فقال الناس بأجمعهم: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله لا نخالف ما اُمرنا به، ثمّ خرجوا وسدّوا أبوابهم جميعاً غير باب النبي وعليّ عليهما السلام، فأظهر الناس الحسد والكلام، فقال عمر: ما بال رسول الله يؤثر ابن عمّه عليّ بن أبي طالب علينا، ويقول على الله الكذب، ويخبر عن الله بما لم يقل في ابن أبي طالب؟! وإنّما قول محمد محبّة لعليّ بن أبي طالب واجابة إلى ما يريد، فلو سأل الله ذلك لنا لأجابه، وأراد عمر أن يكون له باب مفتوح إلى المسجد.
ولمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله قول عمر وخوض القوم في الكلام أمر المنادي بالنداء إلى الصلاة جامعة، فلمّا اجتمعوا قال لهم النبي صلى الله عليه وآله: معاشر الناس قد بلغني ما خضتم فيه وما قال قائلكم، وإنّي اُقسم بالله العظيم انّي لم أتقوّل على الله الكذب، ولا كذبت فيما قلت، ولا أنا سددت أبوابكم، ولا أنا فتحت باب عليّ بن أبي طالب، ولا أمرني في ذلك إلاّ الله عزوجل الذي خلقني وخلقكم أجمعين، فلا تحاسدوا فتهلكوا، ولا تحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله فإنّه يقول في محكم كتابه: {تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض}(1) فاتّقوا الله وكونوا من الصابرين.
ثمّ صدّق الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وآله بنزول الكوكب من السماء على دار عليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ وقد مرّ حديث النجم ـ وأنزل الله سبحانه قرآناً وأقسم فيه بالنجم تصديقاً لرسوله صلى الله عليه وآله وقال: {والنجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحي يوحى}(2) الآيات كلّها، وتلاها النبي صلى الله عليه وآله فلم يزدادوا إلاّ
____________
1- البقرة: 253.
2- النجم: 1-4.
فلمّا كان بعد أيّام دخل عليه عمّه العباس فقال: يا رسول الله قد علمت ما بيني وبينك من القرابة والرحم الماسة، وأنا ممّن يدين الله بطاعتك، فاسأل الله تعالى أن يجعل لي باباً إلى المسجد أتشرّف بها على من سواي، فقال له صلى الله عليه وآله: يا عمّ ليس إلى ذلك سبيل، فقال: فميزاباً يكون من داري إلى المسجد أتشرّف به على القريب والبعيد.
فسكت النبي صلى الله عليه وآله ـ وكان كثير الحياء لا يدري ما يعيد من الجواب خوفاً من الله تعالى وحياءً من عمّه العباس ـ فهبط جبرئيل عليه السلام في الحال على النبي صلى الله عليه وآله ـ وقد علم الله تعالى من نبيّه اشفاقه بذلك ـ فقال: يا محمد إنّ الله يأمرك أن تجيب سؤال عمّك، وأمرك أن تنصب له ميزاباً إلى المسجد كما أراد، فقد علمت ما في نفسك، وقد أجبتك إلى ذلك كرامةً لك، ونعمةً منّي عليك وعلى عمّك العباس.
فكبّر النبي صلى الله عليه وآله وقال: أبى الله إلاّ إكرامكم يا بني هاشم وتفضيلكم على الخلق أجمعين، ثمّ قام ومعه جماعة من الصحابة والعباس بين يديه حتّى صار على سطح العباس، فنصب له ميزاباً إلى المسجد وقال: معاشر المسلمين إنّ الله قد شرّف عمّي العباس بهذا الميزاب فلا تؤذونني في عمّي فإنّه بقيّة الآباء والأجداد، فلعن الله من آذاني في عمّي وبخسه حقّه أو أعان عليه.
ولم يزل الميزاب على حاله مدّة أيام النبي صلى الله عليه وآله وخلافة أبي بكر، وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطاب، فلمّا كان في بعض الأيام وعك العباس ومرض مرضاً شديداً، وصعدت الجارية تغسل قميصه، فجرى الماء من الميزاب إلى صحن المسجد، فنال بعض الماء مرقعة الرجل، فغضب غضباً شديداً
فشقّ ذلك على العباس ودعا بولديه عبد الله وعبيد الله، ونهض يمشي متوكّئاً عليهما وهو يرتعد من شدّة المرض، وسار حتّى دخل على أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا نظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام انزعج لذلك وقال: يا عم ما جاء بك وأنت على هذه الحالة؟ فقصّ عليه القصة وما فعل معه عمر من قلع الميزاب، وتهدده من يعيده إلى مكانه وقال له: يا ابن أخي إنّه كان لي عينان أنظر بهما فمضت احداهما وهي رسول الله صلى الله عليه وآله، وبقيت الاُخرى وهي أنت يا عليّ، وما أظنّ انّي اُظلم ويزول ما شرّفني به رسول الله صلى الله عليه وآله وأنت لي، فانظر في أمري.
فقال له: يا عمّ ارجع إلى بيتك فسترى منّي ما يسرّك إن شاء الله تعالى، ثمّ نادى: يا قنبر عليّ بذي الفقار، فتقلّده ثمّ خرج إلى المسجد والناس حوله، وقال: يا قنبر اصعد فردّ الميزاب إلى مكانه، فصعد قنبر فردّه إلى موضعه، وقال عليّ عليه السلام: وحقّ صاحب هذا القبر والمنبر لئن قلعه قالع لأضربنّ عنقه وعنق الآمر له بذلك، ولأصلبنّهما في الشمس حتّى يتقدّدا.
فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فنهض ودخل المسجد، ونظر إلى الميزاب وهو في موضعه فقال: لا يُغضِب أحد أبا الحسن فيما فعله ونكفّر عنه عن اليمين، فلما كان من الغداة مضى أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمّه العباس فقال له: كيف أصبحت يا عمّ؟ قال: بأفضل النعم ما دمت لي يا ابن أخي، فقال: يا عم طب نفساً فوالله لو خاصمني أهل الأرض في الميزاب لخصمتهم، ثمّ لقتلتهم بحول الله وقوّته، ولا ينالك ضيم يا عمّ، فقام العباس فقبّل بين عينيه وقال: يا ابن أخي ما خاب من أنت ناصره.
منها قصة الميزاب ولولا خوفه من عليّ لم يتركه على حاله.
ومنها انّ النبي صلى الله عليه وآله قبل الهجرة خرج يوماً إلى خارج مكة ورجع طالباً منزله، فاجتاز بمناد ينادي من بني تيم، وكان لهم سيد يسمّى عبد الله بن جذعان، وكان يعدّ من سادات قريش وأشياخهم، وكان له منادية ينادون في شعاب مكة وأوديتها: من أراد الضيافة والقرى فليأت مائدة عبد الله بن جذعان، وكان مناديه أبو قحافة واُجرته أربعة دوانيق، وله مناد آخر ينادي فوق سطح داره.
فاُخبر عبد الله بن جذعان بجواز النبي صلى الله عليه وآله على بابه، فخرج يسعى حتّى لحق به وقال: يا محمد بالبيت الحرام إلاّ ما شرّفتني بدخولك إلى منزلي وتحرّمك بزادي، وأقسم عليه بربّ البيت والبطحاء وبشيبة عبد المطلب، فأجابه النبي صلى الله عليه وآله إلى ذلك ودخل منزله وتحرّم بزاده، فلمّا خرج النبي صلى الله عليه وآله خرج معه ابن جذعان مشيّعاً له، فلمّا أراد الرجوع عنه قال له النبي صلى الله عليه وآله: إنّي اُحبّ أن تكون غداً ضيفي أنت وتيم وأتباعها وحلفاؤها عند طلوع الغزالة.
ثمّ افترقا ومضى النبي صلى الله عليه وآله إلى دار عمّه أبي طالب وجلس متفكّراً فيما وعده لعبد الله بن جذعان، إذ دخلت عليه فاطمة بنت أسد زوجة عمّه أبي طالب، وكانت هي مربيته وكان يسمّيها اُمّي، فلمّا رأته مهموماً قالت: فداك أبي واُمّي ما لي أراك مهموماً، أعارضك أحد من أهل مكة؟! فقال: لا، فقالت: فبحقّي
فبينما هما في الحديث إذ دخل أبو طالب رضي الله عنه فقال لزوجته: فيما أنتما؟ فأعلمته بذلك كلّه وبما قال النبي صلى الله عليه وآله لابن جذعان، فضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه وقال: يا ولدي بالله عليك لا يضيق صدرك من ذلك، في نهار غد أقوم لك بجميع ما يُحتاج إليه إن شاء الله، وأصنع وليمة تتحدّث بها الركبان في سائر البلدان، وعزم على وليمة تعمّ سائر القبائل، وقصد نحو أخيه العباس ليقترض من ماله شيئاً يضمّه إلى ماله، فوجد بني عبد المطلب في الطريق فأقرضوه من الجمال والذهب ما يكفيه، فرجع عن القصد إلى أخيه العباس وآثر التخفيف عنه.
فبلغ أخاه العباس ذلك وعظم عليه رجوعه عن القصد إليه، فأقبل إلى أخيه أبي طالب وهو مغموم كئيب، فسلّم عليه فقال له أبو طالب: ما لي أراك حزيناً كئيباً؟ فقال: بلغني انّك قصدتني في حاجة ثمّ بدا لك عنها فرجعت من الطريق، فما هذا الحال؟
فقصّ عليه القصة إلى آخرها، فقال له العباس: الأمر إليك وانّك لم تزل أهلا لكلّ مكرمة وموئلا لكلّ نائبة، ثمّ جلس عنده ساعة وقد أخذ أبو طالب فيما يحتاج إليه من آلة الطبخ وغير ذلك، فقال له العباس: يا أخي ولي إليك حاجة، فقال أبو طالب: هي مقضيّة فاذكرها، فقال العباس: أقسمت عليك بحقّ البيت وبشيبة الحمد إلاّ ما قضيتها، فقال: لك ذلك ولو سألت النفس والولد، فقال: تهب لي هذه المكرمة تشرّفني بها، فقال: قد أجبتك إلى ذلك مع ما أصنعه أنا.
فنحر العباس الجزر، ونصب القدور، وعقد الحلاوات، وسوّى المشويّ،
فلمّا تكامل النبي صلى الله عليه وآله وبلغ أشدّه وتزوّج خديجة، وأوحى الله إليه، وأنبأه وأرسله إلى سائر العرب والعجم، وأظهره على المشركين وفتح مكة ودخلها مؤيّداً منصوراً، وقتل من قتل وبقي من بقي، أوحى الله إليه: يا محمد إنّ عمّك العباس له عليك يدٌ سابقة وجميل متقدّم، وهو ما أنفق عليك في وليمة عبد الله بن جذعان، وهو ستّون ألف دينار مع ما له عليك في سائر الأزمان، وفي نفسه شهوة من سوق عكاظ فامنحه إيّاه في مدّة حياته، ولولده بعد وفاته.
[فأعطاه ذلك](1) ثمّ قال صلى الله عليه وآله: ألا لعنة الله على من عارض عمّي العباس في سوق عكاظ أو نازعه فيه، ومن أخذه منه فأنا بريء منه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فلم يكترث عمر بذلك وحسد العباس على دخل سوق عكاظ، وغصبه منه ولم يزل العباس متظلّماً منه عليه إلى حين وفاته.
ومنها انّ النبي صلى الله عليه وآله كان جالساً في مسجده يوماً وحوله جماعة من الصحابة، إذ دخل عليه عمّه العباس ـ وكان رجلا صبيحاً حسناً حلو الشمائل ـ
____________
1- أثبتناه من البحار.
من قبلها كنت في الظلال(1) وفي | مستودع حين يخصف الورق |
ثمّ هبطت(2) البلاد لا بشر | أنت ولا نطفة ولا علق |
بل حجة تركب السفين وقد | ألجم براً وأهله الغرق |
وخضت نار الكثيب مكتتماً | تجول فيها وليس تحترق |
من صلب طاهر إلى رحم | إذا بدا عالم به طبق |
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض | وتلألأ بنورك الاُفق |
ونحن في ذلك الضياء على النـ | ـور وسبيل الرشاد نحترق |
فقال النبي صلى الله عليه وآله: جزاك الله يا عمّ خيراً ومكافاتك على الله عزوجل، ثمّ قال: معاشر الناس احفظوني في عمّي العباس وانصروه ولا تخذلوه، ثمّ قال: يا عمّ اطلب منّي شيئاً أتحفك به على سبيل الهدية، فقال: يا ابن أخي اُريد من الشام الملعب، ومن العراق الحيرة، ومن هجر الخط ـ وكانت هذه المواضع كثيرة العمارة ـ فقال له النبي صلى الله عليه وآله: حبّاً وكرامة.
ثمّ دعا عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال: اُكتب لعمّك العباس هذه المواضع، فكتب له أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً بذلك وأملا رسول الله صلى الله عليه وآله على عليّ، وأشهد رسول الله صلى الله عليه وآله الجماعة الحاضرين، وختمه النبي صلى الله عليه وآله بخاتمه وقال: يا عم إن يفتح الله لي هذه المواضع فهي لك هبة من الله ورسوله، وإن فتحت بعد موتي فإنّي أوصي الذي ينظر بعدي في الاُمة وآمر بتسليم هذه المواضع إليك.
____________
1- في "الف": الضلال.
2- كذا الظاهر، وفي "الف" و "ب": هبطن.
فجرى بينهما كلام كثير غليظ، فغضب عمر وكان سريع الغضب، وأخذ الكتاب من العباس ومزّقه وتفل فيه، ورمى به وجه العباس وقال: والله لو طلبت منّي جنّة واحدة ما أعطيتك.
فأخذ العباس بقية الكتاب وعاد إلى منزله حزيناً كئيباً باكياً شاكياً إلى الله تعالى وإلى رسوله، فصاح العباس بالمهاجرين والأنصار، فغضبوا لذلك وقالوا: يا عمر تخرق كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وتلقى به إلى الأرض، هذا شيء لا نصبر عليه، فخاف عمر أن ينخرم عليه الأمر فقال: قوموا بنا إلى العباس نسترضيه ونفعل معه ما يصلحه.
فنهضوا بأجمعهم إلى دار العباس، فوجدوه موعوكاً لشدّة ما لحقه من الغبن والألم والظلم، فقال: نحن في الغداة عائدوه إن شاء الله ومعتذرون إليه من فعلنا، فمضى غد وبعد غد ولم يعد إليه ولا اعتذر منه، ثمّ فرّق الأموال على المهاجرين والأنصار، وبقى كذلك إلى أن مات.
ولو أخذنا في ذكر أفعاله لطال الكتاب، وهذا القدر فيه عبرة لاُولي الألباب.
وأمّا صاحبهما الثالث فقد استبدّ أيضاً بأخذ الأموال ظلماً على ما تقدّم به
فمنها انّه منع المراعي من الجبال والأودية وحماها حتّى أخذ عليها مالا باعها به من المسلمين(1).
ومنها انّ رسول الله صلى الله عليه وآله نفى الحكم بن أبي العاص عمّ عثمان عن المدينة وطرده من جواره، فلم يزل طريداً من المدينة ومعه ابنه مروان أيّام رسول الله صلى الله عليه وآله وأيّام أبي بكر وأيّام عمر يسمّى طريد رسول الله، حتّى استولى عثمان فردّه إلى المدينة وآواه، وجعل ابنه مروان كاتبه وصاحب تدبيره في داره(2).
فهل هذا منه إلاّ خلافاً على رسول الله ومضادة لفعله؟ وهل يستجيز هذا الخلاف على رسول الله صلى الله عليه وآله والمضادة لأفعاله إلاّ خارج عن الدين بريء من المسلمين؟ وهل يظنّ ذو فهم انّ رسول الله صلى الله عليه وآله طرد الحكم ولعنه وهو مؤمن، وإذا لم يكن مؤمناً فما الحال التي دعت عثمان إلى ردّه والاحسان إليه وهو رجل كافر، لولا انّه تعصّب لرحمه ولم يفكّر في دينه، فحقّت عليه الآية قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم}(3).
ومنها انّه جمع ما كان عند المسلمين من صحف القرآن، وطبخه بالماء على النار وغسلها ورمى بها إلاّ ما كان عند ابن مسعود، فإنّه امتنع من الدفع إليه، فأتى
____________
1- راجع السيرة الحلبية 2: 78; وتاريخ الخميس 2: 262; تاريخ الخلفاء: 164; شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 135.
2- الاصابة 1: 345; اُسد الغابة 2: 33; المعارف لابن قتيبة: 83; تاريخ اليعقوبي 2: 154; الملل والنحل للشهرستاني 1: 26; السيرة الحلبية 2: 76.
3- المجادلة: 22.
وهذه بدعة عظيمة، لأنّ تلك الصحف إن كان فيها زيادة عمّا في أيدي الناس وقصد لذهابه ومنع الناس منه فقد قصد إلى ابطال بعض كتاب الله، وتعطيل بعض شريعته، ومن قصد إلى ذلك فقد حقّ عليه قوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون}(1).
هذا مع ما يلزمه انّه لم يترك ذلك ويطرحه تعمّداً إلاّ وفيه ما قد كرهه، ومن كره ما أنزل الله في كتابه حبط جميع عمله، كما قال الله تعالى: {ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم}(2) فإن لم تكن في تلك الصحف زيادة عمّا في أيدي الناس فلا معنى لما فعله.
ومنها: انّ عمار بن ياسر قام يوماً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وعثمان يخطب على المنبر، فوبّخ عثمان بشيء من أفعاله، فنزل عثمان إليه فركله برجله وألقاه على قفاه وجعل يدوس على بطنه ويأمر أعوانه بذلك حتّى غشي على عمّار، وهو يفتري على عمّار ويشتمه، وقد رووا جميعاً انّ النبي صلى الله عليه وآله قال: الحق مع عمار يدور معه حيث ما دار(3).
وقال صلى الله عليه وآله: إذا افترق الناس يميناً وشمالا فانظروا الفرقة التي فيها عمار فاتّبعوها، فإنّه يدور مع الحق حيث دار، فلا يخلو حال ضربه لعمار من أمرين، أحدهما انّه يزعم انّ ما قال عمار وما فعل باطل، وهذا ممّا فيه تكذيب لقول رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: الحقّ مع عمار، فثبت أن يكون ما قاله
____________
1- البقرة: 85.
2- محمد: 9.
3- الاستيعاب بهامش الاصابة 2: 480; البحار 44: 35 ح1.
ومنها: ما فعل بأبي ذر حين نفاه عن المدينة إلى الربذة مع اجماع الاُمة في الرواية انّ الرسول صلى الله عليه وآله قال: ما أقلّت الغبراء وما أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر(1).
ورووا انّه قال: انّ الله عزوجل أوحى إليّ انّه يحبّ أربعة من أصحابيوأمرني بحبّهم، فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: عليّ سيّدهم، وسلمان، والمقداد، وأبوذر(2).
فحينئذ ثبت انّ أباذر أحبّه الله وأحبّه رسوله، ومحال عند ذي الفهم أن يكون الله ورسوله يحبّان رجلا وهو يجوز أن يفعل فعلا يستوجب به النفي عن حرم الله وحرم رسوله، ومحال أيضاً أن يشهد رسول الله لرجل انّه ما على وجه الأرض ولا تحت السماء أصدق منه ثمّ يقول باطلا، فتعيّن أن يكون ما فعله وما قاله حقّاً كرهه عثمان فنفاه عن الحرمين، ومن كره الحق ولم يحبّ الصدق فقد كره ما أنزل الله في كتابه، لأنّه تعالى أمر بالكون مع الصادقين فقال: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين}(3).
ومنها: انّ عبد الله بن عمر بن الخطاب لمّا ضرب أبو لؤلؤة عمر الضربة التي مات فيها سمع قوماً يقولون: قتل العلج أمير المؤمنين، فقدّر انّهم يعنون الهرمزان ـ رئيس فارس ـ وكان قد أسلم على يد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ أعتقه من قسمه من الفيء، فبادر إليه عبد الله بن عمر فقتله قبل أن يموت
____________
1- الاصابة 4: 64; وفي هامشها الاستيعاب 1: 216; مستدرك الحاكم 4: 64; اُسد الغابة 1: 301; التاج الجامع للاُصول 3: 404; نهج الحق: 300.
2- كنز العمال 11: 643 ح33127.
3- التوبة: 119.
فمات عمر واستولى عثمان على الناس بعده، فقال عليّ عليه السلام لعثمان: انّ عبد الله بن عمر قتل مولاي الهرمزان بغير حق وأنا وليّه والطالب بدمه سلّمه لاُقيّده به، فقال عثمان: بالأمس قتل عمر وأقتل ابنه أورد على آل عمر ما لا قوام لهم به، وامتنع من تسليمه إلى عليّ شفقة منه بزعمه على آل عمر، فلمّا رجع الأمر إلى عليّ عليه السلام هرب منه عبد الله بن عمر إلى الشام فصار مع معاوية، وحضر يوم صفين مع معاوية محارباً لأمير المؤمنين عليه السلام، فقتل في معركة الحرب ووجد متقلّداً بسيفين يومئذ(1).
فانظروا يا أهل الفهم في أمر عثمان كيف عطّل حدّاً من حدود الله لا شبهة فيه شفقة منه بزعمه على آل عمر، ولم يشفق على نفسه من عقوبة تعطيل حدود الله ومخالفته، وأشفق على آل عمر في قتل من أوجب الله قتله، وأمر به رسوله صلى الله عليه وآله.
ومنها: انّه عمد إلى صلاة الفجر فنقلها من أوّل وقتها في حين طلوع الفجر، فجعلها بعد الإسفار واظهار ضياء النهار، واتبعه أكثر الناس إلى يومنا هذا، وزعم انّه فعله ذلك اشفاقاً منه على نفسه في خروجه إلى المسجد خوفاً أن يقتل في غلس الفجر كما قتل عمر، وذلك انّ عمر كان قد جعل لنفسه سرباً تحت الأرض من بيته إلى المسجد، وكان يخرج من منزله في وقت الفجر في ذلك السرب إلى المسجد، فقعد أبو لؤلؤة في السرب فضربه بخنجره في بطنه، فلمّا ولي عثمان أخّر صلاة الفجر إلى
____________
1- راجع في ذلك شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 242; تاريخ الخميس 2: 273; الاصابة 1: 619; تاريخ اليعقوبي 2: 153; نهج الحق: 301.
فعطّل وقت فريضة الله وحمل الناس على صلاتها في غير وقتها، لأنّ الله سبحانه قال: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}(1) يعني ظلمته، ثمّ قال: {وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً}(2) والفجر هو أوّل ما يبدؤ من المشرق في الظلمة وعنده تجب الصلاة، فإذا علا في الاُفق وانبسط الضياء وزالت الظلمة صار صبحاً وزال عن أن يكون فجراً.
ودرج على هذه البدعة أولياؤه، ثمّ تخرّص بنو اُمية بعده أحاديث انّ النبي صلى الله عليه وآله غلس بالفجر وأسفر بها، وقال للناس: اسفروا بها أعظم لأجركم، فصار المصلّي للفجر في وقتها من طلوع الفجر عند كثير من أوليائهم مبتدعاً، ومن ابتدع بدعة عثمان فهو على السنّة، فما أعجب أحوالهم وأشنعها.
ثمّ ختم بدعه بأنّ أهل مصر شكوا من عامله وسألوه أن يصرفه عنهم، أو يبعث رجلا ناظراً بينهم وبينه، فوقع الاختيار على محمد بن أبي بكر يكون ناظراً، وكان محمد ممّن يشير بالحق ويأمر به وينهى عن مخالفته، فثقل أمره على عثمان وكاده وبقي حريصاً على قتله بحيلة، فلمّا وقع الاختيار عليه أن يكون ناظراً بين أهل مصر وعامله خرج معهم، وكتب عثمان في عقب خروجه إلى عامله بمصر يأمره بقتل محمد بن أبي بكر إذا صار إليه، ودفع الكتاب إلى عبد من عبيده.
فركب العبد راحلته وسار نحو مصر بالكتاب مسرعاً ليدخل مصر قبل دخول محمد بن أبي بكر، فقيل: إنّ العبد مرّ يركض بحيث نظر إليه القوم الذين مع محمد بن أبي بكر، فأخبروا محمداً بذلك، فبعث خلفه خيلا فأخذوه وارتاب به محمد، فلمّا ردّوه إليه وجد الكتاب معه، فقرأه وانصرف راجعاً مع القوم والعبد والراحلة معهم، فصاروا إلى عثمان في ذلك فقال: أمّا العبد فعبدي، والراحلة
____________
1 و3) الاسراء: 78.
وكان الكتاب بخطّ مروان فقيل له: إن كنت صادقاً فادفع إلينا مروان فهذا خطّه وهو كاتبك، فامتنع عليهم فحاصروه وكان ذلك سبب قتله، فهذه جملة يسيرة من بدع القوم ممّا يقرّ بها أولياؤهم، فسحقاً لهم وبُعداً(1).
ثمّ ما أغفلهم عن قوله تعالى: {إنّ الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى}(2).
وقال عزوجل: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}(3).
وقال عزّ من قائل: {وأقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين}(4).
وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا}(5).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: السلطان العادل ظلّ الله في أرضه(6).
وقال عليه السلام: عدل ساعة تعدل عبادة سبعين سنة بعد أداء الفرائض(7).
وافتخر النبي صلى الله عليه وآله بولادته في زمان أنوشيروان العادل مع كفره، بقوله صلى الله عليه وآله: ولدت في زمن الملك العادل أنوشيروان، ويكفيهم ما أعدّ الله تعالى للظالمين من النكال وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، فقال: {وما للظالمين من أنصار}(8).
____________
1- عنه البحار 30: 347 ح164.
2- النحل: 90.
3- النحل: 90.
4- الأنعام: 152.
5- النحل: 90.
6- راجع كنز العمال 6: 6 ح14589 نحوه.
7- راجع الترغيب والترهيب 3: 167 ح6; وفيه: عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة.
8- البقرة: 270.
ويكفي في التنبيه على فضيلة العدل حال فرعون وموسى عليه السلام، فإنّ الله عزوجل أنعم عليه بجميع أنواع النعم من الأمن والصحة والملك إلى غير ذلك من النعم، وقابل على ذلك بأبلغ مراتب الكفر وأنهى أحوال الشرك، وهو ادّعا الربوبيّة مع نفيها عنه تعالى، كما حكى عنه سبحانه وتعالى: {ما علمت لكم من إله غيري}(1).
ثمّ بعث إليه أنبياءه ورسله الذين هم أخصّ خلقه وأقربهم إليه ليعظوه ويزجروه عن ذلك، فغلظ عليهما في الكلام وخاطبهما بما يخاطب به العوام، فرجعا إليه تعالى وشكيا منه، فقال لهما الحكيم الكريم جلّ جلاله: {فقولا له قولا ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى}(2) وبقي موسى يدعو عليه أربعين سنة فلا يُستجاب له، فخاطب الله تعالى في ذلك، فقال جلّ جلاله: يا موسى ما دام آمناً لعبادي، عامراً لبلادي، لم أجب فيه دعوة مناد.
وقال تعالى: {وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطباً}(3) والقاسط الجائر والمقسط العادل، يقال: أقسط إذا عدل وقسط إذا جار، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: يؤتى يوم القيامة بالحاكم الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في نار جهنّم، فيدور فيها كما تدور الرحاء، ثمّ يرتبط في قعرها.
____________
1- القصص: 38.
2- طه: 44.
3- الجن: 15.