الصفحة 206
عليهم وأمره بالخروج إلى ناحية من الشام، فقالوا: يا رسول الله إنّا قد قدمنا من سفرنا الذي كنّا فيه معك، ونحن نسألك أن تأذن لنا في المقام لنصلح من شأننا ما يُصلحنا في سفرنا.

قال: فأمرهم أن يكونوا في المدينة ريث اصلاح ما يحتاجون إليه، وأمر اُسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة، فأقام بمكانه الذي حدّ له رسول الله صلّى الله عليه وآله منتظراً للقوم أن يوافوه إذا فرغوا من اُمورهم وقضاء حوائجهم، وإنّما أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله بما صنع من ذلك أن تخلوا المدينة منهم ولا يبقى بها أحد من المنافقين.

قال: فهم على ذلك من شأنهم ورسول الله صلّى الله عليه وآله دائب يحثّهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه، إذ مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله مرضه الذي توفي فيه، فلمّا رأوا ذلك تباطؤوا عمّا أمرهم رسول الله من الخروج، فأمر قيس بن سعد بن عبادة ـ وكان سيّاف رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ والحباب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم، فأخرجهم قيس بن سعد والحباب بن المنذر حتّى ألحقاهم بمعسكرهم وقالا لاُسامة: انّ رسول الله لم يرخص لك في التخلّف، فسر من وقتك هذا ليعلم رسول الله ذلك، فارتحل اُسامة وانصرف قيس والحباب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فأعلماه برحلة(1) القوم، فقال لهم: انّ القوم غير سائرين [من مكانهم](2).

قال: وخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة باُسامة وجماعة من أصحابه فقالوا: إلى أين ننطلق ونخلّي المدينة، ونحن أحوج ما كنّا إليها وإلى المقام بها؟ فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: انّ رسول الله قد نزل به الموت، والله لئن خلّينا المدينة ليحدثنّ بها اُمور

____________

1- في "ب": برحيل.

2- أثبتناه من "ج".


الصفحة 207
لا يمكن اصلاحها، ننظر ما يكون من أمر رسول الله ثمّ المسير بين أيدينا.

قال: فرجع القوم إلى المعسكر الأوّل، فأقاموا به وبعثوا لهم رسولا يتعرّف لهم [بالخبر من](1) أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سرّاً، فقالت: امض إلى أبي بكر وعمر ومن معهما فقل لهما: إنّ رسول الله قد ثقل فلا يبرحنّ أحد منكم، وأنا اعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت، واشتدّت علّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فدعت(2) عائشة صهيباً فقالت: امض إلى أبي بكر وعمر وأعلمه انّ محمداً في حال لا يُرجى، فهلمّ(3) إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم، وليكن دخولكم في الليل سرّاً.

قال: فأتاهم الخبر فأخذوا صهيب فأدخلوه إلى اُسامة بن زيد، فأخبروه الخبر وقالوا له: كيف ينبغي لنا أن نتخلّف عن مشاهدة رسول الله؟ واستأذنوه في الدخول فأذن لهم وأمرهم أن لا يعلم بدخولهم أحد، وإن عوفي رسول الله صلّى الله عليه وآله رجعتم إلى عسكركم، وإن حدث حادث الموت عرّفونا ذلك لنكون في جماعة الناس.

فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلا المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وآله قد ثقل، قال: فأفاق بعض الافاقة فقال: لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شرّ عظيم، فقيل له: وما هو يا رسول الله؟ فقال: إنّ الذين كانوا في جيش اُسامة قد رجع منهم نفر مخالفون على أمري، ألا إنّي إلى الله منهم بريء، ويحكم نفّذوا جيش اُسامة، فلم يزل يقول ذلك حتّى قالها مرّات كثيرة.

قال: وكان بلال مؤذّن رسول الله صلّى الله عليه وآله يؤذّن بالصلاة في كلّ

____________

1- أثبتناه من "ج".

2- في "ج": فدفعت.

3- في "ج": فهلمّوا.


الصفحة 208
وقت صلاة، فإن قدر على الخروج تحامل وخرج وصلّى بالناس، وإن هو لم يقدر على الخروج أمّ عليّ بن أبي طالب فصلّى بالناس، وكان عليّ بن أبي طالب والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك.

فلمّا أصبح رسول الله صلّى الله عليه وآله من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يد اُسامة، أذّن بلال ثمّ أتاه يخبره كعادته، فوجده قد ثقل فمنع من الدخول إليه، فأمرت عائشة صهيباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه انّ رسول الله قد ثقل(1) وليس يطيق النهوض إلى المسجد، وعليّ بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس، فاخرج أنت إلى المسجد فصلّ بالناس، فإنّها حالة تهنئك(2) وحجة لك بعد اليوم.

قال: فلم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله أو عليّاً يصلّي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه إذ دخل أبو بكر المسجد وقال: انّ رسول الله ثقل وقد أمرني أن اُصلّي بالناس، فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله: وأنّى لك ذلك وأنت في جيش اُسامة، ولا والله ما أعلم أحد بعث إليك ولا أمرك بالصلاة، ثمّ نادى الناس بلالا فقال: على رسلكم رحمكم الله لأستأذِن رسول الله في ذلك.

ثمّ أسرع حتّى أتى الباب فدقّه دقّاً شديداً، فسمعه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال: ما هذا الدقّ العنيف؟! فانظروا ما هو، قال: فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فإذا بلال، فقال: ما وراؤك يا بلال؟ فقال: انّ أبا بكر دخل المسجد وتقدّم حتّى وقف في مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله، وزعم انّ رسول الله أمره بذلك، فقال: أوليس أبا بكر مع اُسامة في الجيش؟ هذا والله هو الشرّ العظيم الذي

____________

1- في "ب": قد ثقل في مرضه.

2- في "ج": تهيّئك.


الصفحة 209
طرق البارحة المدينة، لقد أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك.

ودخل الفضل وأدخل بلالا معه فقال: ما وراؤك يا بلال، فأخبر رسول الله الخبر، فقال: أقيموني أقيموني اخرجوني إلى المسجد، والذي نفسي بيده قد نزلت بالاسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن، ثمّ خرج صلّى الله عليه وآله معصوب الرأس، يتمادى بين عليّ والفضل بن العباس رضي الله عنهما ورجلاه يجرّان في الأرض حتّى دخل المسجد، وأبو بكر قائم في مقام رسول الله، وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما يأتي به بلال، فلمّا رأى الناس رسول الله صلّى الله عليه وآله قد دخل المسجد وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك.

وتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وآله فجذب أبا بكر من ورائه فنحّاه عن المحراب، وأقبل أبو بكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأقبل الناس فصلّوا خلف رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهو جالس وبلال يسمع الناس التكبير حتّى قضى صلاته، ثمّ التفت فلم ير أبا بكر فقال: يا أيّها الناس لا تعجبوا من ابن أبي قحافة وأصحابه الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت يدي اُسامة، وأمرتهم بالمسير إلى الوجه الذي وجهوا إليه، فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة، ألا وانّ الله قد أركسهم فيها، اعرجوا بي المنبر.

فقام وهو مربوط حتّى قعد على أدنى مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس انّه قد جاءني من أمر ربّي ما الناس إليه صائرون، وانّي قد تركتكم على الحجّة الواضحة ليلها كنهارها، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني اسرائيل، أيّها الناس انّه لا اُحلّ لكم إلاّ ما أحلّه القرآن، ولا اُحرّم عليكم إلاّ ما حرّم القرآن، وإنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ولن تزلّوا: كتاب الله

الصفحة 210
وعترتي أهل بيتي، وهما الخليفتان فيكم، وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فاُسائلكم بماذا أخلفتموني فيهما، ولأذيدنّ(1) يومئذ رجالا عن حوضي كما تذاد الغريبة من الابل، فيقول رجلان: أنا فلان وأنا فلان، فأقول: أمّا الأسماء فقد عرفت ولكنّكم ارتددتم من بعدي، فسحقاً لكم سحقاً.

ثمّ نزل عن المنبر وعاد إلى حجرته، ولم يظهر أبو بكر ولا أصحابه حتّى قُبض صلوات الله عليه، وكان من الأنصار وسعد [وغيرهم](2) من السقيفة ما كان، فمنعوا أهل بيت نبيّهم حقوقهم التي جعلها الله عزوجل لهم، وأمّا كتاب الله فمزّقوه كلّ ممزّق، وفيما أخبرتك يا أخا الأنصار من خطب معتبر لمن أحبّ الله هدايته.

فقال الفتى: سمّ لي القوم الآخرين الذين حضروا الصحيفة وشهدوا فيها، فقال حذيفة: أبو سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن اُميّة بن خلف، وسعيد بن العاص، وخالد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وبشر بن سعد، وسهيل بن عمر، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبو الأعور الأسلمي، ومطيع بن الأسود المدري، وجماعة من هؤلاء ممّن سقط عنّي احصاء عددهم.

فقال الفتى: يا أبا عبد الله ما هؤلاء في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى قد انقلب الناس أجمعون بسببهم؟ فقال حذيفة: إنّ في هؤلاء رؤوس القبائل، وما من رجل من هؤلاء إلاّ ومعه من الناس خلق عظيم يسمع له ويطيع(3)، واُشربوا في قلوبهم من أبي بكر كما شرب قلوب بني اسرائيل من حبّ العجل والسامري حتّى تركوا هارون واستضعفوه.

قال الفتى: فإنّي اُقسم بالله حقّاً حقّاً إنّي لا أزال لهم مبغضاً، وإلى الله منهم

____________

1- في "ج": ليذدادون.

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ج": يسمعون له ويطيعون.


الصفحة 211
ومن أفعالهم متبرّئاً، ولا زلت لأمير المؤمنين عليه السلام متوالياً، ولأعدائه معادياً، ولألحقنّ به وإنّي لاُؤمل أن اُرزق الشهادة معه وشيكاً إن شاء الله، ثمّ وّدع حذيفة وقال: هذا وجهي(1) إلى أمير المؤمنين عليه السلام.

فخرج إلى المدينة، واستقبله(2) وقد شخص من المدينة يريد العراق فسار معه إلى البصرة، فلمّا التقى أمير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب الجمل كان ذلك الفتى أوّل من قُتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك لمّا صاف القوم واجتمعوا على الحرب، أحب أمير المؤمنين عليه السلام أن يستظهر عليهم بدعائهم إلى القرآن وحكمه، فدعا بمصحف وقال: من يأخذ هذا المصحف يعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه، فيحيى ما أحياه ويميت ما أماته؟ قال: وقد شرعت الرماح في العسكرين حتّى لو أراد امرء أن يمشي عليها لمشى.

قال: فقال الفتى: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه، قال: فأعرض عنه أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ نادى الثانية: من يأخذ هذا المصحف فيعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه؟ فلم يقم إليه أحد، فقام الفتى وقال: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه، قال: فأعرض عنه أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ نادى الثالثة فلم يقم أحد من الناس إلاّ الفتى، فقال: أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّك إن فعلت ذلك فأنت مقتول، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شيء أحبّ إليّ من أن اُرزق الشهادة بين يديك وأن اُقتل في طاعتك، فأعطاه أمير المؤمنين المصحف فتوجّه به نحو عسكرهم، فنظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: انّ الفتى ممّن حشى الله قلبه نوراً وايماناً وهو مقتول،

____________

1- في "ج": وتوجّه إلى....

2- في "ج": واستقبله عليّ.


الصفحة 212
ولقد أشفقت عليه من ذلك، ولن يفلح القوم بعد قتلهم إيّاه.

فمضى الفتى بالمصحف حتّى وقف بازاء عسكر عائشة، وطلحة والزبير حينئذ عن يمين الهودج وشماله ـ وكان له صوت ـ فنادى بأعلى صوته: معاشر الناس هذا كتاب الله وانّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام يدعوكم إلى كتاب الله والحكم بما أنزل الله فيه، فأنيبوا إلى طاعة الله والعمل بكتابه.

قال: وكانت عائشة وطلحة والزبير يسمعون قوله فأمسكوا(1)، فلمّا رأى ذلك أهل عسكرهم بادروا إلى الفتى والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى، فتناول المصحف بيده اليسرى وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه أوّل مرّة، فبادروا إليه وقطعوا يده اليسرى، فتناول المصحف واحتضنه ودماؤه تجري عليه وناداهم مثل ذلك، فشدّوا عليه فقتلوه ووقع ميّتاً فقطّعوه ارباً ارباً، ولقد رأينا شحم بطنه أصفر.

قال: وأمير المؤمنين عليه السلام واقف يراهم، فأقبل على أصحابه وقال: إنّي والله ما كنت في شك ولا لبس من ضلالة القوم وباطلهم، ولكن أحببت أن يتبيّن لكم جميعاً ذلك من بعد قتلهم الرجل الصالح حكيم بن جبلة العبدي في رجال صالحين معه، و[تضاعف](2) ذنوبهم بهذا الفتى، وهو يدعوهم إلى كتاب الله والحكم به والعمل بموجبه، فثاروا إليه فقتلوه ولا يرتاب بقتلهم مسلم، ووقدت(3)الحرب واشتدّت، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: احملوا عليهم، بسم الله حم لا ينصرون، وحمل هو بنفسه والحسنان وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فغاص في القوم بنفسه، فوالله ما كانت إلاّ ساعة من نهار حتّى رأينا القوم

____________

1- قال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الجمل: 339: "فأقبل الغلام حتّى وقف بازاء الصفوف ونشر المصحف وقال: هذا كتاب الله عزوجل وأمير المؤمنين عليه السلام يدعوكم إلى ما فيه، فقالت عائشة: اشجروه بالرماح قبّحه الله، فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كلّ جانب...".

2- أثبتناه من البحار، وفي "ج": ووثوبهم بهذا الفتى.

3- في "ب": وقعت.


الصفحة 213
شلايا يميناً وشمالا صرعى تحت سنابك الخيل، ورجع أمير المؤمنين عليه السلام مؤيداً منصوراً وفتح الله عليه ومنحه أكتافهم، وأمر بذلك الفتى وجمع(1) من قتل معه، فلفّوا في ثيابهم بدمائهم لم تُنزع عنهم ثيابهم، وصلّى عليهم ودفنهم، وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح ولا يتبعوا لهم مدبراً، وأمر بما حوى العسكر فجمع له فقسّمه بين أصحابه، وأمر محمد بن أبي بكر أن يدخل اُخته إلى البصرة، فيقيم أيّاماً ثمّ يرحلها(2) إلى منزلها بالمدينة.

قال عبد الله بن سلمة: كنت ممّن شهد حرب أهل الجمل، فلمّا وضعت الحرب أوزارها رأيت اُمّ ذلك الفتى واقفة عليه، فجعلت تبكي عليه وتقبّله، ثمّ أنشأت تقول:


يا ربّ انّ مسلماً أتاهميتلو كتاب الله لا يخشاهم
يأمرهم بالأمر من مولاهمفخضّبوا من دمه قناهم
واُمّهم(3) قائمة تراهمتأمرهم بالغيّ لا تنهاهم(4)

[مكالمته عليه السلام مع رأس اليهود]

بحذف الاسناد مرفوعاً إلى الباقر عليه السلام قال: قال محمد بن الحنفية: أتى رأس اليهود إلى أمير المؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين اُريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ، قال: سل عمّا بدا لك يا أخا اليهود.

____________

1- في "ج": جميع.

2- في "ج": يرتحل بها.

3- أي عائشة.

4- عنه البحار 28: 86 ح3.


الصفحة 214
قال: إنّا نجد في الكتاب انّ الله عزوجل إذا بعث نبيّاً أوحى إليه أن يتّخذ من(1) أهل بيته من يقوم [مقامه](2) في اُمّته من بعده، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذى عليه ويعمل به في اُمّته من بعده، قال: نعم، ثمّ قال: وانّ الله عزوجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم، فأخبرنا كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء(3) من مرّة، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم، وإلى من يصير أمر الأوصياء إذا رضى بمحنتهم؟

قال له عليّ عليه السلام: تحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو الذي فلق البحر لموسى، وأنزل عليه التوراة لئن خبرتك بحق عمّا سألتني عنه لتؤمننّ به؟ قال: نعم، قال عليّ عليه السلام: [انّ الله تعالى يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في](4) سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم، فإذا رضى طاعتهم ومحنتهم أمر الأنبياء أن يتّخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم، فتصير طاعة الأوصياء في أعناق الاُمم موصولة بطاعة الأنبياء، ثمّ يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي صبرهم، فإن رضى محنتهم ختم لهم بالسعادة.

قال له رأس اليهود: صدقت يا أمير المؤمنين، فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد صلّى الله عليه وآله من مرّة؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرّة؟ وإلى ما يصير آخر أمرك؟ فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيده وقال: انهض معي لاُنبئك بذلك يا أخا اليهود، فقام إليه جماعة من أصحابه وقالوا: يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه، قال: إنّي أخاف أن لا تحتمله قلوبكم، قالوا: ولِمَ ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: لاُمور بدت لي من كثير منكم.

____________

1- في "ج": يخلف في....

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ج": في حياتهم.

4- أثبتناه من "ج".


الصفحة 215
فقام إليه الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك فوالله انّا لنعلم انّه ما على ظهر الأرض وصيّ نبيّ سواك، وانّا لنعلم انّ الله عزوجل لا يبعث بعد نبيّنا صلّى الله عليه وآله نبيّاً سواه، وانّ طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبيّنا، فجلس عليّ عليه السلام وأقبل على اليهودي فقال: يا أخا اليهود انّ الله عزوجل امتحنني في حياة نبيّنا صلّى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهنّ ـ من غير تزكية لنفسي بنعمة الله ـ له مطيعاً، قال: فيم وفيم يا أمير المؤمنين، قال:

أمّا أوّلهنّ فإنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّنا محمد صلّى الله عليه وآله وحمّله الرسالة، وأنا أحدث أهل بيته سنّاً، أخدمه في بيته، وأسعى بين يديه في أمره، فدعا صغير بني عبد المطّلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً(1) رسول الله، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه، وهجروه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه، وسائر الناس مقصية له مخالفة عليه لما ورد عليهم(2) ما لا يحتمله قلوبهم، ولم تدركه عقولهم.

فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعاني إليه مسرعاً مطيعاً موقناً، لم يختلجني في ذلك الأخاليج(3)، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ليس على ظهر الأرض خلق يصلّي لله ويشهد لرسول الله صلّى الله عليه وآله بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله ـ وقد فعل ـ، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الثانية يا أخا اليهود فإنّ قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلّى الله عليه وآله حتّى إذا كان آخر ما اجتمعت في ذلك الدار ـ دار الندوة ـ

____________

1- في "ج": وأنّه.

2- في "ج": مبغضون له ومخالفون عليه قد استعظموا ما أورده عليهم.

3- في "ج": في ذلك شك.


الصفحة 216
وابليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتّى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجلا، ثمّ يأخذ كلّ رجل منهم سيفه، ثمّ يأتي النبي صلّى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه، فيضربوه بأسيافهم جميعاً ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها فلم تسلّمه، ويمضي(1) دمه هدراً.

فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله فأنبأه بذلك، وخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار، فأنبأني رسول الله صلّى الله عليه وآله بالخبر، وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت في ذلك مطيعاً مسروراً به نفسي لاُقتل دونه.

فمضى صلّى الله عليه وآله لوجهه واضطجعت في مضجعه، ثمّ أقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها بقتل النبي صلّى الله عليه وآله، فلمّا استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي، ودفعتهم عن نفسي بما علمه الله والناس منّي، ثمّ أقبل على أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الثالثة يا أخا اليهود فإنّ ابني ربيعة وابني عتبة كانوا فرسان قريش، ودعوا إلى البراز يوم بدر، فلم يبرز لهم خلق من قريش، فأنهضني رسول الله صلّى الله عليه وآله مع صاحبيّ رضي الله عنهما ـ يريد بصاحبيه(2) حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وقد فعل، وأنا أحدث أصحابي سنّاً وأقلّهم بالحرب تجربة، فقتل الله بيدي وليداً وشيبة سوى من قتلته من جحاجحة قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت، وكان منّي أكثر ممّا كان من أصحابي، واستشهد

____________

1- في "ج": مضى.

2- في "ج": بهما.


الصفحة 217
ابن عمّي في ذلك اليوم رحمه الله، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الرابعة يا أخا اليهود فإنّ أهل مكة أقبلوا إلينا عن بكرة أبيهم، قد استجاشوا مَنْ يليهم من قبائل العرب(1) وقريش طالبي بثأر مشركي قريش في بدر، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله فأنبأه بذلك، فتأهّب النبي صلّى الله عليه وآله وعسكر بأصحابه في سد سفح اُحد، وأقبل المشركون فحملوا علينا حملة رجل واحد، فاستشهد من المسلمين من استشهد، وكان ممّن بقي ما كان من الهزيمة، وبقيت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة، كلّ يقول: قُتل رسول الله وقُتل أصحابه.

ثمّ ضرب الله عزوجل وجوه المشركين، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله نيف وسبعين جراحة، منها هذه وهذه ـ ثمّ ألقى رداءه وأمرّ يده على جراحاته ـ وكان منّي في ذلك ما على الله ثوابه إن شاء الله، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الخامسة يا أخا اليهود فإنّ قريشاً والعرب تجمّعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتّى تقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب، ثمّ أقبلت بحدّها وحديدها حتّى أناخت علينا بالمدينة وأيقنت لأنفسها(2) بالظفر فيما توجّهت له، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله فأنبأه بذلك، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار، فَقَدمتْ قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ترى في أنفسها القوّة وفينا الضعف، تبرق وترعد ورسول الله صلّى الله عليه وآله يدعوها إلى الله

____________

1- في "ب": من قبائلهم من العرب.

2- في "ج": واثقة في أنفسها.


الصفحة 218
ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلاّ عتوّاً.

وفارسها فارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرّة وبسيفه اُخرى، لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع له(1) طامع، لا حمية تهيّجه ولا بصيرة تنجعه(2)، فأنهضني إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وعمّمني بيده، وأعطاني سيفه هذا ـ وضرب بيده إلى ذي الفقار ـ فخرجت إليه ونساء أهل المدينة(3) بواكي إشفاقاً عليّ من ابن عبدود، فقتله الله بيدي والعرب لا تعد لها فارساً غيره، وضربني هذه الضربة ـ وأومأ بيده إلى هامته ـ فهزم الله قريشاً والعرب بذلك وبما كان منّي فيهم من النكاية، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا السادسة يا أخا اليهود فإنّا وردنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله مدينة أصحابك خيبر على رجال اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأكثر عدد، كلّ ينادي للبراز وينادي(4) للقتال، فلم يبرز لهم من أصحابي أحد إلاّ قتل حتّى إذا احمرّ الحدق، ودعيت إلى البراز، وأهمت كلّ امرء نفسه، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكلّ يقول: يا أبا الحسن، يا أبا الحسن انهض.

فأنهضني رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى دارهم، فلم يبرز إليّ منهم أحد إلاّ قتلته، ولا ثبت لي فارس إلاّ طعنته(5)، ثمّ شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم مدينتهم مشدّداً عليهم، واقتلعت باب حصنهم بيدي، ثمّ

____________

1- في "ب" و "ج": لا يطمع فيه.

2- في "ج": تشجعه.

3- في "ج": أهل البلد.

4- في "ج": ويدعو.

5- في "ج": ولا يثب لي فارس إلاّ طحنته.


الصفحة 219
دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجد من نسائها حتّى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معاون إلاّ الله وحده، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا السابعة يا أخا اليهود فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا توجّه لفتح مكة أحبّ أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عزوجل آخراً كما دعاهم أوّلا، فكتب إليهم كتاباً يحذّرهم فيه وينذرهم عذاب ربّهم، ويعدهم الصفح عنهم ويمنّيهم مغفرة ربّهم، ونسخ لهم فيه آخر(1) سورة براءة لتقرأ عليهم، ثمّ عرض على أصحابه المضيّ به إليهم، فكلّهم يرى التثاقل فيه، فلمّا رأى ذلك ندب منهم رجلا يوجه به، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك.

فأنبأني رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك، ووجّهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلاّ ولو قدر أن يضع على كلّ جبل منّي إربااً لفعل، ولو بذل في ذلك نفسه وأهله وماله وولده، فبلّغتهم رسالة النبي صلّى الله عليه وآله، وقرأت عليهم كتابه، فكلّ(2) تلقّاني بالتهدّد والوعيد، ويبدي لي البغضاء، ويظهر لي الشحناء من رجالهم ونسائهم، فكان منّي في ذلك ما قد رأيتم، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: يا أخا اليهود هذه المواطن السبعة التي امتحنني ربّي مع نبيّه فوجدني فيها كلّها بمنّه مطيعاً، ليس لأحد فيها مثل الذي لي، ولو شئت لوصفت ذلك ولكنّ الله تعالى نهى عن التزكية.

____________

1- في "ج": نسخ لهم في آخره.

2- في "ج": فكلّهم.


الصفحة 220
فقالوا(1): والله يا أمير المؤمنين لقد صدقت، فوالله لقد أعطاك الله عزوجل الفضيلة بالقرابة من نبيّنا صلّى الله عليه وآله، وأسعدك بأن جعلك أخاه تنزل منه بمنزلة هارون من موسى، وفضّلك بالمواقف التي باشرتها والأهوال التي ركبتها، وذكر(2) لك الذي ذكرت وأكثر منه ممّا لم تذكره، وممّا ليس لأحد من المسلمين مثله، يقول ذلك من شهدك منّا مع نبيّنا ومن شهدك بعده. فأخبرنا يا أمير المؤمنين بما امتحنك الله به بعد نبيّنا صلّى الله عليه وآله فاحتملته وصبرت عليه، فلو شئت(3) أن نصف نحن ذلك لوصفناه علماً منّا به، وظهور منّا عليه، إلاّ انّا نحبّ أن نسمع ذلك منك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه.

قال عليه السلام: يا أخا اليهود انّ الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيّه صلّى الله عليه وآله في سبعة مواطن، فوجدني فيهنّ من غير تزكية لنفسي بمنّه ونعمته صبوراً.

أمّا أوّلهنّ يا أخا اليهود فإنّه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحدآنس به، ولا أستقيم إليه، ولا أعتمد عليه، ولا أتقرّب به غير رسول الله صلّى الله عليه وآله، هو ربّاني صغيراً، وبوّأني كبيراً، وكفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأغناني عن الطلب، ووقاني التكسّب، وعالني في النفس والأهل والولد، هذا في تصاريف اُمور الدنيا مع ما خصّني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله عزوجل.

فنزل بي من وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله ما لم يكن(4) أظنّ انّ الجبال

____________

1- في "الف" و "ب": قال اليهودي.

2- في "ج": ذخر.

3- في "ج": ولو شئنا.

4- في "ج": أكن.


الصفحة 221
لو حملته كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي من بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به حتّى قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزى يأمر بالصبر، وبين مساعد على البكاء جازعين لجزعي(1).

فحملت نفسي على الصبر بعد وفاته، ولزمت(2) الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة، ولا هائج زفرة، ولا لاذع حرقة، ولا جليل مصيبة حتّى أدّيت في ذلك الحقّ الواجب لله عزوجل عليّ لرسوله صلّى الله عليه وآله، وبلغت فيه الذي أمرني به، فاحتملته صابراً محتسباً، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

أمّا الثانية يا أخا اليهود، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أمّرني في حياته على جميع اُمّته، وأخذ على جميع من أحضره منهم البيعة لي بالسمع والطاعة، وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب في ذلك، فكنت المؤدّي إليهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أمره إذا حضرته، والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته، لا يختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبي صلّى الله عليه وآله ولا بعد وفاته.

ثمّ أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اُسامة بن زيد عندما أحدث الله به من المرض الذي توفّاه فيه، فلم يدع النبي صلّى الله

____________

1- في "ج": باك لبكائهم جازع لجزعهم.

2- في "ج": بلزوم.


الصفحة 222
عليه وآله أحد من قبائل(1) العرب ولا الأوس ولا الخزرج وغيرهم من سائر الناس ممّن يخاف على نقضه أو منازعته، ولا أحد ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلاّ وجّهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم من المؤلّفة قلوبهم والمنافقين، لتصفوا قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلاّ يقول قائل شيئاً ممّا أكره، ولا يدفعني دافع عن الولاية والقيام باُمور رعيّته واُمّته من بعده.

ثمّ كان آخر ما تكلّم به في شيء من أمر اُمّته أن يمضي جيش اُسامة ولا يتخلّف عنه أحد ممّن أنهض معه، وتقدّم في ذلك أشدّ التقدّم، وأوعز فيه أبلغ الايعاز، وأكّد فيه أكثر التأكيد، فلم أشعر بعد أن قُبض النبي صلّى الله عليه وآله إلاّ برجال ممّن بعث مع اُسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم، وأخلوا بمواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدّم إليهم(2) من ملازمة أميرهم، والمسير معه تحت لوائه حتّى ينفذ لوجهه الذي وجّهه إليه(3).

فخلّفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عزوجل ورسوله لي في أعناقهم، فحلّوها ونكثوها وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجّت به أصواتهم، واختصّت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منّا من بني عبد المطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي.

فعملوا ذلك وأنا برسول الله صلّى الله عليه وآله مشغول بتجهيزه عن سائر

____________

1- في "ج": افناء.

2- في "ج": تقيدهم.

3- في "ج": أنفذه إليه.