١٣٩ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبيّ
وفيه فصول : الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة الفصل الثانى : الصعود علي منكبى النبىّ لكسر الأصنام الفصل الثالث :الإيثار الرائع ليلة المبيت الفصل الرابع : غاية الفُتوّة فى غزوتين الفصل الخامس : إرغام العدوّ علي التسليم فى غزوتين الفصل السادس :الضربة المصيرية فى غزوة الخندق الفصل السابع :الشجاعة والأدب فى الحديبيّة الفصل الثامن : الدور المصيرى فى فتح خيبر الفصل التاسع :النشاطات فى فتح مكّة الفصل العاشر :المقاومة الرائعة فى غزوة حنين الفصل الحادى عشر :الاستخلاف عن النبىّ فى غزوة تبوك الفصل الثانى عشر :عدّة بعثات هامّة الفصل الثالث عشر : من أدعية النبىّ للإمام الفصل الرابع عشر :العروج من صدر الحبيب ١٤٠ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبيّ
١٤١ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
بدأت الدعوة سرّية ، وامتدّت شيئاً فشيئاً فهوت إليها أفئدة ثلّة من الناس ، إقبالاً منها علي تلك الرسالة الحقّة . وكان عليّ ¼ أوّل من آمن بها من الرجال ، وشهد بنبوّة محمّد ½ (١) ، ثمّ تبعه آخرون . . . . وبعد ثلاث سنين نزلت الآية الكريمة : ³ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ² (٢) إيذاناً ببدء الدعوة العلنيّة ابتداء بعشيرة النبىّ الأقربين . فأمر النبىّ ½ عليّاً ¼ بإعداد الطعام وإقامة مأدبة خاصّة ; ليجتمع آل عبد المطّلب ، فيبلّغهم النبىّ ½ برسالته ، وفى اليوم الأوّل تعذّر عليه ذلك بسبب ضجيج أبى لهب ولغطه ، ثمّ أعاده عليهم فى غد ذلك اليوم ، وبعد فراغهم من الطعام بدأ كلامه بحمد الله تعالي وقال : (١) راجع : القسم العاشر / الخصائص العقائديّة / أوّل من أسلم . إرجاعات ١١١ - المجلد التاسع / القسم العاشر : خصائص الإمام عليّ / الفصل الأوّل : الخصائص العقائديّة / أوّل من أسلم
١٤٢ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
"إنّ الرائد لا يكذب أهله و. . ." وانتهي كلامه ، ولم ينهض معلناً عن متابعته ومرافقته ½ والإيمان برسالته الإلهيّة إلاّ عليّ ¼ ; حيث قام وصدح بذلك ، فأجلسه رسول الله ½ وتكرّر هذا الموقف فى للمرّة الثانية والثالثة ، فقال ½ : "اجلس ; فأنت أخى ووزيرى ووصيّى وخليفتى من بعدى" ، وخاطب الحاضرين بقوله : "إنّ هذا أخى ، ووصيّى ، وخليفتى عليكم ; فاسمعوا له وأطيعوه" . إلاّ أنّ ذوى الضمائر السود ، والقلوب العليلة ، والأبصار العمى ، والأسماع الصمّ لم يذعنوا لصوت الحقّ ، ولجّوا وكابروا وعتَوا عن الكلام النبوىّ ، بل إنّهم اتّخذوا أبا طالب سخريّاً . لكنّ الحقّ علا ، وطار كلامه ½ فى الآفاق طلقاً من ذلك النطاق الضيّق ، ورسخت هذه الحقيقة فضيلةً عظمي إلي جانب فضائله ¼ ، وتبلور سند متين لإثبات ولايته إلي جانب عشرات الأسانيد الوثائقيّة ، وأعلن النبىّ ½ عمليّاً وحدة النبوّة والولاية فى الاتّجاه والمسير وتلازمها ، ودلّ الجميع فى اليوم الأوّل من الجهر بدعوته استمرار القيادة وامتدادها بعده ، وأودع ذلك ذمّة التاريخ ، والمهمّ هو تبيان موقع الكلام النبوىّ . وقال ½ كلمته : "فاسمعوا له وأطيعوه" فى وقت كانت قريش قد تصامّت عن سماع كلامه ولم تعره آذانا صاغية ، فمن البيّن أنّ هذا الكلام كان للمستقبل وأجياله القادمة ممّن يقرّ بنبوّته ½ ، ويعتقد بحجّيّة كلامه . ١٠٩ ـ الإمام علىّ ¼ : لمّا نزلت هذه الآية علي رسول الله ½ : ³ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ² دعانى رسول الله ½ فقال لى : يا علىّ ، إنّ الله أمرنى أن اُنذر عشيرتى ١٤٣ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
الأقربين ، فضقتُ بذلك ذرعاً ، وعرفت أنّى متي اُباديهم بهذا الأمر أري منهم ما أكره ، فصمتُّ عليه حتي جاءنى جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّك إن لا تفعلْ ما تؤمر به يعذّبك ربّك . فاصنع لنا صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عُسّاً(١) من لبن ، ثمّ اجمع لى بنى عبد المطّلب حتي اُكلّمهم واُبلّغهم ما اُمرت به . ففعلت ما أمرنى به ، ثمّ دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا اجتمعوا إليه دعانى بالطعام الذى صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول الله ½ حِذْيةً(٢) من اللحم ، فشقّها بأسنانه ، ثمّ ألقاها فى نواحى الصَّحْفة(٣) . ثمّ قال : خذوا بسم الله ، فأكل القوم حتي ما لهم بشىء حاجة وما أري إلاّ موضع أيديهم ، وايم الله الذى نفس علىّ بيده ، وإن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمتُ لجميعهم . ثمّ قال : اسقِ القوم ، فجئتهم بذلك العسّ ، فشربوا منه حتي رووا منه جميعاً ، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله ، فلمّا أراد رسول الله ½ أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلي الكلام ، فقال : لَهَدّ(٤) ما سحركم صاحبكم ! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله ½ ، فقال : الغدُ يا علىّ ، إنّ هذا الرجل سبقنى إلي ما قد سمعت من القول ، فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم ، فعُدْ لنا من الطعام بمثل ما صنعت ، ثمّ اجمعهم إلىّ . (١) العُسّ : القدح الكبير (النهاية : ٣ / ٢٣٦) . ١٤٤ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
قال : ففعلت ، ثمّ جمعتهم ثمّ دعانى بالطعام فقرّبته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا حتي ما لهم بشىء حاجة . ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العسّ ، فشربوا حتي رووا منه جميعاً ، ثمّ تكلّم رسول الله ½ ، فقال : يا بنى عبد المطّلب ! إنّى والله ما أعلم شابّاً فى العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ; إنّى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرنى الله تعالي أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرنى علي هذا الأمر علي أن يكون أخى ووصيّى وخليفتى فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت : . . . أنا يا نبىّ الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتى ، ثمّ قال : إنّ هذا أخى ووصيّى وخليفتى فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبى طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع(١) . ١١٠ ـ عنه ¼ : لمّا نزلت : ³ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ² . . . دعا رسول الله ½ بنى عبد المطّلب وهم إذ ذاك أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ، فقال : أيّكم يكون أخى ووصيّى ووارثى ووزيرى وخليفتى فيكم بعدى ؟ فعرض عليهم ذلك رجلاً رجلاً ، كلّهم يأبي ذلك ، حتي أتي علىَّ ، فقلت : أنا يا رسول الله ، فقال : يا بنى عبد المطّلب ! هذا أخى ووارثى ووصيّى ووزيرى ١٤٥ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
وخليفتى فيكم بعدى(١) . ١١١ ـ شرح نهج البلاغة عن أبى جعفر الإسكافى : قد روى فى الخبر الصحيح أنّه ½ كلّفه ¼ فى مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكّة أن يصنع له طعاماً ، وأن يدعو له بنى عبد المطّلب ، فصنع له الطعام ، ودعاهم له ، فخرجوا ذلك اليوم ، ولم ينذرهم ½ ; لكلمة قالها عمّه أبو لهب ، فكلّفه فى اليوم الثانى أن يصنع مثل ذلك الطعام ، وأن يدعوهم ثانية ، فصنعه ، ودعاهم فأكلوا . ثمّ كلّمهم ½ فدعاهم إلي الدين ، ودعاه معهم ; لأنّه من بنى عبد المطّلب ، ثمّ ضمن لمن يؤازره منهم وينصره علي قوله أن يجعله أخاه فى الدين ، ووصيّه بعد موته ، وخليفته من بعده ، فأمسكوا كلّهم وأجابه هو وحده ، وقال : أنا أنصرك علي ما جئت به ، واُوازرك واُبايعك ، فقال لهم ـ لمّا رأي منهم الخذلان ، ومنه النصر ، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة ، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة : هذا أخى ووصيّى وخليفتى من بعدى ، فقاموا يسخرون ويضحكون ، ويقولون لأبى طالب : أطِع ابنك ; فقد أمّره عليك(٢) . ١١٢ ـ الإرشاد : إنّ النبىّ ½ جمع خاصّة أهله وعشيرته فى ابتداء الدعوة إلي الإسلام ، فعرض عليهم الإيمان ، واستنصرهم علي أهل الكفر والعدوان ، وضمن لهم علي ذلك الحظوة فى الدنيا ، والشرف وثواب الجنان ، فلم يجبه أحد منهم إلاّ أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب ¼ ، فنحله بذلك تحقيق الاُخوّة والوزارة والوصيّة والوراثة والخلافة ، وأوجب له به الجنّة . (١) علل الشرائع : ١٧٠ / ٢ عن عبد الله بن الحارث بن نوفل وراجع كنز العمّال : ١٣ / ١١٤ / ٣٦٣٧١ . ١٤٦ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
وذلك فى حديث الدار ، الذى أجمع علي صحّته نُقّاد الآثار ، حين جمع رسول الله ½ بنى عبد المطّلب فى دار أبى طالب ، وهم أربعون رجلاً ، يومئذ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيما ذكره الرواة ، وأمر أن يُصنع لهم فخذ شاة مع مُدّ من البُرّ ، ويُعَدّ لهم صاعٌ من اللبن ، وقد كان الرجل منهم معروفاً بأكل الجذْعة(١) فى مقام واحد ، ويشرب الفَرَق(٢) من الشراب فى ذلك المقام ، وأراد ¼ بإعداد قليل الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم فى شبعهم وريّهم ممّا كان لا يُشبع الواحد منهم ولا يرويه . ثمّ أمر بتقديمه لهم ، فأكلت الجماعة كلّها من ذلك اليسير حتي تملّؤوا منه ، فلم يَبِن ما أكلوه منه وشربوه فيه ، فبهرهم بذلك ، وبيّن لهم آية نبوّته ، وعلامة صدقه ببرهان الله تعالي فيه . ثمّ قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام ورووا من الشراب : يا بنى عبد المطّلب ! إنّ الله بعثنى إلي الخلق كافّة ، وبعثنى إليكم خاصّة ، فقال عزّ وجلّ : ³ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ² وأنا أدعوكم إلي كلمتين خفيفتين علي اللسان ثقيلتين فى الميزان ، تملكون بهما العرب والعجم ، وتنقاد لكم بهما الاُمم ، وتدخلون بهما الجنّة ، وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّى رسول الله ، فمن يجبنى إلي هذا الأمر ويؤازرنى عليه وعلي القيام به ، يكن أخى ووصيّى ووزيرى ووارثى وخليفتى من بعدى . فلم يجب أحد منهم . فقال أمير المؤمنين ¼ : فقمت بين يديه من بينهم . . . فقلت : أنا ـ يا رسول الله ـ اُؤازرك علي هذا الأمر ، فقال : اجلس ، ثمّ أعاد القول علي القوم ثانية فاُصمتوا ، (١) الجَذَع : من أسنان الدوابّ ; وهو ما كان شابّاً فتيّاً (النهاية : ١ / ٢٥٠) . ١٤٧ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
وقمت فقلت مثل مقالتى الاُولي ،فقال : اجلس . ثمّ أعاد علي القوم مقالته ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف ، فقلت : أنا اُؤازرك ـ يا رسول الله ـ علي هذا الأمر ، فقال : اجلس ; فأنت أخى ووصيّى ووزيرى ووارثى وخليفتى من بعدى . فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب : يا أبا طالب ! لِيَهْنِك اليوم إن دخلت فى دين ابن أخيك ; فقد جعل ابنك أميراً عليك(١) . نكتة : جاء فى بعض النصوص التاريخيّة والحديثيّة : أنّ نزاعاً وقع بين الإمام أمير المؤمنين علىّ ¼ والعبّاس بن عبد المطّلب بعد وفاة النبىّ ½ علي إرثه ; فزعم العبّاس أنّ أموال النبىّ ½ له ; فتحاكما إلي أبى بكر ، فخاطب أبو بكر العبّاس مشيراً إلي يوم الدار ، وقال : "أنشدك الله ، هل تعلم أنّ رسول الله ½ جمع بنى عبد المطّلب وأولادهم وأنت فيهم ، وجمعكم دون قريش فقال : يا بنى عبد المطّلب ! إنّه لم يبعث الله نبيّاً إلاّ جعل له من أهله أخاً ووزيراً ووصيّاً وخليفةً فى أهله ، فمن يقوم منكم يبايعنى علي أن يكون أخى ووزيرى ووصيّى وخليفتى فى أهلى ؟ . . . فقام علىّ من بينكم فبايعه علي ما شرط له ودعاه إليه . أ تعلم هذا له من رسول الله ½ ؟ قال : نعم"(٢) . (١) الإرشاد : ١ / ٤٨ ، كشف اليقين : ٤٧ / ٢٥ ، إعلام الوري : ١ / ٣٢٢ ; السيرة الحلبيّة : ١ / ٢٨٦ . ١٤٨ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة
حيث يُستشفّ من هذا الخبر أنّ أبا بكر كان يعرف قضيّة "إنذار العشيرة" ويعلم ويعترف بها ويراها حجّةً . وأصل هذه الحادثة وطرح الدعوي بالشكل المذكور يثير التساؤل ; فالنقطة التى لم يُلْتَفَتْ إليها هى : لماذا رجع الإمام ¼ وعمّه العبّاس إلي الخليفة ؟ وهل هذا الخلاف صحيح من أساسه ؟ فقد كان للنبىّ ½ عند وفاته بنت ، وزوجات أيضاً ، فلا نصيب للعمّ وابن العمّ حتي يدّعيا الإرث . . . ومن الواضح أنّ أمواله ½ تؤول إلي بنته الطاهرة فاطمة الزهراء £ ، وبعد استشهادها تنتقل إلي أولادها ، فأصل ادّعاء العبّاس بن عبد المطّلب لا يصحّ ، فلِمَ ادّعي ذلك إذن وتحاكم إلي الخليفة ؟ نُقل عن أبى رافع أنّ العبّاس قال لأبى بكر بعد كلامه المذكور : "فما أقعدك مجلسك هذا ؟ تقدّمته وتأمّرت عليه ! فقال أبو بكر : أ غدراً يا بنى عبد المطّلب!"(١) . نفهم من هذا النصّ أنّ العبّاس قد افتعل بذكاء هذا الموضوع ، ليذكّر أبا بكر بمن هو أهل للخلافة ، وينبزه بابتزازها . ومثل هذه التصرّفات كانت تنتشر وتشتهر بسرعة لمكانة العبّاس ومنزلته . وهكذا أيضاً كان حوار عبد الله بن عبّاس وعمر بن الخطّاب ; فقد ذكّر ابن عبّاس عمر بأهليّة الإمام أمير المؤمنين علىّ ¼ للخلافة ، فغضب عمر ، وقال : "إليك يا بن عبّاس ! أ تريد أن تفعل بى كما فعل أبوك وعلىّ مع أبى بكر يوم دخلا عليه ؟"(٢) . (١) المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٤٩ ، المسترشد : ٥٧٧ / ٢٤٩ . ١٤٩ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة / تحريف التاريخ فى قضيّة المؤازرة
إنّ ما أوردناه هو عين ما نقله المؤرّخون ، والمحدّثون ، والمفسّرون بطرق مختلفة وأسانيد متنوّعة ، وسيأتى فى الصفحات القادمة(١) ، وهو ما ذكره الطبرى أيضاً فى تاريخه مفصّلاً ; بيد أنّه فى تفسيره بعد أن نقل الرواية بنفس السند الوارد فى تاريخه ، غيّر فيها فقال : "علي أن يكون أخى وكذا وكذا" بدل "علي أن يكون أخى ووصيّى وخليفتى فيكم" ، وأباح لنفسه تحريف الكلام النبوى وهو يواصل كلامه ، فقال : "إنّ هذا أخى وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوه" مكان "إنّ هذا أخى ووصيّى وخليفتى فيكم ; فاسمعوا له وأطيعوه" !(٢) (١) ذكر العلاّمة الأمينى رضوان الله عليه الصور المختلفة لنقل الحادثة فى موسوعته الثمينة النفيسة "الغدير" وناقش أسنادها وما دلّ عليها . والأخبار فى ذلك ثابتة راسخة لا تقبل الترديد انظر الغدير : ٢ / ٢٧٨ ـ ٢٨٩ ، ويعود ذلك حتماً إلي أنّ أعداء الحقّ تطاولوا علي تحريفها ، أو أنّهم أكرهوا المؤرّخين علي ذلك . ١٥٠ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الأوّل : المؤازرة علي الدعوة / تحريف التاريخ فى قضيّة المؤازرة
ومن الطبيعى أن يكون نقل الطبرى مثاراً للتساؤل ومدعاه للتأسّف ! والتأمّل فيه يدلّ علي أنّه كان مُكرَهاً متحكّماً فيه ، وإلاّ فماذا يعنى قوله : "إن هذا أخى وكذا وكذا ، فاسمعوا له . . ." ؟ ! علماً أنّ قوله : "فاسمعوا له وأطيعوه" ينطوى علي مكنون سرّ يُشعر بحذف لروح الكلام ولبابه ! وقد حذا ابن كثير حذو الطبرى أيضاً ، فنقل ذلك فى تفسيره ، وتاريخه ، وسيرته النبويّة بالنحو الذى أورده الطبرى فى تفسيره ; أى بشكله المقطّع ، وهذا ما يُثير الدهشة والعجب ، إذ إنّ "تاريخ الطبرى" أهمّ مصدر ومرجع اعتمد عليه ابن كثير فى "البداية والنهاية"(١) . وذكر الكاتب المصرى محمّد حسين هيكل تلك الحادثة فى الطبعة الاُولي من كتابه "حياة محمّد" ، مع حذف لمواضع منها ، لكنّه حذف الخبر كلّه فى الطبعة الثانية وما تلاها من طبعات !(٢) وحاول ابن تيميّة أيضاً أن يطعن فى السند ، وأحياناً فى المتن ، وامتري فى أصل الحادثة ، وقد رُدَّ عليه بأجوبة مفصّلة(٣) . (١) البداية والنهاية : ٣ / ٤٠ ، تفسير ابن كثير : ٦ / ١٨٠ ، السيرة النبويّة لابن كثير : ١ / ٤٥٩ . ١٥١ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثانى : الصعود علي منكبى النبىّ لكسر الأصنام
كانت الكعبة رمز التوحيد علي طول التاريخ . وعندما بُعث النبىّ ½ لهداية الاُمّة ، كان الجاهليّون قد ملؤوا بيت التوحيد هذا بأصنام وأوثان شتّي من وحى جهلهم وزيغهم الفكرى ، فلوّثوه بالشرك عبر هذا العمل السفيه ، ولذا اهتمّ النبيّ ½ بإزالة كلّ هذا القبح والشذوذ ، وأخذ عليّاً ¼ معه لتطهير مركز التوحيد من مظاهر الشرك . فصعد ¼ علي منكبى رسول الله ½ ، وألقي صنم قريش الكبير ـ وقيل : هو صنم خزاعة ـ من علي سطح الكعبة إلي الأرض . وهذه الفضيلة العظيمة المتمثّلة بتحطيم الأصنام صعوداً علي منكبى رسول الله ½ تفرّد بها علىّ ¼ دون غيره علي امتداد التاريخ . وهى فضيلة لا نظير لها ، وموهبة لا يشاركه فيها أحد . ١١٣ ـ الإمام علىّ ¼ : لمّا كان الليلة التى أمرنى رسول الله ½ أن أبيت علي فراشه وخرج من مكّة مهاجراً ، انطلق بى رسول الله ½ إلي الأصنام فقال : ١٥٢ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثانى : الصعود علي منكبى النبىّ لكسر الأصنام
اجلس ، فجلست إلي جنب الكعبة ، ثمّ صعد رسول الله ½ علي منكبى ثمّ قال : انهض ، فنهضت به فلمّا رأي ضعفى تحته قال : اجلس ، فجلست فأنزلته عنّى وجلس لى رسول الله ½ ، ثمّ قال لى : يا علىّ ، اصعد علي منكبى فصعدت علي منكبيه ، ثمّ نهض بى رسول الله ½ وخيّل إلىّ أنّى لو شئت نلت السماء ، وصعدت إلي الكعبة وتنحّي رسول الله ½ فألقيت صنمهم الأكبر ، وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلي الأرض ، فقال لى رسول الله ½ : عالجْه فعالجت فما زلت اُعالجه ويقول رسول الله ½ : إيه إيه ، فلم أزل اُعالجه حتي استمكنت منه فقال : دقّه ، فدققته فكسّرته ونزلت(١) . ١١٤ ـ المستدرك علي الصحيحين عن أبى مريم عن الإمام علىّ ¼ : انطلق بى رسول الله ½ حتي أتي بى الكعبة ، فقال لى : اجلس ، فجلست إلي جنب الكعبة فصعد رسول الله ½ بمنكبى ، ثمّ قال لى : انهض ، فنهضت ، فلمّا رأي ضعفى تحته قال لى : اجلس ، فنزلت وجلست ، ثمّ قال لى : يا علىّ اصعد علي منكبى ، فصعدت علي منكبيه ثمّ نهض بى رسول الله ½ ، فلمّا نهض بى خيّل إلىّ لو شئت نلت اُفق السماء ، فصعدت فوق الكعبة وتنحّي رسول الله ½ فقال لى : ألق صنمهم الأكبر ـ صنم قريش ـ وكان من نحاس موتداً بأوتاد من حديد إلي الأرض ، فقال لى رسول الله ½ : عالجْه ورسول الله ½ يقول لى : إيه إيه ³ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِـلُ إِنَّ الْبَاطِـلَ كَانَ زَهُوقًا ² (٢) فلم أزل اُعالجه حتي استمكنت منه ، فقال : اقذفه ، فقذفته فتكسّر ، وتردّيت من فوق الكعبة ، فانطلقت أنا (١) المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ٦ / ٤٢٦٥ ، تاريخ بغداد : ١٣ / ٣٠٢ / ٧٢٨٢ كلاهما عن أبى مريم وفيه من "انطلق بى . . ." . ١٥٣ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثانى : الصعود علي منكبى النبىّ لكسر الأصنام / تحقيق وتمحيص
والنبىّ ½ نسعي وخشينا أن يرانا أحد من قريش وغيرهم . قال علىّ : فما صعد به حتي الساعة(١) . ١١٥ ـ الإمام علىّ ¼ ـ لأبى بكر : أنشدك بالله ، أنت الذى حملك رسول الله ½ علي كتفيه فى طرح صنم الكعبة وكسره حتي لو شاء أن ينال اُفق السماء لنالها أم أنا ؟ قال : بل أنت(٢) .
إنّ الأخبار المنقولة حول هذه الحادثة بالغة الكثرة ; فقد نقلها أئمّة الحديث ، والتاريخ ، والحفّاظ ـ علي حدّ تعبير العلاّمة الجليل الشيخ الأمينى(٣) ـ بدون أن يطعنوا فى أسانيدها ويشكّوا فى نقلها . وما يتطلّب قليلاً من البحث ، ويحتاج إلي التحقيق والتمحيص والتوضيح هو زمن الحادثة ; فإنّ تبويب الأخبار الكثيرة المنقولة فى هذا المجال يدلّ علي أنّها تنقسم إلي أربعة أقسام : ١ ـ بعض الأخبار ـ وهى كثيرة جدّاً ـ لم تصرّح بزمن وقوع الحادثة ، وجاء فى آخرها أنّ الإمام قال : " . . .فقذفت به [أحد الأصنام] فتكسّر كما تتكسّر (١) المستدرك علي الصحيحين : ٢ / ٣٩٨ / ٣٣٨٧ ، مسند ابن حنبل : ١ / ١٨٣ / ٦٤٤ ، خصائص أمير المؤمنين للنسائى : ٢٢٥ / ١٢٢ ، تهذيب الآثار (مسند علىّ بن أبى طالب) : ٢٣٧ / ٣٢ وح ٣٣ ، مسند أبى يعلي : ١ / ١٨٠ / ٢٨٧ وزاد فى آخرهما "فلم يرفع عليها بعد" ، المناقب للخوارزمى : ١٢٣ / ١٣٩ ، المناقب لابن المغازلى : ٤٢٩ / ٥ ; المناقب للكوفى : ٢ / ٦٠٦ / ١١٠٥ . ١٥٤ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثانى : الصعود علي منكبى النبىّ لكسر الأصنام / تحقيق وتمحيص
القوارير ، ثمّ نزلتُ ، فانطلقت أنا ورسول الله ½ نستبق حتي توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس"(١) . ٢ ـ أخبار اُخري تُشير إلي أنّها كانت فى ليلة خروج النبىّ ½ من مكّة(٢) . ٣ ـ أخبار اُخري تنصّ علي أنّ رسول الله ½ خرج مع الإمام ¼ من بيت خديجة ، ثمّ عادا إلي البيت بعد كسر الأصنام(٣) . ٤ ـ خبر آخر نصّ علي أنّها تزامنت مع فتح مكّة(٤) . وتدلّ الطوائف الثلاثة الاُولي من هذه الأخبار علي أنّ الحادثة كانت قبل الهجرة وفى ذروة الإرهاب الذى مارسه المشركون ضدّ المسلمين ، والظنّ القويّ يدعم هذا الرأى ، مع أنّه لا يستبعد وقوعها مرّتين ; أى قام رسول الله ½ بهذه الحركة العظيمة المضادّة للشرك ومعه الإمام أمير المؤمنين ¼ فى ذلك الجوّ الإرهابى الخانق المظلم قبل الهجرة . ومن الجلىّ أنّ المشركين الذين كانت مكّة ، والمسجد الحرام ، والكعبة تحت تصرّفهم قد أعادوا الأصنام إلي مكانها ، ودنّسوا بها الكعبة ، ثمّ وبعد فتح مكّة تكرّرت تلك الحركة التطهيرية العظيمة للمرّة الأخيرة . (١) مسند ابن حنبل : ١ / ١٨٣ / ٦٤٤ ، المستدرك علي الصحيحين : ٢ / ٣٩٨ / ٣٣٨٧ ، خصائص أمير المؤمنين للنسائى : ٢٢٥ / ١٢٢ ، تهذيب الآثار (مسند علىّ بن أبى طالب) : ٢٣٧ / ٣٢ و٣٣ ، مسند أبى يعلي : ١ / ١٨٠ / ٢٨٧ ، المناقب لابن المغازلى : ٤٢٩ / ٥ ، المناقب للخوارزمى : ١٢٣/١٣٩ ; المناقب للكوفى : ٢ / ٦٠٦ / ١١٠٥ وراجع تاريخ بغداد : ١٣ / ٣٠٢ / ٧٢٨٢ ومجمع الزوائد : ٦ / ٢١ / ٩٨٣٦ والخصال : ٥٥٢ / ٣٠ والاحتجاج : ١ / ٣١١ / ٥٣ . ١٥٥ - المجلد الأوّل / القسم الثانى : الإمام علىّ مع النبىّ / الفصل الثانى : الصعود علي منكبى النبىّ لكسر الأصنام / تحقيق وتمحيص
واحتمل بعض المحدّثين والعلماء هذا التعدّد ; فالعلاّمة المجلسى الذى تحدّث فى موضع من كتابه "بحار الأنوار" عن فتح مكّة ، أشار فى موضع آخر إلي أخبار اُخري ، وقال : "أمّا كون كسر الأصنام فى فتح مكّة فلا يظهر من هذا الخبر ، ولا من أكثر الأخبار الواردة فيه ، بل صريح بعض الأخبار وظاهر بعضها كون ذلك قبل الهجرة ، فيمكن الجمع بينهما بالقول بتعدّد وقوع ذلك"(١) . ونقل أحمد بن محمّد بن عليّ بن أحمد العاصمى (م ٣٧٨) أحد اُدباء القرن الرابع وعلمائه بخراسان أيضاً هذا الاحتمال(٢) . |