ولم يزل يقطع الحديد جميعه إلى أن أزاله من عنقه، وجعل الجماعة يكبّرون لذلك ويهلّلون ويتعجّبون من القوّة التي أعطاها الله سبحانه أمير المؤمنين عليه السلام، وانصرفوا شاكرين [لذلك](2)(3).
[خبر الأشجع بن مزاحم الثقفي ـ لقاه الله غب عمله ـ]
بحذف الاسناد مرفوعاً إلى جابر الجعفي قال: قلّد أبو بكر الصدقات بقرى المدينة وضياع فدك رجلا من ثقيف يقال له: الأشجع بن مزاحم الثقفي وكان شجاعاً، وكان له أخ قتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام في وقعة هوازن وثقيف، فلمّا خرج الرجل عن المدينة جعل أوّل قصده ضيعة من ضياع أهل البيت تُعرف بـ "بانقيا"(4).
____________
1- في "ج": يجذب.
2- أثبتناه من "ج".
3- عنه البحار 29: 161 ح37; وقطعة منه في مناقب ابن شهر آشوب 2: 290.
وقال العلاّمة المجلسي رحمه الله: وفي الرواية الاُخرى زيادة، وهي هذه: فانصرفت الجماعة شاكرين له وهم متعجبّون من ذلك، فقال أبو بكر: لا تعجبوا من أبي الحسن، والله لقد كنت بجنب رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم قلع عليّ باب خيبر، فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله قد ضحك حتّى بدت ثناياه، ثمّ بكى حتّى اخضلّت لحيته، فقلت: يا رسول الله أضحك وبكاء في ساعة واحدة؟ قال: نعم، أمّا ضحكي ففرحت بقلع عليّ باب خيبر، وأمّا بكائي فلعليّ عليه السلام، فإنّه ما قلعه إلاّ وهو صائم منذ ثلاثة أيّام على الماء القراح، ولو كان فاطراً على طعام لدحا به من وراء السور.
4- بانقيا: رستاق على أميال من المدينة، وهناك ناحية من نواحي الكوفة تسمّى بهذا الاسم أيضاً، كما ذكر ذلك في معجم البلدان 1: 331.
فصار إليه الحسين عليه السلام فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: ومن أمير المؤمنين؟ فقال: عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: أمير المؤمنين أبو بكر خلّفته بالمدينة، فقال له الحسين: فأجب عليّ بن أبي طالب، فقال: أنا سلطان وهو من العوام والحاجة له، فليصير هو إليّ.
قال له الحسين: ويلك أيكون مثل والدي من العوام ومثلك يكون سلطان، فقال: أجل لأنّ والدك لم يدخل في بيعة أبي بكر إلاّ كرهاً، وبايعناه طائعين وكنّا له غير كارهين، فشتان بيننا وبينه.
فصار(3) الحسين عليه السلام فأعلمه ما كان من قول الرجل، فالتفت إلى عمّار فقال: يا أبا اليقظان صِر إليه وألطف له في القول واسأله أن يصير إلينا، فإنّه لا يجب لوصيّ من الأوصياء أن يصير إلى أهل الضلالة، فنحن مثل بيت الله يؤتى ولا يأتي.
فصار إليه عمّار وقال: مرحباً يا أخا ثقيف، ما الذي أقدمك على مثل أمير
____________
1- الغِطريس: الظالم المتكبر.
2- في "ج": المسير.
3- في "ب": فسار.
فوجّه أمير المؤمنين بالجميع وقال لهم: لا تهابوه وصيروا به إليّ، وكان مع الرجل ثلاثون فارساً من جياد قومه(1)، فقالوا له: ويلك هذا عليّ بن أبي طالب قتلك والله وقتل أصحابك عنده دون النطفة(2)، فسكت القوم جزعاً(3) من أمير المؤمنين، فَسُحِبَ الأشجع إلى أمير المؤمنين على حرّ وجهه سحباً.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه ولا تعجلوه، فإنّ العجلة والطيش لا يقوم بها حجج الله وبراهينه، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: ويلك بما استحللت أخذ أموال أهل البيت، وما حجّتك في ذلك؟ فقال لأمير المؤمنين: وأنت فيما استحللت قتل هذا الخلق في كلّ حق وباطل، وانّ مرضاة صاحبي لهي أحبّ إليّ من اتّباع موافقتك.
فقال عليّ عليه السلام: أيْهاً عليك، ما أعرف من نفسي إليك ذنباً إلاّ قتل أخيك يوم هوازن، وليس بمثل هذا الفعل تطلب الثارات، فقبّحك الله وترحك، فقال له الأشجع: بل قبّحك الله وبتر عمرك ـ أو قال: ترحك ـ فإنّ حسدك الخلفاء لا يزال بك حتّى يوردك موارد الهلكة والمعاطب، وبغيك عليهم يقصر بك عن مرادك.
فغضب الفضل بن العباس من قوله، ثمّ تمطى عليه بسيفه فحمل عنقه(4)
____________
1- في "ج": رجلا من خيار قومه.
2- في "ج": دون النقطة.
3- في "ج": خوفاً.
4- في "ب": فجزّ عنقه.
فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: اُفّ لكم انصرفوا برأس صاحبكم هذا الأصغر إلى صاحبكم الأكبر، فما بمثل قتلكم يطلب الثار، ولا تنقضي الأوتار، فانصرفوا ومعهم رأس صاحبهم حتّى ألقوه بين يدي أبي بكر، فجمع المهاجرين والأنصار وقال: يا معاشر الناس انّ أخاكم الثقفي أطاع الله ورسوله واُولي الأمر منكم، فقلّدته صدقات المدينة وما يليها، فغافصه(2) ابن أبي طالب فقتله أخبث(3)قتلة، ومثّل به أخبث(4) مثلة، وقد خرج في نفر من أصحابه إلى قرى الحجاز، فليخرج إليه من شجعانكم وليردوه عن سنته، واستعدوا له من رباط الخيل والسلاح وما يتهيّأ لكم، وهو من تعرفونه الداء الذي لا دواء له، والفارس الذي لا نظير له.
قال: فسكت القوم مليّاً كأنّ الطير على رؤوسهم، فقال: أخرس أنتم أم ذو ألسن؟! فالتفت إليه رجل من الأعراب يقال له: الحجاج بن السخر(5) فقال له: إن سرت إليه سرنا معك، فأمّا لو سار إليه جيشك هذا لينحرنّهم عن آخرهم كنحر البدن، ثمّ قام آخر فقال: أتعلم إلى من توجّهنا إليه، إنّك توجّهنا إلى الجزّار الأعظم الذي يختطف الأرواح بسيفه خطفاً، والله إنّ لقاء ملك الموت أسهل(6) علينا من لقاء عليّ بن أبي طالب.
____________
1- في "ج": في يده.
2- في "ج": فاعترضه.
3- في "ج": أشنع.
4- في "ج": أعظم.
5- في البحار: الصخر.
6- في "ج": أهون.
فخرج خالد في خمسمائة فارس من أبطال قومه قد اُشحنوا سلاحاً(3) حتّى قدموا على أمير المؤمنين عليه السلام، قال: فنظر الفضل بن العباس إلى غبرة الخيل من البُعد فقال: يا أمير المؤمنين قد وجّه إليك ابن أبي قحافة بقسطل(4)يدقّون الأرض بحوافر الخيل دقّاً، فقال: يا ابن العباس هوّن عليك، فلو كانوا صناديد قريش وقبائل حنين وفرسان هوازن لما استوحشت إلاّ من ضلالتهم.
ثمّ قام أمير المؤمنين عليه السلام فشدّ محزم الدابة، ثمّ استلقى نائماً على قفاه ـ تهاوناً بخالد ـ حتّى وافاه، فانتبه لصهيل الخيل فقال: يا أبا سليمان ما الذي أعدل(5) بك إليّ؟ فقال: أعدل(6) بي إليك ما أنت أعلم به منّي، فقال: فأسمعنا الآن، فقال: يا أبا الحسن أنت فهم غير مفهم، وعالم غير معلم، فما هذه اللوثة(7) التي قد
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- أثبتناه من "ج".
3- في "ج": أثقلوا بالسلاح.
4- القسطل: الغبار، وهو كناية عن الجمّ الغفير.
5- في "ج": أتى.
6- في "ج": أتى.
7- اللوثة ـ بالضم ـ: الاسترخاء والبطء، ومسّ الجنون.
إن كنت كرهت هذا الرجل فليس يكرهك، ولا تكوننّ ولايته ثقلا على كاهلك ولا شجاً في حلقك، فليس بعد الهجرة بينك وبينه خلاف، ودع الناس وما تولّوه، وضلّ من ضلّ وهدي من هدي، ولا تفرّق بين كلمة مجتمعة، ولا تضرم النار بعد خمودها، فإنّك إن فعلت ذلك وجدت غبّه غير محمود.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: تهدّدني يا خالد بنفسك وبابن أبي قحافة؟! فما بمثلك ومثله تهديد، فدع عنك ترهاتك التي أعرفها منك، واقصد نحو ما وجّهت(2) له، قال: فإنّه قد تقدّم إليّ إن رجعت عن سنتك كنت مخصوصاً بالكرامة والحبور، وإن أقمت على ما أنت عليه من خلاف(3) الحقّ حملتك إليه أسيراً.
فقال له عليّ عليه السلام: يا ابن اللخناء وأنت تعرف الحقّ من الباطل؟! ومثلك يحمل مثلي أسيراً؟! يا ابن الرادة عن الإسلام أتحسبني ويلك مالك بن نويرة حيث قتلته ونكحت امرأته، يا خالد جئتني برقة عقلك، وتغاير نحيرتك، واكفهرار وجهك، وتشمّخ أنفك، والله لئن تمطيت بسيفي هذا عليك وعلى أوغادك لاشبعنّ من لحومكم عرج(4) الضباع، وطلس الذئاب، لست ويلك ممّن تقتلني أنت ولا صاحبك، وإنّي لأعرف قاتلي وأطلب منيّتي صباحاً ومساءً، وما مثلك يحمل مثلي أسيراً، ولو أردت ذلك لقتلتك في فناء هذا المسجد.
فغضب خالد وقال: توعد وعيد(5) الأسد وتروغ روغان الثعالب، ما أعداك في المقال، وما مثلك إلاّ من اتبع قوله بفعله، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا كان
____________
1- النبوة: الرفعة.
2- في "ج": وجّهك له.
3- في "ج": مخالفة.
4- في "ب": جوع.
5- في "ب": ترعد رعيد.
فلمّا نظر خالد إلى بريق عيني أمير المؤمنين عليه السلام وبريق(1) ذي الفقار في يده، وتصمّمه عليه نظر إلى الموت عياناً، فاستحقّها(2) خالد وقال: يا أبا الحسن لم نرد هذا، فضربه أمير المؤمنين عليه السلام بقفاء رأس ذي الفقار على ظهره فنكسه عن دابته، ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام ليردّ يده إذا بدت به(3) لئلاّ يُنسب إلى الجبن.
فلحق أصحاب خالد من فعل أمير المؤمنين عليه السلام هولا عجباً وخوفاً عنيفاً(4)، ثمّ قال: ما لكم لا تكافحون عن سيّدكم، والله لو كان أمركم إليّ لتركت رؤوسكم، وهو أخفّ على يدي من جني الهبيد(5) على أيدي العبيد، وعلى هذا السبيل تقضمون مال الفيء؟ اُفّ لكم.
فقام إليه رجل من القوم يقال له المثنّى بن الصباح(6)، وكان عاقلا فقال: والله ما جئناك لعداوة بيننا وبينك، ولا عن غير معرفة بك، وإنّا لنعرفك كبيراً وصغيراً، وأنت أسد الله في أرضه، وسيف نقمته على أعدائه، وما مثلنا من جهل مثلك ونحن اتباع مأمورون، وجند موازرون، وأطواع غير مخالفين، فتبّاً لمن وجّه بنا إليك، أما كان له معرفة بيوم بدر واُحد وحنين؟!.
فاستحى أمير المؤمنين عليه السلام من قول الرجل وترك الجميع، وجعل أمير المؤمنين عليه السلام يمازح خالداً لما به من ألم الضربة(7) وهو ساكت، فقال له
____________
1- في "ج": لمعان.
2- في "ج": فاستخفى.
3- في "ج": إذا رفعها.
4- في "ج": هول عجيب ورعب عنيف.
5- الهبيد: الحنظل أو حبّه.
6- في البحار: الصياح.
7- في "ج": الذي كان ساكتاً لا ينطق بكلمة من ألم الضربة، قائلا له.
ولا يزال يحملك على افساد حالتك عندي، فقد تركتَ الحق على معرفة وجئتني تجوب مفاوز البسابس(2) لتحملني إلى ابن أبي قحافة أسيراً بعد معرفتك انّي قاتل عمرو بن عبدود ومرحب، وقالع باب خيبر، وانّي لمستحي منكم ومن قلّة عقولكم.
أَوَتزعم أنّه قد خفي عليّ ما تقدّم به إليك صاحبك حين أخرجك إليّ وأنت تذكره ما كان منّي إلى عمرو بن معدي كرب وإلى أصيد(3) بن سلمة المخزومي، فقال لك ابن أبي قحافة: لا تزال تذكر له ذلك، وإنّما كان ذلك من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وقد ذهب ذلك كلّه وهو الآن أقلّ من ذلك، أليس كذلك يا خالد؟!.
فلولا ما تقدّم به إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله لكان منّي إليهما وهما أعلم به منك، يا خالد أين كان ابن أبي قحافة وأنت تخوض معي المنايا في لجج الموت خوضاً، وقومك بادون في الانصراف كالنعجة القوداء والديك النافش، فاتّق الله يا خالد ولا تكن للخائنين رفيقاً(4) ولا للظالمين ظهيراً.
فقال خالد: يا أبا الحسن إنّي أعرف ما تقول، وما عدلت العرب والجماهير عنك إلاّ طلب ذحول أيّامهم(5) قديماً وتنكل رؤوسهم قريباً، فراغت عنك
____________
1- في "ج": صاحباك.
2- البسبس: القفر الخالي.
3- في البحار: أسيد.
4- في البحار: خصمياً.
5- في "ج" والبحار: آبائهم.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما اُوتي خالداً إلاّ من قبل(3) هذا الخؤون الظلوم المفتن ابن الصهاك، فإنّه لا يزال يؤلّب على القبائل ويفزعهم منّي ويؤيسهم(4) من عطاياهم، ويذكرهم ما أنساهم الدهر، وسيعلم غب أمره إذا فاضت نفسه.
فقال خالد: يا أبا الحسن بحقّ أخيك لما قطعت هذا من نفسك، وصرت إلى منزلك مكرماً إذا كان القوم رضوا بالكفاف منك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا جزاهم الله عن أنفسهم ولا عن المسلمين خيراً.
قال: ثمّ دعا بدابته فاتبعه أصحابه وخالد يحدّثه ويضاحكه حتّى دخل المدينة، فبادر خالد إلى أبي بكر فحدّثه بما كان منه، فصار أمير المؤمنين عليه السلام إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله ثمّ صار إلى الروضة فصلّى أربع ركعات فدعا وقام يريد الانصراف إلى منزله، وكان أبو بكر جالساً في المسجد والعباس جالساً إلى جنبه.
فأقبل أبو بكر على العباس فقال: يا أبا الفضل اُدع لي ابن أخيك علياً لاُعاتبه على ما كان منه إلى الأشجع، فقال له العباس: أوليس قد تقدّم إليك
____________
1- الدكادك: الأراضي التي فيها غلظ.
2- في "ج": ولقلّ اليوم من يميل.
3- في "ب": جهة.
4- في "ج": يواسيهم.
فقال له العباس: أنت وذاك يا ابن أبي قحافة، فدعاه العباس فجاء أمير المؤمنين عليه السلام فجلس إلى جنب العباس، فقال له العباس: انّ أبا بكر استبطاك وهو يريد أن يسألك بما جرى، فقال: يا عمّ لو دعاني لما أتيته، فقال له أبوبكر: يا أبا الحسن ما أرضى لمثلك هذا الفعال، قال: وأيّ فعل؟ قال: قتلك مسلماً بغير حق، فما تملّ من القتل قد جعلته شعارك ودثارك.
فالتفت إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أمّا عتابك عليّ في قتل مسلم فمعاذ الله أن أقتل مسلماً بغير حق لأنّ من وجب عليه القتل رفع عنه اسم الإسلام، وأمّا قتلي الأشجع فإن كان اسلامك كاسلامه فقد فزت فوزاً عظيماً، أقول وما عذري إلاّ من الله، وما قتلته إلاّ عن بيّنة من ربّي، وما أنت أعلم بالحلال والحرام منّي، وما كان الرجل إلاّ زنديقاً منافقاً وانّ لفي منزله صنماً من رخام يتمسّح به ثمّ يصير إليك، وما كان من عدل الله أن يؤاخذ بقتل عبدة الأوثان والزنادقة.
وافتتح أمير المؤمنين عليه السلام الكلام، فحجز بينهما المغيرة بن شعبة وعمار بن ياسر، وأقسموا على عليّ فسكت وعلى أبي بكر فأمسك، ثمّ أقبل أبو بكر على الفضل بن العباس وقال: لو قيدتك بالأشجع لما فعلت مثلها، ثمّ قال: كيف اُقيّدك بمثله وأنت ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وغاسله.
فالتفت إليه العباس فقال: دعونا ونحن حكماء، بلغ من شأنك انّك تتعرّض لولدي وابن أخي، وأنت ابن أبي قحافة بن مرّة، ونحن بنو عبد المطلب بن هاشم أهل بيت النبوة واُولوا الخلافة، تسمّيتم بأسمائنا، ووثبتم علينا في سلطاننا، وقطعتم
ثمّ انصرف القوم وأخذ العباس بيد عليّ وجعل عليّ عليه السلام يقول: أقسمت عليك يا عمّ لا تتكلّم، وإن تكلّمت لا تتكلّم إلاّ بما يسرّه، وليس لهم عندي إلاّ الصبر كما أمرني نبيّ الله صلى الله عليه وآله، دعهم ما كان لهم يا عمّ بيوم غدير مقنع، دعهم يستضعفونا جهدهم فإنّ الله مولانا وهو خير الحاكمين.
فقال له العباس: يا ابن أخي أليس قد كفيتك، وإن شئت حتّى أعود إليه فاعرفه [مكانه](1) وأنزع عنه سلطانه، فأقسم عليه عليّ عليه السلام فأسكته(2).
[خبر وفاة أبي بكر وعمر ومعاذ بن جبل]
بحذف الاسناد مرفوعاً إلى عبد الرحمن بن غنم(3) الأزدي حين مات ـ ختن معاذ بن جبل ـ وكانت ابنته تحت معاذ بن جبل، وكان أفقه أهل الشام وأشدّهم اجتهاداً، قال: مات معاذ بن جبل بالطاعون فشهدت يوم مات والناس متشاغلون بالطاعون، فقال: وسمعته حين احتضر وليس معه في البيت غيري ـ وذلك في خلافة عمر بن الخطاب ـ فسمعته يقول: ويل لي، فقلت في نفسي: أصحاب الطاعون يهذون ويقولون الأعاجيب، فقلت له: أتهذي؟ قال: لا.
قلت: [فلم](4) تدعو بالويل والثبور؟ قال: لموالاتي عدوّ الله على وليّ الله،
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- عنه البحار 29: 46 ح19.
وقال العلاّمة المجلسي رحمه الله في ذيل الحديث بعد تفسير بعض كلماته: ولم نبالغ في تفسير هذا الحديث وشرحه، لعدم اعتمادنا عليه لما فيه ممّا يخالف السير وسائر الأخبار.
3- في "ب": غانم.
4- أثبتناه من البحار.
قال: يا ابن غنم هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وعليّ بن أبي طالب يقولان لي: أبشر بالنار أنت وأصحابك، أفليس قلتم إن مات رسول الله زوينا الخلافة عن عليّ بن أبي طالب فلن تصل إليه؟! فاجتمعت أنا وأبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسالم، قال: قلت: متى يا معاذ؟ قال: في حجة الوداع، قلت لهم(2): أكفيكم قومي الأنصار واكفوني قريشاً.
ثمّ دعوت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى هذا الذي قلت، فعاهدونا عليه بشر بن سعد وأسد(3) بن حصين فبايعاني على ذلك، فقلت: يا معاذ انّك لتهجر، فألصق خدّه بالأرض فما زال يدعو بالويل والثبور حتّى مات.
فقال ابن غنم: ما حدّثت بهذا الحديث غير قيس بن هلال أحداً إلاّ ابنتي امرأة معاذ ورجل آخر، فإنّي فزعت ممّا رأيت وسمعت من معاذ، قال: [فحججت](4) ولقيت الذي غمض أبا عبيدة وسالم، فأخبرني انّه حصل لهما نحو ذلك عند موتهما ولم يزد فيه حرفاً ولم ينقص حرفاً، كأنّهما قالا مثل ما قال معاذ بن جبل.
قال سليم: فحدّثت بحديث ابن غنم هذا كلّه محمد بن أبي بكر فقال لي: اكتم عليّ وأشهد انّ أبي قال عند موته مثل مقالتهم، فقالت عائشة: إنّ أبي يهجر.
قال: ولقيت عبد الله بن عمر في خلافة عثمان وحدّثته ما سمعت من أبي عند
____________
1- في "ج": لتهجو.
2- زاد في البحار و "ج": قلنا: نتظاهر على عليّ فلا ينال الخلافة ما حيينا، فلمّا قُبض رسول الله صلّى الله عليه وآله قلت لهم....
3- في "ج" والبحار: أسيد.
4- أثبتناه من "ج" والبحار.
فأتيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه فأخبرته بما سمعته من أبي وبما حدّثني به ابن عمر، قال عليّ: قد حدّثني بذلك عن أبيك وعن أبيه وعن أبي عبيدة وسالم وعن معاذ ما هو أصدق منك ومن ابن عمر، فقلت: ومن ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: من حدثني، فعرفت ما عنى، فقلت: صدقت، إنّما ظننت(1) إنساناً حدّثك، وما شهد أبي وهو يقول ذلك غيري.
قال سليم: قلت لابن غنم: مات معاذ بالطاعون فبما مات أبو عبيدة؟ قال: مات بالدبيلة(2)، فلقيت محمد بن أبي بكر فقلت: هل شهد موت أبيك غيرك وغير أخيك عبد الرحمن وعائشة وعمر؟ قال: لا، قلت: وسمعوا منه ما سمعت؟ قال: سمعوا منه طرفاً فبكوا وقالوا: هو يهجر، فامّا كلّ ما سمعت فلا، قلت: فالذي سمعوا ما هو؟
قال: دعا بالويل والثبور(3)، قال عمر: يا خليفة رسول الله لِمَ تدعو بالويل والثبور؟ قال: هذا رسول الله ومعه عليّ يبشّراني بالنار ومعه الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة وهو يقول: لقد وفيتَ بها وظاهرتَ على وليّ الله فأبشر أنت وصاحبك بالنار في أسفل السافلين.
فلمّا سمعها عمر خرج وهو يقول: انّه ليهجر، قال: لا والله ما أهجر أين
____________
1- في "ب": طلبت.
2- داء في الجوف.
3- في "الف" و "ب": دعا إلى النار فادخل، وما أثبتناه في المتن من "ج" والبحار.
فقال عمر: يا هؤلاء إنّ أبا بكر يهذي، فاجتنبوه(3) واكتموا ما تسمعون منه لئلاّ يشمت بكم أهل هذا البيت، ثمّ خرج وخرج أخي وخرجت عائشة ليتوضّؤوا للصلاة، فأسمعني من قوله ما لم يسمعوا، فقلت له لمّا خلوت(4) به: قل لا إله إلاّ الله، قال: لا أقولها ولا أقدر عليها أبداً حتّى أرد النار فأدخل التابوت.
فلمّا ذكر التابوت ظننت أنّه يهجر، فقلت: أيّ تابوت؟ فقال: تابوت من نار مقفل بقفل من النار، فيه اثنا عشر رجلا أنا وصاحبي هذا، قلت: عمر؟ قال: نعم، وعشرة في(5) جب من جهنّم عليه صخرة، قلت: تهذي؟ قال: لا والله ما أهذي، لعن الله ابن صهاك هو الذي أضلّني عن الذكر بعد إذ جاءني فبئس القرين، ثمّ ألصق خدّه بالأرض فألصقت خدّي بالأرض، فما زال يدعو بالويل والثبور حتّى غمّضته(6).
ثمّ دخل عمر عليّ فقال: هل قال(7) بعدنا شيئاً؟ فحدّثتهم، فقال عمر: يرحم الله خليفة رسول الله اكتم هذا كلّه فإنّ هذا كلّه هذيان، وأنتم أهل بيت يُعرف فيكم
____________
1- في "ج": أولم اُحدّثك.
2- تعوم: تسبح وتسير.
3- في "ب": فخذوه.
4- في "ج": انفردت به.
5- في "ب": قل له عنّي....
6- في "ج": غلبه النوم.
7- في "ج": هل حدّث.
قال: قلت لمحمّد: من تراه حدّث أمير المؤمنين عليه السلام عن هؤلاء الخمسة بما قالوا؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله، انّه يراه كلّ ليلة في المنام وحدّثه إيّاه في المنام مثل ما حدّثه(1) إيّاه في اليقظة والحياة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي في نوم ولا يقظة ولا بأحد من أوصيائي إلى يوم القيامة.
[قال سليم:](2) فقلت لمحمّد: فمن حدّثك بهذا؟ قال: عليّ، قال: وأنا سمعته أيضاً منه، قلت لمحمّد: فملك من الملائكة حدّثه؟ قال: أو ذاك، قلت: فهل تحدّث الملائكة إلاّ الأنبياء، [قال](3) أما تقرأ كتاب الله عزوجل: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي}(4) ولا محدّث.
قلت: فأمير المؤمنين عليه السلام محدّث؟ قال: نعم، وفاطمة محدّثة ولم تكن نبيّة، ومريم محدّثة ولم تكن نبيّة، واُمّ موسى كانت محدّثة ولم تكن نبيّة، وسارة امرأة ابراهيم عليه السلام قد عاينت الملائكة ولم تكن نبيّة، فبشّروها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب.
قال سليم: فلمّا قُتل محمد بن أبي بكر بمصر ونعي، عزّيت أمير المؤمنين عليه السلام وخلوت به، فحدّثته بما أخبرني(5) به محمد بن أبي بكر وبما حدّثني به ابن غنم، قال: صدق محمد رحمه الله، أما انّه شهيد حيّ مرزوق، يا سليم إنّي وأوصيائي
____________
1- في البحار: مثل حديثه.
2- أثبتناه من "ج" والبحار.
3- أثبتناه من البحار.
4- الحج: 52.
5- في "ج": بما حدّثني.