٢٥١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير
١٠ / ١ ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ² (١) . ٧٦٥ ـ الغدير : أجمع رسول الله ½ الخروج إلي الحجّ فى سنة عشر من مهاجره ، وأذّن فى الناس بذلك ، فقدِم المدينة خلق كثير ; يأتمّون به فى حجّته تلك التى يقال عليها : حجّة الوداع ، وحجّة الإسلام ، وحجّة البلاغ ، وحجّة الكمال ، وحجّة التمام ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلي أن توفّاه الله . فخرج ½ من المدينة مغتسلاً متدهّناً مترجّلاً(٢) متجرّدا فى ثوبين (١) المائدة : ٦٧ . ٢٥٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
صُحاريّين(١) ; إزار ورداء ، وذلك يوم السبت لخمس ليال أو ستّ بقين من ذى القعدة ، وأخرج معه نساءه كلّهنّ فى الهوادج ، وسار معه أهل بيته ، وعامّة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء الناس . وعند خروجه ½ أصاب الناس بالمدينة جُدَرى ـ بضم الجيم وفتح الدال ، وبفتحهما ـ أو حصبة(٢) منعت كثيراً من الناس من الحجّ معه ½ ، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلاّ الله تعالي ، وقد يقال : خرج معه تسعون ألفاً ، ويقال : مائة ألف وأربعةَ عشرَ ألفاً ، وقيل : مائة ألف وعشرون ألفاً ، وقيل : مائة ألف وأربعةٌ وعشرون ألفاً ، ويقال : أكثر من ذلك ، وهذه عدّة من خرج معه . وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك ; كالمقيمين بمكّة ، والذين أتوا من اليمن مع علىّ أمير المؤمنين وأبى موسي . أصبح ½ يوم الأحد بمَلَل(٣) ، ثمّ راح فتعشّي بشَرَف السيَالة(٤) ، وصلّي هناك المغرب والعشاء ، ثمّ صلّي الصبح بعِرْق الظُّبْية ، ثمّ نزل الرَّوْحاء(٥) ، ثمّ سار من (١) صُحار : قرية باليمن نسب الثوب إليها ، وقيل : هو من الصُّحرة ; وهى حمرة خفيّة كالغُبرة ; يقال : ثوب أصحر وصُحارى (النهاية : ٣ / ١٢) . ٢٥٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
الرَّوْحاء فصلّي العصر بالمُنْصَرَف(١) ، وصلّي المغرب والعشاء بالمتعشّي ، وتعشّي به ، وصلّي الصبح بالأثاية ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعَرْج(٢) ، واحتجم بلَحْى جمل ; وهو عقبة الجحفة ، ونزل السُّقيا(٣) يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء(٤) ، وصلّي هناك ، ثمّ راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجحفة(٥) ، ومنها إلي قُدَيد(٦) ، وسَبَتَ فيه ، وكان يوم الأحد بعُسفان(٧) ، ثمّ سار ، فلمّا كان بالغَميم(٨) اعترض المشاة فصفّوا صفوفاً فشكوا إليه المشى ، فقال : استعينوا بالنسلان ; مشى سريع دون العَدْو ، ففعلوا ، فوجدوا لذلك راحة . وكان يوم الاثنين بمرّ الظهران(٩) ، فلم يبرح حتي أمسي ، وغربت له الشمس بسَرف(١٠) ، فلم يُصلِّ المغرب حتي دخل مكّة . ولمّا انتهي إلي الثنيّتين بات بينهما ، (١) المُنْصَرَف : موضع بين مكّة وبدر بينهما أربعة برد (معجم البلدان : ٥ / ٢١١) . ٢٥٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
فدخل مكّة نهار الثلاثاء . فلمّا قضي مناسكه ، وانصرف راجعاً إلي المدينة ـ ومعه من كان من الجموع المذكورات ـ ووصل إلي غدير خمّ(١) من الجحفة التى تتشعّب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذى الحجّة ـ ، نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² الآية ، وأمره أن يقيم عليّاً عَلماً للناس ، ويبلّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة علي كلّ أحد . وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة ، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم فى ذلك المكان ، ونهي عن سَمُرات(٢) خمس متقاربات دوحات عِظام أن لا ينزل تحتهنّ أحد ، حتي إذا أخذ القوم منازلهم فقُمّ(٣) ما تحتهنّ ، حتي إذا نودى بالصلاة ـ صلاة الظهر ـ عمد إليهنّ ، فصلّي بالناس تحتهنّ ، وكان يوماً هاجراً(٤) ; يضع الرجل بعض ردائه علي رأسه ، وبعضه تحت قدميه من شدّة الرمضاء . وظُلّل لرسول الله بثوب علي شجرة سَمُرة من الشمس . فلمّا انصرف ½ من صلاته قام خطيباً وسط القوم ، علي أقتاب الإبل ، وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته ، (١) غَدير خُمّ : خُمّ واد بين مكّة والمدينة عند الجحفة به غدير ، عنده خطب رسول الله ½ (معجم البلدان : ٢ / ٣٨٩) . ٢٥٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
فقال : الحمد لله ، ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكّل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا ، الذى لا هادى لمن ضلّ ، ولا مضلّ لمن هدي ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله . أمّا بعد : أيّها الناس قد نبّأنى اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبى إلاّ مثل نصف عمر الذى قبله ، وإنّى اُوشك أن اُدعي فأجيب(١) ، وإنّى مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت ، فجزاك الله خيراً . قال : أ لستُم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنّته حقّ ، وناره حقّ ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من فى القبور ! ! قالوا : بلي نشهد بذلك . قال : اللهمّ اشهد . ثمّ قال : أيّها الناس أ لا تسمعون ! قالوا : نعم . قال : فإنّى فَرَط(٢) علي الحوض ، وأنتم واردون علَىّ الحوض ، وإنّ عرضه ما بين صنعاء(٣) وبُصري(٤) ، فيه أقداح عدد النجوم من فضّة ، فانظروا كيف تخلفونى فى الثَّقَلين ! ! فنادي مناد : وما الثَّقَلان يا رسول الله ؟ قال : الثَّقَل الأكبر : كتاب الله ، طرف بيد الله عزّ وجلّ ، وطرف بأيديكم ; فتمسّكوا به لا تضلّوا . والآخر الأصغر : عترتى . وإنّ اللطيف الخبير نبّأنى أنّهما لن يتفرّقا حتي يردا علَىّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّى ، فلا تَقدَّموهما ; فتَهلكوا ، ولا تُقصّروا عنهما ; فتَهلكوا . (١) فى الطبعة المعتمدة "فأجبت" والصحيح ما أثبتناه كما فى طبعة مركز الغدير . ٢٥٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
ثمّ أخذ بيد علىّ فرفعها ـ حتي رؤى بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ـ فقال : أيّها الناس ، من أولي الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : إنّ الله مولاى ، وأنا مولي المؤمنين ، وأنا أولي بهم من أنفسهم ; فمن كنت مولاه فعلىّ مولاه ـ يقولها ثلاث مرّات ، وفى لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات ـ ثمّ قال : اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدِر الحقّ معه حيث دار . ألا فليُبلِّغ الشاهد الغايب . ثمّ لم يتفرّقوا حتي نزل أمين وحى الله بقوله : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ² (١) الآية ، فقال رسول الله ½ : الله أكبر علي إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتى والولاية لعلىّ من بعدى . ثمّ طفِق القوم يهنّئون أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وممّن هنّأه فى مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر ، كلٌّ يقول : بَخ بَخ لك يابن أبى طالب ، أصبحتَ وأمسيتَ مولاى ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة . وقال ابن عبّاس : وجبت والله فى أعناق القوم . فقال حسّان : إيذن لى يا رسول الله أن أقول فى علىّ أبياتاً تسمعهنّ . فقال : قل علي بركة الله . فقام حسّان فقال : يا معشر مَشيخة قريش ! أتبعها قولى بشهادة من رسول الله فى الولاية ماضية ، ثمّ قال :
هذا مجمل القول فى واقعة الغدير ، وسيوافيك تفصيل ألفاظها ، وقد أصفقت الاُمّة علي هذا ، وليست فى العالم كلّه ـ وعلي مستوي البسيط ـ واقعة إسلاميّة (١) المائدة : ٣ . ٢٥٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
غديرية غيرها ، ولو اُطلق يومه فلا ينصرف إلاّ إليه ، وإن قيل محلّه ، فهو هذا المحلّ المعروف علي أمَم(١) من الجحفة ، ولم يعرف أحد من البحّاثة والمنقّبين سواه(٢) . ٧٦٦ ـ تاريخ دمشق عن أبى سعيد الخدرى : نزلت هذه الآية : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² علي رسول الله ½ يوم غدير خُمّ فى علىّ بن أبى طالب(٣) . ٧٦٧ ـ الإمام الحسين ¼ : لمّا انصرف رسول الله ½ من حجّة الوداع ، نزل أرضاً يقال لها : ضوجان(٤) ، فنزلت هذه الآية : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ² . فلمّا نزلت عصمته من الناس نادي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس إليه ، وقال ¼ : من أولي منكم بأنفسكم ؟ فضجّوا بأجمعهم وقالوا : الله ورسوله . فأخذ بيد علىّ بن أبى طالب ¼ وقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، (١) الأمَمُ : القرب (لسان العرب : ١٢ / ٢٨) . ٢٥٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ; فإنّه منّى ، وأنا منه ، وهو منّى بمنزلة هارون من موسي ، إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى . وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالي علي اُمّة محمّد ½ ، ثمّ أنزل الله تعالي علي نبيّه : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² (١) . ٧٦٨ ـ الإمام الباقر ¼ ـ فى قوله تعالي : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ² ـ : هى الولاية(٢) . ٧٦٩ ـ عنه ¼ : حجّ رسول الله ½ من المدينة ـ وقد بلّغ جميعَ الشرائع قومَه ، غير الحجّ والولاية ـ فأتاه جبرئيل ¼ ، فقال له : يا محمّد ، إنّ الله جلّ اسمه يُقرئُك السلام ، ويقول لك : إنّى لم أقبض نبيّاً من أنبيائى ولا رسولاً من رسلى إلاّ بعد إكمال دينى ، وتأكيد حجّتى ، وقد بقى عليك من ذاك فريضتان ممّا تحتاج أن تبلّغهما قومك : فريضة الحجّ ، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك ; فإنّى لم اُخلِ أرضى من حجّة ، ولن اُخليها أبداً . فإنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ يأمرك أن تبلّغ قومك الحجّ ، وتحجّ ، ويحجّ معك من استطاع إليه سبيلاً من أهل الحضر والأطراف والأعراب ، وتعلّمهم من معالم حجّهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ، وتوقفهم من ذلك علي مثال الذى أوقفتهم عليه من جميع ما بلّغتهم من الشرائع . فنادي منادى رسول الله ½ فى الناس : ألا إنّ رسول الله ½ يريد الحجّ ، وأن (١) البرهان فى تفسير القرآن : ٢ / ٢٢٦ / ٢٩٠٩ عن محمّد بن إسحاق عن الإمام الباقر عن أبيه ¤ وراجع تفسير القمّى : ١ / ١٧٣ . ٢٥٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
يعلّمكم من ذلك مثل الذى علّمكم من شرائع دينكم ، ويوقفكم من ذلك علي ما أوقفكم عليه من غيره . فخرج ½ ، وخرج معه الناس ، وأصغوا إليه ; لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله . فحجّ بهم ، وبلغ مَن حجّ مع رسول الله ½ ـ من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب ـ سبعين ألف إنسان ، أو يزيدون ، علي نحو عدد أصحاب موسي السبعين ألفاً . . . فلمّا وقف بالموقف أتاه جبرئيل ¼ عن الله عزّ وجلّ ، فقال : يا محمّد ، إنّ الله عزّ وجلّ يُقرئُك السلام ويقول لك : إنّه قد دنا أجلُك ومدّتك ، وأنا مستقدمك علي ما لابدّ منه ولا عنه محيص ، فاعهد عهدك ، وقدّم وصيّتك ، واعمد إلي ما عندك ; من العلم ، وميراث علوم الأنبياء من قبلك ، والسلاح ، والتابوت ، وجميع ما عندك من آيات الأنبياء ، فسلِّمه إلي وصيّك وخليفتك من بعدك ; حجّتى البالغة علي خلقى ; علىّ بن أبى طالب ، فأقمه للناس علماً ، وجدّد عهده وميثاقه وبيعته ، وذكِّرهم ما أخذتَ عليهم من بيعتى وميثاقى الذى واثقتَهم به ، وعهدى الذى عهدتَ إليهم ; من ولاية وليّى ومولاهم ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة علىّ بن أبى طالب ; فإنّى لم أقبض نبيّاً من الأنبياء إلاّ من بعد إكمال دينى وحجّتى ، وإتمام نعمتى ; بولاية أوليائى ، ومعاداة أعدائى ، وذلك كمال توحيدى ودينى . وإتمام نعمتى علي خلقى باتّباع وليّى وطاعته ; وذلك أنّى لا أترك أرضى بغير ولىّ ولا قيّم ; ليكون حجّةً لى علي خلقى فـ ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² بولاية وليّى ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة ; علىّ عبدى ، ووصىّ نبيّى ، والخليفة من بعده ، وحجّتى البالغة علي خلقى ، مقرونةٌ طاعته بطاعة محمّد نبيّى ، ومقرونة طاعته مع طاعة محمّد بطاعتى ، من ٢٦٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
أطاعه فقد أطاعنى ، ومن عصاه فقد عصانى ، جعلته علماً بينى وبين خلقى . . . . فلمّا بلغ غدير خمّ ـ قبل الجحفة بثلاثة أميال ـ أتاه جبرئيل ¼ ـ علي خمس ساعات مضت من النهار ـ بالزجر والانتهار ، والعصمة من الناس ! فقال : يا محمّد ، إنّ الله عزّ وجلّ يُقرئُك السلام ، ويقول لك : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² فى علىّ ، ³ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ² . وكان أوائلهم قريباً من الجحفة ، فأمره بأن يردّ من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم ، فى ذلك المكان ; ليقيم عليّاً للناس علماً ، ويبلّغهم ما أنزل الله تعالي فى علىّ ¼ ، وأخبره بأنّ الله عزّ وجلّ قد عصمه من الناس(١) . ٧٧٠ ـ عنه ¼ : لمّا أنزل الله علي نبيّه : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ² ، ـ قال ـ : فأخذ رسول الله ½ بيد علىّ فقال : يا أيّها الناس ، إنّه لم يكن نبىّ من الأنبياء ممّن كان قبلى إلاّ وقد عُمّر ثمّ دعاه الله فأجابه ، واُوشك أن اُدعي فاُجيب ، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ، ونصحت ، وأدّيت ما عليك ; فجزاك الله أفضل ما جزي المرسلين . فقال : اللهمّ اشهد . ثمّ قال : يا معشر المسلمين ، ليبلغ الشاهد الغايب : اُوصى من آمن بى وصدّقنى بولاية علىّ ، ألا إنّ ولاية علىّ ولايتى وولايتى ، ولاية ربّى ، ولا ٢٦١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
يدرى(١) عهداً عهده إلىّ ربّى وأمرنى أن اُبلّغكموه . ثمّ قال : هل سمعتم ـ ثلاث مرّات يقولها ـ ؟ فقال قائل : قد سمعنا يا رسول الله(٢) . ٧٧١ ـ شواهد التنزيل عن زياد بن المنذر : كنت عند أبى جعفر محمّد بن علىّ وهو يحدّث الناس ، إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له : عثمان الأعشي ـ كان يروى عن الحسن البصرى ـ فقال له : يابن رسول الله ، جعلنى الله فداك ، إنّ الحسن يخبرنا أنّ هذه الآية نزلت بسبب رجل ، ولا يخبرنا من الرجل : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² ! ! فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ، ولكنّه يخاف . إنّ جبرئيل هبط علي النبىّ ½ فقال له : إنّ الله يأمرك أن تدلّ اُمّتك علي صلاتهم ، فدلّهم عليها . ثمّ هبط فقال : إنّ الله يأمرك أن تدلّ اُمّتك علي زكاتهم ، فدلّهم عليها . ثمّ هبط فقال : إنّ الله يأمرك أن تدلّ اُمّتك علي صيامهم ، فدلّهم . ثمّ هبط فقال : إنّ الله يأمرك أن تدلّ اُمّتك علي حجّهم ، ففعل . ثمّ هبط فقال : إنّ الله يأمرك أن تدلّ اُمّتك علي وليّهم ـ علي مثل ما دللتَهم عليه ; من صلاتهم ، وزكاتهم ، وصيامهم ، وحجّهم ـ ليُلزمهم الحجّة فى جميع ذلك . فقال رسول الله : يا ربّ ، إنّ قومى قريبو عهد بالجاهليّة ، وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلاّ وقد وتره وليّهم ، وإنّى أخاف ! ! فأنزل الله تعالي : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ² ; يريد فما بلّغتها (١) كذا فى المصدر ، والظاهر زيادة "و لا يدرى" كما فى بحار الأنوار . ٢٦٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
تامّة ، ³ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ² . فلمّا ضمن الله له بالعصمة(١) وخوّفه أخذ بيد علىّ بن أبى طالب ، ثمّ قال : يا أيّها الناس ، من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه . قال زياد : فقال عثمان : ما انصرفت إلي بلدى بشىء أحبّ إلىَّ من هذا الحديث(٢) . ٧٧٢ ـ الإمام الباقر ¼ : لمّا نزل جبرئيل ¼ علي رسول الله ½ فى حجّة الوداع بإعلان أمر علىّ بن أبى طالب ¼ : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² إلي آخر الآية ـ قال : ـ فمكث النبىّ ½ ثلاثاً حتي أتي الجحفة ، فلم يأخذ بيده ; فرَقاً(٣) من الناس . فلمّا نزل الجحفة يوم الغدير فى مكان يقال له : مَهْيَعة ، فنادي(٤) : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس . فقال النبىّ ½ : من أولي بكم من أنفسكم ؟ قال : فجهروا فقالوا : الله ورسوله . ثمّ قال لهم الثانية ، فقالوا : الله ورسوله . ثمّ قال لهم الثالثة ، فقالوا : الله ورسوله . فأخذ بيد علىّ ¼ ، فقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ; فإنّه منّى ، وأنا منه ، وهو (١) كذا ، وفى نسخة اُخري : "ضمن الله له العصمة" . ٢٦٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
منّى بمنزلة هارون من موسي ، إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى(١) . ٧٧٣ ـ مشكل الآثار عن عمر بن علىّ عن الإمام علىّ ¼ : إنّ النبىّ ½ حضر الشجرة بخمّ ، فخرج آخذاً بيد علىّ ، فقال : يا أيّها الناس ، أ لستم تشهدون أنّ الله ربّكم ؟ ! قالوا : بلي . قال : أ لستم تشهدون أنّ الله ورسوله أولي بكم من أنفسكم ، وأنّ الله ورسوله مولاكم ؟ ! ! قالوا : بلي . قال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه . إنّى قد تركت فيكم ما إن أخذتم لن تضلّوا بعدى ; كتاب الله بأيديكم ، وأهل بيتى(٢) . ٧٧٤ ـ إثبات الوصيّة : لمّا صار [ ½ ] بوادى خُمّ نزل عليه الوحى فى أمير المؤمنين ¼ آية العصمة من الناس ، وقد كان الأمر قبل ذلك يأتيه فيتوقّف ; انتظاراً لقول الله عزّ وجلّ : ³ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ² . فلمّا نزلت قام خطيباً ، فحمد الله وأثني عليه كثيراً ، ثمّ نصب أمير المؤمنين ¼ علماً وقيّماً مقامه بعده . وكان من حديث غدير خُمّ ما رواه الناس ، ثمّ انصرف فى آخر ذى الحجّة(٣) . ٧٧٥ ـ بشارة المصطفي عن ابن عبّاس ـ فى قوله عزّ وجلّ : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ² ـ : نزلت فى علىّ ¼ ; اُمر رسول الله ½ أن يبلّغ فيه ، فأخذ النبىّ ½ بيد علىّ ¼ ، فقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من (١) تفسير العيّاشى : ١ / ٣٣٢ / ١٥٣ عن سدير ، بحار الأنوار : ٣٧ / ١٣٩ / ٣٢ . ٢٦٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / واقعة الغدير
والاه ، وعادِ من عاداه(١) . ٧٧٦ ـ تفسير العيّاشى عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله : أمر الله تعالي نبيّه محمّداً ½ أن ينصب عليّاً ¼ علماً للناس ; ليخبرهم بولايته . فتخوّف رسول الله ½ أن يقولوا : حامي ابن عمّه ، وأن يطغوا فى ذلك عليه . فأوحي الله إليه : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ² ، فقام رسول الله ½ بولايته يوم غدير خمّ(٢) . ٧٧٧ ـ تفسير الفخر الرازى ـ فى ذيل قوله تعالي : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ . . . ² ـ : ذكر المفسّرون فى سبب نزل الآية وجوهاً : . . . العاشر : نزلت الآية فى فضل علىّ بن أبى طالب ¼ ، ولمّا نزلت هذه الآية أخذ [ ½ ] بيده وقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه . فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يابن أبى طالب ; أصبحتَ مولاى ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة . وهو قول ابن عبّاس ، والبراء بن عازب ، ومحمّد بن علىّ(٣) . (١) بشارة المصطفي : ٢٤٣ ، الأمالى للشجرى : ١ / ١٤٥ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢١ ; شواهد التنزيل : ١ / ٢٥١ / ٢٤٥ . ٢٦٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ² (١) قصد رسول الله ½ الحجّ فى العام العاشر من الهجرة . وقبل أن ينطلق تلقاء "الحرم الإلهى" أمر النبىّ ½ أن يُخبروا الجميعَ بعزمه علي الحجّ ، فتطلّع المسلمون إلي البيت العتيق واجتمعوا للحجّ من كلّ فجّ عميق ، فاحتشد منهم جمع عظيم . خطب النبىّ الأقدس ½ الناس مرّات فى ذلك الموسم المهيب ، ثمّ راح فى خطبته الطويلة يوم "عرفة" يهاجم آخر بقايا الثقافة الجاهليّة ، وَيَلقى بما تبقّي من معاييرها فى قاع سحيق ، وهو يدعو الناس إلي الثبات علي الحقّ ، وبناء حياتهم وفق المعايير الإلهيّة وقِيَم السماء . كما أهاب بهم التمسّك بكتاب الله وسنّة العترة النبويّة المطهّرة . (١) المائدة : ٦٧ . ٢٦٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
فى ذلك السفر عاد النبىّ ½ يؤكّد ما سبق أن أعلنه للاُمّة فى ذلك العام بالكناية والتلميح تارة ، وبصراحة ووضوح تارة اُخري ، من أنّ هذه السنة التى يُمضيها بينهم هى آخر سنىّ عمره الشريف . لهب متأجّج راح يسكن النفوس ، ولوعة متفجّعة راحت تتدافع فى الصدور لهذا النبأ المرتقب ، حملت المسلمين علي موج من التطلّع والشوق لنبيّهم ، والي أن يستفيدوا ويتعلّموا ويزدادوا من معلّمهم العظيم ما واتتهم الفرصة المتبقّية لذلك . والنبىّ أيضاً هاجت به أشواقه ، وفاضَ به حماسه الطهور لهذا الحضور المتألّق بين أفواج المسلمين فى هذا الموكب المهيب ، وبانتظار تبليغ كلمة هى آخر كلمات السماء وأهمّها علي الإطلاق ، وإيصال رسالة هى الأكمل والأخطر . حماس عارم من الاُمّة ، وترقّب نبوىّ يشوبه التوجّس لنبأ عظيم حانت لحظته أو كادت . هذا هو المشهد الذى انتهت إليه حجّة الوداع . المسلمون يعودون بعد انتهاء الموسم ، يسلك كلّ فريق السبيل الذى يؤدّى به إلي أهله وسكناه ، لكن فى وادى غدير خمّ ، وقبل أن تفترق بهم الطريق إذا صوت السماء يقرع فؤاد النبىّ ، وإذا الوحى يأتيه من فوره ، ملقياً عليه الأمر بحزم : ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ² . التأمّل فى سياق الآية وما فيها من شدّة وتصميم علي الإبلاغ ، وما تنطوى عليه من تحذير جادّ ، كلّ ذلك لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الرسالة هى من الخطورة بمكان ، وإنّ عمليّة الإبلاغ تقترن بالتوجّس نظراً لمحتوي الرسالة وملابسات الموقف . ٢٦٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
فيا تُري ، ما هو الأمر الذى يتحتّم علي النبىّ ½ أن يبادر إلي إبلاغه ؟ وما هى الرسالة التى يبعث إبلاغها فى نفس النبىّ ½ كلّ هذه الخشية والتوجّس ، وهو الصلب الذى تحمّل ما تحمّل فى سبيل تبليغ كلمات الله ورسالاته ولم يبالِ ، وذو العزم الراسخ فى سبيل إعلان الحقّ وتوسيع مداه ، وهو الطود الشامخ الذى واجه الشرك وحده ؟ أطبقت كلمة أعلام الشيعة محدّثين ومفسّرين ومؤرّخين ومتكلّمين ـ ودون أدني شائبة تردّد ـ أنّ الآية مرتبطة بواقعة يوم "الغدير" ، وأنّ محتوي الرسالة وفحواها هو "الولاية" و"الإمامة العلويّة" . ومن ثَمّ ذهبوا إلي أنّ الآية المباركة نزلت فى الثامن عشر من ذى الحجّة عام ١٠ هـ لتؤكّد ـ والمسلمون محتشدون من كلّ حدب وصوب ـ علي "الولاية العلويّه" للمرّة الأخيرة ، فى ظلّ أجواء أخّاذه مؤثّره تستعصى علي النسيان . أمّا علماء أهل السنّة فقد تفرّقت بهم السبل ، فلم تتّفق كلمتهم بشأن زمن نزول الآية ، كما لم يتوحّدهم رأى بشأْن محتوي الأمر الذى يتحتّم علي النبىّ إبلاغه . لقد رصد فخر الدين الرازى أغلب هذه الآراء ، وأنهاها إلي عشرة أقوال ، يتّفق القول الأخير منها مع رؤية الشيعة . لكن من اليسير أن نلحظ عدم استقامة ما ذكره ، وإن يبدو وجود مؤيّدات أحياناً فى كلمات الصحابة أو التابعين ذكرها غير الفخر الرازى فى كتبهم . وقبل أن نطلّ علي بعض الرؤي التى اكتنفت الآية ، من الجدير أن نتناول مفهومها بشىء من البحث والتحليل ، عبر النقاط الآتية : ١ ـ قوله سبحانه : ³ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² . ٢٦٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
تنصّ الجملة إلي أنّ المعنىّ بالخطاب هو رسول الله ½ ، وفيها دلالة علي أنّ محتوي الرسالة يرتبط به أكثر ، وقد اُمر بالإبلاغ ، لكن ثَمّ حالة من التوجّس والخيفة تمنعه من الإجهار . ولقد ذكر هذه الحقيقة جميع رواة الشيعة ، وأيّدتها بعض روايات العامّة(١) . ٢ ـ قوله : ³ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ² . تحتشد فى هذا الجزء من الآية دِلالات تفيد أنّ رسول الله ½ كان عند نزول الآية قد انتهي من تبليغ الرسالة ، ووفي بحقّ هذا الدين ، وأنّ هذا النبىّ حمل إلي الناس كلمات الله وهدى السماء وتعاليمها ، ثم هو الآن فى مواجهة "أمر" بلغ من عظيم شأنه وجلال خطره ، أنّه إذا لم يُعلنه تصير "الرسالة" بأتمّها عرضة للضياع ، حتي لكأنّه ما بلّغ من "الرسالة" شيئاً . هذا بدوره يُثبت صحّة الروايات التى ذهبت إلي أنّ نزول الآية جاءَ فى سياق سورة "المائدة" ، ومن جملة آخر الآيات المدنيّة ، لا أنّها مستثناة منها ، وأنّها نزلت فى مكّة ! ٣ ـ قوله : ³ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ ² . ما الذى يخشاه النبىّ ؟ القتل ؟ ! الأذي والتعذيب ؟ ! أم اهتياج المشركين واليهود وتفجّر سخطهم ؟ ! هذه سيرة رسول الله ½ تفصح بأنّ هذا العظيم لم يعرف الخوف إلي قلبه طريقاً قط عندما يتعلّق الأمر به . ثمّ اسمعوا وحى السماء ; لتروا كيف تصف صلابة رُسُل الله ، وشموخ حمله (١) شواهد التنزيل : ١ / ٢٥٤ / ٢٤٨ . وانظر أيضاً : القرآن والغدير . ٢٦٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
الرسالات وثباتهم : ³ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ² (١) ! أ وَبعد هذا ، يجوز أن يُنعت رسول الله ½ بالخوف من البطش والأذي ، أو الرهبة مِن القتل والتعذيب ، وهو أفضل الرسل الكرام ، وخاتم النبيّين ، والحلقة الأخيرة فى موكب حملة الحقّ ورسالات السماء ! هى إذاً خشيةٌ ، بيد أنّها من "لون" آخر ، فما كان يخشاه النبىّ هو أن لا يؤتى "البلاغ" ثماره المرجوّة ، وما كان يبعث علي توجّسه هو طبيعة الجوّ الذى يمنع من نفاذ كلمة الحقّ ، ويردع عن أن يؤتى "البلاغ" آثاره المطلوبة . هذا ما كان يخشاه النبىّ ويبعث فى نفسه التوجّس لا غير . ٤ ـ قوله : ³ مِنَ النَّاسِ ² "الناس" هو لفظ مطلق بلا شكّ ، والنصّ يتضمّن حفظ الله سبحانه وحراسته للنبىّ ½ ; حفظه من أحابيل اُولئك الذين ستنطلق جهودهم وهى تهدف الحؤول دون وصول "البلاغ" الي الناس ، ومِن ثمَّ إفشال مهمّته . فعلي هذا يتّضح أنّ المراد من "الكفر" فى قوله : ³ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ² هو الكفر ببعض الآيات الربّانيّة ، والمقصود من "عدم الهداية" فى قوله سبحانه : ³ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي ² هو عدم نجاح خديعة هؤلاء ، وفشل ما أبرموه للنَّيل من رسول الله ½ فى إبلاغ "ما اُنزل" . وإلاّ لو كان المراد من "عدم الهداية" عدم الهداية إلي الإيمان ، لتعارض ذلك مع أصل التبليغ ومهمّة الإبلاغ ، ولم يتّسق مع فلسفة الدعوة والهداية بالأساس ، حتي لكأنّ الله سبحانه يقول : ادعو هؤلاء الي حكم الله ، بيد أنّنى لن أهديهم ! (١) الأحزاب : ٣٩ . ٢٧٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
وهكذا يتّضح ـ بلا أدني شائبة ـ أنّ المراد فى مدلول هذا الجزء من الآية أنّ جهود هؤلاء فى إطفاء هذا النور ستصاب بالخيبة ، وستبوء جهودهم للطعن بالنبىّ بالضلالة والخسران ، وتذهب مساعيهم لإفشال هذا "البلاغ" أدراجَ الرياح ، ولن يحصدوا من رمى النبىّ ½ بتهمة الانحياز إلي بيته وقرابته القريبة إلاّ الذلّة والصغار . فالمقصود إذاً : ستسقط كلّ اُمنيات هؤلاء للحؤول دون الإجهار بهذا البلاغ ، وتصير كهشيم تذروه ريح عاتية . تحوى هذه الآية من النقاط والعظات المضيئة أكثر بكثير ممّا سطّرته هذه الكلمات . لكن مع ذلك فإنّ ما أوردناه فى نقل الرؤي يهدف إلي تشييد معالم المشهد التاريخى للواقعة ، وتجسيد أجواء النزول ، أكثر ممّا يهدف إلي تبيين معني الآية . أمّا الآن فنمرّ علي بعض الأقوال فى الآية من خلال المحورين التاليين : ١ ـ نزول الآية أوّل البعثة ، والخشية من إبلاغ الدين ! يبدو أنّ أوّل من ذهب الي ذلك ـ وان لم يقطع به ـ هو محمّد بن إدريس الشافعى ، فعلي أساس ما ذكره ، أنّ النبىّ ½ بعد أن أتاه الوحى ونزلت عليه : ³ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ² ، كبر ذلك عليه ، وخاف التكذيب وأن يُتناول من قبل المشركين ، فنزل عليه ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ² ، وقد كان ذلك عصمة له من قِبَل الله سبحانه كى يمضى علي تبليغ ما اُمر به بثبات ودون خوف(١) . علي أساس هذه الرؤية روى عن الحسن البصرى قوله : إنّ رسول الله ½ قال : (١) الاُمّ : ٤ / ١٦٨ ، والنصّ طويل وقد أخذنا منه مورد الحاجة . ٢٧١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
"لمّا بعثنى الله تعالي برسالته ضِقتُ بها ذرعاً ، وعرفت أنّ من الناس من يكذّبنى"(١) فأمسك عن الدعوة حتي نزلت عليه الآية . ذكرنا فيما سلف أنّ سورة المائدة هى من بين آخر السور التى نزلت علي النبىّ ½ إن لم تكن آخرها(٢) . فما الذى كان يريده الله سبحانه من قوله : ³ بَلِّغَْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ² ، ولم ينزل علي النبىّ ½ شىء بعدُ ؟ وما الذى كان يخشاه رسول الله ½ ويمنعه عن الإبلاغ ولمّا يواجهِ المشركون بعدُ آيةً أو آيات من تلك التى تقضّ مضاجعهم ، وتبعث فيهم النقمة والاهتياج ! إنّ هذا الذى يزعمونه لا يليق بمُبلِّغ عادىّ ، وهو ليس خليق بإنسان متوسّط الحال لا يزال فى أوّل الطريق ، أ فيجوز علي رسول الله ½ وذلك القلب المجدول إلي السماء ، الموصول بالله أبداً ؟ وهل يتّسق مع خطاه الراسخة وتلك الارادة الصلبة التى لا تعرف الوهن ! أمّا ما ذكروه من أنّ الباعث علي نزول الآية هو ما كان من حراسة أبى طالب عمّ النبىّ لرسول الله ½ ; إذ بنزول الآية طلب النبىّ إليه أن يكفّ عن الحراسة بعد أن وعد الله سبحانه بعصمته وحمايته(٣) ; فإنّ فيه بالإضافة إلي ما تمّت الإشارة إليه فى نقد الرؤية الاُولي ، أنّه يتعارض مع الواقع التاريخى الصادق . فهذا الواقع خير دليل علي أنّ رسول الله ½ ظلّ يحظي بالحراسة سنوات خاصّةً فى المدينة ، وليس ثمة شاهد أقوي علي ذلك من وجود "اُسطوانة الحرس" . ٢ ـ إخفاء بعض القرآن خوفاً من المشركين ! (١) اسباب النزول للواحدى : ٢٠٤ / ٤٠٢ ; الدرّ المنثور : ٣ / ١١٦ نحوه . ٢٧٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
ذكروا أنّ رسول الله ½ كان أيّام اقامته بمكّة يجاهر ببعض القرآن ، ويُخفى بعضه إشفاقاً علي نفسه من أذي المشركين أو اليهود ، وخوفاً ممّا يمكن أن يوقعوه به ! وممّا يبعث علي الأسف أن يلتزم بعض الناس أحياناً بأقوال واهية وبآراء لا تليق كهذه . أ فيجوز مثل هذا الظنّ علي رسول الله ½ ؟ ثمّ هذه حياته التى تتفجّر بالحيويّة والحركة ، وهذه سيرته كلّها مضاء وحزم وصِدام مع مظاهر الشرك والجاهليّة ، فهل تجتمع هى وهذا الظنّ الواهى ؟ وهل تستحقّ حياة نبىّ الله هذه الكلمات ؟ ! إنّ ما تضمّه تفاسير أهل السنّة ومجاميعها الروائيّة من أقوال ورؤي حيال الآية ، لا يتعدّي ذلك الرصد الذى قدّمه الفخر الرازى للأقوال فى المسألة ، وَحين نتفحّص بقيّة الأقوال التى أحصاها الرازى فهى أضعف وأكثر وهناً من الرأى الذي عرضناه قبل قليل . أمّا آخر الأقوال فقد ذكره الفخر الرازى علي النحو الآتى : "نزلت الآية فى فضل علىّ بن أبى طالب ¼ ، ولمّا نزلت هذه الآية أخذه بيده ، وقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من ولاه ، وعادِ من عاداه فلقيه عمر فقال : هنيئاً يا بن أبى طالب ! أصبحت مولاى ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة ، وهو قول ابن عبّاس والبراء بن عازب ومحمّد بن علىّ"(١) . ثم انعطف الفخر الرازى ليقول : "و اعلم أنّ هذه الروايات وإن كثرت إلاّ أنّ الأولي حمله علي أنّه تعالي آمنه من مكر اليهود والنصاري ، وأمَره بإظهار التبليغ ٢٧٣ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
من غير مبالاة منه بهم"(١) . إنّ ما صرّح به الفخر الرازى من أنّ الروايات فى هذا القول ـ الأخير ـ كثيرة ، لهو أمر ثابت وصحيح . بَيد أنّ الذى يبعث علي الدهشة هو حال اُولئك المفسّرين والمحدّثين والمتكلّمين الذين لا ينصاعون إلي كلّ هذا الحشد من الروايات ، ولا يُذعنون إليه ، بل يجنحون إلي معاذير وتفسيرات لا تلتئم والواقع التاريخى ، ولا تنسجم مع شخصيّة رسول الله ½ ، أو تتواءم مع سيرته الوضيئة ، وتتوافق مع خطاه الراسخة فى إبلاغ الحقّ . نزول الآية فى واقعة الغدير لإبلاغ الولاية يتّضح ممّا سلف ; واستناداً إلي الروايات والأخبار الكثيرة التى أوردنا نصوصها ، أنّ آية الإبلاغ نزلت فى غدير خمّ للثامن عشر من ذى الحجّة عام ١٠ هـ ، عطفاً علي ما كان قد صرّح به النبىّ وذكره مرّات ، وتأكيداً لما كان نزل علي رسول الله ½ من الوحى القرآنى والبيانى أكثر من مرّة . علي أنّ من الحرىّ أن نؤكّد أنّ قوله سبحانه : ³ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ² يشمل كلّ ما هبط علي النبىّ ½ فى هذا المجال ، علي امتداد سنىّ الرسالة ، سواء أ كان وحياً قرآنيّاً أم وحياً بيانيّاً ، وذلك فى مختلف المواضع والمناسبات ، وعلي صعيد كافّة التجمّعات ممّا قلّ منها أو كثُر . والآن هذا هو النبىّ أمام صفوف متراصّة من المسلمين تبلغ عشرات الاُلوف قد قصدوا مكّة حجّاجاً من حواضر العالم الإسلامى وبواديه ، وأمّوا البيت العتيق من كلّ فجٍّ عميق . وإذا صوت الوحى يأتى النبىّ من فوره ، يأمره وهو فى السنة ٢٧٤ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
الأخيرة من عمره الشريف وفى حجّة الوداع ، أن يصدع بالولاية العلويّة ، ويُعلن علي الجميع إمامة علىّ بن أبى طالب ، بصراحة تامّة ، ودقّة متناهية لا تحتمل أدني شائبة من تأويل ، ولا تُطيق أىّ عذر أو تسويغ مهما كان . يتوجّس النبىّ من الأمر ويخشاه ، بيد أنّ خشيته لا علي نفسه وهو الذى حمل روحه علي كفّه وبذلها فى سبيل الحقّ منذ أيّام الدعوة الاُولي ، فقهر الصعاب وجعل المستحيل ذلولاً . يتوجّس ، لكن لا من المشركين وقد كسر شوكتهم ، وصاروا علي يديه فلولاً يائسة منهوكة . يخاف ، لكن أيضاً لامن اليهود والنصاري وقد لاذوا أمام عظمة المسلمين وجلال إهابهم ، بصمت ذليل . إنّما الذى يخشاه رسول الله ½ ويتوجّس منه لهو "داخل اُمّته" وما يريبه هو هذا "النفاق" الكامن الذى أخذ موقعه بين بعض المسلمين ، وما يخشاه هو هذه الشكوك التى يبثّها النفر الذين تظاهروا بالإسلام ، وهم فى ريب من أصل الرسالة ، وما يخاف منه هو هذه التُّهَم التى تهجم علي الكلام النبوى ، لترمى رسول الله ½ بالفئويّة الاُسريّة الضيّقة ، ومحاباة قرابته القريبة ، وتتّهمه بتحميل أهله علي الناس ! ممّا تكشف عنه لغة الآية والروايات ـ التى مرّت نصوصها فيما مضي ـ أيضاً أنّ أمين الوحى جبرائيل ¼ كان قد حمل فى الأيّام الأخيرة عن الله سبحانه ، إلي أمين الرسالة ½ أهميّة هذا الإبلاغ ، وأكّد علي ضرورته مرّات ، وأنّ رسول الله ½ تحدّث عن توجّسه وخيفته ; وها هو الآن البلاغ الأخير يقرع فؤاده : ³ يَا أَيُّهَا ٢٧٥ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
الرَّسُولُ بَلِّغْ ² (١) . يذهب العلاّمة الجليل الشيخ عبد الحسين الأمينى ـ استناداً إلي ثلاثين مصدراً يذكرها من مصادر أهل السنّة ـ إلي أنّ هذه الآية الكريمة نزلت فى يوم الغدير تأكيداً لوجوب الإجهار بولاية الإمام علىّ بن أبى طالب ¼ . كما يذكر أنّ المراد من قوله : ³ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ² هو ليس كّل "ما اُنزل إليك" كما ظنّ بعضٌ ذلك أو سعي لإقناع الآخرين به ، بل المقصود هو بعض "ما اُنزل إليك" ، وهذا البعض ليس سوي ولاية علىّ بن أبى طالب . وإلاّ هل يمكن إبلاغ جميع ما اُنزل فى تلك البرهة ؟ ثمّ أىّ مصداق آخر يُثير كلّ هذه الخيفة والتوجّس غير ولاية الإمام أمير المؤمنين ؟ إنّ هذا هو الواقع الذى يكشف عنه المشهد التاريخى الحقيقى ولا غير . فيا ليت العيون تُبصر المشهد علي حقيقته ، ويا ليت الآذان تُصغى إلي النداء كما ينبغى ! ³ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ² . مخاطبة رسول الله ½ بعنوان الرسالة هو الخطاب الخليق بصفة التبليغ . إيه يا نبىّ الله ! هل تتوجّس ؟ تُساورك الخشية ، وتنتابك الخِيفة ؟ لكن أىّ شىء هو شأنك غير البلاغ والدعوة ؟ وهل لك مسؤوليّة اُخري غير أن تصدع ٢٧٦ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
بكلمات الله وتجهر بها ؟ فادعُ ـ إذاً ـ واصدع وبلّغ ، إنّما بدقّة متناهية ، وبصيغة مؤثّرة وثابتة ³ وَمَا عَلَي الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ ² . ³ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ² . تُري ما الذى ³ أُنزِلَ إِلَيْكَ ² ؟ ولماذا لم يُصرّح به ؟ إنّما كان ذلك كى يكشف عن الموقع الرفيع الذى يحظي به الأمر . وجاء بهذه الصيغة إجلالاً وتعظيماً لذلك الأمر ، ولكى يُشير إلي أنّه ليس لرسول الله ½ من الأمر شىء ، ولا له فيه إرادة واختيار ، بل مهمّته الإبلاغ وحسب . من جهة اُخري تنمّ هذه الصيغة عن صحّة فراسة النبىّ لما كان يرتقبه من ردود فعل متوجّسة تصدر عن القوم ، ممّا جعل الله سبحانه يدع الأمر فى هالة من الغموض والإبهام ، ما برحت تُلقى ظلالها علي الموقف حتي تحين لحظة البلاغ ، وينطق النبىّ بكلمة السماء . ³ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ² . يُحار الإنسان لاُولئك الذين جنحوا فى تفسير الآية إلي كلام آخر ، وحين راموا الصدود عن "الحقيقة" سلكوا طريقاً واهياً لا يأوى إلي قرار ! تُري كيف يفسّرون هذه الجزء من الآية ؟ وما هو المعني الذى يسوقونه إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما تُصرّح به بعض التعاليم الإلهيّة من النهى عن الكتمان ؟ تُري ما الذى يؤدّى كتمانه وعدم إظهاره والتأكيد عليه ، ممّا نزل علي رسول الله ½ ، إلي بلوغ حالة يصير فيها بنيان الرسالة فى مهبّ الريح وكأنّها لم تُبلّغ ! وأىّ أمر هذا الذى إذا غاب عن الأذهان ، واستطاع أعداء الرسالة وأْده والقضاء عليه فى واقع المجتمع ; يتقوّض أساس هذا الدين ، وكأنّه لم يكن ! ٢٧٧ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / بحث حول آية التبليغ
إنّ هذه الكلمة العجيبة المدهشة لتومئ من جهة إلي ما يحظي به هذا البلاغ من شأْو عظيم ، كما تؤشّر من جهة اُخري إلي حقيقة تُفيد أنّه ليس ثمّة خيار أمام رسول الله ½ إلاّ تبليغ هذه الرسالة ، حيث أنذره ربّه ـ إن هو لم يبلّغ ـ بتلاشى جميع الجهود ، وضياع كلّ تلك الآلام والمشاقّ التى طوتها الأعوام الثلاث والعشرون من عمر الرسالة ، واضمحلال ما أنفق فيها من جهد وجهاد . ³ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ² . فى عين الله حراستك ، وأنت فى حفظه وحماه . كأنّك ـ يا رسول الله ـ تتوجّس خيفة من الأمر ، وتخشي ردود فعل تلك النفوس المظلمة ، وتتهيّب هياجها وما تُثيره من شحناء . لكن اعلم أنّ الله علي كلّ شىء قدير . سيزول مكرهم جميعاً ، ويغدو كهشيم تذروه الرياح ، ويتلاشي كيد الناس ، جميع ³ النَّاسِ ² ! إنّ الله سبحانه ليؤكّد فى هذا الجزء مجدّداً علي عظمة البلاغ ، كما يُشير اُخري إلي ذوى الريبة والنفوس المدلهمّة . لكن مَن هم هؤلاء ؟ لم يُفصح النصّ عن شىء ، بل مضي يوعِد بزوال جميع ضروب المكر ، وسقوط كلّ أحابيل الشيطان ، وتلاشى المكائد جميعاً ، من أىّ إنسان كان ! إنّ كلّ كلمة فى الآية لتُسفِر عن عظمة هذا البلاغ وسموّه ، وهى تُومئ أيضاً إلي مخاوف وهواجس ، وإلي نفوس اُناس موبوءة بالإحن والشحناء ، مملوءة بالضغينة والغضب ! فيا ليت اُولئك المفسّرين والباحثين القرآنيّين الذين جنحوا إلي أقوال اُخَر يبصرون بتأمّل : أىّ شىء من ³ مَا أُنزِلَ ² يثير إبلاغه كلّ هذه الخشية ٢٧٨ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / إكمال الدين
والهواجس ؟ حتي إذا ما ظهر إلي الناس أثار الحنق والغضب ، وجرّ اُناساً إلي مواجهات ومواقف ؟ ثمّ لهم أن يتأمّلوا فى حقيقة التاريخ الإسلامى وواقعه الصادق ، ليُبصروا ما الذى أثار الإحَن والفتن ؟ وأىّ شىء أحدث كلّ هذا الهياج ؟ ! ١٠ / ٢ ³ الْيَوْمَ يَـئـِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² (١) . ٧٧٨ ـ تاريخ دمشق عن أبى سعيد الخدرى : لمّا نصب رسول الله ½ عليّاً بغدير خمّ فنادي له بالولاية ، هبط جبريل ¼ عليه بهذه الآية : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² (٢) . ٧٧٩ ـ الدرّ المنثور عن أبى هريرة : لمّا كان يوم غدير خُمّ ـ وهو يوم ثمانية(٣) عشر من ذى الحجّة ـ قال النبىّ ½ : من كنت مولاه فعلىّ مولاه . فأنزل الله : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ² (٤) . ٧٨٠ ـ تاريخ بغداد عن أبى هريرة : من صام يوم ثمانية(٥) عشر من ذى الحجّة (١) المائدة : ٣ . ٢٧٩ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / إكمال الدين
كتب له صيام ستّين شهراً ، وهو يوم غدير خمّ ; لمّا أخذ النبىّ ½ بيد علىّ بن أبى طالب فقال : أ لست ولىّ المؤمنين ؟ ! قالوا : بلي يا رسول الله ! قال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه . فقال عمر بن الخطّاب : بخ بخ لك يابن أبى طالب ; أصبحتَ مولاى ومولي كلّ مسلم ، فأنزل الله : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ² (١) . ٧٨١ ـ الإمام علىّ ¼ : إنّ بولايتى أكمل الله لهذه الاُمّة دينهم ، وأتمّ عليهم النَّعَم ، ورضى إسلامهم ; إذ يقول يوم الولاية لمحمّد ½ : يا محمّد ، أخبرهم أنّى أكملتُ لهم اليوم دينَهم ، ورضيتُ لهم الإسلام ديناً ، وأتممتُ عليهم نعمتى ، كلّ ذلك مَنّ مِن الله علىَّ ; فله الحمد(٢) . ٧٨٢ ـ عنه ¼ : سمعت رسول الله ½ يقول : بُنى الإسلام علي خمس خصال : علي الشهادتين ، والقرينتين ـ قيل له : أمّا الشهادتان فقد عرفناهما ، فما القرينتان ؟ ! قال : الصلاة والزكاة ; فإنّه لا يقبل إحداهما(٣) إلاّ بالاُخري ـ والصيام ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وختم ذلك بالولاية ، فأنزل الله (١) تاريخ بغداد : ٨ / ٢٩٠ / ٤٣٩٢ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٢٣٣ وص ٢٣٤ / ٨٧٣٩ وفيه "مولي" بدل "ولى" ، البداية والنهاية : ٧ / ٣٥٠ ، المناقب لابن المغازلى : ١٩ / ٢٤ وفيه "أ لست أولي بالمؤمنين من أنفسهم"بدل "أ لست ولىّ المؤمنين" ، شواهد التنزيل : ١ / ٢٠٠ / ٢١٠ نحوه إلي "يا بن أبى طالب" ، فرائد السمطين : ١ / ٧٧ / ٤٤ ، المناقب للخوارزمى : ١٥٦ / ١٨٤ كلاهما نحوه وفيهما إلي "مولي سحلّ مسلم" ; الأمالى للصدوق : ٥٠ / ٢ ، روضة الواعظين : ٣٨٤ وفيهما "أولي بالمؤمنين" بدل "ولىّ المؤمنين" ، الأمالى للشجرى : ١ / ٤٢ وص ٢٥٩ . ٢٨٠ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / إكمال الدين
عزّ وجلّ : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² (١) . ٧٨٣ ـ عنه ¼ : إنّ الله تبارك اسمه امتحن بى عباده ، وقتل بيدى أضداده ، وأفني بسيفى جحّاده ، وجعلنى زلفةً للمؤمنين ، وحياض موت علي الجبّارين ، وسيفه علي المجرمين ، وشدّ بى أزر رسوله ، وأكرمنى بنصره ، وشرّفنى بعلمه ، وحبانى بأحكامه ، واختصّنى بوصيّته ، واصطفانى بخلافته فى اُمّته . فقال ½ وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصّت بهم المحافل : أيّها الناس! إنّ عليّاً منّى كهارون من موسي إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى . فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول إذ عرفونى أنّى لست بأخيه لأبيه واُمّه كما كان هارون أخا موسي لأبيه واُمّه ، ولا كنت نبيّاً فاقتضي نبوّة ، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لى كما استخلف موسي هارون ¤ حيث يقول : ³ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ² (٢). وقوله ½ حين تكلّمت طائفة فقالت : نحن موالى رسول الله ½ ، فخرج رسول الله ½ إلي حجّة الوداع ثمّ صار إلي غدير خمّ ، فأمر فأصلح له شبه المنبر ، ثمّ علاه وأخذ بعضدى حتي رُئى بياض إبطيه ، رافعاً صوته قائلاً فى محفله : من كنتُ مولاه فعلىّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه . فكانت علي ولايتى ولاية الله وعلي عداوتى عداوة الله . وأنزل الله عزّ وجلّ فى ذلك اليوم ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ (١) الأمالى للطوسى : ٥١٨ / ١١٣٤ عن المجاشعى عن الإمام الرضا عن آبائه
(ع) وعن محمّد بن جعفر عن أبيه الإمام الصادق عن آبائه
(ع) ، بحار الأنوار : ٦٨ / ٣٧٩ / ٢٩ . ٢٨١ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / إكمال الدين
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² (١) فكانت ولايتى كمال الدين ورضا الربّ جلّ ذكره ، وأنزل الله تبارك وتعالي اختصاصا لى وتكرّماً(٢). ٧٨٤ ـ الإمام الباقر ¼ ـ فى قوله : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ² ـ : نزلت فى علىّ بن أبى طالب ¼ خاصّة ، دون الناس(٣) . ٧٨٥ ـ علل الشرائع عن إسحاق بن إسماعيل النيسابورى : أنّ العالم ـ يعنى الحسن بن علىّ ¤ ـ كتب إليه : إنّ الله تعالي ـ بمنّه ورحمته ـ لمّا فرض عليكم الفرائض لم يفرض ذلك عليكم لحاجة منه إليه ، بل رحمةً منه إليكم ، لا إله إلاّ هو ; ليميز الخبيث من الطيّب ، وليبتلى ما فى صدوركم ، وليمحّص ما فى قلوبكم ، ولتتسابقوا إلي رحمته ، ولتتفاضل منازلكم فى جنّته . ففرض(٤) عليكم الحجّ والعمرة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصوم ، والولاية . وجعل لكم باباً لتفتحوا به أبواب الفرائض ، ومفتاحاً إلي سبيله . ولولا محمّد ½ والأوصياء من ولده كنتم حياري كالبهائم ; لا تعرفون فرضاً من الفرائض ، وهل تدخل قرية إلاّ من بابها ! ! فلمّا منّ الله عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيّكم ½ ، قال الله عزّ وجلّ : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً ، فأمركم بأدائها إليهم(٥) . (١) المائدة : ٣ . ٢٨٢ - المجلد الثانى / القسم الثالث : جهود النبىّ لقيادة الإمام علىّ / الفصل العاشر : حديث الغدير / إكمال الدين
٧٨٦ ـ تاريخ اليعقوبى : قد قيل إنّ آخر ما نزل عليه [النبىّ ½ ] : ³ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِِْْسْلامَ دِينًا ² ، وهى الرواية الصحيحة الثابتة الصريحة . وكان نزولها يوم النصّ علي أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليه بغدير خُمّ(١) . |
||