الصفحة 173
عزوجل، وأمرني بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين، فمن أدرك منكم ذلك الزمان وتلك الاُمور وأراد أن يأخذ بحظّه من الجهاد معي فليفعل، فإنّه والله الجهاد الصافي، صفّاه لنا كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وآله، فكونوا رحمكم الله من أجلاس(1) بيوتكم إلى أوان ظهور أمرنا، فمن مات منكم كان من المظلومين، ومن عاش منكم أدرك ما تقرّ به عينه إن شاء الله تعالى.

ألا وإنّي اُخبركم انّه سيحملون على خطّة [من](2) جهلهم، وينقضون علينا عهد نبيّنا صلّى الله عليه وآله لقلّة علمهم بما يأتون ويذرون، وسيكون منهم ملوك يدرس عندهم العهد، وينسوا ما ذكّروا به، ويحلّ بهم ما يحلّ بالاُمم حتّى يصيروا إلى الهرج والاعتداء وفساد العهد(3)، وذلك لطول المدّة وشدّة المحنة التي اُمرت بالصبر عليها، وسلّمت لأمر الله في محنة عظيمة يكدح فيها المؤمن حتّى يلقى الله ربّه.

واهاً للمتمسّكين بالثقلين وما يعمل بهم، وواهاً لفرج آل محمد صلّى الله عليه وآله من خليفة مستخلف عريف مترف(4) يقتل خلفي وخلف الخلف، بلى اللّهمّ لا تخلو الأرض من قائم بحجّة امّا ظاهراً مشهوراً أو باطناً مستوراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته، ويكون نحلة لمن اتّبعه واقتدى به.

وأين اُولئك؟ وكم اُولئك؟ اُولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله خطراً، بهم يحفظ الله دينه وعلمه حتّى يزرعها في صدور أشباههم ويودعها أمثالهم، هجم بهم العلم على حقيقة الايمان، واستروحوا روح اليقين، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، واستلانوا ما استوعر منه المترفون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها

____________

1- في البحار: أحلاس.

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ب": العهود.

4- في البحار: عتريف.


الصفحة 174
معلّقة بالمحلّ الأعلى، اُولئك حجج الله في أرضه واُمناؤه على خلقه، هاه شوقاً إليهم(1) وإلى رؤيتهم، وواهاً على صبرهم على عدوّهم، وسيجمعنا الله وإيّاهم في جنّات عدن ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم.

ثمّ قال: ثمّ بكى وبكى القوم معه، ثمّ ودّعوه وقالوا: نشهد لك بالوصيّة والإمامة والاخوّة وانّ عندنا لصفتك وصورتك، وسيقدم وفد بعد هذا الرجل من قريش على الملك، ولنخرجنّ إليهم صورة الأنبياء، وصورة نبيّك وصورتك، وصورة ابنيك الحسن والحسين، وصورة فاطمة زوجتك سيّدة نساء العالمين بعد مريم الكبرى البتول، وانّ ذلك لمأثور عندنا ومحفوظ، ونحن راجعون إلى الملك ومخبروه بما أودعتنا من نور هدايتك وبرهانك وكرامتك وصبرك على ما أنت فيه، ونحن المرابطون لدولتك، الراعون(2) لك ولأمرك، فما أعظم هذا البلاء، وما أطول هذه المدّة، ونسأل الله التوفيق والثبات، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(3).

[في إجابته عليه السلام سؤال يهودي]

بحذف الاسناد قيل: لمّا كان بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله دخل يهودي المسجد فقال: أين وصيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأشاروا إلى أبي بكر، فوقف عليه وقال: انّي اُريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ، قال أبو بكر: سل عمّا بدا لك، فقال اليهودي: أخبرني عمّا ليس لله، وعمّا ليس عند الله، وعمّا لا يعلمه الله.

فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي، أو في السماء [والأرض](4)

____________

1- في "ج": فوا شوقاه.

2- في "ب" و "ج": الداعون.

3- عنه البحار 30: 53 ح1; ونحوه في أمالي الطوسي: 218 ح382; عنه البحار 10: 54 ح2.

4- أثبتناه من "ج".


الصفحة 175
شيء لا يعلمه الله وليس لله، وهمّ به المسلمون، وكان في القوم ابن عباس فقال: ما أنصفتم الرجل، قال أبو بكر: أوما سمعت ما تكلّم به؟ فقال ابن عباس: إن كان عندكم جواب وإلاّ فاذهبوا به إلى من يجيبه، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لعليّ بن أبي طالب: اللّهمّ اهد قلبه، وثبّت لسانه.

قال: فقام أبو بكر ومن حضر من المهاجرين والأنصار حتّى أتوا علياً عليه السلام واستأذنوا عليه فدخلوا، فقال أبو بكر: يا أبا الحسن انّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة، فقال عليّ عليه السلام لليهودي: ما تقول يا يهودي؟ قال: إنّي أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ، فقال عليه السلام: سل يا يهودي فاُنبئك به، قال: أخبرني عمّا ليس لله، وعمّا ليس عند الله، وعمّا لا يعلمه الله.

فقال [عليّ عليه السلام](1): أمّا قولك أخبرني عمّا ليس لله فليس لله شريك، وأمّا قولك عمّا ليس عند الله فليس عند الله ظلم للعباد، وأمّا قولك عمّا لا يعلمه الله فذلك قولكم أنّ عزير ابن الله والله لا يعلم أنّ له ولداً، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وانّك وصيّه، فقام أبو بكر ومن معه فقبّلوا رأس عليّ عليه السلام وقالوا: يا مفرّج الكرب(2).

[في جوابه عليه السلام عن مسائل اليهوديين]

وبحذف الاسناد أيضاً مرفوع إلى ابن عباس قال: قدم يهوديان أخوان من رؤوس(3) اليهود، فقالا: يا قوم [انّ](4) نبيّنا حدّثنا انّه يظهر بتهامة رجل يمحي

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- عنه البحار 30: 85 ح2; ونحوه الفضائل لابن شاذان: 132; والاحتجاج 1: 484 ح118; عنه البحار 10: 52 ح1.

3- في "ج": رؤساء.

4- أثبتناه من "ج".


الصفحة 176
بسيفه أحلام اليهود ويطعن في دينهم، ونحن نخاف أن يزيلنا عمّا كانت عليه آباؤنا، فأيّكم هذا النبي؟ فإن كان المبشّر به داود آمنّا به واتّبعناه، وإن كان يورد الكلام على ابلاغه(1) ويورد الشعر ويقهرنا(2) جاهدناه بأنفسنا وأموالنا، فأيّكم هذا النبي؟

فقال المهاجرون والأنصار: انّ نبيّنا قُبض، فقالا: الحمد الله، فأيّكم وصيّه، فما بعث(3) الله نبيّاً إلى قوم إلاّ وله وصيّ يؤدّي من بعده، ويحكي ما أمره به ربّه، فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر، فقالوا: هو وصيّه، فقالا: إنّا نلقي عليك من المسائل ما يلقى على الأوصياء، ونسألك ما تُسأل الأوصياء عنه، فقال أبو بكر: ألقيا سأخبركما عنه(4) إن شاء الله تعالى.

فقال له أحدهما: ما أنا وأنت عند الله؟ وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟ وما قبر سار بصاحبه؟ ومن أين تطلع الشمس وأين تغرب؟ وأين سقطت(5) الشمس ولم تسقط(6) في ذلك الموضع؟ وأين تكون الجنّة وأين تكون النار؟ وربّك يَحمل أو يُحمل؟ وأين يكون وجه ربّك؟ وما اثنان شاهدان؟ وما اثنان غائبان؟ وما اثنان متباغضان؟ وما الواحد وما الاثنان، وما الثلاثة، وما الأربعة، وما الخمسة، وما الستّة، وما السبعة، وما الثمانية، وما التسعة، وما العشرة، وما الاحدى عشر، وما الاثنى عشر، وما العشرون، وما الثلاثون، وما الأربعون، وما الخمسون، وما الستّون، وما السبعون، وما الثمانون، وما التسعون، وما المائة؟

قال ابن عباس: فبقى أبو بكر لا يردّ جواباً، وتخوّفنا أن يرتدّ القوم عن

____________

1- في "ج": بالبلاغة.

2- في "ج": يقهرنا بلسانه.

3- في "ج": أرسل.

4- في "ج": مسائلكما.

5- في "ج": طلعت.

6- في "ج": لم تطلع فيه بعد ذلك.


الصفحة 177
الإسلام، فأتيت منزل عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقلت له: يا عليّ انّ رؤساء اليهود(1) قد قدموا المدينة وألقوا على أبي بكر مسائل وقد بقي لا يردّ جواباً.

فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً ثمّ قال: هو الذي وعدني رسول الله صلّى الله عليه وآله وأخذ يمشي أمامي، فما أخطأت مشيته مشية رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى قعد في الموضع الذي كان يقعد فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ التفت إلى اليهوديين فقال: يا يهوديان اُدنوا منّي وألقيا ما ألقيتما على الشيخ، فقالا: من أنت؟ فقال: أنا عليّ بن أبي طالب، أخو النبي، وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، ووصيّه في خلافته(2) كلّها، وصاحب كل نفيسة(3) وغزاة، وموضع سرّ النبي صلّى الله عليه وآله.

فقال اليهودي(4): ما أنا وأنت عند الله؟ قال: أنا مؤمن منذ عرفت نفسي وأنت كافر منذ عرفت نفسك، وما أدري ما يحدث الله فيك يا يهودي بعد ذلك، قال اليهودي: فما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة؟ قال: يونس عليه السلام في بطن الحوت،قال: فماقبر ساربصاحبه؟قال:يونس حين طاف به الحوت في سبعة أبحر.

قال له: فالشمس من أين تطلع؟ قال: من قرن(5) الشيطان، قال: فأين تغيب(6)؟ قال: في عين حمئة، وقال لي حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله: لا تصلّي في اقبالها ولا في ادبارها حتّى تصير في مقدار رمح أو رمحين، قال: فأين سقطت الشمس ولم تسقط(7) في ذلك الموضع؟ قال: البحر حين فرقه الله تعالى لقوم

____________

1- في "ب": رؤوساً من اليهود.

2- في "ج": في حالاته.

3- في "ج": منقبة.

4- في "ج": فقال له أحد اليهوديين.

5- في "ج": قرني.

6- في "ج": في أين تغرب.

7- في "ج": طلعت الشمس ثمّ لم تطلع.


الصفحة 178
موسى عليه السلام.

قال له: ربّك يَحمل أو يُحمل؟ قال: ربّي يحمل كلّ شيء ولا يحمله شيء، قال: فكيف قوله: {ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية}(1)؟ قال: يا يهودي ألم تعلم انّ الله له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وكلّ شيء على الثرى، والثرى على القدرة، والقدرة عند ربّي.

فقال: فأين تكون الجنّة؟ وأين تكون النار؟ قال: الجنّة في السماء، والنار في الأرض، قال: فأين يكون وجه ربّك؟ فقال عليّ عليه السلام لابن عباس: ائتني بنار وحطب فأضرمها، فقال: يا يهودي أين وجه هذه النار؟ قال: لا أقف لها على وجه، قال: كذلك ربّي، أينما تولّوا فثمّ وجه الله.

قال: فما اثنان شاهدان(2)؟ قال: السماء والأرض لا يغيبان، قال: فما اثنان غائبان؟ قال: الموت والحياة لا نقف عليهما، قال: فما اثنان متباغضان؟ قال: الليل والنهار، قال: فما نصف الشيء؟ قال: المؤمن، قال: فما لا شيء؟ قال: يهودي مثلك لا يعرف ربّه، قال: فما الواحد؟ قال: الله عزوجل، قال: فما الاثنان؟ قال: آدم وحواء، قال: فما الثلاثة: قال: كذبت النصارى على الله عزوجل وقالوا عيسى بن مريم ابن الله، والله لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً.

قال: فما الأربعة؟ قال: التوراة والانجيل والزبور والفرقان(3) العظيم، قال: فما الخمسة؟ خمس صلوات مفروضات، قال: فما الستّة، قال: خلق الله السماوات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش، قال: فما السبعة؟ قال: سبعة أبواب النار متطابقات، قال: فما الثمانية؟ قال: ثمانية أبواب الجنّة، قال: فما التسعة؟ قال:

____________

1- الحاقة: 17.

2- زاد في "ج": لا يغيبان.

3- في "ج": القرآن.


الصفحة 179
تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال: فما العشرة؟ قال: عشرة أيّام من العشر.

قال: فما الأحد عشر؟ قال: قول يوسف لأبيه: {إنّي رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}(1) قال: فما الاثنى عشر؟ قال: شهور السنة، قال: فما العشرون؟ قال: بيع يوسف بعشرين درهماً، قال: فما الثلاثون؟ قال: ثلاثون ليلة(2) من شهر رمضان صيامه فرض واجب على كلّ مؤمن، إلاّ من كان مريضاً أو على سفر.

قال: فما الأربعون؟ قال: كان ميقات موسى ثلاثين ليلة قضاها والعشرة كانت تمامها، قال: فما الخمسون؟ قال: دعا نوح [قومه](3) ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، قال: فما الستّون؟ قال: قال الله عزوجل: فاطعام ستّين مسكيناً (أو) صيام شهرين متتابعين(4)، قال: فما السبعون؟ قال: اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربّه، قال: فما الثمانون؟ قال: قرية بالجزيرة يقال لها "ثمانين" [منها](5) قعد نوح في السفينة واستوت على الجودي وغرّق(6) الله القوم.

قال: فما التسعون؟ قال: الفلك المشحون اتّخذ [نوح فيه تسعين](7) بيتاً للبهائم، قال: فما المائة؟ قال: كان لداود عليه السلام ستّون سنة وهب له آدم أربعين [سنة من عمره](8)، فلمّا حضر آدم الوفاة جحد، فجحد ذرّيته.

____________

1- يوسف: 4.

2- في "ج" يوماً.

3- أثبتناه من البحار.

4- تلفيق من سورة المجادلة آية: 4.

5- أثبتناه من "ج".

6- في "ج": أغرق.

7- أثبتناه من "ج"، وفي البحار: اتّخذ يوماً فيها بيتاً للبهائم.

8- أثبتناه من "ج".


الصفحة 180
فقال: يا شاب صف لي محمداً صلّى الله عليه وآله كأنّي أنظر إليه حتّى اُؤمن به الساعة، فبكى عليّ عليه السلام ثمّ قال: يا يهودي هيّجت أحزاني، كان حبيبي [رسول الله](1) صلّى الله عليه وآله صلب(2) الجبين، مقرون الحاجبين، أدعج(3)العينين، سهل الخدّين، أقنى(4) الأنف، دقيق المسربة(5)، كثّ اللحية، براق الثنايا، كأنّ عنقه ابريق فضّة.

كان له شعرات من لبته(6) إلى سرّته متفرّقة كأنّها قضيب كافور، لم يكن بالطويل الذاهب، ولا القصير النزر، كان إذا مشى مع الناس غمرهم(7)، كان إذا مشى كأنّه ينقطع من صخرة أو ينحدر من صبب، كان مبدول(8) الكعبين، لطيف القدمين، دقيق الخصر، عمامته السحاب، سيفه ذو الفقار، بغلته دلدل، حماره اليعفور، ناقته العضباء، فرسه المبدول(9)، قضيبه الممشوق، كان أشفق الناس على الناس، وأرأف الناس بالناس، كان بين كتفيه خاتم النبوّة، مكتوب على الخاتم سطران، أوّل سطر "لا إله إلاّ الله" والثاني "محمد رسول الله" هذه صفته يا يهودي.

فقال اليهوديان: نشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وأنّك وصيّ محمّد حقّاً، وأسلما وحسن اسلامهما ولزما أمير المؤمنين عليه السلام، فكانا معه حتّى كان من أمر الجمل ما كان، فخرجا معه إلى البصرة، فقتل أحدهما في وقعة

____________

1- أثبتناه من "ب".

2- في "ج" والبحار: صلت.

3- الدعج والدعجة: السواد في العين وغيرها.

4- القنا في الأنف: طوله ودقّة أرنبته مع حدب في وسطه.

5- المسربة: ما دقّ من شعر الصدر مائلا إلى الجوف.

6- اللبة: المنحر، والجمع اللبات.

7- في "ج": غمرهم نوره.

8- في "ج": مدوّر.

9- في "ج": لزار.


الصفحة 181
الجمل وبقى الآخر حتّى خرج معه إلى صفين فقُتل(1).

[في جوابه عليه السلام عن مسألة يهودي آخر]

وبحذف الاسناد مرفوعاً إلى الصادق عليه السلام قال: لمّا بايع الناس عمر بعد وفاة أبي بكر أتاه رجل من شبّان اليهود وهو في المسجد، فسلّم عليه والناس حوله فقال: يا عمر(2) دلّني على أعلمكم بالله وبرسوله وبكتابه وسنّته، فأومأ إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال: هذا.

فتحوّل الرجل إلى عليّ عليه السلام فسأله: أنت كذلك؟ فقال: نعم، فقال: انّي أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة، قال: أفلا قلت عن سبع؟ قال اليهودي: لا، إنّما أسألك عن ثلاث فإن أصبت(3) فيهنّ سألتك عن ثلاث بعدها، وإن لم تصب لم أسألك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أخبرني إذا أجبتك بالصواب والحقّ تعرف ذلك ـ وكان الفتى من علماء اليهود وأحبارها، يروون(4) انّه من ولد هارون أخي موسى بن عمران ـ؟ فقال: نعم.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: بالله الذي لا إله إلاّ هو لئن أجبتك بالصواب والحق لتسلمنّ وتدع اليهودية؟ فحلف له وقال: ما جئتك إلاّ مرتاداً اُريد الإسلام، فقال: يا هاروني سل عمّا بدا لك تخبر إن شاء الله تعالى.

[قال اليهودي](5): فأخبرني عن أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض، وعن أوّل عين نبعت في الأرض، وعن أوّل حجر وضع على وجه الأرض، فقال أمير

____________

1- عنه البحار 30: 86 ح3.

2- في "الف": يا أمير المؤمنين.

3- في "ب": أجبت.

4- في "ج": يرون.

5- أثبتناه من "ج".


الصفحة 182
المؤمنين عليه السلام: أمّا أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض فإنّ أهل الأرض يزعمون انّها الزيتونة وكذبوا، إنّها هي النخلة وهي العجوة، هبط بها آدم من الجنّة فغرسها، وأصل النخل كلّه منها.

وأمّا أوّل عين نبعت على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون انّها العين التي في بيت المقدس تحت الحجر وكذبوا، بل هي عين الحياة التي انتهى موسى وفتاه اليها، فغسلا فيها السمكة(1) فحييت، وليس من ميّت يصيبه ذلك الماء إلاّ حيي، وكان الخضر عليه السلام شرب منها ولم يجدها ذو القرنين.

وأمّا أوّل حجر وضع على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون انّه الحجر الذي في بيت المقدس وكذبوا، إنّما هو الحجر الأسود هبط به آدم من الجنّة، فوضعه على الركن والناس يستلمونه، وكان أشدّ بياضاً من الثلج فاسودّ من خطايا بني آدم.

قال: فأخبرني كم لهذه الاُمّة من امام هدى، هادين مهديّين، لا يضرّهم خذلان من خذلهم؟ وأين منزل محمد من الجنّة؟ ومن معه من اُمّته في الجنّة؟ قال أمير المؤمنين عليه السلام: أمّا قولك كم لهذه الاُمة من امام هدى، وأين منزل محمد من الجنّة، ومن معه من اُمّته في الجنّة، فإنّ أئمة الهدى اثنا عشر، امّا منزل محمد صلّى الله عليه وآله ففي أشرف الجنان وأفضلها وجنّة عدن، وأمّا الذين معه فهؤلاء الأئمة الاثني عشر أئمة الهدى.

قال الفتى: صدقت، فوالله الذي لا إله إلاّ هو انّه لمكتوب عندي باملاء موسى وخطّ هارون بيده، قال: فأخبرني كم يعيش وصيّ محمد بعده، وهل يموت موتاً أو يُقتل قتلا؟ قال له: ويحك أنا وصيّ محمد، أعيش بعده ثلاثين لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً(2)، ثمّ يبعث أشقاها شقيق عاقر ناقة صالح، فيضربني ضربة في قرني

____________

1- في "ج": السمكة المالحة.

2- قال العلامة المجلسي رحمه الله في ذيل الحديث: أقول: ليس هذا في أكثر الروايات، ويشكل تصحيحه لعدم اتحاد يومي وفاتهما صلوات الله عليهما، ويمكن أن يقال بناء الثلاثين على التقريب وقوله عليه السلام: "لا يزيد" استئناف لبيان انّ الموعد الذي وعدت لك لا يتخلّف وأعلمه بحيث لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً، وقيل: الضمير راجع إلى كتاب هارون، وربّما يُقرأ تزيد وتنقص على صيغة الخطاب [أقول: كما هو في نسخة "ب" ]أي انّك رأيت في كتاب أبيك هارون ثلاثين سنة فتتوهّم انّه لا كسر فيها، وليس ذلك بل هو مبني على إتمام الكسر، ولا يخفى بعدها.


الصفحة 183
فتخضب منه لحيتي، ثمّ بكى عليّ عليه السلام بكاءً شديداً، قال: فصرخ الفتى وقطع سبحته(1) وقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله، [وأنّك وصيّه وخليفته، وهادي الاُمّة، ومحيي السنّة من بعده](2) والحمد لله ربّ العالمين(3).

[خبر حذيفة بن اليمان رحمه الله من تآمر القوم ونكثهم البيعة وتخلّفهم عن جيش اُسامة]

بحدف الاسناد قال: لمّا استخلف عثمان بن عفّان آوى إليه عمّه الحكم بن العاص وولده مروان والحارث بن الحكم، ووجّه عمّاله في الأمصار، وكان فيمن وجّه عمر بن سفيان بن المغيرة بن أبي العاص بن اُميّة إلى مشكان، والحارث بن الحكم إلى المدائن، فأقام بها مدّة يتعسّف أهلها ويسيء معاملتهم.

فوفد منهم إلى عثمان وفد يشكوه، وأعلموه بسوء ما يعاملهم به، وأغلظوا عليه في القول، فولّى حذيفة بن اليمان عليهم ـ وذلك في آخر أيّامه ـ فلم ينصرف حذيفة بن اليمان عن المدائن إلى أن قتل عثمان واستخلف عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فأقام حذيفة عليها وكتب إليه:

____________

1- في البحار: كستيجه، وهو خيط غليظ يشدّه الذمّي فوق ثيابه دون الزنّار، معرّب كُسْتي.

2- أثبتناه من "ج".

3- عنه البحار 30: 95 ح4; ونحوه في كمال الدين: 297 ح5 باب 26; عنه البحار 36: 374 ح5; والخصال: 476 ح40 أبواب الاثنى عشر، والاحتجاج 1: 537 ح128; والكافي 1: 531 ح8; وغيبة النعماني: 97 ح29.


الصفحة 184
"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان، سلام عليك، أمّا بعد فإنّي قد ولّيتك ما كنت عليه(1) لمن كان قبلي من حرف المدائن، وقد جعلت إليك اعمال الخراج والرستاق وجباية أهل الذمّة، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممّن ترضى دينه وأمانته، واستعن بهم على أعمالك فإنّ ذلك أعزّ لك ولوليّك وأكبت لعدوّك.

وإنّي آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية، واُحذّرك عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدّم إليك بالاحسان إلى المحسن، والشدّة على المعاند، وآمرك بالرفق في اُمورك، واللين والعدل على رعيّتك، فإنّك مسؤول عن ذلك، وانصاف المظلوم، والعفو عن الناس، وحسن السيرة ما استطعت، فالله يجزي المحسنين.

وآمرك أن تجبي خراج الأرضين على الحق والنصفة، ولا تتجاوز ما تقدّمت به إليك، ولا تدع منه شيئاً، ولا تبتدع فيه أمراً، ثمّ اقسمه بين أهله بالسويّة والعدل، واخفض لرعيّتك جناحك، وواس بينهم في مجلسك، وليكن القريب والبعيد عندك في الحق سواء، واحكم بين الناس بالحق، وأقم فيهم بالقسط، ولا تتّبع الهوى، ولا تخف في الله لومة لائم، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون.

ولقد وجّهت إليك كتاباً لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين، فأحضرهم واقرأه عليهم، وخذ البيعة لنا على الصغير والكبير منهم إن شاء الله تعالى".

قال: فلمّا وصل عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى حذيفة جمع الناس فصلّى بهم، ثمّ أمر بالكتاب فقرئ عليهم وهو:

"بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، وأسأله أن

____________

1- في "ج": ما كنت تليه.


الصفحة 185
يصلّي على محمد وآله، فأمّا بعد فإنّ الله تعالى اختار الإسلام ديناً لنفسه وملائكته ورُسله إحكاماً لصنعه، وحسن تدبيره، ونظر الله(1) لعباده، وخصّ(2) به من أحبّ من خلقه، فبعث إليهم محمداً صلّى الله عليه وآله فعلّمهم الكتاب والحكمة اكراماً وتفضيلا لهذه الاُمّة، وأدّبهم لكي يهتدوا، وجمعهم لئلاّ يتفرّقوا، وفقّههم لئلاّ يجوروا.

فلمّا قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى رحمة الله حميداً محموداً، ثمّ انّ بعض المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهداهما وسيرتهما، فأقاما ما شاء الله ثمّ توفّاهما الله عزوجل، ثمّ ولّوا بعدهما الثالث، فأحدث أحداثاً، ووجدت الاُمّة عليه فعالا، فاتّفقوا عليه ثمّ نقموا منه فغيّروا، ثمّ جاؤوني كتتابع الخيل فبايعوني، فإنّي أستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى.

ألا وانّ لكم علينا العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، والقيام عليكم بحقّه، واحياء سنّته، والنصح لكم بالمغيب والمشهد، وبالله نستعين على ذلك وهو حسبنا ونعم الوكيل، وقد ولّيت اُموركم حذيفة بن اليمان، وهو ممّن ارتضى بهداه وأرجو صلاحه، وقد أمرته بالاحسان إلى محسنكم، والشدّة على مريبكم، والرفق بجميعكم، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة والاحسان ورحمته الواسعة في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

ثمّ انّ حذيفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي وآله ثمّ قال: الحمد لله الذي أحيى الحق، وأمات الباطل، وجاء بالعدل، ودحض الجور، وكبت الظالمين(3)، أيّها الناس! إنّما وليّكم والله(4) أمير المؤمنين حقّاً حقّاً، وخير من نعلمه بعد نبيّنا عليه وآله السلام، وأولى الناس بالناس، وأحقّهم بالأمر، وأقربهم إلى

____________

1- في "ب": نظراً منه لعباده.

2- في "ج": اختصّ.

3- في "ب": الباطل.

4- في "ب" و "ج": وليّكم الله ورسوله وأمير المؤمنين.


الصفحة 186
الصدق، وأرشدهم إلى العدل، وأهداهم سبيلا، وأدناهم إلى الله وسيلة، وأمسّهم(1)برسول الله صلّى الله عليه وآله رحماً.

أنيبوا إلى طاعة أوّل الناس سلماً، وأكثرهم علماً، وأقصدهم طريقاً، وأسبقهم ايماناً، وأحسنهم يقيناً، وأكثرهم معروفاً، وأقدمهم جهاداً، وأعزّهم مقاماً، أخي رسول الله وابن عمّه، وأبي الحسن والحسين، وزوج الزهراء البتول سيّدة نساء العالمين، فقوموا أيّها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ لله في ذلك رضى، ولكم مقنع وصلاح، والسلام.

فقام الناس [بأجمعهم](2) فبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام أحسن بيعة وأجمعها، فلمّا استتمّت البيعة قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمد بن عمارة بن التيهان أخو أبي الهيثم بن التيهان، يقال له: "مسلم" متقلّداً سيفاً، فناداه من أقصى الناس: أيّها الأمير! إنّا سمعناك تقول [في أوّل كلامك: إنّما](3) وليّكم الله [ورسوله و](4) أمير المؤمنين حقّاً حقّاً، تعرض(5) لمن كان قبله من الخلفاء إنّهم لم يكونوا اُمراء المؤمنين حقّاً، فعرّفنا ذلك أيّها الأمير رحمك الله ولا تكتمنا، فإنّك ممّن شهد وعاين(6)، ونحن مقلّدون ذلك أعناقكم، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لاُمّتكم، وصدق الخبر عن نبيّكم صلّى الله عليه وآله.

فقال حذيفة: أيّها الرجل أمّا إذا سألت وفحصت هكذا، فاسمع وافهم ما اخبر به، أمّا من تقدّم من الخلفاء قبل عليّ بن أبي طالب ممّن تسمّى بأمير المؤمنين، فإنّهم تسمّوا بذلك وسمّاهم الناس به، وأمّا عليّ بن أبي طالب فإنّ جبرئيل عليه

____________

1- في "ج": أقربهم.

2- أثبتناه من "ج".

3- أثبتناه من "ج".

4- أثبتناه من "ج".

5- في "ج": تعريضاً ممّن.

6- في "ج": وغبنا.


الصفحة 187
السلام سمّاه بهذا الاسم عن الله تعالى، وشهد له رسول الله صلّى الله عليه وآله عن سلام جبرئيل له بإمرة المؤمنين، وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله يدعونه في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله بإمرة المؤمنين(1).

قال الفتى: خبّرنا كيف كان ذلك يرحمك الله، قال حذيفة: انّ الناس كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل الحجاب إذا شاؤوا، فنهاهم صلّى الله عليه وآله أن يدخل أحد إليه وعنده دحية بن خليفة الكلبي، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يراسل قيصراً ملك الروم وبني حنيفة وبني غسّان(2) على يده، وكان جبرئيل عليه السلام يهبط عليه في صورته، ولذلك نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يدخل المسلمون عليه إذا كان عنده دحية.

قال حذيفة: وإنّي أقبلت يوماً لبعض اُموري إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله مهجراً رجاء أن ألقاه خالياً، فلمّا صرت بالباب نظرت فإذا أنا بشملة قد سدلت على الباب، فرفعتها وهممت بالدخول ـ وكذلك كنّا نصنع ـ فإذا أنا بدحية قاعد عند رسول الله صلّى الله عليه وآله والنبي نائم ورأسه في حجر دحية، فلمّا رأيته انصرفت.

فلقيني عليّ بن أبي طالب عليه السلام في بعض الطريق، فقال: يا ابن اليمان من أين أقبلت؟ قلت: من عند رسول الله صلّى الله عليه وآله، قال: وماذا صنعت عنده؟ قلت: أردت الدخول عليه في كذا وكذا ـ وذكرت الأمر الذي جئت له ـ فلم يتهيّأ لي ذلك، قال: ولِمَ؟ قلت: كان عنده دحية الكلبي، وسألت عليّاً عليه السلام

____________

1- روى صاحب الفردوس عن حذيفة قال: لو علم الناس متى سمّي عليّ أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمّي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد، قال الله عزوجل: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم) قالت الملائكة: بلى، قال تبارك وتعالى: أنا ربّكم، ومحمد نبيّكم، وعليّ أميركم. (الفردوس 3: 354 ح5066)

2- في "ج": ملوك بني غسّان.