٢٦٧ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / تحليل عزل قيس بن سعد
كان قيس بن سعد بن عبادة سياسيّاً ماهراً ، وذكيّاً ودقيقاً ، فعيّنه الإمام ¼ فى أوائل أيّام خلافته والياً علي مصر ، وبعثه إليها . وأراد الإمام ¼ إرسال جيش إلي مصر لدعم ونصرة قيس ، بيدَ أنّ قيساً أخذ معه نفراً قليلاً يقلّ عددهم عن السبعة وقائلاً للإمام : حاجتك للجيش أكبر من حاجتى له . وأخرج محمّد بن أبى حذيفة عبدَ الله بن سعد بن أبى سرح وأعوانه وأنصاره من ممثّلى عثمان فى مصر قبل مجىء قيس إليها ، فلمّا وصل قيس تسلّط علي زمام الاُمور بسهولة ، واعتمد سياسة مسايرة المخالفين ، واستطاع بهذه السياسة أن يُسيطر علي الوضع السائد ، ويُهدِّئ العثمانيّين ، ويحول دون ثورتهم . واستمرّ هذا الهدوء مدّة هى دون السنة قطعاً ، حيث عزل الإمام قيس بن سعد واستدعاه وولّي عليها محمّد بن أبى بكر ; وكان شابّاً شجاعاً ، لكن لم تكن له قدرة قيس السياسيّة . وكان عزل قيس ونصب محمّد محلاًّ لسؤال وقدح الكثيرين ، وبالخصوص ٢٦٨ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / تحليل عزل قيس بن سعد
فى السنوات التالية ; حيث ثار الناس علي محمّد بن أبى بكر ، وآل الأمر إلي إلقاء القبض عليه وقتله وإحراق جسده . فكان السؤال الذى يطرح نفسه : لماذا عزل الإمام ¼ السياسى الذكى ، وعيّن محلّه هذا الشابّ الناشئ ، حتي انتهي به الحال إلي شهادته بهذا الشكل المفجع ؟ تُعزى النصوص التاريخيّة السبب إلي مؤامرة حاكها معاوية لتحقيق أهدافه الخبيثة ; حيث قيل إنّه كان يسعي إلي كسب قيس بأساليبه الخدّاعة ، وأرسل إليه عدّة رسائل حرّضه فيها علي الطلب بثأر عثمان ، بيد أنّ قيساً كان أذكي من أن تنطلى عليه هكذا ، بل احترز عن الإدلاء برأيه الصريح فى موافقة معاوية أو مخالفته ; وذلك لما تميّزت به مصر من المحلّ الاستراتيجى من جهة ، وطمع بنى اُميّة ونفوذهم فيها ، وقربها إلي الشام من جهة اُخري . بيد أنّ معاوية ـ هذا السياسى الماكر المتأثّر بمرافقة وإسناد عمرو بن العاص ـ ابتدع بمكره رسالة مزوّرة عن لسان قيس بن سعد مضمونها تأييد معاوية(١) . وذاع خبر هذه الرسالة فى الشام ، ووصل خبرها إلي الكوفة وإلي الإمام علىّ ¼ ، فجمع الإمام ¼ أعوانه وشاورهم فى هذا الموضوع ، فكان رأيهم عزل قيس بن سعد وتعيين رجل أصلب منه ; لانتشار خبر هذه الرسالة بين الجيش وبين عامّة المسلمين . جاء فى بعض النصوص الإشارة إلي اقتراح عبد الله بن جعفر بعزل قيس بن سعد وتعيين ، محمّد بن أبى بكر . وقد حُمل هذا الاقتراح علي محبّة عبد الله لأخيه محمّد بن أبى بكر ; حيث كانا أخوين لاُمّ واحدة(٢) . (١) تاريخ دمشق : ٤٩ / ٤٢٥ / ٥٧٥٦، سير أعلام النبلاء : ٣ / ١٠٩ ; الغارات : ١ / ٢١٧ . ٢٦٩ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / تحليل عزل قيس بن سعد
وقال بعض المفكّرين : إنّ عزل قيس ونصب محمّد بن أبى بكر كان بسبب الضغوط التى تحمّلها الإمام من أصحابه ; قال العلاّمة المجلسى : وجدت فى بعض الكتب أنّ عزل قيس عن مصر ممّا غلب أميرَ المؤمنين ¼ أصحابُه واضطرّوه إلي ذلك ، ولم يكن هذا رأيه ; كالتحكيم ، ولعلّه أظهر وأصوب(١) . وقال بعض المُغرضين : إنّ سبب هذا هو انخداع أمير المؤمنين ¼ بحيلة معاوية(٢) . والذى وصلنا إليه من مجموع هذه التحليلات والنظريّات أنّها جميعاً بصدد تحليل "النتيجة" لا بصدد تحليل "الاُسلوب" ، وبكلمة اُخري إنّ الذى جُعل تحت مجهر البحث هو النتيجة الحاصلة من دون لحاظ الظروف المحيطة والعوامل المؤثّرة الموجودة أو المختلقة آنذاك . وإنّما صُبّ النظر علي موفّقية قيس بن سعد وانهزام محمّد بن أبى بكر . مع أنّ الصحيح هو تحليل هذا الموقف الذى اتّخذه الإمام ¼ مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوامل المؤثّرة ، وكلّ ما له دخل فى اتّخاذ هذا التصميم من دون غفلة عن الواقع اليومى الحاكم آنذاك ، وعلي هذا ، نقول فى تحليل الموقف: ١ ـ إنّ قيس بن سعد من الشخصيّات السياسيّة البارزة فى التاريخ الإسلامى ، بل عُدّ من دُهاة العرب الخمسة ، ولا شبهة فى ذكائه ، وممّا يؤيّد ذلك الاطمئنان والهدوء الذى خيّم علي مصر أيّام حكومته . ٢ ـ إنّ محمّد بن أبى بكر كان هو الآخر من الشخصيّات البارزة آنذاك ، وكان (١) بحار الأنوار: ٣٣ / ٥٤٠ وراجع أنساب الأشراف : ٣ / ١٧٣ . ٢٧٠ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / تحليل عزل قيس بن سعد
له محبّة فى قلوب المصريّين ، حتي أنّ الثائرين علي عثمان طلبوا من عثمان عزل عبد الله بن أبى سرح ونصبه بدله ، وحين قام عثمان بذلك سافر المصريّون إلي بلادهم . ولهذا كان من الطبيعى أن يميل المصريّون إلي حكومة محمّد بن أبى بكر حين ولى أمير المؤمنين ¼ الخلافة أيضاً . ٣ ـ عُزل قيس بن سعد فى منتصف سنة (٣٦ هـ ) عن ولاية مصر ، وولّى محمّد بن أبى بكر مكانه ، فكان مجموع ولايته علي مصر ثمانية أشهر . وأمّا محمّد بن أبى بكر فقد استمرّت حكومته إلي آخر العام (٣٧ هـ ) وقد حكمها تلك المدّة باقتدار تامّ ، ولم تحصل أىّ فتنة أو ثورة . ٤ ـ بعد التحكيم وما أعقبه من تشتّت جيش الإمام واشتداد شوكة معاوية وأصحابه ، تغيّرت الأوضاع ، ومن جملة ذلك أوضاع مصر ; حيث اعترض العثمانيّون فى مصر بعد سباتهم وهدوئهم قبل ذلك . وهجم جيش الشام بقيادة عمرو بن العاص علي مصر ـ التى كان يراها حقّه وحصّته من صفقة الصلح مع معاوية ـ وقد استطاع بمؤازرة العثمانيّين القاطنين فى مصر كسرَ جيش محمّد بن أبى بكر ، ولم تكن الأوضاع مؤاتية للإمام كى يستطيع إرسال الإمدادت العسكريّة لإسناد محمّد بن أبى بكر ، كما لم تكن قوّات محمّد بن أبى بكر بذلك العدد الذى يستطيع مقاومة جيش الشام . ٥ ـ اتّضح ممّا سبق أنّ اختيار محمّد بن أبى بكر ونصبه والياً علي مصر اختيار صائب تماماً فى ذلك الظرف ، كما أنّه علي وفق القواعد السياسيّة . وتبيّن أنّ مدّة حكومته علي مصر تعادل حكومة قيس بن سعد بمرّتين ، وأنّ انكسار محمّد بن أبى بكر ناشئ من عوامل ومؤثّرات خارجة عن اختياره . ٦ ـ إنّ سياسة قيس بن سعد وإن حافظت علي هدوء مصر لكنّها كانت محطّاً ٢٧١ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / تحليل عزل قيس بن سعد
للسؤال والنقد ; حيث كان الواجب عليه فى أوائل خلافة الإمام ـ والذى هو أوان قمّة قدرته ـ أن يُلجئ العثمانيّين الذين فى مصر علي البيعة للإمام ; فإنّه لو كان فعل ذلك لكان اعتراضهم فيما بعدُ محدوداً لا شاملاً ، حتي تتهيّأ الأرضيّة المناسبة لتدخّل الجيش الشامى ، علماً أنّ هذه التصرّفات لم تكن مرضيّة عند الثوريّين من أصحاب الإمام علىّ ¼ ، بل لعلّ الإمام ¼ لم يكن موافقاً علي ذلك ، ولذا فإنّ عزل قيس بن سعد يمكن أن يكون تأييداً لاعتراض هؤلاء الثوريّين . ٧ ـ لمّا ثار العثمانيّون فى مصر نصب الإمام مالك الأشتر والياً علي مصر ، وهو رجل شجاع جرىء ، وكانت سمعته العسكريّة طاغية علي سمعته السياسيّة . ومن جهة اُخري فإنّ الإمام أثني علي هاشم بن عتبة ، وأيّد أهليّته لحكومة مصر . فتعيين مالك والثناء علي هاشم بن عتبة يكشف عن موافقة الإمام علي المواجهة العسكريّة فى مصر ، وعدم رضاه بالمداهنة والمصالحة . ٨ ـ إنّ الإمام ذكر قيس بن سعد وقال : إنّه صالح لحكومة مصر ، بيد أنّه لم ينصّبه مرّة اُخري ، بل بعثه إلي بلد بعيد وقليل الأهمّية فى هذا الأزمنة مثل أذربيجان . ولا نمتلك نصّاً تاريخيّاً يدلّ علي مذاكرة الإمام مع قيس فى شأن توليته مصر مرّة ثانية . ٢٧٢ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / كُمَيْلُ بنُ زِيَاد
٨٢ هو كميل بن زياد بن نُهَيك النخعى الكوفى من أصحاب الإمامين أمير المؤمنين علىّ ¼ (١) ، وأبى محمّد الحسن ¼ (٢) . عُدّ من ثقات أصحاب الإمام علىّ ¼ (٣) ، وقيل فى حقّه : كان شجاعاً فاتكاً ، وزاهداً عابداً(٤) . كان فى مقدّمة الكوفيّين الثائرين علي عثمان(٥) ، فأقصاه عثمان مع عدّة إلي الشام(٦) . ولمّا كانت حرب صفّين شارك فيها مع أهل الكوفة(٧) . ولاّه الإمام علي هيت ، فلم يتحمّل عِبْأها ، بل كان ضعيفاً فى ولايته ، فعاتبه الإمام علي ذلك(٨) . روي عن أمير المؤمنين ¼ (٩) ، وممّا رواه الدعاء المشهور بــ "دعاء كميل"(١٠) . لم يرد ذكره فى واقعة كربلاء ، ولا فى ثورة التوّابين والمختار . (١) رجال الطوسى : ٨٠ / ٧٩٢ ، رجال البرقى : ٦ ; تهذيب الكمال : ٢٤ / ٢١٩ / ٤٩٩٦ . ٢٧٣ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / كُمَيْلُ بنُ زِيَاد
استشهد كميل ـ والذى كان من جملة العبّاد الثمانية المشهورين فى الكوفة(١) ـ فى سنة ٨٢ هـ(٢) علي يد الحجّاج لعنه الله(٣) . ٦٦٨٠ ـ شرح نهج البلاغة : كان كميل بن زياد عامل علىّ ¼ علي هيت(٤) ، وكان ضعيفاً ، يمرّ عليه سرايا معاوية تنهب أطراف العراق ولا يردّها ، ويحاول أن يجبر ما عنده من الضعف بأن يُغير علي أطراف أعمال معاوية ، مثل قرقيسيا(٥) وما يجرى مجراها من القري التى علي الفرات . فأنكر ¼ ذلك من فعله ، وقال : إنّ من العجز الحاضر أن يُهمل الوالى ما وَلِيه ، ويتكلّفَ ما ليس من تكليفه(٦) . ٦٦٨١ ـ الإمام علىّ ¼ ـ فى كتابه إلي كميل بن زياد النخعى ، وهو عامله علي هيت ، ينكر عليه تركه دفْع من يجتاز به من جيش العدوّ طالباً الغارة ـ : أمّا بعد ، فإنّ تضييع المرء ما وُلّى ، وتكلّفه ما كُفى ، لعجزٌ حاضر ، ورأىٌ مُتبَّر(٧) ! وإنّ تعاطيك الغارة علي أهل قرقيسيا ، وتعطيلك مَسالِحك(٨) التى ولّيناك ـ ليس بها (١) تهذيب الكمال : ٢٤ / ٢١٩ / ٤٩٩٦ ، تاريخ دمشق : ٥٠ / ٢٥٠ . ٢٧٤ - المجلد الثانى عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام علىّ وعمّاله / كُمَيْلُ بنُ زِيَاد
من يمنعها ، ولا يَردّ الجيشَ عنها ـ لرأىٌ شَعاع(١) ! فقد صرتَ جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك علي أوليائك ، غيرَ شديد المَنكِب ، ولا مَهيبِ الجانب ، ولا سادٍّ ثُغرة ، ولا كاسر لعدوٍّ شوكة ، ولا مُغْن عن أهل مِصره ، ولا مُجْز عن أميره !(٢) ٦٦٨٢ ـ الإرشاد عن المغيرة : لمّا وُلّى الحجّاج طلب كميلَ بن زياد ، فهرب منه ، فحرم قومَه عطاءهم ، فلمّا رأي كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير قد نفد عمرى ; لا ينبغى أن أحرم قومى عطيّاتهم ، فخرج فدفع بيده إلي الحجّاج ، فلمّا رآه قال له : لقد كنت اُحبّ أن أجد عليك سبيلاً ! فقال له كميل : لا تَصْرِفْ(٣) علىَّ أنيابك ، ولا تَهدَّمْ(٤) علىَّ ، فو الله ما بقى من عمرى إلاّ مثل كواسل(٥) الغبار ، فاقضِ ما أنت قاض ، فإنّ الموعد الله ، وبعد القتل الحساب ، ولقد خبّرنى أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب ¼ أنّك قاتلى . فقال له الحجّاج : الحجّة عليك إذاً ! فقال كميل : ذاك إن كان القضاء إليك ! قال : بلي ، قد كنتَ فيمن قتل عثمان بن عفّان ! اضربوا عنقه . فضُربت عنقه(٦) . (١) أى متفرِّق (النهاية : ٢ / ٤٨١) . |