٥٤ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث السفينة
( ١٣ ) والنبىّ ½ يعيش بين الاُمّة كان يُمسك بجميع الاُمور ، ويُشرف علي الشؤون كافّة ، ولم يكن المجتمع الإسلامى علي عهد النبىّ قد اتّسع بعدُ ، بيد أنّ هذا المجتمع الفتىّ كان يواجه مصاعب كثيرة علي الصعيدين الداخلى والخارجى ، ويعانى عدداً من الانحرافات ; فتيّار النفاق ـ مثلاً ـ كانت بذوره الاُولي قد نشأت فى تضاعيف ذلك المجتمع ، وهكذا لاحت أيضاً إرهاصات ارتداد البعض انطلاقاً من المجتمع ذاته . لقد كان الرسول القائد ينظر ليوم تغيب فيه هذه الشعلة المتوهّجة ، ويفقد المجتمع وجود النبىّ ، فيما ينبغى للاُمّة أن تشقّ طريقها من بعده ، وتواصل الدرب . إنّ كلّ ما توفّرنا علي ذكره يُشير إلي التخطيط لمستقبل الاُمّة وتدبير غدها الآتى ; هذا الغد الذى سينشقّ عن أجواء تتفجّر جوانبها بالفتنة ، وتضطرم بالعواصف العاتية وأمواج الضلال . علي ضوء هذه الخلفيّة انطلقت كلمات رسول الله ½ تُدلّ الاُمّة علي الملاذ الآمِن الذى تعتصم به من الفتن والضلال فيما اشتهر بــ "حديث السفينة" ، الذى جاء فى أحد نصوصه : "ألا إنّ مثل أهل بيتى فيكم مثل سفينة نوح ; من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك" . ما أروعه من تشبيه دالّ وموقظ ، يبعث علي التيقّظ والحذر ! فرسول الله ½ يتطلّع صوب المستقبل من وراء حُجب الغيب ، فيبصره مليئاً بالفتن والضلالات التى يشبّهها بالأمواج المتلاطمة العاتية ، أمواج مهولة تُغرق ٥٥ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث السفينة
مَن يعرض لها ، وتدفعه نحو قاع سحيق ، وما أكثر من يتسلّق الأوهام حذر هذه الأمواج ، بيد أنّها سرعان ما تفترسه وتأتى عليه فى ملاذه الواهن ، فيُدركه الغرق ويصير هباءً ضائعاً . فإذاً ينبغى أن تكون الاُمّة علي حذر ، وأن تُدرك أنّ طريق النجاة الوحيد يكمن فى ركوب "السفينة" ، واللوذ بأهل البيت ¥ ، والاعتصام بحجزتهم ، والتمسّك بتعاليمهم وسنّتهم . ليس هناك شكّ فى دلالة الحديث علي وجوب إطاعة أهل البيت ¥ وإلاّ هل لعاقل تأخذه أمواج عاتية ، فيُشرف حتماً علي الغرق والضياع ، ثمّ يتردّد فى النجاة ، ولا يركب سفينة الإنقاذ ! من جهة اُخري إنّ التطلّع صوب هذه السفينة يستتبع الهداية بالضرورة والنجاة من أمواج الفتن والضلالات ، فالسفينة منجية ، وإذاً فهؤلاء الكرام معصومون منزّهون عن الزلل والخطأ(١) . ٥٦ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الثقلين
( ١٤ ) من بين الخطوات التى تدبّرها الرسول القائد لمستقبل الاُمّة ، للحؤول دون تفشّى الضلالة ، وشيوع الجهل فى وسطها ، وانحدارها إلي هوّة الحيرة والضياع ، هى جهوده التى بذلها لتعيين المرجعيّة الفكريّة ، وتحديد مسار ثابت للحركة الفكريّة ، وبيان كيفيّة تفسير القرآن والرسالة والمصدر الذى يستمدّ منه ذلك . هذه الحقيقة ربّما عبّرت عن نفسها بأنصع وجه فى "حديث الثقلين" . لقد تضوّعت مواطن كثيرة بشذي الحديث ; حيث صدع به النبىّ ½ مراراً بمحتويً واحد وصيغ بيانيّة متعدّدة ، وفى مواضع مختلفة ; فى عرفة ، ومسجد الخيف ، وفى غدير خمّ ، كما أتي علي ذكره فى آخر كلام له وهو علي مشارف الرحيل وقد ثقل عليه المرض ، فى الحجرة الشريفة ، وغير ذلك . وبالإضافة إلي أهل البيت ¥ فقد روي الحديث عدد كبير من الصحابة ، كما ذهب إلي صحّته كثير من التابعين والعلماء(١) . إنّ للحديث صيغاً متعدّدة ، جاء فى إحداها : "إنّى تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدى ، أحدهما أعظم من الآخر ; كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلي الأرض ، وعترتى أهل بيتى ، ولن يتفرّقا حتي يردا علىّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونى فيهما"(٢) .
(١) راجع : نفحات الأزهار : ٢ / ٩٠ ، وأهل البيت فى
الكتاب والسنّة : ١٣٥ . ٥٧ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الثقلين
كلام عظيم ، ومنقبة شاهقة ، وفضيلة سامية لا نظير لها ، وهداية تبعث علي السعادة ، وتوجيه يعصم من الضلالة والردي . النقطة الأهمّ التى يحويها هذا الكلام النبوى العظيم ، والحقيقة العظمي التى يجهر بها دون لبس ، هى مرجعيّة أهل البيت (ع) ، والحثّ علي وجوب اتّباعهم والائتمام بهم فى الأقوال والأفعال ، وقد صرّح بهذه الحقيقة الرفيعة عدد كبير من العلماء ، منهم سعد الدين مسعود بن عمر التفتازانى ; أحد كبار متكلّمى أهل السنّة ، حين قال : "إنّه ½ قرنهم بكتاب الله فى كون التمسّك بهما منقذاً من الضلالة ، ولا معني للتمسّك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم والهداية ، فكذا فى العترة"(١) .علي صعيد آخر تتمثّل أهمّ مهامّ النبىّ ½ ومسؤوليّاته بالهداية وإزالة الضلالة . هذا من جهة ، ومن جهة اُخري ; فإنّ ما يأتى فى طليعة واجبات الاُمّة وأكثرها بداهة ، هو ضرورة تمسّكها بكلّ ما يبعث علي الهداية ، ويعصم من الضلال . وهذا ما فعله رسول الله ½ تماماً ، وهو يضع المسلمين أمام هذا الواجب ، فى قوله : "ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا" ; وعندئذ هل يسع إنسان أن يتردّد فى وجوب اتّباع "العترة" الهادية ، والتسليم إليها وهى العاصمة عن الضلال ؟ ! ممّا يدلّ عليه الحديث أيضاً أنّ التمسّك بهذين الثقلين الكريمين يكفى لبلاغ المقصد الأسني وتحصيل الهداية ، وأن ليس وراءهما إلاّ الضلال ³ فمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ ٥٨ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الثقلين
إِلاَّ الضَّلالُ ² (١) .من جهة اُخري يسجّل حديث الثقلين "عصمة" العترة من دون لبس وغموض ; فمن زاوية عدّ رسول الله ½ التمسّك بها واجباً ضروريّاً من دون أىّ قيد أو شرط ، فهل من المنطقىّ أو المعقول أن نتصوّر النبىّ يدفع الاُمّة إلي التمسَّك بمرجعيّة أشخاص ، ويحثّها علي التمسّك بتعاليمها دون قيد أو شرط ، وأشخاص هذه المرجعيّة يعيشون الضلال ؟ ثمّ إنّ هذه العترة هى عدل قرآن ³ لاَّ يَأْتِيهِ الْباطِـلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ² (٢) ، فهكذا العترة أيضاً . وأخيراً دلّ الحديث علي أنّ التمسّك بالعترة هو سدّ يحول دون الضلالة ، فإذا ما كان الضلال سائغاً بحقّ هذه المرجعيّة فهل يمكنها أن تكون عاصمة عن الضلال ؟ ! فالعترة إذاً معصومة جزماً بدلالات الحديث .
(١) يونس : ٣٢ . ٥٩ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير
( ١٥ ) ذكرنا أنّ رسول الله ½ أكّد منذ الأيّام الاُولي التى صدع فيها بالرسالة ، علي الإمامة ومستقبل الاُمّة من بعده ، وشهدت له المواطن جميعاً ، وهو يعلن "الحقّ" ، ويحدّد أمام الجميع الإمامة من بعده بأعلي خصائصها ، وبمزاياها المتفوّقة ، ولم يتوانَ عن ذلك لحظة ، ولم يُضِع فرصة إلاّ وأفاد منها فى إعلان هذا "الحقّ" والإجهار به . وفى الحجّة الأخيرة التى اشتهرت بــ "حجّة الوداع" ، بلغت الجهود النبويّة ذروتها ، وقد جاءه أمر السماء بإبلاغ الولاية ، لتكتسب هذه الحجّة عنوانها الدالّ ، وهى تسمّي "حجّة البلاغ"(١) . لنشاهد المشهد عن كثب ونتأمّل كيف تكوّنت وقائعه الاُولي . فهذا رسول الله ½ قد قصد التوجّه للحجّ فى السنة العاشرة من الهجرة ، وقد نادي منادى رسول الله ½ يُعلم الناس بذلك ، فاجتمع من المسلمين جمع غفير قاصداً مكّة ليلتحق بالنبىّ ½ ، ويتعلّم منه مناسك حجّه . حجّ رسول الله ½ بالمسلمين ، ثمّ قفل عائداً صوب المدينة . عندما حلَّ اليوم الثامن عشر من ذى الحجّة كانت قوافل الحجيج تأخذ طريقها إلي مضاربها ومواضع سكناها ; فمنها ما كان يتقدّم علي النبىّ ، ومنها ما كان يتأخّر عنه ، بيد أنّها لم تفترق بعدُ ، إذ ما يزال يجمعها طريق واحد . حلّت قافلة النبىّ ½ بموضع يقال له "غدير خمّ" فى وادى الجحفة ، وهو مفترق تتشعّب فيه طرق أهل المدينة ٦٠ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير
والمصريّين والعراقيّين . الشمس فى كبد السماء ترسل بأشعّتها اللاهبة ، وتدفع بحممها صوب الأرض ، وإذا بالوحى يغشي النبىّ ويأتيه أمر السماء ، فيأمر أن يجتمع الناس فى المكان المذكور . ينادى منادى رسول الله ½ بردّ من تقدّم من القوم ، وبحبس من تأخّر ; ليجتمع المسلمون علي سواء فى موقف واحد ، ولا أحد يدرى ما الخبر . منتصف النهار فى يوم صائف شديد القيظ ، حتي أنّ الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدّة الحرّ ، فيما يلوذ آخرون بظلال المراكب والمتاع . راحت الجموع المحتشدة تتحلّق أنظارها بنبيّها الكريم وهو يرتقى موضعاً صنعوه له من الرحال وأقتاب الإبل . بدأ النبىّ خطبته ، فراحت الكلمات تخرج من فؤاده وفمه صادعة رائعة ، حمد الله وأثني عليه ، ثمّ ذكر للجمع المحتشد أنّ ساعة الرحيل قد أزفت ، وقد أوشك أن يُدعي فيُجيب ، علي هذا مضت سنّة البشر قبله من نبيّين وغير نبيّين . أما وقد أوشك علي الرحيل ، فقد طلب من الحاضرين أن يشهدوا له بأداء الرسالة ، فهبّت الأصوات تُجيب النبىّ علي نسق واحد : "نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ; فجزاك الله خيراً" . ما لهذا جمَعَهم فى هذه الظهيرة القائضة ، بل هو يعدّهم لنباً مُرتقب ، ويُهيّئ النفوس لبلاغ خطير هذا أوانه ، تحدّث إليهم مرّات عن صدقه فى "البلاغ" ، كما تكلّم عن "الثقلين" وأوصي بهما ، ثمّ انعطف يحدّثهم عن موقعه الشاهق العلىّ فى الاُمّة ، وطلب منهم أن يشهدوا بأولويّته علي أنفسهم ، حتي إذا ما شهدوا له بصوت واحد ، أخذ بعضد علىّ بن أبى طالب ورفعه ، فزاد من جلال المشهد ٦١ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير
وهيبته ، ثمّ راح ينادى بصوت عالى الصدح قوىّ الرنين : "فمن كنت مولاه فعلىّ مولاه" . قال هذه الجملة ، ثمّ كرّرها ثلاثاً ، وطفق يدعو لمن يوالى عليّاً ، ولمن ينصر عليّاً ، ولمن يكون إلي جوار علىّ . تبلّج المشهد عن نداء نبوى أعلي فيه رسولُ الله ½ ولاية علىّ وخلافته ، علي مرآي من عشرات الاُلوف ، وقد اجتمعوا للحجّ من جميع أقاليم القبلة ، وصدع بــ "حقّ الخلافة" و"خلافة الحقّ" . فهل ثَمّ أحد تردّد فى مدلول السلوك النبوى ، وأنّ رسول الله ½ نصب بهذه الكلمات علىّ بن أبى طالب وليّاً وإماماً ؟ أبداً ، لم يسجّل المشهد التاريخى يومئذ من استراب بهذه الحقيقة أو شكّ فيها ، حتي اُولئك النفر الذين أخطؤوا حظّهم ، وعتت بهم أنفسهم ، فأنفوا عن الانقياد ; حتي هؤلاء لم يستريبوا فى محتوي الرسالة النبويّة ، ولم يشكّوا بدلالتها ، إنّما انكفأت بهم البصيرة ، فراحوا يتساءلون عن منشأ هذه المبادرة النبويّة ، وفيما إذا كانت من عند نفس النبىّ أم وحياً نازلاً من السماء . انجلي المشهد عن علىّ بن أبى طالب وهو متوّج بالولاية والإمارة ، فانثال عليه كثيرون يهنّئونه من دون أن تلوح فى اُفق ذلك العصر أدني شائبة تؤثّر فى نصاعة هذه الحقيقة أو تشكّك فيها ، فهذا هو عمر بن الخطّاب نهض من بين الصفوف المهنّئة ، وقد خاطب الإمام أمير المؤمنين ¼ بقوله : "هنيئاً لك يابن أبى طالب ! أصبحت اليوم ولىّ كلّ مؤمن"(١) . ٦٢ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
سند الحديث
بيد أنّ الأمر لم يمضِ إلي مداه وغايته علي هذه الشاكلة ; إذ سرعان ما حصل الانقلاب بعد رسول الله ½ ، وتغيّر الواقع ، وراح البعض يقلب الاُمور وهو يسعي أن يُلبس رداء الخلافة غير أهله . لكن هيهات ! حيث لم يشقّ الشكّ طريقه إلي هذه الفضائل أبداً ، ولم ينفذ الظلام إلي هذا النور المتبلّج ، فراح القوم يبحثون عن ذرائع اُخري فما الذى فعلوه ؟ لقد سَعوا بعد مدّة أن يشكّكوا من جهة فى دلالة هذا الحديث الشريف علي "الإمامة والولاية" ، ويثيروا الشبهات من جهة ثانية حول سنده . لقد توفّرنا علي إيراد نصوص كثيرة فى المتن ، ونودّ الآن أن نسلّط الضوء علي بعض الحقائق الكامنة فى الحديث من خلال دراسة وتحليل محتواه وسنده ودلالته ، وذلك فى إطار النصوص التى مرّت ومعلومات اُخري . سنمضى مع هذه الجولة التحليليّة من خلال العناوين التالية : ١ ـ سند الحديث حديث الغدير من أبرز الأحاديث النبويّة وأكثرها شهرة ، صرّح بصحّته بل بتواتره عدد كبير من المحدّثين والعلماء(١) . علي سبيل المثال : نقل ابن كثير عن الذهبى : "و صدر الحديث (من كنت مولاه فعلىّ مولاه) متواتر ، أتيقّن أنّ رسول الله ½ قاله"(٢) . وقال الذهبى فى رسالته : حديث "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" ممّا تواتر ، وأفاد القطع بأنّ الرسول ½ قاله ، رواه الجمّ الغفير والعدد الكثير من طرق
(١) راجع : نفحات الأزهار : ٦ / ٣٧٧ . ٦٣ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
سند الحديث
صحيحة ، وحسنة ، وضعيفة ، ومطّرحة ، وأنا أسوقها : . . . (١) . وقد أحصي العلاّمة الأمينى مائة وعشرة من أعاظم الصحابة رووا الحديث ، ثمّ ذكر فى نهاية الجولة أنّ من فاته منهم أكثر من ذلك بكثير(٢) . أمّا المحقّق الراحل السيّد عبد العزيز الطباطبائى § فقد ذكر فى هامش علي كلام صاحب الغدير ، أنّ هناك عدداً آخر من الصحابة رووا الحديث ، قد استوفاهم فى كتابه "علي ضفاف الغدير"(٣) . ثمَّ فى موسوعة "الغدير" فهرس كبير تقصّي رواة حديث الغدير من التابعين . أمّا العالم الغيور السيّد حامد حسين الهندى الذى أمضي عمره دفاعاً عن الولاية وحريم التشيّع بمثابرة عجيبة ومن دون تعب أو كلل ، فقد خصّص جزءاً كبيراً من موسوعته الخالدة "عبقات الأنوار" لحديث الغدير ، حيث كشف فيه عن أسانيد الحديث تفصيلاً ، وضبط طرقه ورواته(٤) ، ثمّ استوفي الكلام فى نقد من ذهب إلي عدم تواتر الحديث ، كاشفاً خطل هذه الدعوي وعدم صوابها بأدلّة دامغة وافية(٥) . علي ضوء هذه المعطيات يبدو أنّ الكلام عن سند الحديث وصحّته هو من فضول الكلام ، وممّا لا جدوي من ورائه . لذلك كلّه سنكتفى بشهادات عدد من
(١) رسالة طرق حديث "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" للذهبى :
١١ . ٦٤ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
سند الحديث
المحدّثين ، قبل أن نترك هذه النقطة إلي بُعد آخر من أبعاد البحث : ذكر الحاكم النيسابورى الحديث فى موضع من "المستدرك علي الصحيحين" ، ثمّ كتب بعد ذلك : "هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يُخرجاه"(١) . كما قال فى موضع آخر بعد نقل الحديث : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه"(٢) . أمّا الترمذى فقد ذكر بعد أن نقل الحديث فى "السنن" : "هذا حديث حسن صحيح"(٣) . وعند ترجمة الذهبى لابن جرير الطبرى ، كتب : "لمّا بلغه ـ ابن جرير ـ أنّ ابن أبى داود تكلّم فى حديث غدير خمّ ، عمل كتاب الفضائل ، وتكلّم علي تصحيح الحديث . قلت : رأيت مجلّداً من طرق الحديث لابن جرير ، فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق"(٤) . وكتب ابن حجر : "و أمّا حديث : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، فقد أخرجه الترمذى والنسائى ، وهو كثير الطرق جدّاً ، وقد استوعبها ابن عقدة فى كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح حسان"(٥) .
(١) المستدرك علي الصحيحين : ٣ / ١١٨ / ٤٥٧٦ . ٦٥ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
دلالة الحديث
أمّا كتاب ابن عقدة الموسوم بــ "حديث الولاية" فقد كان متداولاً بين العلماء حتي القرن الهجرى العاشر تقريباً ، وعنه كتب السيّد ابن طاووس يقول : "و قد روى فيه نصّ النبىّ صلوات الله عليه علي مولانا علىّ ¼ بالولاية من مائة وخمس طرق"(١) (٢) . ممّن أتي علي نقل الحديث أيضاً ابن عساكر ; حيث ذكره فى مواضع عدّة من مصنّفه العظيم ، ويكفيك أنّه ذكر له عشرات الطرق فى موضع واحد فقط(٣) . وعلي النهج ذاته مضي عدد كبير من المحدّثين والمفسّرين والعلماء . أ فبعد هذا كلّه ، يجوز الشكّ فى صدور الحديث أو فى طرقه ؟ ! إنّ من يفعل هذا إنّما ينزلق إليه عن استكبار وعتوّ ورغبة فى مناهضة الحقّ الصراح ، لا لشىء آخر . ٢ ـ دلالة الحديث يظهر ممّا ذكرناه فى بداية البحث وما سنعمل تفصيله أكثر عبر نصوص جمّة ، أنّ أحداً لم يكن يشكّ أو يناقش فى أنّ مدلول جملة : "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" إنّما كان يُشير إلي الرئاسة وتولّى الأمر ، وإلي الإمامة والزعامة ، علي هذا مضت سُنّة السلف ومن عاصر الحديث ، دون أن يفهم أحد ما سوي ذلك . ولا جدال أنّ للفظ "المولي" فى اللغة معانى أوسع من ذلك(٤) ، لكن ليس ثمَّ شىء من
(١) الإقبال : ٢ / ٢٤٠ . ٦٦ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
دلالة الحديث
تلك المعانى يمكن أن يكون هو المراد ، إنّما المقصود بمدلول الحديث هو الذى ذكرناه ، وفهمه الجيل الأوّل .
"المولي" فى الأدب العربى : إنّ تفحّص النصوص الأدبيّة القديمة ، ودراسة متون اللغة والتفسير ، ليدلّ دون ريب أنّ إحدي المعانى الواضحة لــ "المولي" هى الرئاسة والأولي بالتصرّف فى اُمور "المولّي عليه" ، وهى بمعني الزعامة والولاية . وفيما يلى نستعرض بعض النصوص والشواهد اللغويّة والتفسيريّة الدالّة علي ذلك : كتب أبو عبيدة معمر بن المثنّي البصرى فى تفسير الآية(١٥) من سورة الحديد ، عند قوله : ³ هِيَ مَوْلاكُمْ ² : "أى : أولي بكم"(١) . ثمّ شيّد تفسيره وصوّبه علي أساس بيت من الشعر الجاهلى استشهد به ، وهو :
لقد قصد شرّاح "المعلّقات السبع" علي أخذ المولي فى بيت لبيد المذكور بمعني "الأولي" ، وعلي هذا مضوا فى شرح الشعر(٢) . كتب المفسّر والنسّابة المعروف محمّد بن السائب الكلبى ، فى تفسير الآية (٥١) من سورة التوبة : ³ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ² ما نصّه : "أولي بنا من أنفسنا فى الموت والحياة"(٣) . (١)
مجاز القرآن : ٢ / ٢٥٤ .
٦٧ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
دلالة الحديث
وكتب الأديب والمفسّر الكوفى المشهور أبو زكريّا يحيي بن زياد بن عبد الله المعروف بالفرّاء ، فى تفسير الآية(١٥) من سورة الحديد ، ما نصّه : " ³ هِيَ مَوْلاكُمْ ² : أى أولي بكم"(١) . وإلي هذا ذهب أيضاً أبو الحسن الأخفش ، وأبو إسحاق الزجّاج ، ومحمّد بن القاسم الأنبارى وآخرون(٢) . ذكرنا أيضاً أنّ مجىء مولي بمعني المتولّى والقيّم علي الاُمور هو كذلك من بين أجلي استعمالات هذا اللفظ ، وقد صرّح به كثير منهم : أبو العبّاس محمّد بن يزيد المعروف بالمبرّد ، فى تفسير الآية (١١) من سورة محمّد : ³ ذَٰلِك َ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَي الَّذِينَ آمَنُوا ² ، حيث كتب : "و الولّى والمولي معناهما سواء ، وهو الحقيق بخلقه المتولّى لاُمورهم"(٣) . كما جاء عن الفرّاء ، قوله : "الولىّ والمولي فى كلام العرب واحد"(٤) . كتب المفسّر والأديب والباحث القرآنى المعروف فى القرن الهجرى الرابع الراغب الإصفهانى ، ما نصّه : "و الولاية تولّى الأمر ، والولىّ والمولي يستعملان فى ذلك ، كلّ واحد منهما يقال فى معني الفاعل أى المُوالى ، وفى معني المفعول أى المُوالي"(٥) . كتب المفسّر والأديب المعروف فى القرن الهجرى الخامس أبو الحسن علىّ (١)
معانى القرآن : ٣ / ١٢٤ ، تفسير الفخر الرازى : ٢٩ / ٢٢٨
. ٦٨ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
دلالة الحديث
بن أحمد الواحدى النيسابورى ، فى تفسير الآية(٦٢) من سورة الأنعام : ³ ثُمَّ رُدُّوا إِلَي اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ² ما نصّه : "الذى يتولّي اُمورهم"(١) . فى الواقع صرّح بهذه الحقيقة علماء كثيرون نذكر من بينهم أيضاً المفسّر المعتزلى الكبير جار الله الزمخشرى ، الذى كتب فى تفسير الآية(٢٨٦) من سورة البقرة : ³ أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا ² ما نصّه : "سيّدنا ونحن عبيدك ، أو ناصرنا أو متولّى اُمورنا"(٢) . أمّا ابن الأثير فقد كتب فى مصنّفه القيّم "النهاية" الذى تناول فيه غريب الحديث النبوى وألفاظه الصعبة ، ما نصّه فى معني "المولي" : "قد تكرّر ذكر المولي فى الحديث ، وهو اسم يقع علي جماعة كثيرة . . . وكلّ من وَلىَ أمراً أو قام به فهو مولاه ووليّه . . . ومنه الحديث "أيّما امرأة نُكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل" ، وفى رواية "وليّها" أى متولّى أمرها(٣) . علي هذا الضوء يتّضح أنّ "الأولويّة فى الاُمور" ، و"تولّى الاُمور" و"السيادة والرئاسة والزعامة" هى حقائق ثابتة ومعروفة فى معني المولي ، كما أنّ تساوى معني "المولي" مع "الولىّ" هى أيضاً حقيقة أكّد عليها العلماء والمفسّرون كما مرّت الإشارة لذلك(٤) . (١)
الوسيط فى تفسير القرآن المجيد : ٢ / ٢٨١ .
٦٩ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
دلالة الحديث
وبذلك نحن نعتقد ـ كما يتّفق معنا فى ذلك أيضاً المنصفون وأتباع الحقّ من جميع الفرق والمذاهب(١) ـ انّ ما قصده رسول الله ½ فى ذلك المشهد العظيم الخالد ، من خلال هذه الجملة المصيريّة الخطيرة ، هو الإعلان عن "ولاية" علىّ بن أبى طالب و"إمامته" و"زعامته" وليس أىّ شىء آخر . لقد اُعدّ المشهد وتمّت تهيئة ذلك الحشد العظيم لغرض واحد فقط ، هو إعلان الولاية العلويّة للمرّة الأخيرة علي مرآي الجميع ، هو إعلان أخير لكن احتشدت فيه كلّ عناصر التأثير والجاذبية لكى يستعصى علي النسيان ويستوطن وعى الجميع وذاكرتهم ، حتي إذا ما أوشكت ساعة الرحيل ومضي النبىّ إلي ربّه ; لا يقول قائل : لم أدرِ ما الخبر ؟ أو لم أكن أعلم بالأمر ولم أسمع به ! لهذا كلّه حرص النبىّ ½ علي أن يأخذ من القوم العهد والميثاق ، وأقرّهم مرّات علي ما أبلغهم به ، حتي إذا أقرّوا له ، عاد يخاطب الجمع : "ألا فليبلّغ الشاهد الغائب" . أمّا الآن فقد آن لنا أن ندرس ملازمات قلب هذا المعني ; فلو قلنا إنّ مدلول هذا الحديث النبوى لم يكن يعنى الولاية وقيادة الاُمّة فى المستقبل ، فما هى اللوازم التى تترتّب علي هذا النمط من التفسير ؟ هل تري العقل يذعن للمشهد بمثل هذ التفسير ؟ ثمّ ننعطف إلي تحليل الواقعة ودراسة مكوّناتها وتأمّل الكيفيّة التى انبثق علي أساسها المشهد ; لنخرج من حصيلة ذلك كلّه إلي أنّ الحقيقة تكمن فيما ذكرناه أثناء التحليل الاصطلاحى واللغوى لذلك الجزء من الحديث ٧٠ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
قرائن دلالة حديث الغدير علي الخلافة
النبوى وحسب ، وليس ثَمَّ شىء أو أشياء وراء ذلك . والله من وراء القصد .
قرائن دلالة حديث الغدير علي الخلافة أ : القرائن العقليّة ١ ـ الحصيلة التى تجمّعت بين أيدينا حتي الآن لا تدع ـ باعتقادنا ـ مجالاً للشكّ فى أنّ رسول الله ½ قد عيّن فى ذلك المشهد المهيب قائد المستقبل ، وحدّد للاُمّة الإسلاميّة الإمام المرتقب . وما يمكن أن نضيفه الآن ، أنّ من يعتقد أنّ رسول الله ½ لم يكن قد صدع بالولاية فى ذلك الجمع العظيم ، ولم يكن قد أعلن الخلافة عبر ذلك الخطاب الذى تفجّر حماساً وتركيزاً علي هذه النقطة ، ومن ثَمّ فإنّ من يذهب إلي أنّ النبىّ قد اختار موقف الصمت إزاء مستقبل الاُمّة وغد الرسالة ، لا يسعه أن يدرك مِن الذى ذكرناه دلالته علي المستقبل ، وسيكون عاجزاً عن أن يفهم منه تعييناً للإمامة التى تتبوّأ القيادة بعد النبىّ . تماشياً مع قناعة هذا النظر ينبغى أنّ نفترض أنّ رسول الله ½ لم يكن قد فكّر فى مستقبل الرسالة ، ولم يرسم لغد الاُمّة بعده مشروعاً محدّداً واضح المعالم والأركان ، ولم يحدّد موقع الإمامة بعد غيابه ، بل ترك الاُمّة كقطيع دون راع ، وكهباء ضائع فى خلاء ، ومن ثمَّ فهو لم يجهر بالحقيقة الناصعة علي هذا الصعيد ولم يعلنها بلاغاً صادعاً تتناقله العصور والأجيال ! هذا مع أنّنا رأينا فى مطلع البحث أنّ الفرضيّات الاُخري حيال مستقبل الاُمّة ، غير نظريّة النصّ علي القيادة ، تتّسم بأجمعها بالسقم والاضطراب وعدم الصواب . والسؤال مجدّداً : أ يقبل العقل ـ أىّ عقل كان ـ هذه السلبيّة واللامبالاة علي ٧١ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
أ : القرائن العقليّة
هذا "الطبيب الدوّار"(١) ؟ وهل يصدق هذا علي نبىّ لبث شامخاً ناهضاً متفانياً لم يتلعثم عزمه قط ، ولم يكفّ عن التفكير فى مستقبل الاُمّة والرسالة لحظة واحدة ؟ حاشا رسول الله أن يفعل ذلك ، وجلّت عن ذلك حكمته وصوابه ، وحزمه وثباته . ٢ ـ كيفيّة انبثاق المشهد وانطلاق البلاغ : حجّ المسلمون مع رسول الله ½ وهمّوا بمغادرة مكّة عائدين إلي ديارهم ومواضع سكناهم بعد أن انتهت المراسم . أفواج تتلوها أفواج ، وقوافل يتبع بعضها أثر بعض ، تترك البيت العتيق قاصدة العودة بأهلها من حيث أتوا . كذلك مضت قافلة رسول الله ½ ترسل خطاها الثابتة صوب المدينة . اقتربت القافلة النبويّة من "وادى خمّ" وهو واد موصوف بكثرة الوخامة وشدّة الحر(٢) ، فجاء وحى السماء من فوره ، يأمر النبىّ أن يقف حيث هو . وراح منادى رسول الله ½ يأمر من تقدّم أن يعود ، ويحبس من تأخر ; ليجتمع الناس سواءً فى مكان واحد ، حيث لم تتشعّب بهم الطريق بعد . أرض جرداء غير مسكونة مفتوحة علي صحراء ممتدّة الشمس فوق الرؤوس حارّة لاهبة ، وقد أمر النبىّ ½ أن يصنعوا له موضعاً يرتقيه من أقتاب الإبل ، حتي إذا خطب بالحاضرين يراه الجميع ويسمعونه . احتشد المكان بعشرات الاُلوف(٣) ، أدّي النبىّ ½ صلاة الظهر ، ثمّ راح يستعدّ
(١) إشارة إلي كلام الإمام أمير المؤمنين
¼ يصف فيه النبىّ
½ ، بقوله : "طبيب دوّار بطبّه" . راجع : نهج البلاغة : الخطبة ١٠٨ . ٧٢ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
أ : القرائن العقليّة
لالقاء خطابه بعد أن أمرهم بالتجمّع ، ازداد تجمهر الحشود واقترابها إلي حيث يقف النبىّ مستعدّاً لأمر مهم . الشمس تستقرّ فى كبد السماء فترسل بأشعّتها الحارقة ، فتتحوّل الصحراء فى تلك الظهيرة إلي كتلة ملتهبة . الحاضرون يضعون الأردية والملابس فوق الرؤوس وتحت الأقدام علّها تقيهم شيئاً من الرمضاء الحارقة وأشعّة الشمس المتوهّجة ، وبعضهم يفيء إلي المتاع والرحال يلوذ بظلاله . مشهد يقتحم الذاكرة ويستعصى علي النسيان . رسول الله ½ يصعد الموضع الذى صنعوه مِن الرحال وأقتاب الإبل ، وبصوته الندىّ الشجىّ مضي يملأ بكلماته الأفئدة والأسماع ، ويُلقى خطبته علي عشرات الاُلوف من المسلمين الذين أنهوا الحجّ لتوّهم . بدأ الخطبة ، حمد الله وأثني عليه ، ثمّ راح يُشهدهم مرّات ومرّات علي جهده الحثيث فى إبلاغ الرسالة ، وما بذله لهم من النصيحة فى دين الله ، وبجهاده العظيم فى سبيل الدعوة . فشهدوا له وشهدوا ، وردّدوا ذلك بصوت واحد . كان هذا كلّه كالتمهيد ، حتي إذا ما تطلّعت النفوس والعقول مستفهمة ما وراء هذا الكلام النبوى من مغزي ، أزِفت اللحظة الموعودة ، فما كان من النبىّ إلاّ أن أخذ بعضد علىّ ورفعه حتي بان بياض آباطهما ، وصدع يقول : "من كنت ٧٣ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
أ : القرائن العقليّة
مولاه فعلىّ مولاه" . والآن هلمّوا نُبصر المشهد ، ونتأمّل فيه عن كثب . ما الذى كان يبتغيه النبىّ بكلّ هذا التمهيد ، وفى فضاء مثل هذا تحتشد فيه الاُلوف المؤلّفة ؟ وما الذى كان يُريده من إعلان هذا الكلام وسط جوّ حارّ ملتهب يتجمهر فيه هذا الجمع العظيم ؟ هل كان ما يقصده من قوله : "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" هو الإعلان عن حبّ علىّ ¼ وحسب ؟ أ لم يتحدّث النبىّ ½ إلي الناس فى أكثر من موضع من حجّته الأخيرة ; حجّة الوداع العظيمة ، عن أهل بيته ، ويركّز علي مودّتهم من بين ما تحدّث به إلي المسلمين . أ فتراه الآن جمع الاُلوف فى هذه الرمضاء التى تشتعل النار فى ترابها ، طالباً منها الإصغاء إلي كلامه ، وإلي أن يُبلّغ الشاهد الغائب ; لمحض أن يوصيها بحبّ علىّ ! أ يحتاج حبّ علىّ إلي وصيّة وهو سيّد المؤمنين وأميرهم والشخصيّة الخارقة فى مدرسة محمّد ½ حيث لا تُضاهى مكانتها شخصيّة فى هذا الدين ؟ ثمّ أ ليس المؤمنون مأمورون فى كتاب الله بحبّ بعضهم بعضاً ، ومن ثمّ هم مأمورون بحبّ علىّ بالضرورة ؟ فهل يحتاج كلام كهذا إلي كلّ هذا التمهيد والإعداد ؟ سبق أن عرضنا أحاديث "حبّ علىّ" وقد ركّزنا هناك أيضاً إلي أنّها تنطوى علي مدلول أعظم ، وغاية أسمي تتخطّي حدود الحبّ الصورى العادى . ولطالما تساءلنا عن هذا العناء الذى تجشّمه الناس فى تلك الظهيرة الحارقة ; فهل كانت هذه المشقّة والأذي البليغ من أجل أن يسمع الناس كلاماً يوصيهم بحبّ علىّ ؟ ! تكشف هذه المؤشّرات بأجمعها أنّ ما كان يبتغيه رسول الله ½ بجملته تلك يتخطّي هذه التصوّرات العاديّة ، ويتجاوزها إلي مدلول أهمّ وأخطر ، هذا المدلول هو الذى أملي علي النبىّ ½ أن يعدّ ـ بأمر الله ـ هذا المشهد العظيم بوقائعه ٧٤ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
الأخّاذة ، ومعانيه التى لا تُنسي ، كى يصدع مرّة اُخري بذلك البلاغ الخطير ، باُسلوب أوضح ، حتي يعود المسلمون إلي ديارهم ومواطن سكناهم وفى أفئدتهم صدي الكلمات التى سمعوها فى خطاب الرسول ، وفى ضمائرهم والعقول يستقرّ ذلك البلاغ الخطير . هل لعقل أن يفهم من المشهد غير هذا ؟ وهل ثمّ عقل يسيغ تلك التوجيهات والدعاوي الواهية التى ساقوها من حول الواقعة ! ³ إِنَّ فِي ذَٰ لِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَي السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ² (١) . ١ ـ نزول الآيتين لا جدال فى أنّ الآيتين (٣) و(٦٧) من سورة المائدة نزلتا بشأن واقعة الغدير ، فقد نزل الأمر إلي رسول الله ½ بالبلاغ (الآية : ٦٧) فأعدّ له ذلك المشهد المهيب الذى تجمّعت فيه آلاف الاُلوف ، حتي إذا ما انتهي النبىّ من البلاغ ، ومن قوله : "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" نزلت الآية الاُخري وهى تتحدّث عن إكمال الدين وتمام النعمة . هذه حقيقة وثّقت لها كثرة كبيرة من الروايات والأخبار بحيث لم يعد فيها أدني شكّ . والسؤال : لقد نزلت الآية (٦٧) وهى تحتّم علي النبىّ ½ إبلاغ أمر إذا ما تخلّف عنه فكأنّه لم يبلّغ الرسالة بالمرّة ، كما تُشير إلي أنّ ما ينبغى إبلاغه لهو من الخطورة بحيث يبعث الخيفة والتوجّس ، ويُثير خصومة المعاندين وعداوتهم ; فهل يتّسق هذا كلّه والزعم أنّ الآية نزلت بشأن شىء من الشرائع
(١) ق : ٣٧ . ٧٥ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
وبعض الحلال والحرام ! لقد كان واضحاً أنّ إبلاغ الشرائع وأحكام الحلال والحرام لا يستحقّ من النبىّ الخشية والتوجّس ، كما لا يستتبع من الآخرين المعارضة والعناد . إنّه لأمر غريب ما ذهب إليه عدد من المفسّرين ! فعندما عجز هؤلاء عن رؤية الحقيقة ـ أو لم تكن لهم رغبة برؤيتها ـ تراهم جنحوا لمزاعم واهية وأقوال لا نصيب لها من الصواب . إنّ أهمّية الآيتين وتحديد زمن نزولهما ، يدفعنا إلي تخصيص بحث مستقلّ لكلّ واحدة منهما(١) . ٢ ـ محتوي الخطبة إنّ الطريقة التى بدأ بها النبىّ ½ خطبته ، وكيفيّة إدامتها ، والطريقة التى اختار بها عرض الموضوع ، والنسق الحماسى المؤثّر الذى شاب كلمات الرسول وذلك الإيقاع المتحرّق الأخّاذ فى كلماته ، كلّ ذلك لا يدع مجالاً للشكّ فى أنّ الموضوع أهمّ وأخطر بكثير ممّا تصوّره البعض . لنبقَ مع إحدي الصيغ التاريخيّة التى توفّرت علي بيان النصّ ، ثمّ نتأمّل ما فيه من إيحاءات . عن حذيفة بن أسيد ، قال : "لمّا قفل رسول الله من حجّة الوداع نهي أصحابه عن شجرات بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا حولهنّ ، ثمّ بعث إليهم فصلّي تحتهنّ ، ثمّ قام فقال : أيّها الناس ! قد نبّأنى اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبىّ إلاّ مثل نصف عمر الذى قبله ، وإنّى لأظنّ أن يوشك أن اُدعي فاُجيب ، وإنّى مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا ٧٦ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ، فجزاك الله خيراً . قال : أ لستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وأنّ ناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من فى القبور ؟ قالوا : بلي نشهد بذلك . قال : اللهمّ اشهد ، ثمّ قال : يا أيّها الناس ! إنّ الله مولاى ، وأنا مولي المؤمنين ، وأنا أولي بهم من أنفسهم ; من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه . ثمّ قال : أيّها الناس ! إنّى فرطكم وإنّكم واردون علي الحوض ، حوض أعرض ممّا بين بصري وصنعاء ، فيه آنية عدد النجوم قِدحان من فضّة ، وإنّى سائلكم حين تردون علىّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفونى فيهما ; الثقل الأكبر كتاب الله سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا ، وعترتى أهل بيتى ; فإنّه قد نبّأنى اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتي يردا علىّ الحوض"(١) . إنّ نسق بيان الخطبة ليدلّ علي أنّ النبىّ ½ راح بادئ الأمر يهيّئ القلوب ويعدّها ، ويدفع بالأفكار إلي التأمّل ، ويحثّ الآذان علي الانتباه والإصغاء ، حتي تنفتح بصائر القلوب ، فيملأ الأفئدة إيماناً ، وتستوطن كلماته النديّة الشجيّة الأعماق ، ذلك كلّه لكى لا ينقلب أحد من الناس فى الغد وما بعد الغد إلي إنكار ما سمع من خطاب الرسول إلاّ أن يكون ذلك عن ضلالة وعمي ، وعن عناد أمام الحقّ الصراح . تحدّث النبىّ صراحة بأنّ ساعة الرحيل قد أوشكت ، وما أقرب أن يُودّع ٧٧ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
الاُمّة إلي الرفيق الأعلي ; كى يحفّز بذلك الأذهان ويستحثّها للتفكير بأمر الخلافة ، ويدفعها للتأمّل فى الصيغة التى تستمرّ فيها القيادة من بعده . لقد جاءت كلمات النبىّ : "إنّى مسؤول ، وأنتم مسؤولون" لتلقى شحنة مركّزة وقويّة علي المسؤوليّة العامّة الملقاة علي عاتق الجميع ، وكأنّه ½ يقول : أنا مسؤول أن أصدع بالحقّ وأهتف بالحقيقة كما هى ، وأنتم مسؤولون أن تُصغوا وتتأمّلوا ثمّ تعملوا . ثمّ انعطف يتساءل : لقد مكثت فيكم سنوات مديدة اُبلّغ رسالات ربّى فماذا أنتم قائلون ؟ أجاب الحشد بصوت واحد عالى الرنين ، رفيع الصدي : نشهد أنّك قد بلّغت وجاهدت ، فجزاك الله خيراً . واستمرّ النبىّ يسترسل بتساؤلاته إلي الجمع المحتشد أمامه ، عن اُصول ما جاء به إليهم ، فشهدوا بالتوحيد والرسالة ، وأنّه الأولي عليهم من أنفسهم فى جميع شؤون الحياة ، فأشهد الله عليهم قائلاً : اللهمّ اشهد . هى ذى اللحظة الموعودة أزفت ، إنّ هذا كلّه كان كالتمهيد ، ترقّب عارم يحفّ بالمشهد ، الأبصار تطمح تلقاء المُحيّا النبوى ، الآذان مشدودة إليه ، وتساؤلات تسكن الأعماق : ما الذى يريد أن يقوله النبىّ من وراء ذلك ؟ تدفّقت الكلمات من فم النبىّ ½ : "من كنت مولاه فهذا مولاه" . وطفق النبىّ بعدها يدعو لمن والاه ، وأنّ من يعتو عن هذا الأمر ، ويعلو عليه ، ولا يسلّم لصاحب الولاية بولايته ، فهو فى الحقيقة يُعلن المعركة ضدّ الرسول ، ويشهرها حرباً علي النبىّ نفسه . أ بعد هذا يسفّ بعاقل رأيه ، ويتداعي به حزمه ، فيزعم أنّ رسول الله ½ فعل ٧٨ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
ذلك كلّه كى يوصى بحبّ على ؟ ! رسول الله ½ يعلم أنّ فى قومه من لا يطيق هذه الحقيقة ، وأنّ فيهم من سيحرّض علي "المولي" ويحشّد الصفوف لمواجهته ، جامحاً عن الحقّ ، فشدّد وحذّر ، ثمّ ما لبث أن تحوّل إلي جانب آخر ، ليعيد تأكيد الأمر من بُعد جديد . ذكر القيامة ، وعاد ينبّه إلي لحظة الفراق ، مشيراً : إنّنى اُوشك أن اُدعي فاُجيب ، لكنّى أتوجّس المستقبل ، فماذا أنتم فاعلون ! موعدنا هناك ، علي الحوض ، ستجدونى أقف بانتظاركم ، أترقّبكم كيف ترِدون . صلّي الله عليك يا ضياء العالم ، ويا سراج الوجود المنير ، لقد صدعت بكلمات الله ، وبلّغت رسالة السماء بما هى أهله ، وأدّيت حقّ "الحقّ" اُداءً شرُفت به الحياة ، وأضاءت به مقادير الإنسان . صلّي الله عليك ، وقد صدعت بولاية علىّ بصدر مشحون بالغصص والآلام ، لعلمك بالمدي الذى ستبلغه مكائد القوم واحَنهم ، وهى توشك أن تنطلق قويّة ضارية ، تحيك المؤامرات والمتاعب من كلّ حدب وصوب . بيد أنّك حفظت للحقّ حرمته ، وأدّيت الأمانة . فسلام عليك ـ نُزجيه خاشعين ـ عمّا أعطيت وهديت ، وعلي الذين نهجو نهجك الوضّاء ، وسلكوا سبيلك ، وبذلوا مهجتهم فيك . ٣ ـ تتويج علىّ يوم الغدير هو ذا نبىّ الله يضع عمامته علي رأس علىّ ليزداد المشهد اُبّهةً وجلالاً ، فهو بحقّ : نور علي نور . رسول الله ½ يهبط من المكان الذى وُضع له لحظة أن صدع بأخطر بلاغات ٧٩ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
السماء ، تتهادي إلي نفسه المقدّسة عذوبة شفيفة ، تسكن روحه طمأنينة باذخة ، ورضي أحسّ به بعد أن انتهي من إبلاغ الاُمّة أمر ربّه . الناس يتجمهرون حول النبىّ حلقاً حلقاً . لا ريب أنّ القلوب تموج بمشاعر مختلفة لما حصل . ما الخبر ؟ علىّ أصبح خليفة النبىّ ؟ لم يكن قلّة اُولئك الذين تجاهلوا كلّ جهود النبىّ ½ وما بذله فى سبيل هذا الأمر منذ أوّل أيّام البعثة حتي هذه اللحظة ، وما كان اصرارهم علي العناد قليلاً ، لذلك شعر النبىّ أنّ مهمّته لم تكتمل بعد ، فلابدّ من المزيد إمكاناً فى ترسيخ الأمر ، وإبلاغاً فى الحجّة . نادي علي علىّ ¼ ، وتوّج رأسه بعمامته "السحاب" . لقد ألفت أعراف ذلك العصر تتويج من يتسنّم زمام الحكم ، وعلي هذا جري الملوك والاُمراء ، والآن هو ذا رسول الله ½ وقد نصب عليّاً للحكم ، يضع علي رأسه العمامة ; لأنّ "العمائم تيجان العرب"(١) . كما حدّثوا عن ثقافة ذلك العصر أنّ العرب عندما كانوا يَنتخِبون شخصاً للإمارة ويسوّدونه عليهم ، كانوا يضعون علي رأسه "عمامة" فى سلوك كان يدلّ علي تثبيت الحاكميّة والولاية(٢) . لقد تحدّث علىّ بن أبى طالب ¼ عن هذه المكرمة النبويّة العظيمة ، بقوله : "عمّمنى رسول الله ½ يوم غدير خُمّ بعمامة" . كما وثّق المحدّثون والمؤرّخون مراسم هذا التتويج المهيب الذى ينبئ عن العظمة والجلال ، فكان ممّا كتبوه : "أنّ النبىّ ½ دعا علىّ بن أبى طالب يوم غدير
(١) مسند الشهاب : ١ / ٧٥ / ٤٧ ، النهاية فى غريب الحديث
: ١ / ١٩٩ . ٨٠ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
خمّ ، فعمّمه وأرخي عذبة العمامة من خلفه" . وكتبوا أيضاً(١) : "إنّ رسول الله ½ عمّم علىّ بن أبى طالب ¼ عمامته السحابة"(٢) . لقد دلّل النبىّ ½ بتتويج علىّ ¼ بعمامته "السحاب" علي هذه الهيئة الخاصّة ، وفى ذلك المشهد وبعد البلاغ ، علي أنّه لم يكن يقصد من وراء خطبته وكلماته السامية ، غير نصب علىّ للولاية ، ولم يكن له غرض يصبو إليه من جميع ذلك ، إلاّ أن يعلن إمامة أمير المؤمنين وزعامته للاُمّة(٣) . ٤ ـ التسليم بالإمارة نزل النبىّ ½ من المنبر الذى صنعوه له من أحداج الإبل ، ثمّ أمر المؤمنين أن يُسلّموا علي علىّ ¼ بإمرة المؤمنين . يقول بُريدة الأسلمى : "أمرنا رسول الله ½ أن نُسلّم علي علىّ ¼ بإمرة المؤمنين" .(٤) ٥ ـ التهنئة بالولاية والإمارة لقد أسفرت تصريحات ذلك اليوم عن وجه الحقيقة ، حتي لم يفهم الحاضرون من الواقعة ومن البلاغ غير نصب علىّ ¼ للولاية ، لذلك اندفعوا صوب الإمام أمير المؤمنين يهنّئونه بالولاية . والطريف أنّ الذين تقمّصوا الأمر بعد ذلك كانوا فى طليعة المبادرين لتهنئة الإمام ، ومن بينهم الخليفة الثانى الذى بادر الإمام
(١) فرائد السمطين : ١ / ٧٦ / ٤٢ . ٨١ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
بقوله : "هنيئاً لك يا بن أبى طالب ! أصبحت اليوم ولىّ كلّ مؤمن" . لقد توفّرت مصادر حديثيّة وتاريخيّة كثيرة علي توثيق تهنئة عمر وضبطها بألفاظ عديدة ، كما توفّرت أيضاً علي ضبط تهانى الآخرين(١) . ٦ ـ شعر الشعراء يحظي فهم الاُدباء والشعراء لمفردات اللغة وألفاظها بعناية خاصّة فى جميع الثقافات ، فإذا ما تعددت احتمالات المعني تري العلماء يُهرَعون إلي فهم الاُدباء والشعراء ليستندوا إليه فى الترجيح . وفى يوم الغدير ، حيث كان النبىّ قد نزل المنبر للتوّ ، نهض حسّان بن ثابت من فوره ، واستأذن رسول الله ½ أن يقول فى الواقعة أبياتاً من الشعر ، فأذن له النبىّ ، فراح ينشد قصيدته العصماء ، ومطلعها :
إلي أن قال :
فلمّا فرغ قال النبىّ ½ : "لا تزال يا حسّان مؤيَّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك" . يتّضح من غديريّة حسّان أنّه فهم من الواقعة ومن قول رسول الله ½ ، النصَّ علي إمامة علىّ بن أبى طالب ، وقد أيّده النبىّ ولم يُنكر عليه(٢) . وعلي هذا مضي
(١) راجع : التهنئة القياديّة . ٨٢ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
شعراء كثيرون بعد حسّان بن ثابت ; حيث استلهموا فى شعرهم وقصائدهم إمامة علىّ وولايته من هذه الواقعة وما صدر فيها . من جهته استند العلاّمة الشيخ عبد الحسين الأمينى فى موسوعته الضخمة "الغدير" علي مثل هذا الشعر من بين ما استند إليه ، قاصداً تحليل محتواه ودراسة مراميه الدالّة علي الولاية والإمامة .(١) ٧ ـ إنكار الولاية ونزول العذاب صدور موبوءة بالحسد ، موغرة بالحقد والضغينة ، لا لشىء إلاّ لأنّ النبىّ ½ أعلن اسم علىّ ونصبه للولاية وإمامة الاُمّة من بعده . راح هؤلاء يُرجِفون ، ويبثّون السفاهات ، لكن ندّ مِن بينهم رجل كان أكثرهم وقاحة ، وأجرأهم علي الحقّ ، نظر بعين الشكّ إلي ما قام به النبىّ من نصب علىّ للإمامة ، فأسرع إلي رسول الله ½ تسبقه أحقاده ، فسأله بجلف وفجاجة ، عن الذى جاء به ، وفيما إذا كان منه أم من الله ، فردّ عليه نبىّ الله ثلاث مرّات مشفوعة بقسم أنّ ما جاء به هو من عند الله ، وهو أمر السماء لابدّ له فيه . لكنّ الرجل مضي بنفس متبلّدة داجية ، وروح منهوكة مهزومة تُحيط بها ظلمة حالكة من كلّ صوب ، وهو يسأل الله بتبرّم وسخط أن يُسقِط عليه حجارة من السماء أو يأتيه بعذاب أليم إن كان ما يقوله حقّاً . لم يكد يبتعد عن النبىّ خطوات ، حتي نزل به العذاب ، إذ رماه الله بحجر قتله من فوره ، بعد أن وقع علي هامته ، وأنزل الله سبحانه : ³ سَأَلَ سَائـِلٌ بِعَذَابٍ
(١) راجع : أبيات حسّان بن ثابت ، والقسم التاسع / علىّ
عن لسان الشعراء . ٨٣ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
وَاقِع ² (١) .المهمّ فى هذه الواقعة ما فهمه سائل العذاب ، فهذا الرجل فهم من قول النبىّ : "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" دلالته علي الإمامة والرئاسة والقيادة ، بدليل قوله فى سياق ردّه علي النبىّ ½ : "ثمّ لم ترضَ حتي نصبت هذا الغلام ، فقلت : من كنت مولاه فعلىّ مولاه" ! إذ من الجلىّ أنّ حبّ علىّ وإظهار مودّته لو كانا هما المقصودين فى كلام النبىّ ، لما استدعي الأمر كلّ هذا الحنق والغضب من الرجل ، ولما استتبع عصيانه وطغيانه(٢) . ٨ ـ اعتراف الصحابة لم يكن ثمّةَ من الصحابة فى ذلك العصر مَن فهم من الكلام النبوى غير دلالته علي مفهوم الإمامة والقيادة . حتي مرضي القلوب أظهروا الذى أظهروه لضعف اعتقادهم ، وإلاّ لم يشكّ منهم أحد قط فى مدلول الكلام النبوى ومعناه . منذ ذلك المشهد وبعده ـ حيث استمرّ الأمر بعد ذلك سنوات أيضاً ـ كان هناك علي الدوام من يُطلق علي الإمام علىّ عنوان المولي ، ويخاطبه ويسلّم عليه به . وعندما كان الإمام علىّ ¼ يستوضح هؤلاء ويسألهم عن هذا الاستعمال ، كانوا يُجيبوه : "سمعنا رسول الله ½ يوم غدير خُمّ يقول : من كنت مولاه فإنّ هذا مولاه"(٣) . وقد أكّد عمر بن الخطّاب نفسه علي هذه النقطة مرّات ، كما فعل ذلك عدد
(١) المعارج : ١ . ٨٤ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
ب : القرائن فى الواقعة نفسها
آخر من الصحابة أيضاً . والسؤال : هل أراد هؤلاء بمناداتهم عليّاً بالمولي ، استناداً إلي الواقعة وإلي مدلول حديث الغدير ; هل أرادوا بذلك "الحبيب" و"النصير" ؟ إنّ الجنوح إلي مثل هذا الفهم لا تبرّره إلاّ اللااُباليّة كما ينمّ عن عدم الانصياع إلي أبسط الحقائق اللغويّة والبيانيّة وأوضحها . ٩ ـ مناشدة الإمام عندما رأي الإمام علىّ ¼ أنّ الجهاز السياسى الحاكم راح ينتهز الفرصة فى تجاهل الواقعة وكتمانها ، بادر إلي اُسلوب فاعل لمواجهة ذلك . لم يلجأ الإمام إلي مواجهة الوضع الجديد علي أساس صدامى مباشر ، ولم يَر من المناسب أن يلتحم فى معركة حامية تثير الفتنة والاضطراب ، لأسباب كان يقدّرها ، ومرّت إليها الإشارة فى موضعها . بيد أنّه لم يكفّ يده قط عن إظهار الحقّ ، والإجهار بالحقيقة وبما كان قد حصل يوم الغدير مستفيداً من أيّة فرصة تؤاتيه لإعلان ذلك . فإذا ما واجه أحدهم الإمام بسؤال كان يُجيبه بصراحة ، وإذا ما كان بين الناس ورأي الأجواء مؤاتية بادر هو للحديث عن واقعة الغدير طالباً ممّن كان حضر الواقعة من الحاضرين أن يشهدوا بما أبصروا ورأوا . كما كان يحصل أحياناً أن يقسم الإمام علي أشخاص لاذوا بالصمت خوفاً أو طمعاً ، ويحثّهم علي إظهار الحقّ والصدع به ، حتي لا تضيع الحقيقة وتندثر فى مطاوى النسيان . إنّ الوقائع من هذا القبيل كثيرة ، وقد اشتهرت فى تصانيف المحدّثين والمؤرّخين بــ "المناشدة" ، وقد حصلت بوفرة سواء فى عهد عزلة الإمام أو فى عصر خلافته ، لكى لا يضيع الحقّ علي الجيل الجديد ، ولا تلتبس عليه الحقيقة ، ويصير ضحيّة التجهيل والتضليل . ٨٥ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
كلام المعصومين فى تفسير الحديث
من ذلك ما ذكروه ، من أنّ الإمام حضر فى مجتمع الناس بالرحبة فى الكوفة واستنشدهم بحديث الغدير ، حيث قالوا : نشد علىّ ¼ الناس فى الرحبة من سمع النبىّ ½ يقول يوم غدير خُمّ ما قال ، إلاّ قام . فقام بضعة عشر رجلاً من الصحابة(١) . لقد دأب الإمام أمير المؤمنين ¼ علي تأكيد هذه الحقيقة دائماً وفى كلّ مكان ، حيث راح يحثّ من حضر الواقعة علي الإدلاء بشهادته ، كى لا يضيع حقّ "الحقّ" ولا يلفّه النسيان . علي هذا كانت شهادة هؤلاء القوم مهمّة بالنسبة إلي الإمام ، وعندما اختار بعضهم ـ ممّن لم يُرتقب منه ذلك أبداً ـ الكتمان والامتناع عن إبداء الشهادة ، دعا عليهم الإمام بألم وتوجّع(٢) . أ فيكون كلّ هذا الحثّ والإصرار ، والحرص والتحرّق علي إضاءة المشهد وإبقاء الواقعة حيّة لا تُنسي ، لمحض أنّ رسول الله ½ قال فى جملة : أحبّوا عليّاً وانصروه ! ثمّ هل لنا أن نتصوّر أنّ الجهاز الحاكم فرض السكوت علي تلك الجموع الكثيرة التى حضرت الواقعة ، بحيث كان الإمام عندما ينشدهم لم تنهض منهم إلاّ قلّة ضئيلة فيما تلوذ الأكثريّة بالصمت خوفاً أو طمعاً ، إنّما كان من أجل أن يحولوا بين القلوب والنفوس وبين جملة أوصي بها النبىّ بحبّ علىّ ؟
كلام المعصومين فى تفسير الحديث ذكرنا مراراً أنّ الذين حضروا مشهد الغدير فهموا من قول النبىّ : "من كنت مولاه فعلىّ مولاه" دلالته علي الولاية والإمامة والرئاسة ، علي هذا الأساس ٨٦ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
بعد الغدير
انطلقوا لتحيّة الإمام بالإمارة وتهنئته بالولاية ، علي المسار ذاته تحرّك الاُدباء والشعراء ، فضمّنوا شعرهم وقصائدهم هذه الحقيقة التى فهموها وتركوها وثيقة للتاريخ ، كما يشذّ عن ذلك الفهم حتي اُولئك الضُّلاّل الذى تعثّرت بهم بصيرتهم فاختاروا الضلالة علي الهدي . ما نودّ التأكيد عليه فى خاتمة هذه القرائن ، أنّ الأئمّة المعصومين ¥ أعلنوا هذه الحقيقة فى تفسير الحديث مرّات ومرّات . أجل ، لم يصدر عن اُولئك الكرام ، وهُم هُم فى البلاغة والعلم ، وهم "أهل البيت" ، و"أدري بما فى البيت" ; لم يصدر عنهم فى مواضع متعدّدة قط سوي هذا التفسير . ونختم بنصّ من هذه النصوص الوضيئة التى تتضوّع مسكاً ـ وختامه مسك ـ حيث سأل أبو إسحاق الإمام علىّ بن الحسين ، بقوله : ما معني قول النبىّ : "من كنت مولاه فعلىّ مولاه ؟" . قال : "أخبرهم أنّه الإمام بعده" . إنّ أمثال هذه النصوص التفسيريّة كثير فى ميراث أئمّة أهل البيت (ع) ، ولا جدال أنّ تفسيرهم مقدّم علي كلّ تفسير(١) .قفل رسول الله ½ عائداً إلي المدينة بعد أن انتهي من الحجّ وأبلغ ولاية علىّ بن أبى طالب ¼ . لم يعترض علي البلاغ النبوى علناً وبشكل صريح إلاّ شخص ٨٧ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / أحاديث الغدير /
محاولة لتثبيت محتوي "الغدير"
واحد ، أمّا البقيّة فقد انطوت علي الصمت ولم تجهر بخبيئة نفسها . تفرّق الناس فى البوادى والصحارى قاصدين ديارهم ، ودخل رسول الله ½ المدينة مع أصحابه . راح رسول الله ½ يُمضى أيّامه الأخيرة فى المدينة ، وموجات السرور تطفح بالبشر علي وجهه الأقدس ، وهو يشعر بالرضي وقد انتهي من أداء آخر المسؤوليّات وبلّغ آخر كلمات السماء وأخطرها . بيد أنّه كان يعرف بعلمه الذى يستمدّه من وراء الملكوت ، ما يجرى فى داخل المجتمع ، وله دراية بجميع المؤامرات والمكائد والعداوات التى توشك أن تنطلق فى المستقبل القريب قويّة ضارية . لذلك كلّه راح يستفيد من الفرصة المتبقّية لكى يُحكم ما كان قد بلّغه ويرسّخه أكثر فأكثر . لقد سجّل الجهد النبوى علي هذا الصعيد مبادرتين عظيمتين علي الأقلّ ، نشير إليهما فى الفصل الآتى . ٨٨ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / الجهود الأخيرة
( ١٦ ) ١ ـ كتابة الوصيّة رسول الله ½ ممدّد علي فراش المرض وقد ثقل عليه المرض ، الحمّي تلهب جسده المطهّر ، وكلّ شىء يومئ إلي أنّ ساعة الرحيل قد أزفت ، وأنّ النبىّ يوشك أن يفارق هذه الدنيا بعد سنوات من الجهد الحثيث المثابر . ما يشغل النبىّ فى هذه اللحظات الحرجة ويقضّ عليه مضجعه هو مستقبل الاُمّة ، والغد الذى ستؤول إليه رسالته الفتيّة ، وهذه الشجرة الطيّبة التى لا تزال بحاجة إلي الرعاية والحماية ، وإلي عناية من نوع خاصّ . فى هذه اللحظات الثقيلة بوطأة الفراق الذى أوشك ، وإذا بصوت يصدع من الحجرة النبويّة ، ورسول الله ½ يقول : "ائتونى بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً"(١) . انفجر المشهد عن لغط تحوّل بالتدريج إلي صياح وخصام فى محضر النبىّ الأقدس ، ثمّ ندت عن أحد الحاضرين كلمة قارصة موجعة بعيدة كلّ البعد عن مقام النبىّ وشأوه العظيم . لقد بلغ من احتدام الموقف أنّ النساء صحن من وراء الستر إشفاقاً علي النبىّ ، وهنّ يحثّنّ الرجال أن يُقرّبوا إلي رسول الله ½ ما طلبه ، ٨٩ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / الجهود الأخيرة
/ كتابة الوصيّة
فما كان من صاحب ذلك الصوت إلاّ أن عاد يطعن بهنّ(١) . عندها أحجم النبىّ عن الحاضرين ، ونادي بهم : "قوموا عنّى" !(٢) لم تُكتب هذه الوصية النبويّة ، لكن محتواها كان واضحاً لكثيرين ـ ولا يزال ـ وهم يعرفون تماماً لماذا أحجم النبىّ عن إملائها . لا ريب أنّ محتوي الوصيّة هو تأكيد آخر علي ما تمّ إبلاغه فى الغدير من الولاية وتحديد مستقبل الاُمّة ومصيرها ، تشهد علي ذلك النقاط التالية : ١ ـ إنّ رسول الله ½ تحدّث عن "التمسّك" بالثقلين مرّات ومرّات ، وعدَّ ذلك عصمة للاُمّة من مهاوى الردي والضلال . وفى حديثه عن هذه الوصيّة صرّح بالخصلة ذاتها ، وهو يقول : "كتاباً لن تضلّوا" . ٢ ـ ينبغى أن ندرس ونتأمّل طبيعة الشىء الذى إذا كتبه الرسول يُثير كلّ هذا الصخب والتوجّس وردود الأفعال ، حتي ليستمرئ بعض الحاضرين توجيه تلك المقالة المهينة إلي رسول الله ، هل كان ثمَّ شىء خليق بإثارة هذا الجوّ العنيف المنفعل غير قضيّة "القيادة" ، حتي بلغ من ضوضاء القوم أن أمر النبىّ بإخراجهم وإبعادهم عنه ، بكلمات ملؤها الألم ! ٣ ـ كان ابن عبّاس يتحدّث عن تلك الرزيّة [رزيّة الخميس] علي الدوام ، ويُعيد ذكراها بتوجّع وألم ، حتي كانت دموعه تسيل علي خدّيه فى بعض
(١) راجع : الطبقات الكبري : ٢ / ٢٤٣ . ٩٠ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / الجهود الأخيرة
/ كتابة الوصيّة
المرّات ، وقد قال إنّ رسول الله ½ أوصي بثلاث بعد الذى قالوا ، قال : "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت اُجيزهم . . ." . ثمّ ذكر ابن أبى نجيح الذى روي الخبر عن سعيد بن جبير ، ما نصّه : وسكت سعيد عن الثالثة ، فلا أدرى أسكت عنها عمداً ؟ ! وقال مرّة : أو نسيها ؟ وقال سفيان مرّة : وإمّا أن يكون تركها أو نسيها !(١) أ نسى سعيد ! أم اعتصم بالصمت وهو يبصر سيف الحجّاج بن يوسف يبرق فوق الرؤوس ؟ وهل اختارت ذاكرة التاريخ إلاّ أن تدفع الأمر إلي مطاوى العدم والنسيان لتفتك بــ "الحقيقة" وتاُدّها لمصلحة الجهاز الحاكم ، وتذبحها علي دكّة "المصلحة" ! يكتب العلاّمة السيد عبد الحسين شرف الدين : "ليست الثالثة إلاّ الأمر الذى أراد النبىّ أن يكتبه حفظاً لهم من الضلال ، لكن السياسة اضطرّت المحدّثين إلي نسيانه ، كما نبّه إليه مفتى الحنفيّة فى "صور" الحاج داود الددا(٢) . هكذا يتّضح أنّ رسول الله ½ عندما منع من الكتابة ، عاد ليؤكّد الأمر شفويّاً فى إطار وصايا اُخري ، ولكن ! ٤ ـ اعتراف عمر بن الخطّاب : لقد صرّح عمر بهذه الحقيقة ، وعدّ ما قام به ـ من منع النبىّ والحؤول بينه وبين أن يكتب ـ تداركاً لمصلحة الاُمّة ! يقول : "و لقد أراد [ ½ ] فى مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة علي ٩١ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / الجهود الأخيرة
/ إنفاذ جيش اُسامة :
الإسلام . لا وربّ هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب مِن أقطارها ، فعلم رسول الله ½ أنّى علمت ما فى نفسه فأمسك" !(١) ٢ ـ إنفاذ جيش اُسامة : اختار رسول الله ½ ـ وهو فى أيّامه الأخيرة وقد استولي عليه المرض ـ اختار اُسامة بن زيد ; ذلك الفتي البالغ عمره ١٧ سنة ، لقيادة جيش كبير يضمّ فى صفوفه أعيان الصحابة . يقول ابن سعد فى هذا السياق : "فلمّا كان يوم الأربعاء بُدئ برسول الله ½ فحُمّ وصُدّع ، فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لاُسامة لواءً بيده . . . فلم يبقَ أحدٌ من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار إلاّ انتُدب فى تلك الغزوة ; فيهم : أبو بكر الصدّيق ، وعمر بن الخطّاب ، وأبو عبيدة بن الجرّاح ، وسعد بن أبى وقّاص ، وسعيد بن زيد ، وقتادة بن النعمان ، وسلمة بن أسلم بن حريش"(٢). النبىّ ½ يأمر بإنفاذ هذا الجيش ويقول مؤكّداً "جهِّزوا جيش اُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه"(٣) ويأمر جيش المسلمين بترك المدينة فوراً مع عدم وجود خطر عسكرى فِعلىّ يهدّد المدينة ! لا ريب أنّ النبىّ كان يقصد من وراء ذلك أن ينقّى أجواء المدينة من المتربّصين الذين يتحيّنون الفرصة بعد رحيل النبىّ للانقضاض علي الخلافة ،
(١) شرح نهج البلاغة : ١٢ / ٢١ ; كشف اليقين : ٤٦٣ / ٥٦٢
، كشف الغمّة : ٢ / ٤٦ . ٩٢ - المجلد الثانى / القسم
الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / أهمّ جهود النبىّ / الجهود الأخيرة
/ إنفاذ جيش اُسامة :
ومن جهة اُخري يريد ½ تمهيد الطريق لوصول الحقّ إلي صاحبه الشرعى ، وهو ما ورد صريحاً فى كلام الإمام علىّ ¼ (١) . (١) راجع : غاية جهد النبىّ فى تعيين الولىّ / إنفاذ جيش اُسامة . |
||||||