قال الحارث: يا أمير المؤمنين النصارى يعلمون ذلك؟ قال: لو علموا ذلك ما اتّخذوا المسيح إلهاً دون الله، قال: فذهبت إلى الديراني فقلت له: بحقّ المسيح لما ضربت بالناقوس على الجهة التي تضربها، قال: فأخذ يضرب وأنا أقول حرفاً حرفاً حتّى بلغ إلى موضع "إلاّ لو قدمنا".
قال: بحقّ نبيّكم من أخبركم بهذا؟ قلت: هذا الرجل الذي كان معي أمس، قال: فهل بينه وبين نبيّكم قرابة؟ قلت: هو ابن عمّه، قال: بحقّ نبيّكم أسَمع هذا من نبيّكم؟ قال: قلت: نعم، قال: فأسلم ثمّ قال: إنّي وجدت في التوراة انّه يكون في آخر الأنبياء نبيّ وهو يفسّر ما يقول الناقوس(2).
[خبر ذعلب، وقول عليّ عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني]
بحذف الاسناد مرفوعاً إلى الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس عليّ عليه السلام في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد(3) متعمّماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله، لابساً بردة رسول الله، منتعلا بنعل رسول الله صلى الله عليه وآله، متقلّداً سيف رسول الله، فصعد المنبر فجلس عليه السلام [عليه](4) متّكئاً(5)، ثمّ
____________
1- في "ج": لو قد مِتنا.
2- أمالي الصدوق: 187 ح3 مجلس 40; ومعاني الأخبار: 230; عنهما البحار 14: 334 ح1; وفي مناقب ابن شهر آشوب 2: 56.
3- هكذا في النسخ، وفي "الف": الى المدينة.
4- أثبتناه من البحار.
5- في "ج": والبحار: متمكّناً.
معاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله، هذا ما زقّني رسول الله صلى الله عليه وآله زقّاً زقّاً، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين، أما والله لو ثنّيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل الانجيل بانجيلهم، وأهل التوراة بتوراتهم(1)، حتّى ينطق التوراة والانجيل فيقولا: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله عزوجل فينا، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، ولولا آية من كتاب الله لأخبرتكم بما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب}(2).
ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبّة وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أم في نهار، مكّيها ومدنيّها، سفرها وحضرها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم.
فقام إليه رجل يقال له: "ذعلب" ـ وكان ذرب اللسان، بليغاً في الخطب، شجاع القلب ـ قال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأخجلنّه اليوم لكم بمسألتي إيّاه، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟ قال: ويلك يا ذعلب لم أكن أعبد ربّاً لم أره، قال: فكيف رأيته صفه لنا؟ قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار(3) ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان.
ويلك يا ذعلب انّ ربّي لا يوصف بالبعد [ولا بالقرب](4) ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بقيام فيقال: انتصب، ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطف لا يوصف
____________
1- زاد في "ج": وأهل الزبور بزبورهم.
2- الرعد: 39.
3- في "ب": الأعيان.
4- أثبتناه من "ج".
ثمّ قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ(2) من المجوس الجزية ولم يُبعث إليهم نبي ولم ينزل عليهم كتاب، قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتاباً، وبعث إليهم نبيّاً حتّى كان لهم ملك سكر ذات ليلة، فدعا إليه ابنته إلى فراشه فارتكبها، فلمّا أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا على بابه فقالوا: أيّها الملك دنست علينا ديننا وأهلكته، فاخرج نطهّرك ونقيم عليك الحد.
فقال: اجتمعوا واسمعوا كلامي فإن لم يكن لي مخرج ممّا ارتكبت وإلاّ فشأنكم، فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم انّ الله لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم واُمّنا حوّاء؟ قالوا: صدقت أيّها الملك، قال: أوليس قد زوّج بنيه ببناته وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين، فتعاقدوا على ذلك، فمحا الله ما في صدورهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النار بغير حساب، والمنافقون أشدّ عذاباً منهم، فقال الأشعث بن قيس: والله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عُدت إلى مثلها أبداً.
ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكّئاً
____________
1- في "ب": وذو الرحمة.
2- في "ج": تأخذ.
أيّها السائل فلا تغترنّ بكثرة المساجد وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم شتّى، إنّما(1) الناس ثلاثة: زاهد، وراغب، وصابر، فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها فاته، وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه فإذا أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه لما يعلم من شرّ عاقبتها، وأمّا الراغب فلا يبالي من حلٍّ أصابها أم من حرام.
قال: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حقّ يتولاّه، وينظر إلى ما خالفه فيبرأ منه وإن كان حميماً قريباً، قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ثمّ غاب الرجل فلم نره، فطلبه الناس فلم يجدوه، قال: فتبسّم عليّ عليه السلام.
ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد، ثمّ قال للحسن عليه السلام: قم فاصعد المنبر فتكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: انّ الحسن لا يحسن شيئاً، فقال: يا أبت كيف أصعد وأتكلّم وأنت في الدنيا تسمع وترى؟ قال: بأبي واُمّي اُواري نفسي عنك وأسمع يا ولدي ولا تراني.
فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد شريفة بليغة، وصلّى على النبيّ وآله صلاة موجزة، ثمّ قال: أيّها الناس سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه
____________
1- في "ج": أيّها السائل الناس....
فصعد الحسين عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه صلاة موجزة، ثمّ قال: يا معشر الناس سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إنّ عليّاً هو مدينة الهدى، فمن دخلها نجا ومن تخلّف عنها هلك، فوثب عليّ عليه السلام فضمّه إلى صدره فقبّله، ثمّ قال: معاشر الناس، اشهدوا انّهما فرخا رسول الله صلى الله عليه وآله ووديعته التي استودعنيها، وأنا أستودعكموها أيّها الناس، انّ رسول الله صلى الله عليه وآله سائلكم عنها(2).
[قوله عليه السلام سلوني قبل أن تفقدوني]
وبحذف الاسناد روي أنّ قوماً حضروا(3) عند أمير المؤمنين عليه السلام وهو يخطب بالكوفة ويقول: سلوني قبل أن تفقدوني فأنا لا اُسأل عن شيء دون العرش إلاّ أجبت فيه، لا يقولها بعدي إلاّ مدّع أو كذّاب مفتر(4)، فقام إليه رجل من جنب مجلسه في عنقه كتاب كالمصحف ـ وهو رجل أدم ضرب طوال جعد الشعر كأنّه من يهود العرب ـ فقال رافعاً صوته لعليّ عليه السلام: يا أيّها الداعي لما
____________
1- في "ب": لا يحسن شيئاً.
2- التوحيد للصدوق: 304 ح1 باب 42; وأمالي الصدوق: 280 ح1 مجلس 55; عنهما البحار 10: 117 ح1; والاختصاص: 235.
3- في "ج": انّ يوماً حضر الناس.
4- قال المحدّث القمي رحمه الله في منتهى الآمال 1: 288: ومن الغرائب انّ مَن تفوّه بهذه الجملة بعده عليه السلام انفضح أمره وذلّ عند الناس، كما وقع هذا الأمر لابن الجوزي، ومقاتل بن سليمان، والواعظ البغدادي في عهد الناصر لدين الله العباسي... فمن أراد المزيد فليراجع الكتاب المذكور.
قال: فوثب به أصحابه وشيعته من كلّ ناحية وهمّوا به، فنهرهم عليّ عليه السلام وقال: دعوه ولا تعجلوه فإنّ الطيش(1) لا تقوم به حجج الله، ولا باعجال السائل تظهر براهين الله عزوجل، ثم التفت إلى السائل فقال: سل بكلّ لسانك ومبلغ علمك اُجبك إن شاء الله بعلم لا تختلج فيه الشكوك، ولا يهيجنّه دنس ريب الزيغ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
قال الرجل: كم بين المشرق والمغرب؟ قال عليّ عليه السلام: مسافة الهوى، قال الرجل: وما مسافة الهوى؟ قال عليه السلام: دوران الفلك، قال الرجل: وما دوران الفلك؟ قال عليّ عليه السلام: مسيرة يوم للشمس، قال: صدقت، فمتى القيامة؟ قال عليّ عليه السلام: عند حضور المنيّة وبلوغ الأجل.
قال الرجل: صدقت، فكم عمر الدنيا؟ قال عليّ عليه السلام: يقال سبعة(2)ثمّ لا تحديد، قال الرجل: صدقت، فأين بكّة من مكّة؟ قال عليه السلام: مكة أكناف الحرم وبكّة موضع البيت، قال الرجل: صدقت، فلم سمّيت مكة؟ قال عليه السلام: لأنّ الله عزوجل مدّ الأرض من تحتها، قال صدقت، فلم سمّيت بكة؟ قال عليّ عليه السلام: لأنّها بكّت رقاب الجبّارين وعنوق المذنبين.
قال: صدقت، فأين كان الله قبل أن يخلق عرشه؟ قال عليه السلام: سبحان من [لا تدركه الأبصار و](3) لا تدرك كنه صفته حملة العرش على قرب ربواتهم من كرسي كرامته، ولا الملائكة [المقرّبون من أنوار](4) سبحات جلاله، ويحك لا يقال: الله أين، ولا فيم، ولا أي، ولا كيف.
____________
1- في "ب" و "ج": فإنّ العجلة والبطش والطيش.
2- في البحار: سبعة آلاف.
3- أثبتناه من "ج".
4- أثبتناه من البحار، وفي "ج": من زاخر رشحات جلاله.
قال: فحرّك الرجل رأسه وأنشد يقول:
أنت أصل العلم يا ذا الهدى(1) | تجلو من الشكّ الغياهبا |
حُزت أقاصي علوماً(2) فما | تبصر أن غولبت مغلوبا |
تقوم إن قمت مقالاته | حولا يعانيه وقلوبا |
لا تنثني عن كلّ اُشكولة | تبدي إذا حلت أعاجيبا |
لله درّ العلم من صاحب | يطلب انساناً ومطلوباً(3) |
عن النبي صلى الله عليه وآله قال: انّ حلقة باب الجنّة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب، فإذا دقّت الحلقة على الصفيحة طنّت وقالت: يا عليّ(4).
وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعليّ بن أبي طالب، وعليّ بن أبي طالب أفضل لكم من كتاب الله،
____________
1- في "ب": أنت أهل العلم يا هادي الهدى.
2- في "ج": كلّ علم.
3- عنه البحار 10: 126 ح6.
4- أمالي الصدوق: 471 ح13 مجلس 86; عنه البحار 39: 235 ح18.
[خبر خالد بن الوليد والطوق]
عن جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن العباس قالا: كنّا جلوساً عند أبي بكر في ولايته وقد أضحى النهار وإذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافى في جيش قام غباره، وكثر صواهل خيله، وإذا بقطب رحى ملوي في عنقه قد فتل فتلا، فأقبل حتّى نزل عن فرسه بازاء أبي بكر، فرمقه الناس بأعينهم وهالهم منظره.
ثمّ قال: أعدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الذي ليس له أنت بأهل، وما ارتفعت إلى هذا المكان إلاّ كما يرتفع الطافي(2) من السمك على الماء، وإنّما يطفو ويعلو حين لا حراك به، ما لك ولسياسة الجيوش، وتقويم العساكر، وأنت بحيث أنت من لين(3) الحسب، ومنقوص النسب، وضعف القوى، وقلّة التحصيل، لا تحمى ذماراً، ولا تضرم ناراً، فلا جزى الله أخا ثقيف وولد صهاك خيراً.
إنّي رجعت منكفئاً(4) من الطائف إلى جدّة في طلب المرتدّين، فرأيت ابن أبي طالب ومعه رهط عتاة من الدين، حماليق شزرت أعينهم من حسدك(5)، وبدرت حنقاً عليك، وقرحت آماقهم لمكانك منهم، ابن ياسر، والمقداد، وابن جنادة، وأخو غفار، وابن العوام، وغلامان أعرف أحدهما بوجهه، وغلام أسمر
____________
1- مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 32; مائة منقبة لابن شاذان: 140 ح86.
2- الطافي: الحوت الميت الذي يعلو الماء ولا يرسب فيه، يقال: طفى الشيء على الماء أي علاه.
3- في "ج": أليم الحسب.
4- الانكفاء: الرجوع، وفي "ج": متكفياً.
5- في "ج": من الذين شزرت حماليق أعينهم....
فلمّا رآني اشمأزّ وبربر(2)، وأطرق موحشاً يقبض على لحيته، فبادرته بالسلام استكفاء شرته واتقاء وحشته، واستغنمت سعة المناخ وسهولة المنزل، فنزلت ومن معي بحيث نزلوا اتقاء عن مراوغته، فبدأني ابن ياسر بقبيح لفظه ومحض عداوته، فقرعني هزواً بما تقدّمتَ به إليّ بسوء رأيك.
فالتفت إليّ الأصلع الرأس، وقد ازدحم الكلام في حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرعد، فقال لي بغضب منه: أوكنت فاعلا يا أبا سليمان؟ فقلت: والله لو أقام على رأيه لضربت الذي فيه عيناك، فأغضبه قولي إذ صدقته، وأخرجه إلى طبعه الذي أعرفه له عند الغضب فقال: يا ابن اللخناء! مثلك من يقدر على مثلي أن يجسر، أو يدير اسمي في لهواته التي لا عهد لها بكلمة حكمة؟ ويلك إنّي لست من قتلاك ولا قتلى صاحبك(3)، وإنّي لأعرف بمنيّتي منك بنفسك.
ثمّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسني عن فرسي، وجعل يسوقني دعّاً إلى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمدّ عنقي بكلتا يديه وأداره في عنقي ينفتل له كالعلك المسخن، وأصحابي هؤلاء وقوف ما أغنوا عنّي سطوته، ولا كفوا عنّي شرته، فلا جزاهم الله عنّي خيراً، فإنّهم لمّا نظروا إليه كأنّهم قد نظروا إلى ملك موتهم، فوالذي رفع السماء بلا عمادها لقد اجتمع على فك هذا القطب مائة رجل أو يزيدون من أشدّ العرب فما قدروا على فكّه. فدلّني عجز الناس عن فتحه انّه سحر منه أو قوّة ملك قد ركبت فيه، ففكّه الآن عنّي إن كنت فاكّه، وخذ لي بحقّي
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- البربرة: الصوت وكلام في غضب.
3- في "ج": أصحابك.
فالتفت أبو بكر إلى عمر وقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرجل؟! كأنّ ولايتي والله ثقل على كاهله أو شجاً في صدره، فالتفت إليه عمر فقال: فيه والله دعابة لا تدعه حتّى تورده فلا تصدره، وجهل وحسد قد استحكما في جلده(1)، فجرى منه مجرى الدماء لا يدعانه حتّى يهينا منزله، ويورطاه ورطة الهلكة(2).
ثمّ قال أبو بكر لمن بحضرته: اُدعوا قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فليس لفكّ هذا القطب غيره، قال: [وكان قيس سيّاف النبي](3) وكان قيس رجل طوله ثمانية عشر شبراً في عرض خمسة أشبار، وكان أشدّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فحضر قيس فقال له: يا قيس إنّك من شدّة البدن بحيث أنت، ففك هذا القطب عن عنق أخيك.
فقال قيس: ولم لا يفكّه خالد من عنقه؟ قال: لا يقدر عليه، قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان ـ وهو نجم العسكر وسيفكم على أعدائكم ـ فكيف أقدر عليه أنا؟! قال عمر: دعنا من هزئك وهزلك وخُذ فيما حضرت له، فقال: اُحضرت لمسألة تسألونها [طوعاً](4) أو كرهاً تجبروني عليه؟.
فقال له: إن كان طوعاً وإلاّ فكُرهاً، قال قيس: يا ابن الصهاك! خذل الله من يكرهه مثلك، إنّ بطنك لعظيمة، وإنّ كرشك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك [عجب، قال:](5) فخجل عمر من قيس بن سعد وجعل ينكث أسنانه بالانملة،
____________
1- في "ج": في صدره.
2- قال العلاّمة المجلسي: وفي رواية اُخرى:... فقال له [أي لعمر] أبو بكر: دعني عن تمرّدك وحديثك هذا، فوالله لو همّ بقتلي وقتلك لقتلنا بشماله دون يمينه....
3- أثبتناه من البحار.
4- أثبتناه من "ج".
5- أثبتناه من "ج".
فأتوا بجماعة من الحدّادين فقالوا: لا ينفتح حتّى نحميه بالنار، فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضباً فقال: والله ما بك من ضعف عن فكّه ولكنّك لا تفعل فعلا(1)يعيب عليك فيه إمامك وحبيبك أبو الحسن، وليس هذا بأعجب من انّ أباك رام الخلافة ليبتغي الإسلام عوجاً، فحصد الله شوكته، وأذهب نخوته، وأعزّ الإسلام بوليّه، وأقام دينه بأهل طاعته، وأنت الآن في حال كيد وشقاق.
قال: فاستشاط قيس غضباً وامتلأ غيظاً، فقال: يا ابن أبي قحافة انّ لك عندي جواباً حمياً بلسان طلق وقلب جري، ولولا البيعة [التي في عنقي لسمعته منّي](2)، والله لئن بايعتك يدي لم يبايعك قلبي ولا لساني، ولا حجة في عليّ بعد يوم الغدير، ولا كانت بيعتي لك إلاّ كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، أقول قولي هذا غير هائبك ولا خائف من معرتك، ولو سمعت هذا القول منك بداء لما فتح لك منّي صلاحاً.
إن كان أبي رام الخلافة فحقيق من يرومها بعد من ذكرته، لأنّه رجل لايقعقع بالسنان(3)، ولا يغمز جانبه كغمز التينة(4)، خضم صنديد، سمك منيف(5)، وعز باذخ(6) أشوس(7)، فقام بخلافك والله أيّها النعجة العرجاء والديك النافش، لا عزّ صميم، ولا حسب كريم، وأيم الله لئن عاودتني في أبي لألجمنّك بلجام من القول يمج
____________
1- في "ج": لئلاّ.
2- أثبتناه من "ج".
3- في "ب": باللسان، وفي البحار: بالشنان.
4- غمز التين كناية عن سرعة الانقياد ولين الجانب.
5- سمك البيت: سقفه، والمنيف: المشرف المرتفع.
6- الباذخ: العالي.
7- الشوس ـ بالتحريك ـ: النظر بمؤخر العين تكبراً وتغيظاً، والرجل أشوس.
أمّا قولك انّ علياً إمامي فوالله ما أنكر إمامته، ولا أعدل عن ولايته، وكيف أنقض وقد أعطيت الله عهداً بإمامته وولايته يسألني عنه، فأنا إن ألقى الله بنقض بيعتك أحبّ إليّ من نقض عهده وعهد رسوله وعهد وصيّه وخليله، وما أنت إلاّ أمير قومك، إن شاؤوا تركوك وإن شاؤوا عزلوك.
فتب إلى الله ممّا اجترمته، وتنصل(1) إليه ممّا ارتكبته، وسلّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيماً بولايتك دونه، وجلوسك في موضعه، وتسميتك باسمه، وكأنّك بالقليل من دنياك وقد انقشع عنك كما ينقشع السحاب، ويعلم أيّ الفريقين شرّ مكاناً وأضعف جنداً.
وأمّا تعييرك إيّاي بأنّه مولاي، فهو والله مولاي ومولاك ومولى المسلمين أجمعين، آه آه أنّى لي بثبات قدمه، وتمكن وطأته حتّى ألفظك لفظ المنجنيق الحجرة، ولعلّ ذلك يكون قريباً ونكتفي بالعيان عن الخبر، ثمّ قام ونفض ثوبه ومضى، فندم أبو بكر عمّا أسرع إليه من القول إلى قيس، وجعل خالد يدور في المدينة والقطب في عنقه أيّاماً.
ثمّ أتى آت إلى أبي بكر فقال له: قد وافى عليّ بن أبي طالب الساعة من سفره، وقد عرق جبينه واحمرّ وجهه، فأنفذ إليه أبو بكر الأقرع بن سراقة الباهلي والأشوس بن الأشجع الثقفي يسألانه المضي إلى أبي بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فأتياه فقالا: يا أبا الحسن إنّ أبا بكر يدعوك لأمر قد أحزنه، وهو يسألك أن تصير إليه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يجبهما.
فقالا: يا أبا الحسن ما ترد علينا فيما جئناك به، فقال: بئس والله الأدب
____________
1- في "ب": تبتل.
فصارا إلى أبي بكر فأعلماه بذلك، فقال أبو بكر: قوموا بنا إليه، فمضى الجمع بأسره إلى منزله، فوجدوا الحسين عليه السلام قائماً على الباب يقلب سيفاً ليبتاعه، فقال له أبو بكر: يا أبا عبد الله إن رأيت أن تستأذن لنا على أبيك، فقال: نعم، فاستأذن للجماعة فدخلوا ومعهم خالد بن الوليد، فبدأ به الجمع بالسلام فردّ مثل ذلك، فلمّا نظر إلى خالد قال: نعمت صباحاً يا أبا سليمان، نعم القلادة قلادتك.
فقال: والله يا عليّ لا نجوت منّي إن ساعدني الأجل، فقال له عليّ عليه السلام: اُفّ لك يا ابن دميمة، إنّك ومَنْ فلق الحبّة وبرئ النسمة عندي لأهون [شيء](2)، وما روحك في يدي لو أشاء إلاّ كذبابة وقعت في إدام حار فطفقت منه، فاغن عن نفسك غناها ودعنا [بحالنا](3) حكماء، وإلاّ ألحقتك بمن أنت أحقّ بالقتل منه، ودع عنك يا أبا سليمان ما مضى وخُذ فيما بقى، فوالله ما تجرّعت من جرار المختمة إلاّ علقمها، والله لقد رأيت منيتي ومنيتك وروحي وروحك، وروحي في الجنّة وروحك في النار.
قال: وحجز الجمع بينهما وسألوه قطع الكلام، فقال أبو بكر لعليّ عليه السلام: إنّا ما جئناك لما تناقض منه أبا سليمان وإنّما حضرنا لغيره، وأنت لم تزل يا أبا الحسن مقيماً على خلافي والاجتراء(4) على أصحابي، فقد تركناك فاتركنا ولا تردنا فيردك منّا ما يوحشك ويزيدك نبوة على نبوتك(5).
____________
1- في "ب": في اجابتهم.
2- أثبتناه من "ج".
3- أثبتناه من البحار.
4- في "ج": الافتراء.
5- في البحار: تنويماً إلى تنويمك.
فقال له أبو بكر: فنضيف هذا إلى تقاعدك عن نصرة الإسلام، وقلّة رغبتك في الجهاد، فبهذا أمرك الله ورسوله، أم عن نفسك تفعل هذا؟
فقال له عليّ عليه السلام: يا أبا بكر وعلى مثلي يتفقّه الجاهلون؟ انّ رسول الله صلى الله عليه وآله أمركم ببيعتي، وفرض عليكم طاعتي، وجعلني فيكم كبيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي، فقال: يا عليّ ستغدر بك اُمّتي من بعدي كما غدرت الاُمم بعد مضيّ الأنبياء بأوصيائها إلاّ قليل، وسيكون لك ولهم بعدي هناة وهناة فاصبر، أنت كبيت الله من دخله كان آمناً ومن رغب عنه كان كافراً، قال الله عزوجل: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}(2)، وانّي وأنت سواء إلاّ النبوّة، فإنّي خاتم النبيّين وأنت خاتم الوصيّين.
وأعلمني عن ربّي سبحانه بأنّي لست أسلّ سيفاً إلاّ في ثلاث مواطن بعد وفاته، فقال: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، ولن يقرب أوان ذلك بعد، فقلت: فما أفعل يا رسول الله بمن ينكث بيعتي منهم ويجحد حقّي؟ قال: تصبر(3) حتّى تلقاني وتستسلم لمحنتك حتّى تلقى ناصراً عليهم.
فقلت: أفتخاف عليّ منهم أن يقتلوني؟ فقال: تالله لا أخاف عليك منهم قتلا ولا جراحاً، وانّي عارف بمنيتك وسببها وقد أعلمني ربّي، ولكنّي خشيت أن تفنيهم
____________
1- في "ب": آنسني.
2- البقرة: 125.
3- في "ب": فاصبر.
فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنّا لم نرد هذا كلّه ونحن نأمرك أن تفتح(4) الآن عن عنق خالد هذا الحديد، فقد آلمه بثقله وأثّر في حلقه بحمله، ولقد شفيت غليل صدرك.
فقال عليّ عليه السلام: لو أردت أن أشفي غليل صدري لكان السيف أشفى للداء(5) وأقرب للفناء، ولو قتلته والله ما [قدّرته](6) برجل ممّن قتلتهم يوم فتح مكة وفي كرّته هذه، وما يخالجني الشك في انّ خالداً ما احتوى قلبه من الايمان على قدر جناح بعوضة، امّا الحديد الذي في عنقه فلعلّي لا أقدر على فكّه، فيفكّه خالد عن نفسه أو فكّوه عنه، فأنتم أولى به إن كان ما تدّعونه صحيحاً.
فقام إليه بريدة الأسلمي وعامر بن الأشجع فقالا: يا أبا الحسن والله لا يفكّه من عنقه إلاّ من حمل باب خيبر بفرد يد ودحا به وراء ظهره، وحمله فجعله جسراً تعبر الناس عليه وهو فوق زنده(7)، وقام إليه عمار بن ياسر فخاطبه أيضاً فيمن خاطبه، فلم يجب أحداً إلى أن قال له أبو بكر: سألتك بالله وبحقّ أخيك المصطفى رسول الله إلاّ ما رحمت خالداً وفككته من عنقه.
____________
1- أثبتناه من البحار، وفي "ج": لرأيت.
2- في البحار و "ج": إلى شرب الدماء.
3- في "ب": وزري.
4- في "ج": أن تفكّ.
5- في "ب": للمرء.
6- أثبتناه من "ب" وفي النسخ: قدته.
7- في "ج": يده.