٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام عليّ
وفيه فصول : المدخل :موقف النبىّ من مستقبل الرسالة الفصل الأوّل :أحاديث الوصاية الفصل الثانى :أحاديث الوراثة الفصل الثالث :أحاديث الخلافة الفصل الرابع :أحاديث المنزلة الفصل الخامس :أحاديث الإمارة الفصل السادس :أحاديث الإمامة الفصل السابع :أحاديث الولاية الفصل الثامن :أحاديث الهداية الفصل التاسع :أحاديث العصمة الفصل العاشر :حديث الغدير الفصل الحادى عشر:غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ ٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام عليّ
٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة
الدين الإسلامى خاتم الأديان ، ورسول الله ½ خاتم النبيّين ، والقرآن هو الحلقة الأخيرة فى كتب السماء ، وبهذا فالإسلام شامل لكلّ زمان ومكان . لقد نهض النبىّ ½ بحمل راية دين اكتسي لون الأبديّة ، لا يتخطّاه الزمان ، ولن يقوي علي طىّ سجلّ حياته وتَجاوُزه . هذا من ناحية . ومن ناحية اُخري يُعلمنا قانون الوجود وناموس الخليقة أنّ رسول الله ½ إنسان كبقيّة الناس ، له حياة ظاهريّة محدودة ، وهذا القرآن يُعلن صراحة أنّ الموت يُدركه كما يُدرك الآخرين : ³ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ² (١) . وهو ½ يضطلع برسالة إبلاغ تعاليم الدين وهدى السماء ، كما يتبوّأ أيضاً مسؤوليّة قيادة المجتمع وزعامته . ومن ثمّ فهو يجمع بين المرجعيّة الفكريّة للاُمّة وبين القيادة السياسيّة . (١) الزمر : ٣٠ . ٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة
وعلي هذا سنكون أمام سؤال جادّ وخطير لا يمكن تخطّيه بسهولة ، بالأخصّ بعد أن تحوّل إلي هاجس يُثير اهتمام أعلام المسلمين ومفكّريهم علي مرّ التاريخ ; والسؤال هو : ما دامت الحياة ستنتهى بهذا القائد الربّانى الفذّ بعد سنوات الدعوة والجهاد إلي الموت ، وما دام النبىّ سيرحل صوب الرفيق الأعلي ملبّياً نداء ربّه ، فما الذى دبّره لمستقبل هذا الدين الباقى علي مدي الزمان ؟ وماذا فعل لتأمين مستقبل دعوته وضمان ديمومة رسالته ؟ هل حدّد خياراً خاصّاً للمستقبل أم إنّه لم يفكّر بذلك قط ، وترك الأمر برمّته إلي الاُمّة ؟ كثرت كتابات المسلمين علماء ومحدّثين ومتكلّمين عن هذا الموضوع ، وانتهوا إلي نظريّات متعدّدة(١) . وما يُلحظ أنّ هذا الاتّجاه التنظيرى سعي إلي تثبيت وقائع التاريخ الإسلامى وتحويلها إلي معيار أشادوا علي أساسه اُصولاً ومرتكزات . لكن أين تكمن الحقيقة ؟ ! يقضى التدبّر العميق فى الموضوع ، ودراسة حياة رسول الله ½ بشمول ، إلي أنّ الموقف النبوى من مستقبل الرسالة لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاث ، هى : ١ ـ إنّ النبىّ ½ أغضي عن مستقبل الدعوة ، وأهمل الأمر تماماً من دون أن ٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة
ينطق بشىء للاُمّة . ٢ ـ إنّه ½ عهد بمستقبل الرسالة إلي الاُمّة ، وأمر جيل الصحابة أن ينهض بمهمّة تدبير أمر الدعوة من بعده . ٣ ـ إنّه ½ ارتكز إلي مبدأ النصّ الصريح فى تدبير المستقبل ، والتخطيط لشؤون الرسالة ، ومن ثمّ أعلن صراحة عن الشخص الذى يتبوّأ مسؤوليّة هداية الاُمّة من بعده ، ويضطلع بدور قيادة المجتمع الإسلامى . لندرس الآن هذه الفرضيّات الثلاث ونتناولها من خلال البحث والتحليل : ١٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الاُولي : السكوت إزاء المستقبل
تواجه هذه الفرضيّة فيضاً من الأسئلة ، منها : ما الذى دعا النبىّ ½ إلي عدم التفكير بمشروع محدّد لمستقبل الدعوة ؟ وما الذى أملي عليه السكوت عن مستقبل الاُمّة ؟ ثمّ ما هى طبيعة الفكر الذى يمكن أن ينبثق منه موقف مثل هذا ، ويُفرِز لدي القائد مثل هذه السلبيّة ؟ يمكن تأسيس هذه السلبيّة وتفسيرها كموقف نبوى مفترض ، علي ضوء فرضيّتين مسبقتين يستوطنان ذهن القائد ويستحوذان عليه . والآن لنستعرض المسبقتين الذهنيّتين المفترضتين ، كى نتبيّن قدر منطقيّتهما ، ومدي انسجامهما مع المعايير العقلانيّة : ١ ـ الإحساس بالأمن وانتفاء الخطر بمعني أنّ القائد لا يشعر بوجود أىّ خطر يدهم الاُمّة ، وانتفاء أىّ تيّار يكون بمقدوره أن يُزلزل إيمان الناس ويؤثّر علي قناعاتها ، ومن ثَمّ فإنّ هذه الاُمّة التى توشك أن ترث الرسالة الإسلاميّة ، ستنجح فى إيجاد مشروع لإدارة المجتمع ، ١١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الاُولي : السكوت إزاء المستقبل
وضمان ديمومة الرسالة . والسؤال : هل يصحّ مثل هذا التصوّر ؟ إنّ الوقائع الحقيقيّة لمجتمع الصدر الأوّل تُسفر بوضوح عن عدم صواب هذا التصوّر ، وأنّ هناك أخطاراً جذريّة جادّة كانت تتهدّد المجتمع الإسلامى آنئذ ، وتوشك أن تعصف بكيانه ، وهى : أ : الفراغ القيادى لم يكن قد مرّ وقت طويل علي تأسيس الأبعاد الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع الذى أسّسه النبىّ ½ ، ومن ثَمّ كان النبىّ القائد يمسك بنفسه أزمّة الثقافة والسياسة والقضاء فى هذا المجتمع . علي صعيد آخر حالت الحروب المتوالية وأجواء المواجهة الدائمة ، دون أن يتمكّن رسول الله ½ من تعميم ثقافة الرسالة ، ونفوذ معاييرها فى واقع ذلك المجتمع ، وعلي مستوي جميع الأبعاد ; فما أكثر من حمل عنوان الصحبة وهو لم يتوفّر بعدُ علي تصوّر عميق ودقيق لمبادئ الدين ، ولم ينطوِ علي معرفة وافية بشخصيّة النبىّ وأبعاد الرسالة . إنّ مجتمعاً كهذا حرىّ به أن يواجه الزلزال ، ويُصبح علي شفا أزمة عاصفة فى اللحظة التى يختفى بها القائد ، وتحيطه أجواء محمومة يكتنفها الاضطراب من كلّ جانب ، مجتمع كهذا حرىّ به أن يفقد قدرته علي اتّخاذ القرار الصائب ، ولا يلبث أن يقع فى الشباك المترصّدة ، ومن ثَمّ يصير طعمة سائغة لألاعيب الساسة وأحابيلهم . فيا تري ، هل يمكن مع هذا الواقع المتردّى ـ الذى سجّل له التاريخ أمثلة ١٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الاُولي : السكوت إزاء المستقبل
عمليّة كثيرة ـ أن نتصوّر الرسول القائد ½ يختار السلبيّة ، ويترك مثل هذا المجتمع للمجهول ، ويدع تحديد مصيره إليه ، دون أن يحمل همّ المستقبل ! ب ـ عدم نضج المجتمع ركّزنا فى نهاية النقطة السابقة علي أنّ ورثة هذه الرسالة التغييريّة الشاملة لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وسياسيّة صلبة تسمح لهم أن يفكّروا بالمستقبل ، ويتدبّروا أمره بشكل هادئ رصين ; فبقايا الجاهليّة لا تزال تملك أقداماً راسخة ، ولا تزال العصبيّات القبليّة تستأثر بنفوذ كبير فى وجودهم . كما أشرنا إلي أنّهم لا يمتلكون الإدراك الكافى لمعرفة موقع رسول الله ½ والمكانة العليّة السامقة التى يحظي بها النبىّ ، فهم تارة ينظرون إليه بشراً عاديّاً يتكلّم فى الرضي والغضب(١) ، واُخري يحثّونه علي التزام العدالة ! وثالثة تثقل عليهم قراراته وما يأتى به ـ عن السماء ـ من أحكام حتي يستريبوا فى أصل الرسالة !(٢) فبعد هذا كلّه ، هل من المنطقى أن يكل النبىّ القائد أزمّة الاُمور ومستقبل الرسالة بيد مجتمع كهذا ، ثمّ يمضى قرير العين إلي ربّه ! ج : المنافقون والتيّارات الهدّامة من الداخل اصطفّ كثيرون لمواجهة رسول الله ½ ومناهضة رسالته ، وهو فى ذروة قوّته ، وفى أثناء ممارسته لحاكميّته . ومع أنّ هؤلاء كانوا يتظاهرون بالإيمان إلاّ أنّهم (١) المستدرك علي الصحيحين : ١ / ١٨٧ / ٣٥٩ ، المصنّف لابن أبى شيبة : ٦ / ٢٢٩ / ٤ . إرجاعات
٢٥٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل
١٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الاُولي : السكوت إزاء المستقبل
فى باطنهم كانوا يعارضون دين الحقّ ، ويسعون لإطفاء أنواره بكلّ ما اُوتوا من جهد وقوّة . إنّ هذه المواجهة يمكن أن تعدّ أوسع مديً وأشدّ وطأة من دائرة عمل المنافقين ; فهى تتخطّاها إلي تخوم أوسع كما تشهد علي ذلك وقائع التاريخ ، وكما سنُشير إليه فى حينه ، ومن ثمّ هل يمكن أن يكون رسول الله ½ قد أغضي عن ذلك ؟(١) وهل يجوز أن نتصوّر أنّ هذا القائد العظيم أهمل هذا ـ وغيره ـ وترك الاُمّة هملاً من دون تدبير ؟ ! ينبغى أن يضاف إلي هؤلاء تلك العناصر التى كانت حديثة عهد بالإسلام ، حيث لم تدخل هذا الدين إلاّ بعد فتح مكّة ، فهؤلاء لم تترسّخ حقائق الدين فى نفوسهم بعدُ ، ولم تتمكّن من وجودهم كما ينبغى . ومن ثمّ فهم عرضة للتغيير مع أوّل طارئ ، ويمكن أن تقذفهم الأوضاع إلي طريق آخر ، كما أثبتت ذلك التيّارات التى عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد النبىّ . د : اليهود والقوي الاُخري والأخطار الخارجيّة الإسلام دعوة انقلابيّة تتضمّن الهدم والبناء ، فقد قوّضت حركة هذا الدين الأحابيل والخطط الشيطانيّة ، شيّدت علي أنقاضها بناءً جديداً . لقد جاء النبىّ ½ برسالة تطمح أن تقود العالم ، وتكون لها الكلمة الأخيرة فى الحياة الإنسانيّة ، ولمّا أدرك الأعداء هذا المعني ، دخلوا فى مواجهة حامية مع الدين الجديد سخّروا لها جميع قدراتهم ، ولم يكفّوا عن مقارعته حتي الرمق الأخير . ولمّا تبيّن لهم أنّ لغة الصراع المباشر لم تعُد تُغنى شيئاً ، لجؤوا إلي ١٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الاُولي : السكوت إزاء المستقبل
المكيدة ، وراحوا ينسجون المؤامرة تلو الاُخري مكراً بهذا الدين . وهذا واقع معروف لا يستريب به من له أدني معرفة بالتاريخ الإسلامى . أ فيجوز بعد هذه المواجهات الحادّة والصراع المرير مع اليهود والقبائل المشركة وبقيّة القوي المعادية(١) ، أن يجنح بنا الخيال فنتصوّر بأنّ هؤلاء ركنوا إلي الهدوء ، وجنحوا إلي السلم ، ولم يعُد لهم شأن بالإسلام ودعوته ؟ ! وهل يصحّ لسياسىّ فطن ، ولقائد كيّس وبصير أن يُغضى عن كلّ هذا الواقع العدائى المتشابك من حول دعوته ، ثمّ يمضى من دون أن يدبّر لحركته الفتيّة برنامجاً يصونها ويؤمّن لها المستقبل ؟ ثمّ هل يكون رسول الله ½ قائداً خاض جميع هذه المواجهات ، ثمّ يتصوّر أنّ اُمّته امتلكت من الصلابة ما يُحصّنها من جميع هذه المكائد والأخطار ، بحيث لم يعُد يخشي عليها من أحابيل هؤلاء ، وإنّ مكر هؤلاء وقوّتهم قد تلاشت ولم تعُد تؤلّف خطراً ذا بال ؟ ! ٢ ـ السلبيّة إزاء المستقبل العنصر الثانى الذى يمكن أن يوجّه الفرضيّة الاُولي ويقدّم لها تفسيراً منطقياً ، هى أن نفترض أنّ النبىّ القائد يدرك الأخطار التى تحفّ دعوته ، ويتطلّع إلي أهميّة المستقبل بنحو جيّد ، لكنّه مع ذلك لا يحاول تحصين الدعوة ضدّ تلك الأخطار ، لأنّه يري أنّ رسالته تنتهى بحياته ، وهو يتحمّل مسؤوليّتها ما دام حيّاً ، فإذا لم يعُد بين الناس ، ولم يكن ثمّ خطر يتهدّد حياته ، وإنّ ما يمكن أن تتعرّض له الدعوة من بعده لا يتعارض مع مصالحه الشخصيّة ـ وحاشاه ـ فلماذا يُبادر لحمايتها وتأمين مستقبلها ؟ بل لِيدعها والاُمّة التى ترتبط بها بانتظار المصير (١) راجع : كتاب "المواجهة مع رسول الله" ، الباب الأوّل ، الفصل الرابع والخامس . ١٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الاُولي : السكوت إزاء المستقبل
المجهول ! أ يليق هذا التصوّر بقائد واقعى ، وسياسى فطن ورسالى مثابر ؟ ! فكيف يصدق هذا علي رسول الله ½ ونفسُه الطهور لا تعرف الراحة فى سبيل إعلاء كلمة الله ، حتي تسلّيه السماء ، ويأتيه النداء الربّانى يدعوه إلي الهدوء : ³ طـه ± مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ² (١). وكيف يصدق ذلك علي نبىّ الله ، وهذه السماء تجسّم معاناته وما يبذله فى سبيل هداية الناس : ³ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ² (٢) . أ وَيجوز أن يخامرنا مثل هذا التصوّر الذى يفترض السلبيّة واللامبالاة ، وقد بلغ من تفانى رسول الله ½ وتضحيته من أجل الرسالة أنّه لم يترك تدبير أمرها إلي آخر لحظة من حياته ، حيث كان ينادى بتجهيز جيش اُسامة ويحثّ عليه وهو علي فراش الموت وقد ثقل عليه المرض ؟ ! أ وَلا تكفينا رزيّة "يوم الخميس" وقد طلب رسول الله ½ فى آخر لحظات حياته أن يأتوه بدواة وقلم كى يكتب للاُمّة كتاباً لن تضلّ بعده أبداً ، لنكفّ عن هذا التصوّر الواهى ، ونعدّ ما يُزعم من سكوته عن مستقبل الاُمّة جرأة علي رسول الله ½ ، ودعوي واهية لا تليق بمقام هذا العظيم ، وحرىّ بنا أن ننزّه ساحته عنها وعن أمثالها ؟ ! علي ضوء ذلك كلّه ، ليس من الممكن افتراض الموقف السلبى بحال من الأحوال . وهكذا تسقط الفرضيّة الاُولي . (١) طه : ١ و٢ . ١٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثانية : إيكال المستقبل إلي الاُمّة
وهى أن نؤمن بأنّ النبىّ ½ لم يعيّن للاُمّة قائد المستقبل ، بل عهد قيادة الرسالة والقيمومة عليها إلي الاُمّة ، لكى يحدّد الجيل الطليعى من المهاجرين والأنصار طبيعة هذا المستقبل علي أساس نظام الشوري . والسؤال : هل يمكن الإقرار بهذا التصوّر ؟ وإلي أىّ مدي يتطابق مع الحقيقة ؟ هناك عدد من النقاط التى تحفّ هذه الفرضية الغريبة ، يمكن الإشارة لها كما يلى : أ : لو كان النبىّ ½ قد اتّخذ من مستقبل الاُمّة والرسالة مثل هذا الموقف ، لكان حريّاً به أن يقوم بعمليّة توعية للاُمّة بطبيعة نظام الشوري وحدوده ومكوّناته وضوابطه ، والسبيل إلي تطبيقه وكلّ ما يمتّ إلي الموضوع بصلة ، بالأخصّ وإنّ ما يزيد فى أهمّية هذه العمليّة أنّ المجتمع لم يكن قد عرف ـ حتي ذلك الوقت ـ نظام الشوري ، ولم تكن قد تمّت تجربته فى بنية الحكم وهيكليّته ، فهل من المنطقى أن نزعم أنّ النبىّ القائد ½ أحال الاُمّة فى خيارها المستقبلى ، وطبيعة ١٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثانية : إيكال المستقبل إلي الاُمّة
القيادة التى تنتظرها ، إلي اُسلوب غائم غير واضح ، وغير محدّد المعالم والتفاصيل ! علي أنّ الذى يدحض هذا التصوّر ويستبعده تماماً هو موقف التيّار الذى طالب بالخلافة ، ثمّ تبوّأ مقعدها ; فكلّ الأرقام والشواهد فى حياة هؤلاء تدلّ بصورة لا تقبل الشكّ أنّ أىّ واحد من هؤلاء لم يستند إلي الشوري كميراث نبوى ، ولم يستدلّ علي صحّة موقفة بأنّ النبىّ ½ هو الذى اختار نظام الشوري للاُمّة من بعده ، وليس فى حياتهم ما يُنبئ عن إيمانهم بالشوري وممارستهم لهما عمليّاً ، فأبو بكر اتجّه إلي "النصب" فى تعيين البديل الذى يخلفه ، أمّا عمر بن الخطّاب فلم يلجأ إلي خيار الشوري السداسيّة إلاّ بعد أن دفعته الضرورة لذلك ، حيث لم يرَ البديل المناسب ; وفى ذلك يقول وهو علي فراش الموت : "لو أدركنى أحد رجلين لجعلت هذا الأمر إليه ، ولوثقت به ; سالم مولي أبى حذيفة ، وأبى عبيدة بن الجرّاح(١) ، ولو كان سالم حيّاً ما جعلتها شوري"(٢) . بهذا يتّضح أنّ هذه النظريّة لا تمتّ إلي واقع النبىّ ½ بصلة ، بل هى ممّا اُنتج بعد ذلك بزمن ، وتمّ صياغتها بمرور الوقت لتبرير ما وقع فى صدر التاريخ الإسلامى وتصويبه ، ومن ثمَّ فهى أقرب إلي تنظير ما بعد الوقوع(٣) ! (١) الطبقات الكبري : ٣ / ٣٤٣ . ١٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثانية : إيكال المستقبل إلي الاُمّة
ب : لو أنّ النبىّ ½ قد فكّر بطرح الشوري كخيار للمستقبل ، ولو أنّه أراد إسناد المرجعيّة الفكريّة للرسالة والقيادة السياسيّة للاُمّة إلي جيل الصحابة ، لتحتّم أن يعبّئ هذا الجيل تعبئة فكريّة ورساليّة مكثّفة لكى يعدّه للمهمّة التى تنتظره ، بالأخصّ إذا لاحظنا أنّ النبىّ ½ كان قد بشّر بسقوط تيجان كسري وقيصر ، وانهيار الإمبراطوريّتين : الفارسيّة والروميّة ، وأنّ رسالته ستمتدّ فى الزمان والمكان من دون أن تعرف الحواجز والحدود . فهل كان الصحابة علي مستوي من الدراية والعلم يؤهّلهم للنهوض بهذه المسؤوليّة الكبيرة ؟ ما هى الحقيقة ؟ وهل يمكن أن نتصوّر الصحابة علي مستوي النهوض بهذه المسؤوليّة ؟ هذا سؤال خطير لاحَ لكثيرين ، ولا يمكن تجاوزه ببساطة ; لأنّ الإغضاء عنه ينمّ عن ضرب من السذاجة واللامبالاة فى الاُصول العقيديّة . لقد كان الباحث مروان خليفات وواحداً من الذين لاح لهم هذا السؤال ، فدفعه إلي البحث والتأمّل . ثمّ أثمرت جولته التى دفعته إلي النصوص الحديثيّة والتاريخيّة ، وأسفرت عن نتيجة مهمّة جدّاً جديرة بالقراءة ، حيث خصّص لها الفصل الثالث من الباب الثانى من كتابه . وهذه خلاصة مكثّفة لما انتهي إليه : ١٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثانية : إيكال المستقبل إلي الاُمّة
كما انتهي حال الصحابة إلي أنّ مِن بينهم منافقين كما هو عليه صريح القرآن ، ومنهم من ارتدّ علي عقبيه ، ومنهم من يساق إلي النار كما جاء فى صريح الصحيحين ، عن رسول الله ½ . أ وَبعد هذا يقال إنّ النبىّ ½ قد أسند المرجعيّة الفكريّة والقيادة السياسيّة إلي هذا الجيل ، وجعله القيّم علي رسالته ، والمؤتمن علي الكتاب(١) ؟ ! علي ضوء هذا كلّه لا ينبغى أن نتردّد لحظة فى أنّ اُطروحة إيكال أمر المستقبل إلي الاُمّة أو نُخبها ، وقصّة إسناد المرجعيّة الفكريّة والسياسيّة إلي الصحابة ، لهى اُطروحة نشأت بمرور الزمن ; لتصويب الوقائع المُرّة التى عصفت بالحياة الإسلاميّة بعد رسول الله ½ ، وليس لها منشأ قط أو أساس يدلّ عليها فى نصوص رسول الله ½ وحياته . وبهذا تسقط الفرضيّة الثانية . ٢٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثالثة : تحديد المستقبل والنصّ علي الخلافة
هى أن نؤمن بأن رسول الله اتّخذ موقفاً إيجابيّاً من مستقبل الرسالة ، وعاش قضيّة هذا المستقبل بمسؤوليّة كبيرة ، بحيث اختار من يخلفه فى القيمومة علي الرسالة وخلافة الاُمّة . وما واقعة الغدير وما جري فيها ، ونصوص تلك الخطبة العصماء التى ألقاها بها النبىّ علي جموع المسلمين ، إلاّ تصريحاً وتأكيداً لما كان رسول الله ½ قد أعلنه قبل ذلك مرّات من ولاية علىّ بن أبى طالب ¼ وإمامة هذا المجاهد العظيم(١) . لقد اختاره النبىّ منذ أيّام حياته الاُولي ، فنشأ فى كنف رسول الله ½ ، وتربّي فى حجره وتحت رعايته دون أن يدنّس الشركُ لحظةً من حياته الطاهرة . علي أنّه ليس أدلّ علي هذه النشأة النظيفة من كلام علىّ ¼ نفسه ، وهو يقول : "و قد علمتم موضعى من رسول الله ½ بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخَصِيصة . ٢١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثالثة : تحديد المستقبل والنصّ علي الخلافة
وضعنى فى حجره وأنا ولد ، يضمّنى إلي صدره ، ويَكنُفنى فى فراشه ، ويُمسِنّى جسده ، ويُشِمّنى عَرْفَه . وكان يمضغ الشىء ثمّ يُلقمنيه ، وما وجد لى كذبة فى قول ، ولا خطلة فى فعل ، ولقد قرن الله به ½ من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلُك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره . ولقد كنت أتَّبعه اتّباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لى فى كلّ يوم من أخلاقه عَلَماً ، ويأمرنى بالاقتداء به . ولقد كان يجاور فى كلّ سنة بحِراءَ ، فأراه ولا يراه غيرى ، ولم يَجْمَع بيتٌ واحد يومئذ فى الإسلام غير رسول الله ½ وخديجة وأنا ثالثهما ; أري نور الوحى والرسالة ، وأشمّ ريح النبوّة . ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحى عليه ½ ، فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الرنّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيِس من عبادته . إنّك تسمع ما أسمع ، وتري ما أري ، إلاّ أنّك لست بنبىّ ، ولكنّك لوزير ، وإنّك لعلي خير"(١) . إنّ الأحاديث النبويّة التى تصرّح بإمامة علىّ بن أبى طالب وولايته ، هى من الشمول والكثرة بحيث لا تدع مجالاً للاسترابة والشكّ . فنبىّ الله لم يصدع بــ "حقّ الخلافة" للإمام ولــ "خلافة الحقّ" هذه مرّة واحدة أو مرّتين ، بل فعل ذلك عشرات المرّات بالإشارة وبالصراحة ، وحدّد مشروعاً واضحاً لمستقبل الاُمّة وغد الرسالة ، علي مرأي من المسلمين جميعاً . لقد امتدّت عمليّة إعلان هذا الحقّ العلوىّ والإجهار به ونشره إلي أبعد مدي ، لتستوعب من حياة النبىّ جميع سنّى عمره فى تبليغ الرسالة ، حتي بلغت فى واقعة الغدير ذروتها القصوي ، واستقرّت علي قمّتها الشاهقة . (١) راجع : القسم التاسع / علىّ عن لسان علىّ / المكانة عند رسول الله / القرابة القريبة . إرجاعات
١٩٤ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام عليّ / الفصل الثالث : عليّ عن لسان عليّ / المكانة عند رسول الله
٢٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / المدخل : موقف النبىّ من مستقبل الرسالة / الفرضيّة الثالثة : تحديد المستقبل والنصّ علي الخلافة
إنّ من يتأمّل هذه المواضع بأجمعها (ممّا سيأتى توثيقه فى هذا الفصل كاملاً) لا يستريب لحظة فى أنّ إمامة الاُمّة وقيادة المستقبل ، لهى فى طليعة شواغل النبىّ الأقدس ½ ، وهى بنظره المهمّة الاُولي التى لا تتقدّمها مهمّة . لهذا ما وجد فرصة مواتية إلاّ وأعلن فيها هذه الحقيقة ، وما وجد موضعاً مناسباً إلاّ وأفاد منه فى إبلاغ هذا الأمر الإلهى . لقد استندنا فى هذا الفصل علي وثائق ومدوّنات ونصوص كثيرة تعود إلي كتب الفريقين فى الحديث والتاريخ والتفسير . ثمّ سنبدأ البحث التحليلى فى هذا المدخل منذ بدايات الرسالة ، وأوائل أيّام رسول الله ½ ، حتي نبلغ به يوم الغدير كما سلفت الإشارة إلي ذلك . وعند الغدير سنعيد عرض مكوّنات المشهد مجدّداً ، ونمارس العرض والتحليل علي ضوء معطيات الرواية والدراية معاً . هذه لمحة موجزة عن خطّة العمل ، ودونكم التفاصيل فى بيان أهمّ المساعى النبىّ لقيادة الإمام علىّ ¼ : ٢٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبيّ
( ١ ) نزل أمر السماء إلي رسول الله ½ يأمره أن يدعو عشيرته إلي الإسلام ³ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ ² (١) ، فدعا النبىّ عشيرته ، ولمّا اجتمعوا عند رسول الله ½ ، راح يعدّهم لتلقّى ما دعاهم إليه ، وبعد مقدّمات أبلغهم دعوته ، ثمّ انعطف يقول : "فأيّكم يوازرنى علي هذا الأمر علي أن يكون أخى ووصيّى وخليفتى فيكم" ، وفى بعض النصوص التاريخيّة : "خليفتى من بعدى" . لم يلبِّ للنبىّ ½ دعوته من الحاضرين غير علىّ بن أبى طالب الذى وثب من بين الجمع مجيباً النبىّ ; فما كان من رسول الله ½ بعد أن سمع جواب علىّ ، إلاّ أن قال علي مسمع من الملأ : "إنّ هذا أخى ووصيّى وخليفتى فيكم ; فاسمعوا له وأطيعوا" . وهكذا أعلن النبىّ ولاية علىّ بن أبى طالب وإمامته والدعوة لم تزل فى أوّل يوم من أيّام مرحلتها العلنيّة . لقد فهم الحاضرون فى ذلك اليوم مغزي هذه الرسالة بوضوح ، وأدركوا تماماً من كلام النبىّ ½ إمامة علىّ ولزوم طاعته ، لذلك انبري بعضهم مخاطباً أبا طالب : "قد أمرك أن تسمع لابنك وتُطيع !"(٢) ، بيد (١) الشعراء : ٢١٤ . إرجاعات
١٤١ - المجلد الأوّل / القسم الثاني : الإمام عليّ مع النبيّ / الفصل الأوّل : المؤازرة على الدعوة
٢٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / حديث يوم الإنذار
أنّهم عتَوا واستكبروا وأخذتهم العزّة بالإثم ، فأنِفوا أن يستجيبوا للحقّ ، وأن يذعنوا إليه . لقد دأبنا فى صفحات هذه "الموسوعة" علي ذكر الحديث بطرق مختلفة ونقول متعدّدة ، بحيث لا تُبقى مجالاً للشكّ . ونعطف علي ذلك شهادة أبى جعفر الإسكافى المعتزلى الذى عدَّ الحديث صحيحاً(١) ، كما ذهب إلي الشىء ذاته علماء آخرون منهم شهاب الدين الخفاجى فى "شرح الشفا للقاضى عياض"(٢) ، والمتّقى الهندى ، الذى ذكر تصحيح ابن جرير الطبرى للحديث(٣) ، وإضافة إلي ذلك ثَمّ آخرون أكّدوا علي صحّة حديث الإنذار يوم الدار(٤) . (١) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٤٤ ; الغدير : ٢ / ٢٧٩ . ٢٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الوصاية
( ٢ ) تهدف الوصاية إلي الحفاظ علي الدين وديمومة النهج والطريق ، وهى بهذا اللحاظ سيرة مضي عليها جميع رسل السماء . وفى إطار إشارته إلي هذه الحقيقة فى مواضع متعدّدة ومناسبات مختلفة ، سجّل رسول الله ½ للإمام أمير المؤمنين ¼ موقعه فى الوصاية ، فكان ممّا قال : "إنّ لكلّ نبىّ وصيّاً ووارثاً ، وإنّ عليّاً وصيّى ووارثى"(١) . لقد بلغت أحاديث رسول الله ½ حيال علىّ ¼ فى هذا المعني حدّاً من الكثرة بحيث أمسي لفظ "الوصىّ" نعتاً للإمام أمير المؤمنين ¼ ، وصفة يُعرف بها دون لبس أو غموض . وعندما كان يُطلق مصطلح "الوصىّ" فى الأحاديث والكلام والأشعار كانت الغالبيّة من مسلمى صدر الإسلام تفهم منه دلالته علي الإمام علىّ ¼ من دون تردّد ، ومن ثَمّ دلالته بالضرورة علي الخلافة والإمامة(٢) . ثمّ جاء الدور لبنى اُميّة ، الذى يبدو أنّهم بذلوا جهوداً كبيرة علّهم يطمسون هذا العنوان الوضىء ويُزيلونه عن الإمام ، ويُباعدون بينه وبينه ، فكم بذلوا فى سبيل هذا الغرض المنحطّ ، وكم وضعوا من الأحاديث(٣) ، لكن أنّي للحقّ أن يُقهر بحراب أهل الباطل ! (١) تاريخ دمشق : ٤٢ / ٣٩٢ / ٩٠٠٥ . راجع : أحاديث الوصاية . ٢٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الوراثة
( ٣ ) ألِفَ الذهن الإنسانى علي الدوام عناوين "الإرث" و"الميراث" و"الوراثة" ، بحيث استوعبت هذه الحقيقة الاُمور الماديّة والمعنويّة ، والناس تُظهر دهشتها ـ فى العادة ـ لإنسان يسكت عن كيفيّة التصرّف بتركته من بعده ، وما يتركه الناس يتمثّل تارة بالاُمور المادّية واُخري بالاُمور والمواريث المعنويّة . لقد جرت سنّة الإرث ، وتواضع الطبع الإنسانى فى هذا المجال علي وجود الوارث والمؤتمن ، من دون أن يُنكر ذلك أحد ، بل التقي الناس علي امتداح هذه السنّة مهما كانت انتماءاتهم الحضاريّة والثقافيّة والفكريّة . فتعالوا الآن لننظر ماذا فعل رسول الله ½ بميراثه العظيم ، وهو خاتم النبيّين ، وحامل آخر رسالات السماء ، ومبلّغ دين أبدىّ يترامي امتداداً فوق حدود المكان والزمان . إلامَ عَهِد بأمر هذا الدين من بعده ؟ هل أوصي الله سبحانه رسوله الكريم أن يعهد بالأمر إلي شخص محدّد ؟ إنّ أخبار "الوراثة" ونصوصها هى جواب جلىّ علي هذا السؤال المهمّ ; فقد راح رسول الله ½ يُخبر تارة بأنّ اختيار الوارث هى سنّة جري عليها جميع النبيّين قبله ، ومن ثَمّ يتحتّم عليه بوصفه خاتم المرسلين والحلقة الأخيرة فى نبوّات السماء ، أن يختار وارثه ، كما تحدّث اُخري وبصراحة علي أنّ وراثته تكمن بالإمامة والعلم . وهذا الموقع هو ما أكّد عليه الصحابة أيضاً منذ ذلك العصر ; حيث صاروا ٢٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الوراثة
يُظهرون كلام رسول الله ½ وتصريحه بهذه الحقيقة فى مناسبات ومواضع ومناسبات مختلفة ، كما كانوا أحياناً يُشيرون فى كلامهم إلي علىّ بن أبى طالب بموقع الوراثة ومقام الوارث ، من ذلك : سأل عبد الرحمن بن خالد قثم بن العبّاس : من أين ورث علىّ رسول الله ½ ؟ قال : إنّه كان أوّلنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً . لقد ضمّ فصل "أحاديث الوراثة" النصوص الروائيّة والتاريخيّة التى تفصح عن هذه الحقيقة من كتب الفريقين ، وهى تُشير إلي الكلمات النبويّة التى ذكر فيها رسول الله ½ صراحة أنَّ عليّاً وارثه ; وارث علمه وخزانته ومكنون معرفته ، ومن ثَمّ فهو بالضرورة إمام الاُمّة ورمز مرجعيّتها الفكريّة والسياسيّة(١) . ٢٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الخلافة
( ٤ ) "الخلافة" هى أيضاً تعبير قرآنى ، ومصطلح دينى يُشير بوضوح إلي الاستخلاف فى الأبعاد المختلفة إلاّ إذا استثنى بُعد . وهذا ما يفسّر لنا الجهود الحثيثة التى بذلها الذين أمسكوا بأزمّة اُمور المسلمين بعد رسول الله ½ ، وما بذلوه من مساع جبّارة كى يلبسوا هذا الرداء ، موه علي قاماتهم . كان رسول الله ½ قد صرّح بخلافة علىّ بن أبى طالب منذ الأيّام الاُولي لإعلان دعوته وإجهاره برسالة السماء ; هذا التصريح الذى يمكن تلمّسه فى أحاديث كثيرة قالها النبىّ فى مواضع متعدّدة ، ومواقع مختلفة ، وهى تُشير إلي حدود هذه الخلافة . وهذا الجهد النبوى يكشف عن مدي عناية رسول الله ½ بمستقبل الاُمّة ، واهتمامه الكبير بمصير الرسالة من بعده . ٢٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث المنزلة
( ٥ ) من بين أعظم الصفات التى نَحَل بها النبىّ ½ علىّ بن أبى طالب ¼ ، ومن أكثر العناوين النبويّة ألَقاً ـ ممّا أطلقه النبىّ علي الإمام أمير المؤمنين ـ هو عنوان "المنزلة" ، حيث ساوي النبىّ عليّاً بنفسه ، ووصفه أنّه مثله فى القيادة . هذه المجموعة من الأحاديث النبويّة تشتهر بين العلماء والمحدّثين بأحاديث المنزلة ، وذلك انسجاماً مع صريح ما يقضى به الكلام النبوى فى هذا المضمار . لقد عبّر رسول الله ½ عن هذا الموقع الرفيع الذى يحظي به الإمام أمير المؤمنين بصيغ متعدّدة، مثل قوله: "أنت منّى بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنّه لا نبىّ بعدي". كما صدع بهذه الحقيقة وأعلنها علي المسلمين مرّات ومرّات ; ليكون بذلك قد أوضح للجميع ـ وللتاريخ أيضاً ـ مساواة علىّ ومماثلته له فى القيادة . وكان من بين المواضع التى أعلن فيها النبىّ هذا الكلام المعجز حول علىّ ، غزوة تبوك . ففى ظلّ أوضاع صعبة ومُضنية جهّز النبىّ جيشاً كبيراً ، ثمّ خرج من المدينة قاصداً أن يقاتل به الروم . لقد كانت تبوك هى أقصي نقطة قصدها رسول الله ½ فى حروبه ، وأبعدها عن المدينة جغرافيّاً . وفى المدينة حيث كان يعيش النبىّ استطاع النفاق أن يتبلور آنئذ فى إطار حركة منظّمة ، راحت تترصّد الوضع بصدور موبوءة بالحقد والضغينة ، وتخطّط بخفاء كى تنقضّ علي المجتمع الإسلامى الفتىّ بضربة قاصمة . لقد غادر النبىّ المدينة فى سفر طويل ، وهو يتوجّس خيفة من فتن المنافقين وكيد الحاقدين ، فماذا يفعل ؟ وكيف يؤمّن وضع المدينة ويطمئنّ عليها ؟ اختار ½ أن يُبقى عليّاً فى المدينة ، يخلفه فى أهله ، ويصون له دار هجرته ومن ٣٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث المنزلة
بقى من قومه . هكذا مضي الأمر . وعندما رآي المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ، أنّ خطّتهم تلاشت بوجود علىّ كما تتلاشي خيوط العنكبوت، وأحلامهم ضاعت ببقاء الإمام أمير المؤمنين فى المدينة ، راحوا يُرجفون بأنّ النبىّ ما ترك عليّاً فى المدينة إلاّ لموجدة عليه ، وأنّه لو كان له به غرض لما خلفّه علي النساء والصبيان ! راحت شائعات حركة النفاق تزحم أجواء المدينة ، وصارت أراجيفهم تحاصر علىّ بن أبى طالب ـ ليث الوغي وفارس ساحات الجهاد ـ وتنهال عليه من كلّ حدب وصوب ، فماذا هو فاعل أمير المؤمنين ؟ سرعان ما لحق برسول الله ½ وقصّ عليه أراجيف المنافقين، فما كان من النبىّ الأقدس إلاّ أن تحدّث إلي علىّ بما يكشف عن حظوة كبيرة عند النبىّ ، ومكانة لا تُدانيها مكانة أحد من العالمين، فقال له بفيض حنان : "ارجع يا أخى إلي مكانك; فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بى أو بك ; فأنت خليفتى فى أهلى ودار هجرتى وقومى ، أ ما ترضي أن تكون منّى بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى ؟" . بصراحة لا يشوبها لبس سجّل النبىّ ½ لعلىّ بن أبى طالب ¼ جميع ما له من مناصب ومواقع ومسؤوليّات ما خلا النبوّة ، وأوضح دون أدني شائبة أنّ الإمام أمير المؤمنين هو الذى يجسّد عمليّاً ديمومة الخطّ النبوى ، وينهض بمسؤوليّات النبىّ عند غيابه ، فى زعامة الاُمّة وقيادتها ، وممارسة المرجعيّة الفكريّة والعلميّة للرسالة الإسلاميّة . تسجّل بعض النصوص التاريخيّة أنّ النبىّ ½ خاطب عليّاً بهذه الجملة صراحة : "إنّه لابدّ من إمام وأمير ; فأنا الإمام ، وأنت الأمير"(١) . ٣١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الإمارة
( ٦ ) حثّ القرآن جميع المؤمنين ودعاهم بصراحة تامّة إلي إطاعة "اُولى الأمر"(١) ; حيث جعل إطاعة هؤلاء واتّباعهم رديفاً لإطاعة الله وإطاعة رسول الله ½ . والسؤال : من هم مصداق "اُولى الأمر" ؟ أ فيجوز أنّنعدّ الطغاة والجبّارين المحترفين ـ الذين يتسنّمون السلطة متّخذين جماجم الأبرياء سلّماً يرقون به إلي مسند العرش ـ مصداقاً لاُولى الأمر ؟ أبداً لا يجوز هذا . فلا ريب أنّ مصداق "اُولى الأمر" ينطبق علي اُولئك الذين يعيشون حياتهم علي نهج نبوى وضّاء ، ويبذلون وجودهم لله ، وفى سبيل الله ، ويُفنون أعمارهم من أجل إعلاء كلمة الحقّ ، وبسط العدالة فى ربوع الحياة . وهذا أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب يتبوّأ من هذا العنوان ذروته العليا ، ويقف علي أقصي نقطة من قمّته الشاهقة ، كما تفصح عن ذلك الكثير من الأحاديث النبويّة ; تلك النصوص الوضّاءة الموحية التى تبعث علي الدهشة والجلال . دعونا نتخطّي ذلك إلي ما هو أبعد منه مديً وأعمق أثراً ; فهذا رسول الله ½ اختصّ علىّ بن أبى طالب وحده بلقب "أمير المؤمنين" ; فلا يحقّ هذا اللقب لأحد غيره قط كما نصّ علي ذلك صراحة النهى النبوى . ولدينا فيض من النصوص التى تتحدّث عن هذا المعني ، وهى من الكثرة بحيث صنّف من بعضها السيّد الأجلّ ، قدوة السالكين ، واُسوة العابدين وجمال ٣٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الإمارة
العارفين رضى الدين علىّ بن طاووس الحلّى كتاباً أطلق عليه عنوان : "اليقين باختصاص مولانا علي ¼ بإمرة المؤمنين" ، والملاحظ أنّ هذه الأحاديث النبويّة تذكر الإمام علىّ بلقب "أمير المؤمنين" مرّة ، ولقب "أمير البررة" ثانية ، و"أمير كلّ مؤمن بعد وفاتى" ثالثة(١) . وهذا الإمام الحسن ¼ يشرط علي معاوية فى معاهدة الصلح أن لا يتسمّي بــ "أمير المؤمنين" ولا يُطلق علي نفسه هذا اللقب(٢) . (١) راجع : أحاديث الإمارة ، وكتاب "اليقين باختصاص مولانا علي ¼ بإمرة المؤمنين" . ٣٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الإمامة
( ٧ ) "الإمام" فى المعني اللغوى هو المتقدّم ، والمقتدي به ، وقائد القوم ، ورئيس القبيلة(١) ، وهو فى الثقافة القرآنيّة والدينيّة ـ دون شكّ ـ قائد الاُمّة فى مختلف الأبعاد ، وزعيم الاُمّة فى إدارة اُمور المجتمع . هذه الحقيقة يمكن تلمّسها فى الرسالتين المتبادلتين بين الإمام أمير المؤمنين ¼ ومعاوية . لقد تحدّث الإمام فى إطار رسالة مطوّلة عن موقعه وموقع أهل البيت ¥ ، وذكّر بوصايته عن النبىّ ، وخلافته لرسول الله ½ ; فما كان من معاوية إلاّ أن قال فى الجواب نصّاً : "ألا وإنّما كان محمّد رسول الله من الرسل إلي الناس كافّة ، فبلّغ رسالات ربّه ، لا يملك شيئاً غيره !" وهذا النصّ يحصر وظيفة النبىّ بالتبليغ فقط ; فهو مبلّغ رسالة لا أكثر ، وليس بإمام ، ولا زعيم ، ولا قائد ، ولا رجل سياسة ، ولا أىّ شىء آخر . فردّ الإمام علىّ ¼ علي كلام معاوية الذى أنكر فيه بقية شؤون النبىّ ، وفى الطليعة شأنه كإمام ; ردَّ عليه بصراحة مسفرة ، وهو يكتب : "و الذى أنكرت من إمامة محمّد ½ ، زعمت أنّه كان رسولاً ولم يكن إماماً ; فإنّ إنكارك علي جميع النبيّين الأئمّة ، ولكنّا نشهد أنّه كان رسولاً نبيّاً إماماً"(٢) . يُسفر هذا الحوار المتبادل فى الرسالتين عن موقع الإمامة فى الفكر (١) العين : ٨ / ٤٢٨ . ٣٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الإمامة
الإسلامى ، وهو إلي ذلك يكشف عن الأسباب الكامنة من وراء عداء بنى اُميّة لهذا العنوان . علي ضوء هذا التوضيح يمكن أن نُدرك الآن عمق الأخبار والأحاديث الكثيرة التى أكّد فيها رسول الله ½ علي إمامة علىّ بن أبى طالب ¼ ، من بينها قوله : "يا علىّ ، أنت وصيّى وخليفتى وإمام اُمّتى بعدى" أو قوله : "أنت إمام كلّ مؤمن ومؤمنة ، وولىّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدى"(١) وغير ذلك من النصوص التى جاءت تأكيداً وإلفاتاً لديمومة الإمامة فى وجود علىّ بن أبى طالب . ٣٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الولاية
( ٨ ) من العناوين البارزة التى جاءت بها الروايات ، وأكّدتها أيضاً آيات تفسّرها أحاديث حيال علىّ بن أبى طالب ¼ ، هو عنوان "الولىّ" . لا جدال فى أنّ استعمال مادة "و ل ى" بمعني القيّم ، والقائد ، والزعيم ، والأولي بالتصرّف ، والأحقّ بالقيمومة والأمر ; هو أمر شائع الاستعمال فى الأدب العربى ، كما سنُشير إلي ذلك أثناء دراسة حديث الغدير وتحليله . إنّ النصوص التى تضمّنت إطلاق رسول الله ½ عنوان "الولىّ" و"الولاية" علي علىّ بن أبى طالب ، لهى كثيرة فى الحديث والأخبار النبويّة ، فلطالما أشار النبىّ إلي علىّ بهذا الوصف الجليل فى مواضع كثيرة ، وما أكثر المواقع التى عرض بها هذا العنوان المثير للانتباه . فخطاب النبىّ بهذه الصيغة : "يا علىّ ، أنت ولىّ الناس بعدى ; فمن أطاعك فقد أطاعنى ، ومن عصاك فقد عصانى"(١) تردّد كثيراً بحيث امتلأت منه مصادر أهل السنّة ومدوّناتهم الحديثيّة ، وقد أوردنا شطراً مهمّاً منها فى ظلّ عنوان "أحاديث الولاية"(٢) . إنّ هذه الأحاديث ـ بالأخصّ حين تأتى بقيد "من بعدى" ـ لا تدع مجالاً للشكّ فى أنّ رسول الله ½ قد حدّد من خلال ذلك طبيعة المسار السياسى الذى يخلفه ، وأومأ بوضوح إلي القيادة السياسيّة التى تتسنّم الاُمور من بعده . ٣٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الولاية
تجلّى الولاية فى القرآن لم يقتصر وصف "الولىّ" و"الولاية" لعلىّ فى الحديث النبوى وحده ، بل امتدّ إلي آى القرآن الكريم ، كما دلّلت علي ذلك روايات كثيرة ، ومن بين هذه الآيات قوله سبحانه : ³ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ² (١) إذ ليس ثمّ شكّ فى شأن نزول هذه الآية وانطباقها علي الإمام علىّ ¼ فى إطار الواقعة المعروفة; حيث دخل سائلٌ المسجد ، فأومأ إليه الإمام بإصبعه ، فأقبل السائل حتي أخذ الخاتم من خنصره وانصرف . لقد وثّق هذه الواقعة عدد كبير من المحدّثين والمفسّرين ، وذكروا صراحة أنّ الآية نزلت بشأن علىّ ¼ (٢) . لكن يبدو أنّ بعض المفسّرين لم يرُق لهم أن يُسفر الحقّ ويرمى بضيائه علي الاُفق ، فلاذوا بشُبَه راحوا يُثيرونها ، وجنحوا إلي تسويفات واهية علّهم يقلبوا الحقيقة ، ويكفئوا الحقّ علي وجهه ; فقالوا ـ مثلاً ـ : إنّ ³ الَّذِينَ ² جمع ، فكيف ينطبق علي علىّ ¼ وهو واحد ! لقد نسوا ـ وربّما تناسوا ـ أنّ هذا مألوف ، واستعماله شائع فى الأدب العربى ، كما كثُر فى القرآن ; إذ يجىء الخطاب للجماعة مع أنّ المراد واحد بهدف التكريم أو أىّ باعث آخر ، كمثل قوله سبحانه : ³ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ² (٣) ; فلا جدال أنَّ الآية نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة (١) المائدة : ٥٥ . ٣٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الولاية
بعدما بعث كتاباً إلي قريش ، كما ذكر ذلك المفسّرون(١) . كذلك قوله سبحانه : ³ فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائـِرَةٌ ² (٢) ، حيث قصدت الآية عبد الله بن اُبَىّ كما أجمع المفسّرون علي ذلك فى شأن النزول(٣) . علي هذا يتّضح أنّ إيرادات هذا البعض من المفسّرين لم تأتِ بباعث البحث الناشئ عن الشكّ فى فضيلة عظيمة كهذه . علي أنّ أمثال هذه المواقف كثير وليس بعزيز . ثمّ إنّ الآية تحصر "الولاية" من دون لبس بــ "الله" ، و"الرسول" و"علىّ" . ومن الجلىّ أنّه لو كان معني الولاية فى الآية هو "النصرة" أو "المحبّة" فلا معني للتخصيص ، ولن يكون هناك ما يسوّغ الحصر(٤) . لقد قصدنا فى هذا المدخل أن نتابع تلك الجهود الحثيثة التى بذلها رسول الله ½ لتعيين الإمامة من بعده ، وتحديد الهادى الذى يأخذ بيد الاُمّة فى المستقبل . كما جاءت الإشارة إلي هذه الآيات ـ كمثال ـ لتسلّط الضوء علي دور الوحى فى هذه المهمّة التى بلغ فيها رسول الله ½ الذروة لأجل تثبيت الولاية ، من خلال ما نهض به عمليّاً من تفسير هذه الآيات وتبيينها . (١) تفسير الطبرى : ١٤ / الجزء ٢٨ / ٥٨ ; تفسير التبيان : ٩ / ٥٧٥ . ٣٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الهداية
( ٩ ) إمامة الاُمّة هى هداية الناس إلي المنزل المقصود ، وتوجيهها صوب المقصد الأعلي ، وسوقها تلقاء الكمال الإنسانى الميسور . وعلي هذا ، أ فيمكن لمن لم يتوفّر علي الهداية الكاملة ، ولم يعِش الدين إدراكاً عميقاً فى وجوده أن يأخذ بيد المجتمع صوب تلك الهداية ؟ أو يكون لمن لا يهتدى إلاّ أن يُهدي أن يتبوّأ هذا الموقع ؟ لقد أوضح النبىّ أنّ هادى الاُمّة والإمام الذى يأخذ بيد المؤمنين إلي برّ الأمان فى المستقبل هو علىّ بن أبى طالب . فأمير المؤمنين ¼ هو الذى يسوق الاُمّة صوب الحقيقة ، ويأخذ بيدها إلي الينابيع الصافية النقيّة ، وهو الذى يتبوّأ فى الاُمّة موقع الهداية بعد النبىّ . هذا ما أفصح عنه رسول الله ½ حين عدّ عليّاً "هادى" الاُمّة ، والمصداق الرفيع لهذا الموقع وهو يفسّر قوله سبحانه : ³ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ² (١) بقوله ½ : "المنذر أنا ، والهادى علىّ بن أبى طالب"(٢) . (١) الرعد : ٧ . ٣٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث العصمة
( ١٠ ) إنّ "العصمة" بمعني الوقاية من الذنب والخطأ والجهل ، والاحتراز من الاعوجاجات التى تشوب السلوك ، هى من الخصائص الحتميّة لرسل السماء ; ويبدو أن ليس هناك نحلة أو فرقة من المسلمين تشكّ فى ضرورة عصمة الأنبياء ، فالأنبياء ¥ معصومون بنصّ القرآن ، وهذه حقيقة أجمع عليها المتكلّمون والعلماء ; إذ ليس هناك من يناقش فى أصل العصمة وضرورتها ، إنّما يمكن أن يكون لبعضهم كلام فى حدّها وحدودها . أمّا عقيدة الشيعة التى تستند إلي "النصّ" علي الإمامة بعد رسول الله ½ ، وتركّز علي أنّ الإمامة قائمة علي أساس النصوص الثابتة ، فهى تؤمن بأنّ جميع خصائص رسول الله ½ ـ ما خلا النبوّة ـ تتجسّد فى الإمام ، وتواصِل حضورها فى خليفته من بعده ، وهى تعدّ ذلك أمراً قطعيّاً علي أساس نصوص كثيرة ودلائل عقليّة وافرة نُقّحت فى مظانّها . لقد ركّز علماء الشيعة ومتكلّموهم علي هذا الأصل إزاء بقيّة الفرق الإسلاميّة ، وعدّوا هذا الموقع ضرورياً لخليفة النبىّ ، وذلك فى مقابل التيّارات الاُخري فى الساحة الإسلاميّة من تلك التى لم تتبنّ ضرورة النصّ ، علي أنّ طبيعة هذه المواقف ، وتحليل خلفيّاتها التاريخيّة وبناها الفكريّة ، هو أمر خارج عن نطاق هذا البحث . لكن يحسن بنا الآن أن نتوقّف مع ملاحظة سريعة ، قبل أن نواصل متابعة ٤٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث العصمة
الجهود النبويّة لتشييد قواعد الإمامة العلويّة ، وتثبيت إمامة علىّ بن أبى طالب ¼ ، وطبيعة النهج الذى اعتمده رسول الله ½ لعرض هذه الحقيقة ; فقد استند متكلّمو الشيعة ومفسّروهم منذ القدم إلي "آية التطهير" من بين ما استندوا إليه فى إثبات عصمة "الأئمّة" وطهارة "أهل البيت" ، وهو استدلال متين كشف عن قوّته وإحكامه فى الدراسات المختصّة بذلك . بيد أنّ ما يعنينا أمره فى هذا المجال ، وله صلة وثيقة ، بل ضروريّة ببحثنا ، هو معرفة طبيعة عرض هذه المسألة ، والكيفيّة التى استند إليها رسول الله ½ فى بيانها ، وهنا بالذات تكمن الملاحظة التى أحببنا المكوث عندها قليلاً . لقد مضت علي رسول الله ½ ـ بعد أن تلا آية التطهير علي المسلمين ـ أيّام وأشهر طويلة وهو يقف إلي جوار بيت علىّ ، وينادى إذا حضر وقت الصلاة : "الصلاة يا أهل البيت"(١) . علي هذا ليس هناك شكّ فى أنّ "أصحاب الكساء" هم مصداق "أهل البيت" ، وأنّ علىّ بن أبى طالب ¼ هو سيّد أهل البيت وذروة السنام فيه . إنّما الذى يحظي بأهمّية أكبر بنظرنا هو ما كان يفعله الرسول فى ثنايا تركيزه علي الإعداد لقيادة المستقبل ، وكجزء من برنامجه لإعلان الإمامة التى تخلفه ، إلي جوار تأكيده علي التصريح بطهارة أهل البيت وعصمتهم ، وحتي بعد إعلان هذه الفضيلة راح يكرّر علي الدوام قوله ½ : "أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم"(٢) ، فماذا يعنى هذا التكرار ، وما هو مغزاه ؟ يبدو أنّ رسول الله ½ كشف للاُمّة ـ من خلال تفسيره النافذ البصير لقوله سبحانه : ³ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي (١) أهل البيت فى آية التطهير : ٤٠ ـ ٤٥ . ٤١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث العصمة
الْقُرْآنِ ² (١) ـ عن وجود اُسرة ستنقضّ علي المجتمع الإسلامى ، وتسومه الأذي والعذاب والظلم ، وبتشبيهه حركة هذه الاُسرة بنزو القردة كشف عن هويّتها القرديّة ، وحذّر الاُمّة من أن تترك اُمور دينها تقع فى يوم من الأيّام بيد رجال هذه العشيرة ، أو أن تكون قيم هذا الدين ومثله العليا لعبة بأيديهم يعبثون بها كيفما شاؤوا(٢) . علي الجانب الآخر من المشهد ، حرص رسول الله ½ ـ من خلال التركيز علي طرح "أهل البيت" كاُناس مطهّرين ، وثلّة معصومة نقيّة من المثالب والعيوب ـ أن يسجّل للاُمّة خطّ الإمامة المعصومة ، والقيادة النزيهة للمستقبل(٣) .وكان لآية التطهير الدور العظيم فى بيان فضائل "آل الله" والكشف عن مناقبهم ومنزلتهم الرفيعة ، وعلي هذا الضوء يتبيّن أنّ السرّ من وراء كلّ هذه الجهود النبويّة فى الكشف عن مقصود الآية وتحديد مرادها ، وكذلك ما بذله الأئمّة ¥ علي هذا الصعيد ، وأيضاً ما قام به الاُمويّون فى المقابل ومفسّروا البلاط من سعى هائل لصرف الآية عن "آل الله" أو إشراك الآخرين معهم فى هذه الفضيلة علي (١) الإسراء : ٦٠ . ٤٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث العصمة
أقلّ تقدير ، إنّما يكمن فى مفهومها الرفيع ، وما تنطوى عليه من دلالة قاطعة علي طهارة الإمام أمير المؤمنين وعصمته ، ومن ثَمّ عصمة أهل البيت بالضرورة . ولم تكن هذه الآية وحدها فى الميدان ، فبالإضافة إلي آية التطهير والجهود النبويّة الحثيثة التى بذلها رسول الله ½ فى إبلاغها وتطبيقها علي أهل البيت ¥ ، توالت إلي جوارها روايات كثيرة نعت فيها النبىّ علىّ بن أبى طالب بالصدق والطهارة والنقاء والتزام الحقّ واستقامة السلوك وطُهر الفطرة ، ثمّ توّج ذلك كلّه بالإعلان أنّ عليّاً هو عدل القرآن ، ومعيار الحقّ ، والميزان الذى يفرّق بين الحقّ والباطل ، وبين الضلالة والصواب ، وهو فصل الخطاب . وفى ذلك دلالة قاطعة علي أنّ من ينبغى أن يكون الاُسوة والإمام ، والقائد والمنار ، والزعيم والمولي هو علىّ بن أبى طالب لا غير . ثمّ انظروا وتأمّلوا فى قوله ½ : "علىّ مع القرآن ، والقرآن مع علىّ" ، "علىّ مع الحقّ ، والحقّ مع علىّ" ، "علىّ علي الحقّ ; من اتّبعه اتّبع الحقّ ، ومن تركه ترك الحقّ" ، "علىّ مع الحقّ والقرآن ، والحقّ والقرآن مع علىّ" . ماذا يعنى هذا ؟ يعنى أنّ عليّاً ثابت لا يزيغ ، صلبٌ لا تتعثّر به خطاه ، يقف فى أعلي ذري الاستقامة والصلاح ، لا يعرف غير الحقّ والصواب . إنّ عليّاً ليحمل علي جبهته الوضيئة عنواناً رفيعاً اسمه "العصمة" ، ومن ثمّ ستكون الاُمّة فى أمان من نفسها ، وسلامة من دينها وهى تهتدى بهدى علىّ ، وتقتدى به اُسوة ومناراً . لقد توفّر هذا الفصل علي بيان هذه الإشارات تفصيلاً من خلال النصوص الكثيرة التى رصدها(١) . ٤٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث العلم
( ١١ ) يتبوّأ رسول الله ½ المرجعيّة الفكريّة للاُمّة بالإضافة إلي الزعامة السياسيّة كما سلفت الإشارة لذلك ، فالاُمّة تواجه فى معترك حياتها عشرات المعضلات الفكريّة علي الصعيدين الفردى والاجتماعى ; فمن الذى يتولّي تذليل هذه العقبات ؟ ومن الذى يُميط اللثام عمّا يواجهه المجتمع من مشكلات معرفيّة ، ويفسّر للناس آيات القرآن ، ويعلّم الاُمّة أحكام دينها وكلّ ما يمتّ بصلة إلي المرجعيّة العلميّة والفكريّة ؟ ومَن الذى أراد له رسول الله ½ أن يتبوّأ هذا الموقع فى المستقبل بحيث تلوذ به الاُمّة ، وتلجأ إليه بعد رحيل النبىّ ؟ لقد ضمّت المصادر القديمة نصوصاً نبويّة مكثّفة تدلّ بأجمعها علي أنّ النبىّ اختار علىّ بن أبى طالب للمرجعيّة العلميّة والفكريّة من بعده ، منها الحديث النبوى الكريم : "أنا مدينة العلم ، وعلىّ بابها" فعلاوة علي شوق علىّ ¼ إلي العلم ، وتطلّعاته الذاتيّة إلي المعرفة ، وتوقه الشديد للتعلّم ، واستعداده الخاصّ علي هذا الصعيد ، كان رسول الله ½ لا يُخفى حرصه علي إعداد علىّ إعداداً علميّاً خاصّاً ، وزقّهِ العلم زقّاً ، وإشباع روحه بالمعرفة ، والفيض عليه من الحقائق الربّانيّة العُليا . لقد جاء الكلام النبوى الكريم : "أنا مدينة العلم وعلىّ بابها ; فمن أراد المدينة فليأتِ الباب" ليدلّ دلالة قاطعة لا يشوبها أدني لبس ، علي أنّ العلم الصحيح ٤٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث العلم
عند علىّ وحسب لا عند سواه(١) . لقد طلب النبىّ علىّ بن أبى طالب فى اللحظات الأخيرة من حياته ، وراح يسرّ له بينابيع المعرفة ، فقال علىّ بعد ذلك واصفاً الحصيلة التى طلع بها من إسرار النبىّ له : "حدّثنى ألف باب ، يَفتح كلُّ باب ألفَ باب" . وهذه هى الحقيقة ، يدلّ عليها قول رسول الله ½ : "أنا دار الحكمة ، وعلىّ بابها" . ثمّ هل انشقّت الحياة الإنسانيّة عن إنسان غير علىّ يقول : "سلونى قبل أن تفقدونى" ؟ وهل عرفت صفحات التاريخ من ينطق بهذا سوي أمير المؤمنين ؟ لقد أجمع الصحابة علي أعلميّة علىّ بن أبى طالب ، وتركوا للتاريخ شهادة قاطعة تقول : أفضلنا علىّ . ولِمَ لا يكون كذلك والإمام أمير المؤمنين نفسه يقول : "و الله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيمَ نزلت ، وأين نزلت ، وعلي من نزلت ; إنّ ربّى وهب لى قلباً عقولاً ، ولساناً ناطقاً" . وما أسمي كلمات الإمام الحسن ¼ وما أجلّ كلامه وهو يقول بعد شهادة أمير المؤمنين : "لقد فارقكم رجل بالأمس لم يسبقه الأوّلون بعلم ولا يُدركه الآخرون" . إنّ هذا وغيره ـ وهو كثير قد جاء فى مواضع متعددة ـ ليشهد أنّ رسول الله ½ قصد من وراء التركيز علي هذه النقطة ـ التى أقرّ بها الصحابة تبعاً للنبىّ ـ أن يعلن عمليّاً عن المرجع الفكرى للاُمّة مستقبلاً ، ويحدّد للاُمّة بوضوح الينبوع الثرّ الذى ينبغى أن تستمدّ منه علوم الدين(٢) . (١) لمزيد الاطّلاع علي توثيق صيغ الحديث وضبط طرقه وأسانيده ، وما يتّصل به من نقاط مهمّة راجع : نفحات الأزهار : ج ١٠ و١١ و١٢ . إرجاعات
٧ - المجلد العاشر / القسم الحادي عشر : علوم الإمام علي / المدخل
٤٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
( ١٢ ) من بين الأحاديث المهمّة الجديرة بالتأمّل بشأن مستقبل الاُمّة ، هى تلك التى تتحدّث عن عدد خلفاء الرسول ½ . إنّ هذه الأحاديث الوفيرة التى جاءت فى نقول متعدّدة ، وطرق مختلفة وصحيحة(١) ، لتُشير إلي أنّ خلفاء النبىّ اثنا عشر خليفة . تُطالعنا إحدي صيغ الحديث بالنصّ التالى : "لا يزال الدين قائماً حتي تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش"(٢) . وقد جاء فى نصّ آخر بالصيغة التالية : عن جابر بن سمرة قال : كنت مع أبى عند النبىّ ½ فسمعته يقول : "بعدى اثنا عشر خليفة" ، ثمّ أخفي صوته ، فقلت لأبى : ما الذى أخفي صوته ؟ قال : قال : "كلّهم من بنى هاشم"(٣) . وفى نصّ آخر : "يكون من بعدى اثنا عشر أميراً"(٤) . ما الذى قصده رسول الله ½ من هذه الأحاديث ؟ هل تحدّث عن واقع سوف (١) راجع علي سبيل المثال : صحيح مسلم : ٣ / ١٤٥١ ، باب ٣٣ "الناس تبع لقريش والخلافة فى قريش" ، المعجم الكبير : ٢ / ١٩٥ ـ ١٩٩ وص ٢٣٢ ; الخصال : ٤٦٦ ـ ٤٨٠ ، إحقاق الحقّ : ١٣ / ١ ـ ٤٨ ، أهل البيت فى الكتاب والسنة : ٧٣ . ٤٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
يحصل أم رام الحديث عن حقيقة ينبغى أن تكون ؟ هل رام أن يستشرف المستقبل ليشير إلي الذين سيخلفونه فى الواقع التاريخى ، ويتسنّمون هذا الموقع من بعده أم أنّه استند إلي حقيقة تنصّ صراحة أنّ خلفاءه اثنا عشر خليفة ، وأنّ هؤلاء هم الذين ينبغى أن يكونوا خلفاء ، ليس من ورائهم أحد حتي آخر الدهر ؟ لا يبدو أنّ هناك شكّ فى أنّ رسول الله ½ كان بصدد إعلان الخليفة ، وتحديد من يتبوّأ مكانه ويمارس الحاكميّة علي الاُمّة كما يمارسها هو ، ويواصل نهج النبىّ فى الخلافة . بيد أنّ البعض سعي إلي اصطناع مصاديق لهذا الكلام الإلهى الذى نطق به الرسول ½ تتطابق ورغباته(١) ، فذهب إلي أنّ المراد من الاثنى عشر هم الخلفاء الأربعة ، ومعاوية وولده يزيد وهكذا !(٢) وعلي طبق هذا التفسير يكون النبىّ ½ قد نصب هؤلاء خلفاء له ، وأهاب بالاُمّة اتّباعهم وإطاعتهم والتسليم إليهم ! أى طاعة يزيد وعبد الملك بن مروان وأضرابهم ، ³ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ² !(٣) كيف يمكن تصوّر رسول الكرامة والإنسانيّة ، ومبعوث الحريّة والقيم العليا ، وهو يختار لخلافته الظلمة والفسّاق ، ويحثّ الاُمّة علي طاعة المجرمين والفاسدين ؟ !(٤) (١) راجع : الإمامة وأهل البيت : ٢ / ٥٤ ، حيث توفّر علي ذكر هذه المصاديق . ٤٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
لا جدال أنّ من يُذعن لأصل الرواية ـ ولا مفرّ من ذلك ـ يتحتّم عليه التسليم لتفسير الشيعة الذى يذهب إلي أنّ هؤلاء الخلفاء هم علىّ وآل علىّ ¥ ، كما ذكرت ذلك بعض الروايات عن رسول الله ½ ، وأتت علي أسمائهم صراحة ، حيث يمكن أن يُلحظ ما يلى : ١ ـ إنّهم اثنا عشر معروفون ينطبقون ـ فى عددهم وأسمائهم ـ مع الحديث . ٢ ـ إنّ الأئمّة من قريش ; وهم من قريش . ٣ ـ رأينا بعض الروايات تحمل فى ذيلها عبارة : "كلّهم من بنى هاشم" . والأمر كذلك فى علىّ وآل علىّ ¥ ; فهم جميعاً من بنى هاشم ، يؤيّد ذلك الكلام العلوى المنيف الذى يقول فيه أمير المؤمنين ¼ : "إنّ الأئمّة من قريش غُرِسوا فى هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علي سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم"(١) . ٤ ـ إنّهم من أهل بيت رسول الله ½ ، وهذا يتطابق مع ما سبق وقد ذكرناه فى الصفحات السابقة ، كما يتوافق مع نصوص كثيرة ستأتى الإشارة إليها لاحقاً . ٥ ـ كما أنّه يتطابق بدقّة مع ما جاء عن أئمّة أهل البيت ¥ فى تفسير هذه الجملة ـ كما سلفت الإشارة لذلك ـ حيث ذُكرت أسماء هؤلاء الخلفاء الكرام بشكل كامل وتامّ . ٦ ـ علي أساس روايات كثيرة تحدّث رسول الله ½ عن دوام إمامة المهدى ¼ واستمرارها إلي ما قبل القيامة ، والمهدى المنتظر هو الحلقة الأخيرة فى سلسلة الأئمّة الاثنى عشر فى المعتقد الشيعى . من هذه الروايات : ٤٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
واستكمالاً للحديث فى هذا المضمار نعرض فيما يلى عدداً من النقاط الاُخري : ١ ـ يُعدّ حديث "اثنا عشر خليفة" أو "اثنا عشر أميراً" المروى عن جابر بن سمرة ، من الأحاديث المشهورة التى اُخرجت بطرق متعدّدة كما أسلفنا الإشارة إلي ذلك . والذى عليه عقيدة أغلب الذين وثّقوا الحديث ورووه أنّ الرسول ½ أدلي به فى "حجّة البلاغ" ، بيد أنّ عمليّة دراسة طرق الحديث وتحليل صيغه الروائيّة تدلّ بوضوح أنّ رسول الله ½ أدلي بهذا الحديث فى مكانين ، هما : أ : مسجد النبى وفاقاً لرواية مسلم وأحمد بن حنبل ، جاء نصّ جابر بالصيغة التالية : "سمعت (١) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣٦٧ / ٤٠٨٥ ، مسند ابن حنبل : ١ / ١٨٣ / ٦٤٥ ، المصنّف لابن أبى شيبة : ٨ / ٦٧٨ / ١٩٠ . ٤٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
رسول الله ½ يوم الجمعة عشيّة رجم الأسلمى ، يقول : لا يزال الدين"(١) إلي آخر النصّ . المعلوم أنّ ماغر بن مالك الأسلمى المذكور فى النصّ قد تمّ رجمه بالمدينة جزماً(٢) . علاوة علي ذلك ثمّة نصوص اُخري تتحدّث صراحة أنّ الراوى سمع الحديث فى مسجد النبىّ ½ ، كما فى قوله : "جئت مع أبى إلي المسجد والنبىّ يخطب" إلي آخر الحديث(٣) ، حيث يدلّ لفظ "المسجد" فى الرواية علي المسجد النبوى ظاهراً . ب : حجّة البلاغ هذه المجموعة من الأخبار مرويّة عن جابر بن سمرة بن جندب أيضاً ، وقد ذكر فيها أنّه سمع مقالة النبىّ هذه فى ذلك الموسم العظيم(٤) (حجّة البلاغ أو حجّة الوداع) ، وفى الموقف بعرفات(٥) . ٢ ـ إنّ استثمار رسول الله ½ للموسم ، وتوظيفه لاجتماع الاُمّة العظيم فى عرفات ; لكى يعلن هذه الحقيقة ويصدع بها ، لهو أمر خليق بالاعتبار ، وينطوى علي الدروس والعِبَر . فقد حرص النبىّ ½ علي أن يستفيد من هذا الحشد الكبير فى الإعلان عن "حديث الثقلين" ، وذلك فى واحدة من المرّات المتكرّرة التى كان النبىّ قد أعلن فيها هذا الحديث المصيرى علي الاُمّة . (١) صحيح مسلم : ٣ / ١٤٥٣ / ١٠ ، مسند ابن حنبل : ٧ / ٤١٠ / ٢٠٨٦٩ ، مسند أبى يعلي : ٦ / ٤٧٣ / ٧٤٢٩ ; الخصال : ٤٧٣ / ٣٠ . ٥٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
بشكل عامّ عندما نطلّ علي هذه المراسم نجدها شهدت عرض "الثقلين" بوصفهما معاً السبيل إلي هداية الاُمّة ، وفى المشهد ذاته تمّ تحديد مصاديق العترة والإعلان عنها بوضوح ، وفى الذروة الأخيرة من هذا الموسم سجّل المشهد نزول آية "إكمال الدين" وإعلان الولاية ، هذا الإعلان الذى ترافق مع إنذار للنبىّ ½ يفيد أنّ عدم إبلاغه ما اُنزل إليه من ربّه يتساوق مع ضياع الرسالة وعدم إبلاغها بالمرّة . بعبارة اُخري : كأنّ المشهد يُخبرنا بوقائعه وما حصل فيه ، أنّ رسول الله ½ كان فى الموسم هذا بشأن أن يُلقى علي الاُمّة نظرة مستأنفة فى جميع محتويات الرسالة ، ويستعيد اُمور هذا الدين ، وقد راح فى الأيّام الأخيرة من سفره يركّز علي الحجّ والولاية أكثر . لننظر إلي الإمام الباقر ¼ وهو يقول : "حجّ رسول الله . . ."(١) . ٣ ـ تنطوى بعض صيغ الحديث ونقوله علي نقطة تستثير السؤال وتستحق التأمّل ; فقد انطوت بعض نقول الحديث علي جملة : "كلّهم من قريش" ، وهى تدلّ علي أنّ جابراً لم يسمع هذه الجملة ، فسأل عنها أباه ، فذكر له أنّ النبىّ ½ قال فى تتمّة الحديث : "كلّهم من قريش" أو "كلّهم من بنى هاشم" . هذه الصيغ علي ثلاثة أضرب ، هى : أ : إنّ جابراً قال فقط : "ثمّ قال كلمة لم أفهمها"(٢) . أو : "ثمّ تكلّم بكلمة خفيت علىّ"(٣) من دون إيضاح علّة خفاء الصوت ، (١) راجع : واقعة الغدير . ٥١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
وسبب عدم السماع . ب : وفى بعضها عزي جابر عدم سماعه تتمّة الحديث إلي النبىّ ½ قائلاً : "ثمّ خفّض صوته ، فلم أدرِ ما يقول"(١) . أو : "ثمّ همس رسول الله ½ بكلمة لم أسمعها ، فقلت لأبى : ما الكلمة التى همس بها النبىّ ½ ؟"(٢) . أو : "ثمّ أخفي صوته ، فقلت لأبى : قد سمعت رسول الله ½ يقول : يكون بعدى اثنا عشر أميراً ، فما الذى أخفي صوته ؟ قال : كلّهم من قريش"(٣) . ج : ذكر فى بعضها أنّ سبب عدم سماع كلام النبىّ كان لغط الناس واهتياجهم ، حيث ضاع كلام رسول الله ½ ولم يعد يُسمع وسط ضجيج الحاضرين وصراخهم . والذى يبعث علي الدهشة والأسي أنّ النبىّ ½ فى الوقت الذى كان يتحدّث فيه إلي الناس ، نجد الذين يستمعون إليه يرفعون أصواتهم خلافاً لصريح الأمر الإلهى : ³ لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ ² (٤) ، وقد علت أصواتهم وزاد اهتياجهم حتي لم يعد يتميّز كلام النبىّ وما يقوله فى هذا الضجيج ، بحيث لم يكن بمقدور الراوى ـ جابر ـ أن يتابع بقيّة الكلام ، فلاذ بالآخرين ، فذكروا له أنّ النبىّ ½ قال : "كلّهم من قريش" . لقد جاءت صيغ متعدّدة تدلّ علي هذا المعني ، منها : (١) المعجم الكبير : ٢ / ١٩٧ / ١٧٩٩ . ٥٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
وبتأمّل ما أوردناه يهتدى الباحث إلي نقاط ، لا يخلو ذكرها من فائدة : ١ ـ تحظي قضيّة الخلافة ومستقبل الاُمّة ومصيرها بعد النبىّ ½ بحسّاسيّة فائقة ، بحيث كان النبىّ عندما يصل إلي النقطة الجوهريّة ويبلغ لبّ المسألة يخفض صوته حتي لكأنّه يهمس ، وفى موقع آخر كان الناس يبادرون إلي اللغط وإثارة الضوضاء حال سماعهم الكلام النبوى ، يُظهرون بذلك إباءهم له . ٢ ـ تذكر بعض الروايات فى تصوير الحالة "خفض الصوت" ، وبعضها الآخر ذكرت "اللغط والضجيج" ، حيث يرتبط كلّ وصف من هذه الأوصاف بمورد من موارد النقل . فجابر يذكر أنّه لم يسمع الكلام النبوى فى المسجد لأنّ النبىّ ½ خفض صوته ، أمّا فى الحديث الذى جاء فى مسند أحمد بن حنبل ، فقد ذكر جابر أنّه لم يسمع الكلام للغط القوم وهياجهم . والظاهر أنّ خفض النبىّ صوته كان فى المسجد النبوى فى المدينة ، ولغط الناس وهياجهم كان فى حجّة الوداع ، كما أشارت لذلك الروايات المتقدّمة . (١) مسند ابن حنبل : ٧ / ٤٣٠ / ٢٠٩٩١ ، المعجم الكبير : ٢ / ١٩٦ / ١٧٩٥ . ٥٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث إثنا عشر خليفة
٣ ـ إنّه لأمر حرىّ بالانتباه ما جاء فى أحد النقول ، من أنَّ النبىّ قال عندما أخفي صوته : "كلّهم من بنى هاشم" . والحقّ ، لا يستبعد أن تكون تتمّة الكلام ـ علي وجه الحقيقة ـ هى جملة : "كلّهم من بنى هاشم" ، التى أثارت الهياج ، وعلا كلام كثيرين عند سماعها ، فلم يذعنوا لها ، وأبوا قبولها ، والنقطة التى تزيد من قوّة هذا الاستنتاج هى مشهد السقيفة وما جري فى ذلك اليوم من حوادث ، ففى صراع يوم السقيفة لم يستند أىّ من أطراف اللعبة علي مثل هذا الكلام ، ولم يذكر أحد أنّه سمع النبىّ ، يقول : "كلّهم من قريش" برغم أنّ هذا الكلام كان يمكن أن يكون مؤثّراً فى حسم الموقف . لهذا كلّه ، يمكن القول أنّ تتمّة الحديث النبوى كانت : "كلّهم من بنى هاشم" لا غير ، ثمّ بمرور الوقت وعندما حانت لحظة تدوين الحديث قدّروا أنّ من "المصلحة" استبدال "كلّهم من بنى هاشم" بتعبير "كلّهم من قريش" ! مهما يكن الأمر ، ينطوى هذا الحديث بنقوله الكثيرة وطرقه المتعدّدة التى أيّدها محدّثو أهل السنّة أيضاً ; ينطوى علي رسالة واحدة لا غير هى الإعلان عن ولاية علىّ بن أبى طالب وأولاده ، والتصريح بخلافة علىّ ¼ بعد النبىّ ½ بلا فصل . ومن ثمّ فهو دليل آخر علي السياسة النبويّة الراسخة فى تحديد مستقبل الحكم وقيادة الاُمّة من بعده . |