا تأسفا على شئ منها زوي عنكما، وقولا بالحق، واعملا للآخرة، وكونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا، وأوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي هذا: بتقوى الله، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فاني سمعت جدكما رسول الله (ص) يقول: صلاح ذات البين، أفضل من عامة الصلاة والصيام، الله الله فلا تغبوا افواههم ولا يضيقوا بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فانه وصية نبيكم، ما زال يوصى بهم، حتى ظننا انه سيورثهم، والله الله في بيت القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة فانها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فانه ان تركتم تناظروا والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل، إياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيول عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم. ثم قال " ع ": يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون قتل أمير المؤمنين، لا يقتلن في إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فاني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور. قال: ثم تزايد ولوج السم في جسده الشريف، حتى نظرنا الى قدميه وقد إحمرتا جميعا، فكبر ذلك علينا وأيسنا منه، ثم أصبح ثقيلا، فدخل الناس عليه فأمرهم ونهاهم، ثم أعرضنا عليه المأكول والمشروب ؟ فأبى ان يأكل أو يشرب، فنظرنا الى شفتيه وهما يختلجان بذكر الله تعالى، وجعل جبينه يرشح عرقا، وهو يمسحه بيده قلت: يا أبتاه أراك تمسح جبينك، فقال: يا بني اني سمعت رسول الله (ص) يقول ان المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب وسكن أنينه. ثم قال (عليه السلام) يا أبا عبد الله ويا عون، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم، صغيرا وكبيرا واحدا بعد واحد، وجعل يودعهم ويقول: الله خليفتي عليكم، أستودعكم الله


[ 386 ]

وهم يبكون، فقال له ولده الحسن ما دعاك الى هذا ؟ فقال له يا بني اني رأيت جدك رسول الله (ص) في منامي قبل هذه الكاينة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من التذلل والأذى من هذه الامة، فقال لي إدع عليهم، فقلت اللهم أبدلهم بي شرا مني، وأبدلني بهم خيرا منهم، فقال قد إستجاب الله دعاك، سينقلك الينا بعد ثلاث، وقد مضت الثلاث، يا أبا محمد أوصيك بأبي عبد الله خيرا، فأنتما مني وأنا منكما. ثم التفت الى أولاده الذين هم من غير فاطمة وأوصاهم ان لا يخالفوا أولاد فاطمة - يعني الحسن والحسين -. ثم قال أحسن الله لكم العزاء، ألا واني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بحبيبي محمد (ص) كما وعدني، فإذا أنا مت فغسلني وكفني وحنطني ببقية حنوط جدك رسول الله (ص) فانه من كافور الجنة جاء به جبرئيل (ع) إليه، ثم ضعني على سريري، ولا يتقدم أحد منكم يحمل السرير واحملوا مؤخره واتبعوا مقدمه فأي موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر، فحيث أقام سريري فهو موضع قبري، ثم تقدم يا أبا محمد وصل علي، يا بني يا حسن وكبر علي سبعا، واعلم انه لا يحل ذلك لأحد غيري، إلا على رجل يخرج في آخر الزمان اسمه القائم المهدي من ولد الحسين عليه السلام يقيم إعوجاج الحق، فإذا أنت صليت علي يا حسن فنح السرير عن موضعه، ثم اكشف التراب عنه فترى قبرا محفورا ولحدا مثقوبا وساجة منقورة، فاضجعني فيها، فإذا أردت الخروج من قبري فافتقدتني، فانك لا تجدني واني لاحق بجدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واعلم يا بني ما من نبي يموت وان كان مدفونا بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب، إلا ويجمع الله عز وجل بين روحيهما وجسديهما ثم يفترقان، فيرجع كل واحد منهما الى موضع قبره والى موضعه الذي حط فيه، ثم اشرج اللحد وأهل التراب علي، ثم غيب قبري، ثم يا بني بعد ذلك إذا اصبح الصباح اخرجوا تابوتا الى ظهر الكوفة على ناقة وأمر بمن يسيرها بما بان يسيرها كأنها تريد المدينة، بحيث يخفى على العامة موضع قبري الذي تضعني فيه، وكأني بكم وقد خرجت عليكم الفتن من ها هنا وها هنا ! فعليكم بالصبر، فهو العاقبة.


[ 387 ]

ثم قال يا أبا محمد ويا أبا عبد الله إصبرا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، ثم قال يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الامة، فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه، ثم اغمي عليه ساعة وأفاق وقال هذا رسول الله (ص) وعمي حمزة وأخي جعفر وأصحاب رسول الله (ص) وكلهم يقول عجل قدومك علينا، فإنا مشتاقون، ثم أدار عينيه في أهل بيته كلهم وقال أستودعكم الله جميعا، الله خليفتي عليكم وكفي بالله خليفة، ثم قال وعليكم السلام يا رسل ربي، ثم قال لمثل هذا فليعمل العاملون (ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) وعرق جبينه، وهو يذكر الله كثيرا. وما زال يتشهد الشهادتين ثم استقبل القبلة وغمض عينيه ومد رجليه وأسبل يديه وقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ثم قضى نحبه (ع). قال وكانت وفاته ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، وكانت ليلة الجمعة سنة أربعين من الهجرة. قال فعند ذلك صرخت زينب بنت علي وام كلثوم وجميع نسائه، وقد شقوا الجيوب ولطموا الخدود وارتفعت الصيحة في القصر، فعلم اهل الكوفة ان أمير المؤمنين (ع) قد قبض، فأقبل النساء والرجال يهرعون أفواجا أفواجا وصاحوا صيحة عظيمة، فارتجت الكوفة بأهلها وكثر البكاء والنحيب والضجيج بالكوفة وقبائلها ودورها وجميع أقطارها، فكان ذلك كيوم مات فيه رسول الله، فلما اظلم الليل تغبر افق السماء وارتجت الأرض وجميع من عليها بكوا، وكنا نسمع جلبة وتسبيحا في الهواء، فعلمنا انها أصوات الملائكة، فلم يزل كذلك الى ان طلع الفجر. قال محمد بن الحنفية ثم أخذنا في جهازه ليلا، وكان الحسن " ع " يغسله والحسين عليه السلام يصب عليه الماء، وكان جسده الشريف لا يحتاج من يقلبه، بل كان ينقلب كما يريد الغاسل يمينا وشمالا، وكانت رائحته أطيب من رائحة المسك والعنبر. ثم نادى الحسن " ع " اخته زينب وام كلثوم وقال يا أختاه هلمي بحنوط جدي رسول الله (ص) فبادرت زينب مسرعة أتته به.


[ 388 ]

قال فلما فتحته فاحت الدار وجميع الكوفة وشوارعها لشدة رائحة ذلك الطيب ثم لفوه بخمسة أثواب كما أمر " ع " ثم وضعوه على السرير وتقدم الحسن والحسين " ع " ورفعا السرير من مؤخره وإذا مقدمه قد ارتفع ولا يرى حامله، وكان حاملاه من مقدمه جبرئيل وميكائيل " ع " فما مر بشئ على وجه الارض إلا إنحنى له ساجدا وخرج السرير. قال محمد بن الحنفية والله لقد نظرت الى السرير وانه ليمر بالحيطان والنخل فتنحني له خشوعا، ومضى مستقيما الى النجف الى موضع قبره " ع " الآن وضجت الكوفة بالبكاء والنحيب، وخرجن النساء يتبعنه لاطمات حاسرات، فمنعهن الحسن " ع " ونهاهن عن البكاء والعويل وردهن الى أماكنهن، والحسين " ع " يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أباه وا انقطاع ظهراه من أجلك تعلمنا البكاء، الى الله المشتكى، فلما انتبهنا الى قبره وإذا مقدم السرير قد وضع فوضع الحسن (ع) مؤخره وصلى عليه والجماعة خلفه فكبر سبعا كما أمر به أبوه (ع) ثم زحزحنا سريره وكشفنا التراب فإذا نحن بقبر محفور ولحد مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها (هذا ما ادخره نوح النبي للعبد الطاهر المطهر) فلما ارادوا نزوله سمعوا هاتفا يقول انزلوه الى التربة الطاهرة فقد اشتاق الحبيب الى حبيبه، فدهش الناس عند ذلك وألحد أمير المؤمنين " ع " عند طلوع الفجر. قال الراوي لما ألحد أمير المؤمنين " ع " وقف صعصعة بن صوحان العبدي على القبر، ثم قال بأبي أنت وامي يا أمير المؤمنين، ثم قال هنيئا لك يا أبا الحسن فقد طاب مولدك وقوى صبرك وعظم جهادك وظفرت برأيك وربحت تجارتك وقد قدمت على خالقك، فتلقاك الله ببشارته وحفتك ملائكته واستقررت في جوار المصطفى فأكرمك الله بجواره ولحقت بدرجة أخيك المصطفى وشربت بكأسه الأوفى، فأسال الله ان يمن علينا باقتفاء أثرك والعمل بسيرتك والموالاة لأوليائك والمعاداة لأعدائك، وان يحشرنا في زمرة أوليائك. فقد نلت ما لم ينله احد وأدركت ما لم يدركه احد وجاهدت في سبيل ربك بين أخيك المصطفى حق جهاده وقمت بدين الله حق القيام حتى أقمت.


[ 389 ]

السنن وأبرت الفتن واستقام الاسلام وانتظم الايمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام بك اشتد ظهر المؤمنين واتضحت أعلام السبل واقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك سبقت الى اجابة النبي (ص) مقدما مؤثرا وسارعت الى نصرته ووقيته بنفسك ورميت بسيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر وقصم الله بك كل جبار عنيد، وذل بك كل ذي بأس شديد وهدم بك حصون اهل الشرك والبغي والكفر والعدوان والردى، وقتل بك اهل الضلال من العدا، فهنيئا يا أمير المؤمنين كنت أقرب الناس من رسول الله، وأقلهم سلما وأكثرهم علما وفهما، فهنيئا لك يا أبا الحسن لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس الى رسول الله (ص) نسبا، وأولهم إسلاما وأكثرهم علما وأوفاهم يقينا وأشدهم قلبا وأبذلهم لنفسه مجاهدا وأعظمهم في الخير نصيبا، فلا حرمنا الله أجرك ولا أضلنا بعدك، فو الله لقد كانت حياتك مفاتح للخير ومغالق للشر، وان يومك هذا مفتاح كل شر، ومغلاق كل خير، ولو ان الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة، ثم بكى بكاء شديدا وأبكى كل من كان معه، وعدلوا الى الحسن والحسين (ع) ومحمد وجعفر والعباس وعون وعبد الله عليهم السلام فعزوهم في أبيهم " ع " وانصرف الناس ورجع أولاد أمير المؤمنين (ع) وشيعتهم ولم يشعر بهم احد من الناس. فلما طلع الصباح وبزغت الشمس أخرجوا تابوتا من دار أمير المؤمنين وأتوا به الى المصلى بظاهر الكوفة، ثم تقدم الحسن (ع) وصلى عليه ورفعه على ناقة وسيرها مع بعض العبيد. قال الراوي: ثم رجع أولاد أمير المؤمنين " ع " الى الكوفة واجتمعوا لقتل اللعين ابن ملجم فقال عبد الله بن جعفر اقطعوا يديه ورجليه ولسانه واقتلوه بعد ذلك وقال محمد بن الحنفية: اجعلوه غرضا للنشاب واحرقوه، وقال آخر اصلبوه حيا، حتى يموت، فقال الحسن (ع) أنا ممتثل فيه ما أمرني به أمير المؤمنين (ع) أضربه ضربة بالسيف حتى يموت وأحرقه بالنار بعد ذلك، فأمر الحسن " ع " ان يأتوه به، فجاؤا به مكتوفا حتى أدنوه من الموضع الذي ضرب فيه الامام " ع " والناس يلعنونه


[ 390 ]

ويوبخونه وهو ساكت لا يتكلم، فقال الحسن (ع): يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين وامام المسلمين وأعظمت الفساد في الدين، فقال لهما يا حسن ويا حسين ما تريدان تصنعان بي ؟ قالا له: نريد نقتلك كما قتلت سيدنا ومولانا، فقال لهما اصنعا ما شئتما ان تصنعا ولا تعنفا من استزله الشيطان فصده عن السبيل، ولقد زجرت نفسي فلم تنزجر ونهيتها فلم تنته، فدعها تذوق وبال امرها ولها عذاب شديد، ثم بكى ! فقال له الحسن (ع): يا ويلك ما هذه الرقة اين كانت حين وضعت قدمك وركبت خطيئتك ؟ فقال لعنه الله استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اولئك حزب الشيطان، ألا ان حزب الشيطان هم الخاسرون، ولقد انقضى التوبيخ، وانما قتلت أباك وحصلت بين يديك فاصنع ما شئت وخذ بحقك مني كيف شئت، ثم برك على ركبتيه وقال يا بن رسول الله الحمد لله الذي أجرى قتلي على يديك، فرق له الحسن (ع). ثم قام الحسن (ع) وأخذ السيف بيده وجرده من غمده وندبه حتى لاح الموت في حده، ثم ضربه ضربة اراد بها عنقه، فاشتد زحام الناس عليه وعلت اصواتهم، فلم يتمكن من فتح باعه، فارتفع السيف الى باعه فأبراه، فانقلب عدو الله يخور بدمه، فقام الحسين (ع) الى أخيه وقال: يا أخي أليس الأب واحد والام واحدة، ولي نصيب في هذه الضربة، ولي في قتله حق، فدعني أضربه ضربة أشفي بها بعض ما في نفسي، فناوله الحسن (ع) السيف فأخذه وهزه وضربه على الضربة التي ضربه الحسن فبلغ الى طرف انفه وقطع جانبه الآخر وابتدره الناس بعد ذلك بأسيافهم فقطعوه إربا إربا وعجل الله بروحه الى النار، ثم جمعوا جثته وأخرجوه وجمعوا له حطبا واحرقوه بالنار. وقيل: طرحوه في حفرة وطموه بالتراب فهو يعوي كعوي الكلاب الى يوم القيامة واقبلوا الى قطام لعنها الله فقطعوها بالسيف إربا إربا ونهبوا دارها واخرجوها الى ظاهر الكوفة واحرقوها بالنار وعجل الله بروحها الى جهنم. أقول: وفي كتاب (مشارق الأنوار) للبرسي عن محدثي اهل الكوفة: ان أمير المؤمنين (ع) لما حمله الحسن والحسين (ع) الى مكان البئر المختلف فيه الى نجف


[ 391 ]

الكوفة وجدوا فارسا تفوح منه رائحة المسك فسلم عليهما، ثم قال للحسن: أنت الحسن ابن علي رضيع الوحي والتنزيل وفطيم العلم والشرف الجليل خليفة أمير المؤمنين وسيد الوصيين، قال نعم. قال: وقال هذا الحسين بن علي أمير المؤمنين سبط الرحمة ورضيع العصمة وربيب الحكمة ووالد الأئمة، قال: نعم، قال: سلماه لي وامضيا في دعه الله، فقال له الحسن (ع) انه أوصى الينا ان لا نسلم إلا أحد رجلين: جبرئيل والخضر " ع " فمن أنت منهما ؟ فكشف النقاب فإذا هو أمير المؤمنين، ثم قال للحسن (ع): يا أبا محمد لا تموت نفس إلا ويشهدها أبوك، أفما يشهد جسده ؟. وفيه عن الحسن بن محبوب: ان أمير المؤمنين (ع) قال للحسن والحسين (ع) إذا وضعتماني في الضريح فصليا ركعتين قبل ان تهيلا علي التراب وانظرا ما يكون، فلما وضعاه في الضريح المقدس فعلا ما امرا به ونظرا وإذا الضريح مغطى بثوب من سندس فكشف الحسن (ع) مما يلي وجه أمير المؤمنين (ع) فوجد رسول الله (ص) وآدم وإبراهيم " ع " يتحدثون مع أمير المؤمنين " ع " وكشف الحسين " ع " مما يلي رجليه فوجد الزهراء وحواء ومريم وآسية ينحن على أمير المؤمنين ويندبنه، قال المجلسي (ره) في (البحار) لم أر هذين الخبرين إلا من طريق البرسي، ولا اعتمد على ما ينفرد به ولا أردهما لورود الأخبار الكثيرة الدالة على ظهورهم (ع) بعد موتهم في أجسادهم المثالية. وفي كتب الأخلاق: لما رجع الحسن والحسين (ع) من دفن أمير المؤمنين (ع) وجدا في طريقهما رجلا شيخا اعمى مريضا وهو يبكي، فتقدم إليه الحسن " ع " وقال له: ما يبكيك يا شيخ ؟ فقال: كان رجل كل يوم يأتيني باللبن والدقيق وله ثلاثة ايام قد انقطع عني ولا يأتيني، فقال له الحسن " ع ": ومن ذلك الرجل ؟ فقال لا اعرفه فقال: صفه لي ؟ فقال: لم أر وجهه حتى أصفه لك، إلا انه كان لي كالام الشفيقة بولدها كان يكلمني برفق ويمرضني بشفقة ويؤنسني ويضاحكني، ثم ينصرف عني، فقال له الحسن (ع) هذه صفة أبينا أمير المؤمنين (ع) فعظم الله لك الأجر فيه، فقد قضى


[ 392 ]

نحبه شهيدا والآن رجعنا من دفنه فصرخ الشيخ صرخة فارقت روحه الدنيا، وفي خبر غشي عليه، فلما افاق قال: اسألكم الله ان ترشدوني الى قبره ؟ فأخذوه، فلما لمس القبر جعل يبكي ويعول ويلطم، فجلس الحسن والحسين " ع " عنده وجعلا يبكيان، ثم جعل الشيخ يضرب برأسه على القبر، فأرادا ان ينحياه فلم يقدرا وضرب برأسه على القبر حتى قضى نحبه، فاشتغل الحسن والحسين (ع) بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفناه أمير المؤمنين (ع) ورجعا يبكيان ويلطمان. وروى الصدوق بإسناده عن اسيد بن صفوان صاحب رسول الله (ص) قال: لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين (ع) إرتج الموضع بالبكاء ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله (ص) وجاء رجل باك متسرع مسترجع وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة حتى وقف بباب البيت الذي فيه أمير المؤمنين (ع) فقال: رحمك الله يا أبا الحسن كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا... الخ، الزيارة المعروفة بزيارة الخضر " ع ". قال: وسكت القوم حتى انقضى كلامه وبكى وابكى اصحاب رسول الله " ص " ثم طلبوه فلم يصادفوه. وفي " الارشاد " للمفيد " ره " كانت إمامة أمير المؤمنين " ع " بعد النبي " ص " ثلاثين سنة، منها اربعة وعشرين سنة وستة اشهر ممنوعا من التصرف على احكامها ! مستعملا للتقية والمدارات، ومنها خمس سنين وستة اشهر ممتحنا يجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين ! مضطهدا بفتن الضالين ! كما كان رسول الله " ص " ثلاثة عشر سنة من نبوته ممنوعا من احكامها خائفا ومحبوسا وهاربا ومطرودا ! لا يتمكن من جهاد الكافرين ! ولا يستطيع دفعا عن المؤمنين، ثم هاجر واقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهدا للمشركين ممتحنا بالمنافقين ! الى ان قبضه الله عز وجل. وكانت وفاة أمير المؤمنين عليه السلام ليلة احدى وعشرين من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة قتلا بالسيف ! قتله ابن ملجم المرادي لعنه الله في مسجد الكوفة. ثم قال المفيد (ره): وكان سنة الشريف يوم وفاته ثلاثا وستين سنة.


[ 393 ]

أقول: هذا هو الصحيح، وقيل تسعا وخمسين، وقبل خمسا وستين، وقيل ثمان وخمسين سنة، والله أعلم.