الفصل 26: الإمام علي عليه السلام و السياسة و التدبير

في«لسان العرب»للعلامة ابن منظور،قال:«السياسة:القيام على الشي‏ء بما يصلحه (1) »،و في«مجمع البحرين»:«و في وصف الأئمة عليهم السلام:أنتم ساسة العباد»و فيه:«الإمام عارف بالسياسة»و فيه:«ثم فوض إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر الدين،و الامة ليسوس عباده»و في الخبر:«كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم»أي تتولى أمرهم كالامراء و الولاة بالرعية من السياسة و هو القيام على الشي‏ء بما يصلحه (2) ».

هذا كلام أئمة اللغة فهم يصرحون بأن السياسة القيام على الشي‏ء بما يصلحه،فإذا لم يكن في القيام على الشي‏ء إصلاح،و إجراء عدل،و إحقاق حق،و إبطال باطل،فهو سياسة مكيا فيلية غدرية،و هذا هو الفرق الأساسي و الميز الجوهري بين سياسته عليه السلام و بين سياسة غيره،و قد أشار عليه السلام إلى هذا الفرق في خطب عديدة،فمنها:

«و لقد أصحبنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا،و نسبهم أهل الجهل‏فيه إلى حسن الحيلة،مالهمـقاتلهم اللهـقد يرى الحول القلب وجه الحيلة و دونها مانع من أمر الله و نهيه،فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها،و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (3) ».

و منها:«و الله،ما معاوية بأدهى مني و لكنه يغدر و يفجر،و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس،و لكن كل غدرة فجرة،و كل فجرة كفرة،و لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة،و الله،ما استغفل بالمكيدة و لا استغمز بالشديدة (4) ».

و منها:«لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع،و لا يضارع،و لا يتبع المطامع (5) ».

و منها:«لولا أن المكر و الخديعة في النار لكنت أمكر العرب (6) ».

و منها:«لو لا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول:إن المكر و الخديعة و الخيانة في النار،لكنت أمكر العرب (7) ».

و منها:«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه (8) ».

و منها:«و إني لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم،و لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي،أضرع الله خدودكم (9) ».

أقول:الكيس:العقل.و الحول:البصير بتحويل الامور.و القلب:الخبير بتقلبها.و ينتهز:يبادر .و الحريجة:التحرز.و غدرة و فجرة و كفرةـبضم الأولـللمبالغة أي غدور و فجور و كفور،و ما استغفل بالمكيدة:لا تجوز المكيدة علي كما تجوزعلى الغافلين،و لا استغمز بالشديدة :لا أضعف للخطوب و إن اشتدت.و لا يصانع:لا يداري.و لا يضارع:لا يشبه المبطلين في شي‏ء من أحكامه،و قيل:لا يخضع و لا يضرع.

و المستفاد من هذه الكلمات الشريفة أن عليا عليه السلام يعرف الفرص و الوسائل و الأسباب إلى بلوغ الملك و السلطان و لكنه لا يستعملها على حساب دينه،فإنه عليه السلام لا يعلم من النجاح و الظفر إلا مرضاة الله،و العمل بالحق و العدل،و هو عليه السلام مستعد لأن يضحي بالنفس و الملك و بكل عزيز ليبلغ هذه الغاية.

و قال ابن أبي الحديد:إن فاطمة عليها السلام حرضته يوما على النهوض و الوثوب فسمع صوت المؤذن:أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فقال لها:أيسرك زوال هذا النداء من الأرض؟قالت:لا،قال:فإنه ما أقول لك (10) ».

و قالـأيضا:«اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة،إلا إذا كان يعمل برأيه و بما يرى فيه صلاح ملكه و تمهيد أمره و توطيد قاعدته،سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها،و متى لم يعمل في السياسة و التدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله،و أمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة،مدفوعا إلى اتباعها و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقا،فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك.

و لسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب،و لا ناسبين إليه ما هو منزه عنه،و لكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة،و يؤمي تخصيص عمومات النص بالآراء و بالاستنباط من اصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص،و يكيد خصمه،و يأمر امراء بالكيد و الحيلة،و يؤدب بالدرة و السوطـإلى أن قالـو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يرى ذلك،و كان يقف مع‏النصوص و الظواهر و لا يتعداها إلى الاجتهاد و الاقيسة،و يطبق امور الدنيا على امور الدين،و يسوق الكل مساقا واحدا،و لا يضع و لا يرفع إلا بالكتاب و النص،فختلف طريقتا هما في الخلافة و السياسة،و كان عمر مع ذلك شديد الغلطة و السياسة،و كان علي عليه السلام كثير الحلم و الصفح و التجاوز... (11) ».

و قالـأيضا:«و كان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول:إنه لا فرق عند من قرء السيرتين سيرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و سياسة أصحابه أيام حياته و بين سيرة أمير المؤمنين عليه السلام و سياسة أصحابه أيام حياته،فكما أن عليا عليه السلام لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلى أعدائه،و كثرة الفتن و الحروب فكذلك كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين و أذاهم و خلاف أصحابه عليه،و هرب بعضهم إلى أعدائه و كثرة الحروب و الفتن ...

و من العجب أن أول حروب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كانت بدرا،و كان هو المنصور فيها،و أول حروب علي عليه السلام الجمل و كان هو المنصور فيها،ثم كان من صحيفة الصلح و الحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح و الهدنة يوم الحديبية،ثم دعا معاوية في آخر أيام علي عليه السلام إلى نفسه و تسمى بالخلافة كما أن مسيلمة و الأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و تسميا بالنبوة،و اشتد على علي عليه السلام ذلك كما اشتد على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أمر الأسود و مسيلمة،و أبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم و كذلك ابطل أمر معاوية و بني امية بعد وفاة على عليه السلام (12) ،و لم يحارب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أحد من العرب إلا قريش ماعدا يوم حنين،و لم يحارب عليا عليه السلام من العرب أحد إلا قريش ماعدا يوم‏النهروان،و مات علي عليه السلام شهيدا بالسيف،و مات رسول الله عليه السلام شهيدا بالسم،و هذا لم يتزوج على خديجة ام أولاده حتى ماتت،و هذا لم يتزوج على فاطمة ام أشرف أولاده حتى ماتت،و مات رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن ثلاث و ستين سنة،و مات علي عليه السلام عن مثلها.

و كان يقول:انظروا إلى أخلاقهما و خصائصهما،هذا شجاع،و هذا شجاع،و هذا فصيح،و هذا فصيح،و هذا سخي جواد،و هذا سخي جواد،و هذا عالم بالشرائع و الامور الالهية،و هذا عالم بالفقه و الشريعة و الامور الالهية الدقيقة الغامضة،و هذا زاهد في الدنيا غيرنهم عليها و لا مستكثر منها،و هذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها،و هذا مذيب نفسه في الصلاة و العبادة،و هذا مثله،و هذا غير محبب إليه شي‏ء من الامور العاجلة إلا النساء،و هذا مثله،و هذا ابن ابن عبد المطلب بن هاشم،و هذا في قعدده (13) و أبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب،و ربي محمد صلى الله عليه و آله و سلم في حجر والد هذا و هو أبو طالب فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده،ثم لما شب صلى الله عليه و آله و سلم و كبر استخلصه من بني أبي طالب و هو غلام فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به،فامتزج الخلقان و تماثلت السجيتان... (14) ».

و نقلـأيضاـابن أبي الحديد عن أبي جعفر النقيب اختصاص علي عليه السلام برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،ثم قال:«قال أبو جعفر النقيب:لأنهما نفس واحدة في جسمين،الأب واحد،و الدار واحدة،و الأخلاق متناسبة،فإذا عظمه أي النبي صلى الله عليه و آله و سلم عليا عليه السلام فقد عظم نفسه (15) ».

الفرق بين سياسة علي عليه السلام و غيره

1ـقال الفاضل المصري،الدكتور طه حسين:«إن الفرق بين علي و معاوية في السيرة و السياسة كان عظيما بعيد المدى،عرفت أن معاوية كان ينتظر عليا في ثبات و ثقة و اطمينان،كان الفرق بين الرجلين عظيما في السيرة و السياسة،فقد كان علي مؤمنا بالخلافة...يرى أن من الحق عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس لا يؤثر منهم أحدا على أحد،و يرى أن من الحق عليه أن يحفظ عن المسلمين مالهم لا ينفقه إلا بحقه،فهو لا يستبيح لنفسه أن يصل الناس من بيت المال،بل هو لا يستبيح لنفسه أن يأخذ من بيت المال لنفسه و أهله إلا ما يقيم الأود،لا يزيد عليه...

فأما معاوية...لا يجد في ذلك بأسا و لا جناحا،فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون،و كان الزاهدون يجدون عند علي ما يحبون،و ما رأيك في رجل جاء أخوه عقيل بن أبي طالب مسترفدا،فقال لابنه الحسن:إذا خرج عطائي فسر مع عمك إلى السوق فاشتر له ثوبا جديدا و نعلين جديدتين،ثم لم يزد ذلك شيئا!و ما رأيك في رجل آخر يأتيه عقيل هذا نفسه بعد أن لم يرض صلة أخيه فيعطيه من بيت المال مائة ألف...

و علي لا يدهن في الدين،و لم يكن يبغض شيئا كما يبغض وضع درهم من بيت مال المسلمين في غير موضعه أو إنفاقه في غير حقه،كما كان يبغض المكر و الكيد و كل ما يتصل بسبب من أسباب الجاهلية الأولى... (16) »

2ـو قال:«مفتاح سياسة الإمام قوله عليه السلام:لا اداهن في ديني،و لا اعطي الدنية في أمري (17) ».ـو قال جرج جرداق:«إن الذين قالوا:علي لا يعرف السياسة يريدون من علي أن يكون معاوية بن أبي سفيان،و يأبى علي إلا أن يكون ابن أبي طالب (18) ».

و قالـأيضا:«و الذي يمعن النظر في سياسة معاوية يهوله هذا المقدار من قوى الشر و الاحتيال التي تألف منها اسلوبه في أخذ الناس...فهو اسلوب مكيافيلي خالص لا ينقصه شي‏ء من تفاصيل المكيافيلية المجرمة و النهب و الترويع و التقتيل (19) ».

و قالـأيضاـ،من قول معاوية:«فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك،و انهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا».

و قالـأيضا:«أقول:صدق رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال:إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباد الله خولا (20) ».

و قالـأيضا:«نعم،إن معاوية لم يكن على شي‏ء من الإسلام،و قد شهد على نفسه بذلك فإنه كان يلبس الحرير،و يشرب في آنية من الذهب و الفضة حتى أنكر عليه أبو الد رداء فقال له :إني سمعت رسول الله،يقول:إن الشارب فيهما لتجرجر في جوفه نار جهنم...فقال معاوية بلا مبالاة:أما أنا فلا أرى بذلك بأسا (21) ».

4ـو قال عبد الكريم الخطيب:«...تركوا عليا(يعني أصحابه)خوفا من حسابه أو يأسا من عطائه،و لحقوا بمعاوية حيث هناك لا خوف من حساب و لا يأس من عطاه،فإن بيت مال المسلمين هو بيت مال معاوية يضعه حيث يشاء،و يفتح به لنفسه إلى الناس طرقا،و في عقيل بن أبي طالب و في موقف على منه مايغني عن كل مثل يورد و عن كل قول يقال في هذا المقام...

و طبيعي أن سياسة علي هذه كان يمكن أن تمسك عليه أهله و أصحابه و أنصاره لو كانت سياسة معاوية مماثلة لتلك السياسة أو مقاربة لها،و أما سياسة معاوية تذهب المياسرة حينا و الممالأة حينا آخر و الإغراء و الإغراق في أكثر الأحيان،فإن ذلك جدير به أن يقلب القلوب و يدير الرؤوس،و قد تحول كثير من أنصار علي إلى جبهة معاوية بفعل هذه السياسة...».

و قالـأيضا:نجد المال في يد علي حربا عليه يكثر من أعدائه،و يفسد عليه أصحابه و أنصاره،بينما نجد المال في يد معاوية جيشا عاملا يؤلف له العدو،و يدني إليه البعيد،و يبسط له سلطانا قائما على الرغبة و الأمل... (22) ».

و قال:«روى أبو جعفر الإسكافي:أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يحدث بأن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب:و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألد الخصام و إذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد (23) فلم يرض،فبذل له مثنى ألف فلم يقبل،فبذل له أربعمائة ألف فقبل (24) ».

ما طعن في سياسته عليه السلام و الجواب عنه

قال ابن أبي الحديد:«و قد تعلق من طعن في سياسته بامور...منها قولهم:«إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر،و قد كان اجتمع له من بني هاشم و بني امية و غيرهم من أفناء الناس من يتمكن بهم من المنازعة و طلب الخلافة،

فقصر عن ذلك لاجبنا،لأنه كان أشجع البشر و لكن قصور تدبير و ضعف رأي (25) ».

و الجواب (26) ما أشار عليه السلام إليه في مواضع مختلفته،فقال في موضع:«و ايم الله،لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين،و أن يعود الكفر و يبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه... (27) ».

و في موضع قال:«فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين،و سفك دمائهم،و الناس حديثوا عهد بالاسلام و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى و هن،و يعكسه أقل خلف (28) ».

و في موضع قال في جواب الأشعث بن قيسـلما قال له:ما منعك،يا ابن أبي طالب!حين بويع أخو بني تيم و أخو بني عدي و أخو بني أمية أن تقاتل و تضرب بسيفك،و أنت لم تخطبنا مذ كنت قدمت العراق،إلا قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر:«و الله،إني لأولى الناس،و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم»،فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟

يا ابن قيس!اسمع الجواب،لم يمنعني من ذلك الجبن و لا كراهية لقاء ربي،و لكن منعني من ذلك أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم و عهده إلى،أخبرني بما الامة صانعة بعده.. .فقلت:يا رسول الله!فما تعهد إلى إذا كان ذلك؟قال:إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم،و إن لم تجد أعوانا فكف يدك،و احقن دمك حتى تجد على إقامة الدين و كتاب الله و سنتى أعوانا ... (29) ».و في موضع حين خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة،فقال:«و الله،لو أن لي رجالا ينصحون لله عز و جل و لرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه قال:فلما أمسى بايعه ثلاثمائة و ستون رجلا على الموت،فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام :اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين،و حلق أمير المؤمنين عليه السلام،فما وافى من القوم محلقا إلا أبوذر و المقداد و حذيفة بن اليمان و عمار بن ياسر،و جاء سلمان في آخر القوم،فع يده إلى السماء،فقال:اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون،اللهم فإنك تعلم ما نخفي و ما نعلن و ما يخفى عليك شي‏ء في الأرض و لا في السماء،توفني مسلما و ألحقني بالصالحين.أما و البيت و المفضي إلى البيت(و المزدلفةـنسخة)و الخفاف إلى التجمير،لو لا عهد عهده إلي النبي الامي صلى الله عليه و آله و سلم لأوردت المخالفين خليج المنية و لأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت،و عن قليل سيعلمون (30) ».

أقول:الصيرة:حظيرة تتخذ من الحجارة و أغصان الشجرة للغنم و البقر.و الذبانـبالكسر و التشديدـ:جمع ذباب،و كنى ابن بابن آكلتها عن سلطان الوقت،فإنهم كانوا في الجاهلية يأكلون من كل خبيث نالوه.و أحجار الزيت موضع داخل المدينة،و المفضي إلى البيت:ماسه بيده،و الخفاف :سرعة الحركة،و لعل المراد بالتجمير رمي الجمار،و الخليج:النهر،و شآبيب:جمع شؤبوبـبالضم مهموزاـو هو الدفعة من المطر،كما في هامش الروضة.

و منها قولهم:«لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر له و يتوطد و يبايعه معاوية و أهل الشام،ثم يعزله بعد ذلك لكان قد كفي ما جرى بينهما من الحرب».

و الجواب:...أن قرائن الأحوال حينئذ كان قد علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أن‏معاوية لا يبايع له و إن أقره على ولاية الشام،بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية و آكد في الامتناع من البيعة،ليمكن أن يقولوا:لو لا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي عليه السلام معه...».

و منها قولهم:«إنه ترك الطلحة و الزبير حتى خرجا إلى مكة،و أذن لهما في العمرة،و ذهب عنه الرأي في ارتباطهما قبله...».

و الجواب:...و من قال:إنهما استأذناه في العمرة و أذن لهما فقد روي أنه قال:و الله ما تريدان العمرة و إنما تريدان الغدرة،و خوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة،و ما كان يجوز له في الشرع و لا في السياسة أن يجلسهما،أما في الشرع فلأنه محظور أن يعاقب الإنسان بمالم يفعل،و على ما يظن به و يجوز أن لا يقع.و أما في السياسة فلانه لو أظهر التهمة لهما و هما من أفاضل السابقين و جلة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير ما لا يخفى.. .».

و منها قولهم:«هلا إذا ملك شريعة الفرات على معاويةـبعد أن كان معاوية ملكها عليه و منعه و أهل العراقـمنع معاوية و أهل الشام منها،فكان يأخذهم قبضا بالأيدي؟فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء بل فسح لهم في الورود،و هذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب».

و الجواب أنه عليه السلام لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش،فإن الله تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك و لا فسح فيه في نحو القصاص،أو حد الزاني المحصن،أو قتل قاطع الطريق،أو قتال البغاة و الخوارج،و ما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله و شريعته و يعتمد ما هو محرم فيها لأجل الغلبة و القهر و الظفر بالعدو،و لذلك لم يكن يستحل البيات (31) و لا الغدر و لا النكث.و منها قولهم:«أخطا حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة،فإن ذلك مما وهنه عند أهل العراق،و قوى الشبهة في نفوس أهل الشام».

و الجواب:أنه عليه السلام احتذى في ذلكـلما دعي إليه و اقترحه الخصم عليهـفعل رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في صحيفة الحديبية حيث محا اسمه من النبوة لما قال له سهيل بن عمرو:لو علمنا أنك رسول الله لما حاربناك و لا منعناك عن البيت.و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم له عليه السلامـو هو يومئذ كاتب تلك الصحيفةـ:ستدعى إلى مثلها فتجيب .و هذا من أعلام نبوتهـصلوات الله عليهـو من دلائل صدقه،و مثله جرى له حذو القذة بالقذة .

و منهم قولهم:«إن جماعة من أصحابه عليه السلام فارقوه و صاروا إلى معاوية كعقيل بن أبي طالب أخيه،و النجاشي شاعره،و رقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه،و لو لا أنه كان يوحشهم و لا يستميلهم لم يفارقوه و يصيروا إلى عدوه،و هذا يخالف حكم السياسة و ما يجب من تألف قلوب الأصحاب و الرعية».

و الجواب:أنا أولا لا ننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا و زخرفها،و أحب العاجل من ملاذها و زينتها يميل إلى معاوية الذي يبذل منها كل مطلوب،و يسمح بكل مأمول،و يطعم خراج مصر عمرو بن العاص،و يضمن لذي الكلاع و حبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء و الاقتراق،و علي عليه السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة و حكم الملة حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلباء بن الهيثمـو هو يحمله على مفارقة علي عليه السلام و اللحاق بمعاويةـ:اتق الله،يا علباء!في عشيرتك،و انظر لنفسك و لرحمك،ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن و الحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما،فأبى و غضب فلم يفعل.فأما عقيل فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام.

و منها قولهم:«إنه غير مصيب في ترك الاحتراس،فقد كان يعلم كثرة أعدائه و لم يكن يحترس منهم،و كان يخرج ليلا في قميص و رداء وحده حتى كمن له‏ابن ملجم في المسجد فقتله...» .

و الجواب:إن هذا إن كان قادحا في السياسة و صحة التدبير...فليكن قادحا في صحة تدبير رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،فقد كان يخرج وحده في المدينة ليلا و نهارا مع كثرة أعدائه...و لأن عليا عليه السلام كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس،فلم يكن يظن أن أحدا يقدم عليه غيلة... (32) ».

أقول:و هذا كله مع أنه عليه السلام يقدم في سياسته و تدبيره مصلحة الإسلام على حق نفسه،و كان يضحي بنفسه في سبيل مصلحة الإسلام و رقاه و قامه على أصوله.قال ابن أبى الحديد:«روى الكلبي قال:لما أراد علي عليه السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس فقال بعد أن حمد الله و صلى على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم:إن الله لما قبض نبيه صلى الله عليه و آله و سلم استأثرت علينا قريش بالأمر،و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة،فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم،و الناس حديثوا عهد بالإسلام،و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن،و يعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا،ثم انتقلوا إلى دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيئاتهم و العفو عن هفواتهم (33) ،فما بال طلحة و الزبير و ليسا من هذا الأمر بسبيل،لم يصبرا علي حولا و لا أشهرا حتى وثبا و مرقا و نازعانى أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا،بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين،يرتضعان أما قد فطمت،و يحييان بدعة قد اميتت،أدم عثمان زعفا؟و الله ما التبعة؟؟؟ إلا عندهم و فيهم،و إن أعظم ححتهم لعلى أنفسهم،و أنا راض بحجة الله عليهم و علمه فيهم،فإن فاءا و أنا بافحظهما أحرزا،و أنفسهما غنما،و أعظم بهما غنيمة!و إن أبيا أعطيهما حد السيف و كفى به ناصرا لحق،و شافيالباطل (34) ».

و قالـأيضا:«عن عبد الله بن جنادة،قال:قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي عليه السلام فمررت بمكة فاعتمرت،ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذ نودي:الصلاة جامعة،فاجتمع الناس و خرج علي متقلدا سيفه،فشخصت الأبصار نحوه،فحمد الله و صلى على رسوله،ثم قال:أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه صلى الله عليه و آله و سلم قلنا نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون الناس،لا ينازعنا سلطانه أحد،و لا يطمع في حقنا طامع،إذ انبرى لنا قومنا،فغصبونا سلطان نبينا،فصارت الامرة لغيرنا و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف،و يتعزز علينا الذليل،فبكت الأعين منا بذلك،و خشنت الصدور،و جزعت النفوس.و ايم الله،لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين،و أن يعود الكفر و يبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه... (35) ».

و قال عليه السلام:«إياكم و الفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئبة،ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه (36) ».

و قال عليه السلام:«لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري،و والله،لأسلمن ما سلمت امور المسلمين و لم يكن فيها جور إلا علي خاصة (37) ».

و في كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر،قال:«فو الله،ما كان يلقي في روعي (38) ،و لا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه و آله و سلم عن أهل بيته،و لا أنهم منحوه عني من بعده،فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه،فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه و آله و سلم،فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل،يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب،فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل و زهق،و اطمأن الدين و تنهنه (39) ».

قال ابن أبي الحديد:«و كأنه(نصر علي عليه السلام)جواب عن قول قائل:إنه عمل لابي بكر و جاهد بين يدي أبي بكر،فبين عليه السلام عذره في ذلك،و قال:إنه لم يكن كما ظنه القائل،و لكنه من باب دفع الضرر عن النفس و عن الدين فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن (40) ».

تعليقات:

.1 ابن منظور:لسان العرب،مادة«سوس».

.2 الطريحي:مجمع البحرين،مادة«سوس».

.3 السيد الرضي(المجمع):نهج البلاغة،خ .41

.4 السيد الرضي:(المجمع):نهج البلاغه،خ .109

.5 المصدر،خ .198

.6 المجلسي:بحار الأنوار،ج 41:ص .109

.7 المجلسي:بحار الأنوار،ج 41:ص .110

.8 السيد الرضي(المجمع):نهج البلاغة،خ .124

.9 السيد الرضي(المجمع):نهج البلاغة،خ .68

.10 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 11:ص .123

.11 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 10:ص 212.و من المحال اجتماع النقيضين و ارتفاعهما،و لا محالة اثبات أحدهما،فالثابت الحق منهما ما يوافق كتاب الله و نصوص السنة و هو طريق أمير المؤمنين عليه السلام كما أذعن به الشارح.

.12 كذا.

.13 التعدد:القريب الاباء من الجد الاعلى.

.14 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 10:ص .214

.15 المصدر،ج 8:ص .175

.16 على و بنوه،ص 59،ط دار المعارف بمصر.

.17 الامام على أسد الاسلام و قديسه،ص 92،ط بيروت.

.18 المغنية:في ظلال نهج البلاغة،ج 1:ص .258

.19 علي صوت العدالة الانسانية،ج 4:ص .775

.20 علي صوت العدالة الانسانية،ج 4:ص .779

.21 علي صوت العدالة الانسانية،ج 4:ص .766

.22 الإمام علي بقية النبوة و خاتم الخلافة،ص .439

.23 البقرة،2:204 و .205

.24 الإمام علي بقية النبوة و خاتم الخلافة،ص .164

.25 شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد،ج 10:ص .254

.26 هذا الجواب منى،و الجواب عن الامور الاخر من ابن أبى الحديد.

.27 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 1:ص .307

.28 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 1:ص 308.و الوطب:سقاء اللبن خاصة.و سنورد هذا الكلام بتمامه.

.29 العلامة التستري:بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة،ج 4:ص .519

.30 الكليني:الروضة من روضة الكافي،ص 33،ط الاخوندي.

.31 أي الهجوم على العدو ليلا.

.32 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 10:ص .259

.33 هذاـعلى تقدير صحة الصدورـتقية من الناس و مماشاة معهم لما قد مضى الامر كيف ما كان،و إنما هو عليه السلام في فتنة جديدة ينبغى استفراغ البال لها.

.34 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 1:صص 308 و .307

.35 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 1:صص 308 و .307

.36 السيد الرضي(المجمع)نهج البلاغة،خ .125

.37 السيد الرضي(المجمع):نهج البلاغة،خ .71

.38 بالضم:القلب.

.39 السيد الرضي(المجمع):نهج البلاغة،ر .62

.40 ابن ابى الحديد:شرح نهج البلاغة،ج 17:ص .154