الفصل 20: الامام على عليه السلام عفوه و منه

1ـقال عليه السلام لما ضربه ابن ملجم المراديـلعنه اللهـ:«وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا،و محمد صلى الله عليه و آله و سلم فلا تضيعوا سنته،أقيموا هذين العمودين،و أوقدوا هذين المصباحين،و خلاكم ذم،أنا بالأمس صاحبكم،و اليوم عبرة لكم،و غدا مفارقكم،إن أبق فأنا ولي دمي،و إن أفن فالفناء ميعادي،و إن أعف فالعفو لي قربة و هو لكم حسنة،فاعفوا الا تحبون أن يغفر الله لكم؟و الله،ما فجأني من الموت وارد كرهته،و لا طالع أنكرته،و ما كنت إلا كقارب ورد،و طالب وجد،و ما عند الله خير للأبرار (1) ».

أقول:«خلاكم ذم»أي عداكم الذم و جاوزكم اللوم بعد قيامكم بالوصية،و لفظ العمود مستعار لهما لشبههما بعمودي البيت لكونهما سببين لقيام الإسلام،و القارب:الذي يسير إلى الماء و قد بقي بينه و بينه ليلة واحدة.

2ـو قال عليه السلام:«يا بني عبد المطلب!لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون :قتل أمير المؤمنين،ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي،انظروا إذا أنا مت من ضربته‏هذه فاضربوه ضربة بضربة،و لا يمثل بالرجل،فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول:إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور (2) ».

3ـقال جورج جرداق:«كل ما في الطبيعة كان يعصف بالثورة،إلا وجه ابن أبي طالب فقد انبسط لا يحدث بانتقام،و لا يشير إلى اشتباك،فإن العواد وقفوا بباب الإمام و كلهم جازع متألم باك يدعو إلى الله أن يرحم أمير المؤمنين فيشفيه و يشفي به آلام الناس،و كانوا قد شدوا على ابن ملجم فأخذوه،فلما أدخلوه عليه قال:أطيبوا طعامه و ألينوا فراشه (3) ».

4ـقال الشيخ المفيد رحمه الله،«عن هاشم بن مساحق القرشي قال:حدثنا أبي أنه لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم،فقال بعضهم لبعض:و الله،ظلمنا هذا الرجلـيعنون أمير المؤمنين عليه السلامـو نكثنا بيعته من غير حدث و الله،لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه و لا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،تعالوا حتى ندخل عليه و نعتذر إليه فيما صنعناه.

قال:فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا،فلما مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم،فقال عليه السلام:أنصتوا أكفكم،إنما أنا بشر مثلكم،فإن قلت حقا فصدقوني،و إن قلت باطلا فردوا علي،أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قبض و أنا أولى الناس به و بالناس من بعده؟قلنا:اللهم نعم،قال:فعدلتم عني و بايعتم أبابكر،فأمسكت و لم احب أن أشق عصا المسلمين و أفرق بين جماعاتهم،ثم إن أبابكر جعلها لعمر من بعده،فكففت و لم اهج الناس و قد علمت أني كنت أولى الناس بالله و برسوله و بمقامه،فصبرت حتى قتل و جعلني سادس ستة،فكففت و لم أحب أن أفرق بين المسلمين،ثم بايعتم عثمان،فطغيتم عليه و قتلتموه و أنا جالس في بيتي وأتيتموني و بايعتموني كما بايعتم أبابكر و عمر،و فيتم لهما و لم تفوا لي،و ما الذي منعكم من نكث بيعتهما و دعاكم إلى نكث بيعتي؟

فقلنا له:كن يا أمير المؤمنين،كالعبد الصالح يوسف إذ قال:/لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين/ (4) ،فقال عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم،و إن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث بإستهـيعنى مروان ابن الحكمـ (5) ».

5ـو عنه قال:«عن حبة العرني،قال:و الله،إني لأنظرن إلى الرجل الذي ضرب الجمل ضربة على عجزه فسقط لجنبه،فكأني أسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجا أشد منه،قال:لما عقر الجمل،و انقطع بطان الهودج،فزال عن ظهر الجمل،و انفض أهل البصرة منهزمين،و جعل عمار بن ياسر و محمد ابن أبي بكر يقطعان الحقب و الأنساع،و احتملاهـأي الهودجـو وضعاه على الأرض،فأقبل علي بن أبي طالب حتى وقف عليها و هي في هودجها،فقرع الهودج بالرمح،و قال:يا حميراء!رسول الله أمرك بهذا المسير؟و نادى عمار ابن ياسر يومئذ:لا تجهزوا على جريح،و لا تتبعوا مدبرا موليا،و رأيت يومئذ سعيد و أبان ابنا (6) عثمان فجي‏ء بهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام،فلما وقفا بين يديه قال بعض من حضر :اقتلهما يا أمير المؤمنين،فقال:بئس ما قلتم،آمنت الناس كلهم و أقتل هذين؟ثم أقبل عليهما،و قال لهما:ارجعا عن غيكما،و انزعا و انطلقا حيث شئتما و أحببتما،فأقيما عندي حتى أصل أرحامكما،فقالا:يا أمير المؤمنين!نحن نبايع،فبايعا و انصرفا (7) ».

6ـقال صاحب الجواهر رحمه الله:«لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السلام :لا تتبعوا موليا،و لا تجهزوا على جريح،و من أغلق بابه فهو آمن،فلما كان يوم صفين قتل المقبل و المدبر،و أجاز على الجريح،فقال أبان بن تغلب لعبد الله بن شريك:هاتان سيرتان مختلفتان!فقال:إن أهل الجمل قتل طلحة و الزبير،و إن معاوية كان قائما بعينه و كان قائدهم .

و في الدعائم«عن أبي جعفر عليه السلام أنه:سار علي عليه السلام بالمن و العفو فى عدوه من أجل شيعته،لأنه كان يعلم انه سيظهر عليهم عدوهم من بعده فأحب أن يقتدي من جاء بعده به فيسير في شيعته بسيرته،و لا يجاوز فعلهـإلى أن قال:ـقد تظافرت(النصوص)في أنه عليه السلام سار في أهل الجمل بالمن و العفو (8) ».

7ـو قالـأيضا:عن أبي جعفر عليه السلام:لو لا أن عليا عليه السلام سار في أهل حربه بالكف عن السبي و الغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما،ثم قال:و الله،لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس (9) ».

8ـو قالـأيضاـفي ضمن كلامه:«على أنه عليه السلام مع منه عليهم بما من و كانت سيرته معلومة لديهم،قد فعلوا في كربلا ما فعلوا (10) ».

9ـو قالـأيضا:«فإنه عليه السلام أمر برد أموالهم،فأخذت حتى القدور...و أن عليا عليه السلام نادى:من وجد ماله فليأخذه،فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضح فلم يفعل فرمى برجله فأخذهـإلى أن قال:ـو لعل الجمع بين النصوص أنه عليه السلام قد أذن لهم بأخذ المال الذي عند العسكر،ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها غرمه من بيت المال لأهله حتى أنه عليه السلام كان يكتفي من المدعي باليمين (11) ».ـو قالـأيضا:«و يخطر في البال أن عليا عليه السلام كان يجوز له قتل الجميع إلا خواص شيعته،لأن الناس جميعا قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوم السقيفة إلا أربعة:سلمان و أباذر و المقداد و عمار،ثم رجع بعد ذلك أشخاص،و الباقون استمروا على كفرهم حتى مضت مدة أبي بكر و عمر و عثمان،فاستولى الكفر عليهم أجمع حتى آل الأمر إليه عليه السلام،و لم يكن له طريق إلى إقامة الحق فيهم إلا بضرب بعضهم بعضا،و أيهم قتل كان في محله إلا خواص الشيعة الذين لم يتمكن من إقامة الحق بهم خاصة.و الله العالم (12) ».

11ـقال ابن أبي الحديد:«و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف،و سبوه و لعنوه،فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم،و نادى مناديه في أقطار العسكر:ألا لا يتبع مول،و لا يجهز على جريح،و لا يقتل مستأسر،و من ألقى سلاحه فهو آمن،و من تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن،و لم يأخذ أثقالهم،و لا ذراريهم،و لا غنم شيئا من أموالهم،و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل و لكنه أبى إلا الصفح و العفو و تقبل سنة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوم فتح مكة فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد،و الإساءة لم تنس (13) ».

12ـو قالـأيضا:«إن الغالب على ذوي الشجاعة،و قتل الأنفس،و إراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو،لأن أكبادهم و اغرة،و قلوبهم ملتهبة،و القوة الغضبية عندهم شديدة،و قد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم و ما عنده من الحلم و الصفح و مغالبة هوى النفس،و قد رأيت فعله يوم الجمل،و لقد أحسن مهيار في قوله:

حتى إذا دارت رحى بغيهم‏ 
عليهم و سبق السيف العذل‏عاذوا بعفو ماجد معود 
للعفو حمال لهم على العلل

فنجت البقيا عليهم من نجا 
و أكل الحديد منهم من أكل

أطت بهم أرحامهم فلم يطع‏ 
ثائرة الغيظ و لم يشف الغلل (14)

تذييل و استطراد:

قال العلامة المناوي:«ويح عمار!تقتله الفئة الباغية:«ويح عمار»بالجر على الإضافة،و هو ابن ياسر،«تقتله الفئة الباغية»،قال القاضي في شرح المصابيح:يريد به معاوية و قومه،انتهى .

و هذا صريح في بغي طائفة معاوية الذين قتلوا عمارا في وقعة صفين،و أن الحق مع علي،و هو من الإخبار بالمغيباتـإلى أن قال:ـقال القرطبي:هذا الحديث من أثبت الأحاديث و أصحها،و لما لم يقدر معاوية على إنكاره،قال:إنما قتله من أخرجه،فأجابه علي بأن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذن قتل حمزة حين أخرجه،قال ابن دحية:و هذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه،و حجة لا اعتراض عليها.

و قال الإمام عبد القاهر الجرجاني في«كتاب الإمامة»:أجمع فقهاء الحجاز و العراق من فريقي الحديث و الرأي،منهم مالك و الشافعي و أبو حنيفة و الأوزاعي و الجمهور الأعظم من المتكلمين و المسلمين(على)أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل،و أن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له،لكن لا يكفرون ببغيهم...و عن أبي سعيد الخدري،قال:كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة و عمار لبنتين،فرآه النبي صلى الله عليه و آله و سلم ينفض التراب عنه و يقول:«ويحـالخ،»قال المصنف(يعني السيوطي)في الخصائص:هذا الحديث(أي حديث عمار)متواتر،و رواه من الصحابة بضعة عشر... (15) ».

تعليقات:

1ـنهج البلاغة،ر .23

2ـنهج البلاغة،ر .47

3ـجورج جرداق:الإمام علي صوت العدالة الانسانية،ج 4:ص .1004

4ـيوسف،12: .92

5ـالمفيد:الجمل أو النصرة في حرب البصرة،ص 222 و .203

6ـكذا.

7ـالمفيد:الجمل او النصرة في حرب البصره،ص 222 و .203

8ـالنجفي:جواهر الكلام،ج 21/كتاب الجهاد:ص .330

9ـالنجفي:جواهر الكلام،ج 21/كتاب الجهاد:ص .335

10ـالنجفي:جواهر الكلام،ج 21/كتاب الجهاد:ص .337

11ـالنجفي:جواهر الكلام،ج 21/كتاب الجهاد:ص .340

12ـالنجفي:الجواهر،ج 41:ص .347

13ـشرح نهج البلاغة،ج 1،ص 23 و .52

14ـشرح نهج البلاغة،ج 1،ص 23 و .52

15ـفيض القدير،ج 6،ص 365 ط بيروت.