الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد الرابع

 

 

 ١٩ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

( ٢ )

تنتهى عمليّة تفحّص النصوص الإسلاميّة فى مضمار القواعد التى تنهض عليها مرتكزات النظام الإسلامى ، إلي أنّ الإسلام هو دين الحكومة علي القلوب ; وإلي أنّ المنطلقات السياسيّة للحكم الإسلامى هى اُصول هذا النوع من الحكم والإدارة ، ومن ثَمَّ فإنّ المبانى السياسيّة للنظام العلوى هى ليست شيئاً غير مرتكزات الإدارة الإسلاميّة نفسها .

فالإسلام منهج لتكامل الإنسان ماديّاً ومعنويّاً ، وإنّ الحبّ هو أهم العناصر التى تدخل فى قوام هذا المنهج . لقد بلغ موقع الحبّ فى قيام الحكومة الإسلاميّة ، ودوره فى برامج هذا الدين من أجل تقدّم المجتمع الإنسانى ، حدّاً جعل الإمام الباقر  ¼ لا يري الإسلام إلاّ أنّه دين الحبّ وحسب ، وهو يقول : "هل الدين إلاّ الحبّ !"(١) .

ومن وجهة نظر الإمام أمير المؤمنين  ¼ تقوم الدعائم الأساسيّة للإسلام


(١) دعائم الإسلام : ١ / ٧١ .

 ٢٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

واُصول منهاجه التكاملى ، علي أساس محبّة الله ، حيث يقول :

"إنّ هذا الإسلام دين الله الذى اصطفاه لنفسه ، واصطنعه علي عينه ، وأصفاه خيرة خلقه ، وأقام دعائمه علي محبّته"(١) .

كما أنّ أئمّة الدين والقادة السياسييّن الصادقين للاُمّة الإسلاميّة ، ما هُم إلاّ مظاهر محبّة الناس للخالق جلّ جلاله ; وما محبّة الناس لهم إلاّ محبّة لله سبحانه(٢) .

وعلي هذا الأساس تتخطّي القاعدة الصلبة التى تقوم عليها الحكومة الإسلاميّة دائرة البيعة ورأى الناس ; إذ للحكم الإسلامى جذر راسخ فى حبّ الناس وقلوبهم . وهنا يكمن سرّ كلّ هذا التركيز القرآنى والأحاديث الإسلاميّة ، علي محبّة أهل البيت    ¥ ومودّتهم(٣) .

من جهة اُخري نعرف أنّ المحبّة لا ترتكن إلي الأمر ; إذ يمكن إجبار الإنسان علي أن يقوم بعمل خلاف رغبته وضدَّ ميله الباطنى ، ولكن لا يمكن إجباره علي حبّ شخص من دون أن ينجذب إليه ويميل له ذاتياً .

إنّ الإنسان عاشق للجمال بطبيعته ، فهو يحبّ جميع مظاهر الجمال المادّى والمعنوى . فإذا أحبّ منهج إنسان وسيرته وارتاح إلي فعله وعمله مالَ إليه وتوثّقت علاقته به ، وإذا نفر منه واستوحش فعله وسيرته لم يحبّه .


(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٨ .
(٢) "من أحبّكم فقد أحبّ الله" (تهذيب الأحكام : ٦ / ٩٧ وص ١٠١ / ١ ، من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٦١٣ / ٣٢١٣ .
(٣) راجع : كتاب "المحبّة فى الكتاب والسنّة" / الفصل السابع / من تجب محبّته .

 ٢١ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

من هنا نفهم أنّ فلسفة وجوب محبّة أهل البيت ، تكمن فى السعى من أجل معرفتهم معرفة حقيقيّة ; لأنّ سيرتهم وسلوكهم هما من الجمال والجاذبيّة بحيث لا يطّلع عليها إنسان وهو سليم الوجدان لم يفقد ضميره الإنسانى ، إلاّ أحبّهم وشعر بالمودّة إزاءهم .

وهنا بالضبط يكمن سرّ حبّ كلّ الذين عرفوا علىّ بن أبى طالب سواء أ كانوا مسلمين أم غير مسلمين .

لقد استطاع الإمام أمير المؤمنين  ¼ أن يعكس فى حياته وبالأخصّ خلال عهده السياسى القصير أبهي صورة للإنسانيّة ، وأعظم صيغة للحكم المبتنى علي أساس القيم الإنسانيّة ; فليس بمقدور إنسان ينظر إلي جمال فِعال علىّ وحكمه ثمّ لا يهيم به حبّاً .

وفيما يلى نمرّ سريعاً علي الاُصول السياسيّة للإمام ومرتكزاته فى إدارة البلاد ; هذه المرتكزات التى تعدّ فى حقيقتها سرّ إيجاد ضروب الجمال ، ودائرة النفوذ العلويّة ، كما تؤلّف الاُصول السياسيّة للحكومة علي القلوب ، وذلك علي أمل أن يقترب مسؤولو نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وقادته من الإمام أكثر فأكثر ، ويعكسوا للعالم ملامح من الصورة الوضّاءة للحكم العلوى .

اُصول السياسة الإداريّة

يمكن استخلاص السياسة الإداريّة للإمام على  ¼ وإرجاعها إلي عدّة اُصول ، هى :

١ ـ الصدق فى السياسة

الصدق فى السياسة هو أهمّ أصل فى السياسة الإداريّة للإمام أمير المؤمنين  ¼ ،

 ٢٢ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

وهو رمز النفوذ الخلاّق والجاذبيّة الخالدة للحكم العلوى ، والحدّ الفاصل بين تخوم السياستين العلويّة والاُمويّة ، فإنّه لا معني للصدق ولا مكان له فى قاموس السياسة الاُمويّة ، والكذب هو الأداة الأساسيّة فى ضروب الفعّاليّة السياسيّة عند السياسييّن المحترفين .

يذكر الإمام الخمينى أنّ أحد مسؤولى النظام الملكى السابق زاره عندما كان فى السجن ، وقال له : "إنَّ السياسة خبث وكذب وخداع . . . وهى بلاء سيّئ ، اتركوا ذلك لنا" !

يضيف الإمام الخمينى فى تتمّة الواقعة : "صحيحٌ ما يقوله ; فلئن كانت السياسة لا تعنى إلاّ هذه الاُمور ، فهى من شؤونهم"(١) . أجل ، إذا ما حذف الكذب عن السياسة فى عالَم السياسييّن المحترفين فلن يبقي منها شىء .

أمّا فى قاموس السياسة العلويّة فإنّ الصدق أوّل شروط الحكم والتأهّل السياسى ، فإذا لم يكن ثَمَّ وجود للصدق السياسى فلن يكون هناك معني لسيادة الحقّ ، وحاكميّة القانون ، وحقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعيّة ، وجميع البرامج والسياسات البنّاءة التى سنشير لها بعدئذ ، حيث تتحوّل بأجمعها إلي كلمات فارغة لا معني لها ، وتنقلب إلي أداة للابتزاز والتعدّى علي حقوق الناس أكثر .

فى نهج السياسة العلويّة لا يجوز توظيف الحيل السياسيّة إلاّ فى مورد واحد هو الحرب ، والحرب هى الاستثناء الوحيد للّجوء إلي الخديعة ، كما سيأتى توضيح ذلك أثناء الحديث عن السياسة الحربيّة للإمام  ¼ .


(١) ولاية الفقيه : ١٩٢ و١٩٣ .

 ٢٣ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

٢ ـ محوريّة الحقّ

تعدّ محوريّة الحقّ مظهراً للصدق السياسى فى الحكم العلوى ، فإذا ما جلت النظر فى سلوك الإمام  ¼ وسيرته السياسيّة فى جميع مجالات الحكم ، لرأيت أن الالتزام بهذا الأصل واضح فى ثنايا هذه السيرة ، وفى كلّ مرفق من مرافقها . لقد كان الإمام يري أنّ إقامة الحقّ وإحقاقه هو عماد فلسفة حكمه ، ولم يكن يفكِّر فى إدارة الاجتماع السياسى بشىء آخر غير إحياء الحقّ ومحو الباطل .

علي هذا الضوء واجه الإمام  ¼ بشدّة اُسلوب المداهنة والتلوّن فى إدارة شؤون المجتمع ، فيما كانت تمثِّله السياسة الاُمويّة .

٣ ـ سيادة القانون

لقد بلغ من احترام الإمام  ¼ للقانون أنّه لم يكن يري لنفسه خاصّية أمام القانون . كان يؤمن أنّه ليس هناك شخص فوق القانون ، ولن يستطيع أحد ـ ولا ينبغى له ـ أن يكون مانعاً عن تنفيذ القانون الإلهى .

٤ ـ الانضباط الإدارى

كان الإمام  ¼ ميّالاً بحزم إلي خاصّية النظم والانضباط فى الشؤون الفرديّة والاجتماعيّة ، بالأخص الاُمور ذات الصلة بالحكم ; ففى فلسفة الإمام كانت واحدة من حِكَم القرآن إيجاد النَّظم فى المجتمع ، حيث يقول فى وصفه : "ألا إنّ فيه علم ما يأتى ، والحديث عن الماضى ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم" .

كان الإمام يحثّ العاملين معه علي الدوام أن لا يغفلوا عن خاصّية الانضباط الإدارى فى ممارسة العمل ، وأن يبذلوا جهدهم لإنجاز كلّ واجب فى وقته المحدّد .

 ٢٤ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

لقد بلغ من اهتمام الإمام وفائق عنايته بالنظم ، أنه راح يوصى بذلك أولاده حتي وهو علي فراش الشهادة .

٥ ـ انتخاب الأكفّاء

فى رؤية الإمام ينبغى انتخاب العاملين فى النظام الإسلامى علي أساس الجدارة لا علي أساس المحسوبيّة والمنسوبيّة . وفى هذا السياق ينبغى أن تُراعي فى عمليّة الاختيار ما يحظي به هؤلاء من تأهيل أخلاقى ، وأصالة عائليّة ، وما يتحلّون به من كفاءة وتخصّص . كما لا يجوز للمدراء فى النظام الإسلامى أن يوزّعوا المناصب علي أساس الصلات العائليّة والعلاقات السياسيّة . ولا يحقّ أن يلى أمور الناس المحروم من الأصالة العائليّة ، ولا أن تناط المسؤوليّة بسيّئ الأخلاق ، أو أن يُعهد بشؤون المجتمع لمن يفتقر إلي الكفاءة والتخصّص ويفتقد للحيويّة اللازمة .

٦ ـ تأمين الاحتياجات الاقتصاديّة للعاملين

يعتقد الإمام أنّ من لوازم الحؤول دون الفساد الإدارى ، أن يتمتّع العاملون فى النطاق الحكومى والوظائف العامة بحدٍّ كاف من الحقوق الماليّة تؤمن لهم الحياة الكريمة ، لكى تتوافر الأرضيّة المناسبة لإصلاح هؤلاء ، ولا يطمعوا بالمال العامّ ، ومن ثَمّ تنتفى فى حياتهم دوافع الاتّجاه صوب الفساد والخيانة .

٧ ـ الاهتمام الخاصّ بالقوّات المسلّحة

من بين العاملين فى نطاق أجهزة النظام الإسلامى يركِّز الإمام علي القوّات المسلّحة ; إذ ينبغى أن يحظي هؤلاء باهتمام خاصّ ، كما أنّ علي الوالى أن يتعامل معهم معاملة الوالدين مع أبنائهما .

 ٢٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

٨ ـ تأسيس جهاز الرقابة علي العاملين

نهي الإمام أمير المؤمنين  ¼ بشدّة عن ممارسة التجسّس والتدخّل بالاُمور الشخصيّة للمجتمع أثناء عهده السياسى(١) ، بيدَ أنّه مع ذلك كان يري من الضرورى فرض رقابة علي العاملين فى النظام الإسلامى ، وممارسة ذلك عبر جهاز رقابى خاص ، ومن خلال موظّفين سريّين (عيون) ، لئلاّ يتواني هؤلاء فى أداء وظائفهم ، أو يتعدّوا علي حقوق الناس بالاتّكاء إلي ما لديهم من سلطة .

إنّ عهود الإمام واللوائح التى أصدرها بهذا الشأن ، وما بعث به من رسائل للولاة المتخلّفين مثل الأشعث بن قيس ، وزياد بن أبيه ، وقدامة بن عجلان ، ومصقلة بن هبيرة ، والمنذر بن الجارود ، كلّها تحكى تأسيس الإمام لجهاز رقابى مقتدر كان ينهض بمهمّة مراقبة العاملين معه خلال عهده السياسى .

لقد بلغ المخبرون السرّيّون والعاملون فى جهاز الرقابة الخاصّ فى حكومة الإمام ، حدّاً من العدالة والوثاقة ، بحيث تحوّلت تقاريرهم وما يُدلون به من معلومات إلي قاعدة تستند إليها سياسة التحفيز الإدارى للعاملين ، حيث يشجَّع المحسنون ، ويعزَل الخونة والفاسدون بعد إثبات جرمهم مباشرة ، وينزل بهم من العقوبة ما يكون عبرة للآخرين ، وعِظة لمن اتّعظ .

٩ ـ منع الهديّة

شرَّع النظام العلوى مبدأ منع أخذ العاملين فى الدولة الهدايا من الناس ، بالإضافة إلي حرمة تعاطى الرشوة ، إمعاناً فى مبارزة الفساد الإدارى . وكان الإمام أمير المؤمنين يعدّ أخذ الهديّة "غلولاً" ، وأخذ الرشوة "شركاً" .


(١) راجع نهج البلاغة : الكتاب ٥٣ .

 ٢٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

١٠ ـ الحزم المصحوب باللين

يسير النظام العلوى فى التعاطى مع العاملين فى النطاق الحكومى ، علي منهج يجمع بين الحزم واللين . فمن وجهة نظر الإمام تعدّ القسوة المطلقة آفة تهدِّد النسق الإدارى ، وفى الوقت ذاته يلحق اللين اللامحدود أضراراً بإدارة المجتمع . ومن ثَمَّ فإنّ الإدارة الناجحة هى التى تجمع ـ بحسب تعبير الإمام ـ بين القسوة والرأفة ، وتقرن الشدّة إلي اللين . ففى المواضع التى تحتاج إلي الشدّة ينبغى التعامل بحزم ، وفى المواقع التى يكون فيها اللين هو الأجدي ، ينبغى التزام سياسة الرفق والمداراة .

اُصول السياسة الثقافيّة

تكمن أبرز مرتكزات السياسة الثقافيّة للإمام ، فى المنطلقات التالية :

١ ـ تنمية التربية والتعليم

تتقدّم التنمية الثقافيّة فى النظام العلوى علي التنمية الاقتصاديّة ; فعلاوة علي أنَّ التنمية الاقتصاديّة غير ممكنة من دون التنمية الثقافيّة ; فإنّ حاجة الروح إلي التربية والتعليم أكثر من حاجة الجسد إلي الطعام والشراب .

وأساساً لا تزيد فلسفة الوحى والنبوّة وفلسفة الحكم فى منهج الأنبياء الإلهيّين ، علي تربية الإنسان وتعليمه ، وإنَّ جميع الجهود ما هى إلاّ مقدّمة لبناء الإنسان الكامل . علي هذا الأساس كان الأنبياء والأوصياء يتولّون شخصياً تعليم الناس وتربيتهم ، وعلي هذا مضت أيضاً سيرة الإمام أمير المؤمنين  ¼ وسياسته .

٢ ـ تصحيح الثقافة العامّة

تكمن واحدة من أبرز العناصر الأساسيّة لمنهج الحكم العلوى فى الإقدام

 ٢٧ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

علي تصحيح الثقافة العامّة للمجتمع . فعلي قدر ما كان الإمام يدافع عن السنن والتقاليد الاجتماعيّة البنّاءة ، كان يهاجم بعنف الأعراف والتقاليد الخاطئة ، ولم يكن يسمح أن تواصل التقاليد الخاطئة والأعراف الضارّة ، حضورها فى المجتمع الإسلامى .

٣ ـ النقد البنّاء بدلاً من الإطراء والتملّق

تكمن واحدة من أهمّ مبادرات الإمام علىّ  ¼ وأكثرها ألقاً لجهة تصحيح الثقافة الاجتماعيّة العامّة ، بمواجهته لحالة تملّق الاُمراء ومديح القادة السياسيّين .

لقد حثَّ الإمام أمير المؤمنين الولاة والعاملين معه علي أن يقرّبوا الأجرأ فى قول الحقّ ، والأكثر صراحة فى الجهر به ، وأن يربّوا مَن حولهم علي عدم تملّقهم والإطراء عليهم أكثر من الاستحقاق .

أمّا فيما يرتبط بالإمام شخصيّاً فقد كان يرفض أىّ ضرب من الثناء حوله ، وكان يواجه المثنين والمتملّقين بمواقف علنيّة صريحة وحازمة . كما كان يحثّ الناس أن لا يُطروه بسبب نهوضه بأداء التكاليف الإلهيّة ، وأن يتّجهوا بدل الثناء إلي النصيحة بخير ، والنقد البنّاء الصريح لبرامجه وأعماله ، إذا كان ثمّة نقد فى هذا المجال .

٤ ـ معياريّة الحقّ فى اتّباع الرجال

تتمثّل واحدة من أهمّ توجيهات الإمام لتصحيح الثقافة العامّة فى نصب الحقّ ميزاناً فى اتّباع الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة وموالاتها .

وتنشأ أغلب الانحرافات السياسيّة والاجتماعيّة من التمحور حول مفهوم

 ٢٨ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

الشخصيّة . وفى هذا الاتّجاه حذَّر الإمام أمير المؤمنين  ¼ المجتمع من أنّ الشخصيّات مهما عظمت ، ولحظتها العيون بالحبّ والتقدير والإجلال ، فلا يمكن أن تتحوّل إلي معيار للحقّ والباطل ، وإلي ميزان لهما ، ثمّ سعي أن يرفع المجتمع من زاوية الوعى الثقافى ، ويرتقى به إلي المستوي الذى يزن به الشخصيّات الكبيرة ويعرفها بمعيار الحقّ ، لا أن يزن الحقّ بمعيار الرجال .

اُصول السياسة الاقتصاديّة

تتمثّل اُصول السياسة الاقتصاديّة فى حكومة الإمام على  ¼ بالدعائم التالية :

١ ـ إشاعة ثقافة العمل

يعدّ الفقر الاقتصادى فى رؤية الإمام أمير المؤمنين  ¼ معلولاً للتلازم بين ثقافة الكسل والعجز . وإلاّ فإنّ المجتمع الذى تهيمن عليه ثقافة العمل لا يمكن أن يُصاب أبداً بآفة الفقر ، الذى يعدّ بدوره بؤرة لتفشّى كثير من الأمراض المادّية والمعنويّة فى المضمارين الفردى والاجتماعى .

علي هذا الأساس راح الإمام يُشيع ثقافة العمل فى ربوع المجتمع بوصف العمل عبادة ، وكان هو نفسه  ¼ عاملاً نموذجياً .

٢ ـ التنمية الزراعيّة

لقد أولي الإمام أمير المؤمنين  ¼ عناية فائقة بالتنمية الزراعيّة من أجل القضاء علي الفقر فى المجتمع ، وراح يُقرّع الاُمّة التى تملك الماء والتراب ثمّ تُصاب مع ذلك بالفقر ، وهو يقول : "مَن وجد ماءً وتراباً ثمّ افتقر فأبعده الله" .

وفى نهج الإمام تتمثّل واحدة من ملاكات تقييم كفاءة الأنظمة بمدي التزامها بمبدأ التنمية الزراعيّة . لهذا كان يعدّ التنمية الزراعيّة فى طليعة الوظائف

 ٢٩ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

الأساسيّة للعاملين فى حكومته ، وقد ألزم اُمراء الجيوش بالدفاع عن حقوق الفلاّحين .

٣ ـ التنمية الصناعيّة

مع أنّ الصناعة لم تكن تلعب دوراً مهمّاً فى الاقتصاد السائد علي عهد حكم الإمام ، إلاّ أنّه أولاها أهمّية كبيرة كما يتبيَّن من الأحاديث التى تُنقَل عنه  ¼ فى هذا المجال ; فالإمام يذكر الحِرَف والصناعات علي أنّها كنز ، ويوصى العاملين فى حكومته بحماية الحرفيّين ، كما يحثّ أهل الصناعات علي مراعاة الدقّة فى العمل ، وأن لا يضحّوا بالجودة والكفاءة فى سبيل السرعة .

٤ ـ التنمية التجاريّة

كانت التجارة فى صدر الإسلام وخلال العهد العلوى تلعب الدور الأكبر فى تأمين الاحتياجات الاقتصاديّة للمجتمع . لذلك عمدت حكومة الإمام إلي حماية التجّار بجوار حمايتها لأصحاب الصناعات والحرف .

٥ ـ الإشراف المباشر علي السوق

لجهةِ ما للسوق من أهمّية فى الاقتصاد ، حرص الإمام علي ممارسة إشراف مباشر عليه ، حيث كان يراقب السوق شخصياً ، فى إطار برنامج يسوقه صبيحة كلّ يوم إلي أسواق الكوفة ، وكأنّه فى مهمّة "معلِّم الصبيان" كما يقول الراوى ، وهو يحثّ الباعة علي التزام التقوي ، والاحتراز عن التطفيف والكذب والظلم والاحتكار ، وينهاهم عن ضروب المعاصى التى قد ينزلقون إليها فى هذا المجال . كما يطلب منهم رعاية الإنصاف ، وتحرّى الأخلاق الإسلاميّة فى التعاطى مع المشترين .

 ٣٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

٦ ـ سياسة أخذ الخراج

لم تكن سياسة الإمام فى أخذ الخراج وجباية الأموال الإسلاميّة علي منوال واحد ، بل كان يرعي حقوق مؤدّى هذه الأموال أيضاً ; ففى إطار الحكم العلوى كان جهاز الضريبة والعاملون فى جباية الخراج ملزمين بالإضافة إلي التزام الحذر ورعاية الدقّة المطلوبة ، بتحرّى جانب الإنصاف ، والعناية بالأخلاق الإسلاميّة فى التعاطى مع الناس .

٧ ـ عدم التأخّر فى توزيع المال العامّ

لم يُجز الإمام حبس المال العام فى خزانة الدولة ، ولم يكن يرضي بتأخير توزيع أموال بيت المال وتقسيمها حتي لليلة واحدة ، بل كان يعتقد أنّ ما يعود إلي الناس ينبغى دفعه إليهم فى أوّل فرصة مواتية .

٨ ـ تقسيم المال العام بالتساوى

كان الإمام يسلك سياسة توزيع المال العام بين جميع المسلمين بالتساوى ; ففى نهج الإمام كان يتساوي فى العطاء : العربى والأعجمى ، والمهاجرى والأنصارى ، والأسود والأبيض ، بل لم يكن يختلف العبد المعتق عن سيّده ومولاه فى نصيبه من الدخل العامّ .

٩ ـ تأمين الاحتياجات الأساسيّة للجميع

ترتكز سياسة الإمام الاقتصاديّة علي استئصال الفقر من المجتمع ، حيث كان  ¼ يقول : "ما جاع فقير إلاّ بما مُتّع به غنىّ" . علي هذا الضوء كان يري أنّ الدولة الإسلاميّة مسؤولة عن تأمين متطلّبات الحدّ الأدني ، وتوفير المستلزمات الضروريّة لجميع الذين يعيشون فى نطاق جغرافيّة الأمصار الإسلاميّة .

 ٣١ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

فكما أنّ الذى يعيش فى الكوفة ينبغى أن يحظي بالرفاه النسبى ، وأن لا يواجه مشكلة علي صعيد المستلزمات الأوّليّة مثل الطعام والشراب والمسكن ، فكذلك الحال فى سائر الأمصار ; إذ كان الإمام أمير المؤمنين  ¼ يركّز علي حماية الطبقة الضعيفة من المجتمع ، ويولى عناية خاصة بالأيتام واُسر الشهداء ، بحيث كان يهتمّ بذلك شخصيّاً كلّما واتته الفرصة .

١٠ ـ حرمة بذل المال العامّ

كان الإمام يعدّ المال العام أمانة لدي العاملين فى اُطُر الدولة ، وكان لا يسمح لهؤلاء فى بذل هذا المال وتوزيعه هدايا وهبات ، ويقول : "جود الولاة بفىء المسلمين جور وخَتْر(١)" .

١١ ـ تحريم الامتيازات للأولاد والمقرّبين

لم يكن الإمام يعترف بأى امتياز خاص لأحد فى توزيع المال العامّ ، ولم يُستثنَ من هذا القانون أحدٌ لا من الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة البارزة ، ولا من أولاده المقرّبين إليه ، بل كان الإمام يُبدى حذراً أكبر فى هذا الجانب إزاء المقرّبين إليه ; لكى يكون ذلك عظة للآخرين .

١٢ ـ التقشّف فى المال العامّ والاحتياط فى صرفه

كان نهج الإمام فى صرف المال العام يشدّ إليه الأنظار ويوحى بالدروس والعبر . فلكى يدفع ولاته والعاملين معه إلي أقصي نهايات التقشّف وصيانة الأموال العامة ، عمّم الإمام أمراً إدارياً حثَّ فيه هؤلاء أن لا ينسوا هذا المبدأ فى الكتابة إليه ، وراح يقول : "أدقّوا أقلامكم ، وقاربوا بين سطوركم ، واحذفوا عنّى


(١) الخَتْر : الغدر (النهاية : ٢/٩) .

 ٣٢ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

فضولكم ، وأقصدوا قصد المعانى ، وإيّاكم والإكثار ; فإنّ أموال المسلمين لا تحتمل أضراراً" .

أمّا حرص الإمام نفسه وسلوكه الشخصى فى التصرّف ببيت المال ، فهو أمر يبعث علي الدهشة ! فالإمام لم يكن علي استعداد لأن يستفيد من نور سراج تابع لبيت المال فى جواب من راجعه ليلاً فى أمر شخصى ! فعندما كان الإمام أمير المؤمنين  ¼ مشغولاً بكتابة ما يتعلّق بكيفيّة تقسيم بيت المال ، ودخل عليه طلحة والزبير فى أمر شخصى ، عمد إلي السراج الذى كان يستهلك وقوده من الثروات العامّة فأطفأه ، وأمر من يأتى إليه بسراج آخر من بيته !

اُصول السياسة الاجتماعيّة

ترجع اُصول السياسة الاجتماعيّة فى الحكم العلوى إلي المنطلقات التالية :

١ ـ العدالة الاجتماعيّة

تعدّ العدالة المحور الأكثر بروزاً فى منهج الحكم العلوى ، وقد بلغ من اقتران اسم الإمام أمير المؤمنين  ¼ بالعدالة وامتزاجه بها ، قدراً بحيث صار اسم علىّ عنواناً للعدالة ، وعنوان العدالة باعثاً للإيحاء باسم علىّ .

ومعني هذا التصاحب بين الاثنين ، أنّ الحكم الذى يمكنه الادّعاء باقتفاء الحكم العلوى مثالاً له ، هو ذلك الذى يحرص قادته علي العدالة أكثر من أىّ شىء آخر . وبديهىّ لا يكمن هذا الاقتداء بالتعاطى مع العدالة من خلال الشعار والأقوال وحسب كما دأب علي ذلك الجميع فى العالم المعاصر عبر رفع هذا الشعار وتكراره ، وإنّما يحصل بترسيخ العدالة من خلال السلوك والعمل . وهذه حالة نادرة كما كانت بالأمس تماماً .

 ٣٣ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

إنّ الحكم الذى يسعه أن يزعم أنه يقتدى بالحكم العلوى ، هو ذلك الذى لا يضحّى بالعدالة ويئدها علي مذبح المصلحة ، فليس فى النظام العلوى مصلحة أعلي من مصلحة إقامة العدل .

وأخيراً ، فإنّ بمقدور الحكم أن يعلن أنّ مثاله الأعلي الذى يحتذى به هو علىّ ، إذا ما استطاع أن يحكم القلوب عبر منهج تقديم العدالة علي المصلحة ، لا أن يحكم الأجساد ويقبض سيطرته عليها ، عبر منهج ترجيح المصالح العابرة !

٢ ـ احترام الحقوق المتبادلة بين الدولة والاُمّة

فى منطق الإمام لا يمكن أن يدوم بقاء الدول فى المجتمعات إلاّ إذا احترم النظام الحاكم حقوق الشعب ، وفى الطرف الآخر أبدي الشعب احترامه لحقوق النظام الحاكم عليه . وإلاّ فمن دون رعاية الحقوق المتبادلة بين الدولة والشعب لا يمكن تحقّق العدالة الاجتماعيّة .

وطبيعى أنّ رعاية هذا الأمر هى عمليّة شاقّة ، ففى دائرة الكلام يحترم الجميع الحقّ ، لكن فى دائرة العمل يتضاءل أهل الحقّ وينحسر عددهم ³ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ  ²  وبتعبير جميل للإمام أمير المؤمنين نفسه : "الحقّ أوسع الأشياء فى التواصف ، وأضيقها فى التناصف" . لهذا كلّه لم تتخطّ العدالة الاجتماعيّة واحترام حقوق الإنسان علي مرّ التأريخ كلّه تخوم الشعار ، بل تحوّل هذا الشعار ـ أيضاً ـ إلي أداة لابتزاز حقوق الناس والاعتداء عليها أكثر .

وعلي مدي عصور التاريخ الإسلامى بعد عهد رسول الله  ½ سنحت فرصة استثنائيّة واحدة لجهة استقرار العدالة الاجتماعيّة تمثّلت فى العهد القصير الذى أمضاه الإمام علىّ فى الحكم ، بيد أن الاُمة لم تغتنم هذه الفرصة ، بل وقع الظلم علي حكم الإمام من قِبل الرعيّة ذاتها ، حتي قال  ¼ : "إن كانت الرعايا قبل

 ٣٤ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

لتشكو حيف رعاتها ، فإننى اليوم لأشكو حيف رعيّتى" .

وهكذا مضي علىّ وقد اصطحب العدالة معه ، وهذه هى مسؤوليتنا حاضراً فى أن نتعلّم من اُولئك ونأخذ العبرة منهم ، ونوطّئ الأرضيّة المطلوبة لاستقرار العدالة الاجتماعيّة .

٣ ـ تنمية الحرّيات المشروعة والبنّاءة

تأتى الحرّية خطوة اُولي فى سبيل تحقيق العدالة واحترام حقوق الاُمّة ، بيدَ أنّ المراد منها هو الحريّة البنّاءة لا الهدّامة ، حريّة الانعتاق من أسار القيود الداخليّة (الذاتيّة) والأغلال الخارجيّة . هذه الحرّية هى نفسها التى دعا القرآن إليها الناس ، فى قوله سبحانه : ³ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَْغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ  ²  . وهى ذاتها التى عناها الإمام أمير المؤمنين  ¼ ، وعدّها بمنزلة فلسفة بعثة النبىّ  ½ ، وهو يقول : "إنّ الله بعث محمّداً ليُخرج عباده من عبادة عبادهِ إلي عبادته . . . ومن ولاية عباده إلي ولايته" .

فى المنهج العلوى الناس أحرار بأجمعهم ولا يسوغ أن يكونوا عبيد غيرهم ، وأنّ ما يجرّ الإنسان إلي نير العبوديّة ، ويدفع الأنظمة إلي التجبّر والتسلّط والطغيان ، هى الأغلال الداخليّة والعبوديّة الباطنيّة . فإذا ما أراد المجتمع الإنسانى أن يرتقى ذري الحرّية ، ويبلغ الاستقلال الحقيقى ، فيتحتّم عليه فى البدء أن يُحكم الارتباط بالله ، ويقوم بشروط العبوديّة لله بحسب تعبير الإمام أمير المؤمنين .

إنّ شروط العبوديّة لله هى فى الحقيقة قوانين الحرّية الواقعيّة للناس ، وإذا لم تذعن الإنسانيّة إلي هذه الشروط ، فستغدو حرّيتها واستقلالها الخارجى حالة مؤقّتة ; وهى عائدة إلي العبوديّة حتماً .

 ٣٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

٤ ـ سياسة الرفق

تكمن واحدة من النقاط الأساسيّة فى المنهج الاجتماعى للحكم العلوى بمبدأ مداراة الناس ، وكيفيّة تعاطى المسؤولين الحكوميين مع الشعب . فعلي عكس الساسة المحترفين الذين يسعَون إلي أن يكون رضا الخاصَة ثمناً لهضم حقوق الجماهير العريضة وسخطها ، تقوم سياسة الإمام أمير المؤمنين علي مبدأ إرضاء القاعدة الشعبيّة العريضة ، ولو كان فى ذلك سخط الخاصّة وعدم رضاها ، حيث يقول  ¼ : "إنَّ سخط العامّة يُجحِف برضي الخاصّة ، وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضي العامّة" .

فى الاتّجاه إلي تحقيق سياسة الرفق وكسب رضا الجمهور ، أوصي الإمام ولاته أن يتعاملوا مع الناس بمودّة وعطف ، وأن تكون لهم صلة مباشرة بالشعب ، بحيث يلتقون مع أفراده وجهاً لوجه ، ويُصغون إلي مشكلاتهم مباشرة من دون واسطة ، وأن يتحمّلوا منهم سوء الخلق ، ويصبروا علي ما يبدر منهم من سوء وتصرّفات غير لائقة .

كما حثَّ  ¼ ولاته أن لا يُقطبوا بوجه الناس ولا يلقوهم بوجوه مكفهرّة ، ولا يسيئوا الظنّ بهم . كما نهاهم عن التجسس فيما يتصل بدائرة الأحوال الشخصيّة ، وأن لا يدقّقوا فى الذنوب التى اقترفها الأفراد بعيداً عن عيون الآخرين .

من النقاط المهمّة الاُخري التى حرص الإمام علي إيصاء الولاة بها لجهة سياسة الرفق بالناس ، ضرورة إدلاء الولاة بالتوضيحات اللازمة فى كلّ ما يمكن أن يكون باعثاً لسوء ظنّ الشعب ، وسبباً فى اتّهام الولاة بغمط حقوق الجمهور والتجاوز عليها ; ففى منهج الإمام لا يجوز الاستخفاف بحالة سوء الظنّ التى تبرز لدي الجمهور ، بل ينبغى للولاة والمسؤولين أن يدلوا إلي الشعب بصدق وتواضع

 ٣٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

بدلائل أعمالهم ، ويوضّحوا لهم أسباب ما أقدموا عليه .

٥ ـ حماية المظلومين

من أجل استئصال العوامل التى تُساعد التعدّى علي حقوق الناس ، وبغية تعميم حالة مواجهة الظالمين والمعتدين ، بادر النظام العلوى إلي تقوية ثقافة حماية المظلومين .

لقد كان الإمام أمير المؤمنين  ¼ ينتهز كلّ الفرص من أجل توسعة ثقافة مكافحة الظلم ويستفيد منها لحماية المظلومين ، كما كان يحثّ الناس علي مساعدته لإصلاح مجتمعهم ، وهو يهتف : "أيّها الناس أعينونى علي أنفسكم ، وايم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظالم بحزامته" .

ثَمَّ قَصصٌ فى دفاع "اُسوة العدالة" عن المظلومين وحمايته العمليّة لهم خليقة بالقراءة ، وهى إلي ذلك مليئة بالدروس والعبر لمن يرفع شعار الاقتفاء بالإمام العظيم .

٦ ـ تأسيس بيت القصص

لم يعرف الإسلام قبل علىّ  ¼ هذه البادرة ، فلأوّل مرّة فى التاريخ الإسلامى بادر الإمام أمير المؤمنين  ¼ أثناء تولّيه السلطة ، إلي تأسيس "بيت القصص" لكى يكون موضعاً لمعالجة مشكلات الناس وتظلّماتهم ; فمن لا يستطيع من أبناء الشعب أن يوصل مشكلته شفوياً أو لا يرغب أن يُعبِّر عنها بهذه الصيغة ، بمقدوره أن يكتب قصّته ، ويوصل قضيّته عن هذا الطريق .

٧ ـ حفظ وحدة المجتمع واُلفته

يعتقد الإمام علىّ  ¼ أنّ الاتّحاد يضمن بقاء الدول وديمومتها ، وأنّ الفرقة

 ٣٧ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

عامل فى سقوط الدول وزوالها . لذلك كان يقول : "ليس رجل أحرص علي جماعة اُمّة محمّد واُلفتها منّى" .

وحيثما كان الأمر ذا صلة بشخصه كان يُغضى ويُضحّى من أجل أن لا تبتلى الاُمّة الإسلاميّة بالفرقة ; لأنّه  ¼ كان يؤمن أنّ اختلاف الاُمّة يستتبع انتصار أهل الباطل .

لقد بلغ من حرص الإمام علي وحدة كلمة الاُمّة الإسلاميّة وعنايته بهذا الموضوع حدّاً أمر فيه الجهاز القضائى التابع لحكومته أن يمتنع عن العمل بالقوانين الإسلاميّة الأصيلة إذا كان فى ذلك ما يُثير الاختلاف ، كما سيأتى توضيح ذلك أثناء الحديث عن مرتكزات السياسة القضائيّة .

اُصول السياسة القضائيّة

تتمثّل اُصول السياسة القضائيّة للإمام بالمرتكزات التالية :

١ ـ اختيار الأكفأ للقضاء

يعدّ القاضى العنصر الأساسى فى التنظيم القضائى من أجل إحقاق حقوق الناس . ومن ثَمَّ كلّما كان القاضى أقوي علميّاً وعمليّاً وأخلاقيّاً كانت له فاعليّة أكبر فى الجهاز القضائى . من هذه الوجهة ينبغى فى منطق النظام العلوى اختيار الأكفأ لمنصب القضاء .

٢ ـ تأمين الاحتياجات الاقتصاديّة للقضاة

يحظي القضاة المؤهّلون فى النظام العلوى بالأمن المعاشى والاقتصادى عامّة ، لكى لا تدفعهم حاجتهم إلي الناس للانحراف عن الحقّ ، ولئلا يزيغ الجهاز القضائى عن مساره فى إصلاح المجتمع ، وينجرّ إلي الفساد .

 ٣٨ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

٣ ـ الأمن الوظيفى للقضاة

يتمتّع القضاة المؤهّلون فى النظام العلوى بالأمن الوظيفى ، وهم علي اطمئنان بأنّ أقرب الناس إلي الجهاز القيادى للنظام ، ليس بمقدوره أن يُعيق عملهم ويُعرقل أداء مسؤوليتهم ، ويمنع من الوفاء بحقوق الناس وإحقاقها .

٤ ـ رعاية آداب القضاء

للقضاء آداب عامّة ، وينبغى للقاضى فى النظام العلوى أن يلتزم بجميع آداب القضاء سواء الواجب منها والمندوب . وقد بلغ من حرص الإمام أمير المؤمنين  ¼ علي رعاية هذا الجانب أنّه أوضح لقاض فى أسباب عزله عن الجهاز القضائى : "أنّى رأيت كلامك يعلو علي كلام خصمك" .

٥ ـ الرقابة الدقيقة علي القضاة

كان الإمام أمير المؤمنين يعدّ نفسه مسؤولاً عن صحّة عمل الجهاز القضائى وسلامته ، وحينئذ لم يكن يكتفى بلغة الموعظة وتحذير القضاة من تضييع حقوق المجتمع ، بل كان يمارس الإشراف المباشر علي عمل القضاة ، بل يراقب أحكامهم أيضاً .

ونظراً لما يحظي به الجهاز القضائى من موقع ممتاز فى إصلاح شؤون المجتمع ، كان الإمام يحرص علي ممارسة القضاء والفصل فى القضايا من خلال موقع "دكّة القضاء" برغم ما عليه من مهامّ ومسؤوليّات .

٦ ـ وحدة الرؤية القضائيّة

فى رؤية الإمام أمير المؤمنين  ¼ لا يجوز لقضاة النظام الإسلامى اختلافهم فى إصدار الأحكام ، بل لابدَّ من وحدة الرؤية . أمّا المسؤوليّة فى إيجاد هذه

 ٣٩ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

الوحدة التى تنتظم أحكام الجهاز القضائى فهى تقع علي عاتق القيادة .

٧ ـ تساوى الجميع أمام القانون

فى النظام العلوى يتساوي الناس جميعاً أمام القانون . ثمَّ إنّ الجهاز القضائى بدرجة من الاستقلال ، ويحظي بمنزلة خاصّة تمكِّنه من إجراء القانون علي أفراد المجتمع بصيغة متساوية . فالمجتمع بجميع طبقاته سواسية أمام القاضى والجهاز القضائى ، يستوى فى ذلك حتي الإمام والقائد الذى نصب القاضى فى موقعه وخوّله ممارسة القضاء .

لقد كان الإمام أمير المؤمنين  ¼ خاضعاً للجهاز القضائى فى حكومته برغم كلّ ما يحظي به من مكانة مرموقة علي الصعيد العلمى والعملى والسياسى ، وقد حضر إلي المحكمة للإجابة عن أسئلة القاضى الذى نصبه بنفسه .

وبهذا السلوك كان الإمام يدلّل عملياً علي الموقع الذى يحظي به القضاء ، ويدافع عن حقوق الناس ، بالإضافة إلي أنّه يُعلّم قادة المستقبل درساً بليغاً فى الخضوع أمام الجهاز القضائى .

٨ ـ موقع مصالح النظام فى إصدار الأحكام

ليس هناك شىء يمكن أن يحول دون إجراء القوانين الإسلاميّة الأصيلة فى النظام القضائى التابع للحكم العلوى ، إلاّ فى مواضع يؤدّى فيها القضاء بالأحكام الإسلاميّة الأصيلة إلي فرقة الاُمّة الإسلاميّة ، ويُفضى إلي تزلزل قواعد الحكم الإسلامى نفسه . وهذه حالة خاصّة ـ برزت فى عهد الإمام ـ نتيجة أوضاع سياسيّة واجتماعيّة معيّنة ، وانبثقت علي أثر رؤية خاصّة حملها الناس إزاء القانون الإلهى .

 ٤٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

فى مواجهة أوضاع كهذه خاطب الإمام على  ¼ شُريحاً القاضى ، بقوله : "اقضِ كما كنت تقضى حتي يجتمع أمر الناس" .

اُصول السياسة الأمنيّة

أولي الإمام أمير المؤمنين  ¼ الجانب الأمنى أهمّية فائقة ، وكان يعدّ البقعة التى تفتقد إلي الأمن أسوأ الأماكن . كما ذكر أنّ من الأدلة التى دفعته إلي قبول الحكم هى إيجاد الإصلاحات الأمنيّة .

أمّا اُصول السياسة الأمنيّة للإمام ، فهى تتمثّل بما يلى :

١ ـ تأسيس نظام أمنى فاعل

برغم أنّ التاريخ لا يسجّل وجود مؤسسة مستقلّة فى حكومة الإمام بعنوان أنّها مؤسّسة أمنيّة ، إلاّ أنّ ملاحظة النصوص المتفرّقة ذات الصلة بالمهام الأمنيّة ، وتأمّل الأعمال التى كان يقدم عليها الإمام بالاستناد إلي ما يجتمع لديه من أخبار سرّية ، كلّ ذلك يحكى وجود تنظيمات فى حكومته وظيفتها جمع الأخبار التى تتّصل بالأمن الداخلى ، والاستخبارات العسكريّة ، وما له صلة بعمل الولاة والاُمراء .

لكن ليس فى أيدينا معلومات تفصيليّة عن تلك التنظيمات ، التى من الممكن أنها كانت تؤلّف مؤسّسة واحدة أو عدّة مؤسّسات أمنيّة .

٢ ـ إزالة التوتّر

إنّ تأمّل توجيهات الإمام فى مجال استصلاح الأعداء وتبديلهم إلي أصدقاء ، واعتماده مبدأ السلام الحَذر مع الأعداء ، كلّ ذلك يدلّل التزام الإمام سياسة إزالة التوتّر من أجل ترسيخ الأمن الداخلى للمجتمع الإسلامى .

 ٤١ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

٣ ـ الحذر وانتهاز الفُرص

إلي جوار سياسة إزالة التوتّر كان الإمام يُوصى المسلمين أن لا يرتقبوا من العدوّ الخير ، ولا يتوقّعوا منه النصيحة ، وكان يدعوهم إلي عدم الاستهانة بالأعداء واستصغار شأنهم ، ويحثّهم علي التزام جانب الحذر خاصّة فى مقابل الأعداء الذين لا يجهرون بعدائهم ، وأن يتحيّنوا الفرصة المواتية لمواجهتهم .

٤ ـ الامتناع عن سياسة الرعب

امتنع الإمام تماماً عن التوسّل بسياسة إثارة الرعب والخوف ، والركون إلي وسائل القسوة غير القانونيّة ، فى مواجهة العناصر المناوئة للأمن . كما لم يلجأ أبداً إلي مبدأ إنزال العقوبة بالمتّهمين والذين تحوم حولهم الشبهات فى تعكير الجوّ العامّ ، قبل وقوع الجرم .

٥ ـ مبدأ تطبيق القانون فى مواجهة المجرمين

لم يمنع النظام العلوى اللجوء إلي ممارسة التعذيب فى مواجهة المتّهمين والمظنونين وحسب ، بل منع من تعذيب المجرمين أيضاً ; إذ لم يكن من حقّ إنسان أن يُهين مجرماً . فإذا ما ثبت الجرم فى المحكمة ينفّذ بالمجرم القانون الإلهى ، وإذا حصل أحياناً وأن تخطّي منفّذ الحكم دائرة العقوبة المنصوصة عمداً أو سهواً يُنزل به القصاص ، كما وقع لقنبر عندما زاد فى جلد مجرم ثلاثة سياط ، فما كان من المجرم إلاّ أن اقتصّه بها .

٦ ـ مداراة المعارضين ما لم يصلوا إلي تخوم التآمر

كان الإمام يلجأ إلي مبدأ العمل بالمداراة مع المعارضين السياسيين ما لم يصلوا إلي تخوم الفساد والتآمر الأمنى ، وهو يؤمن أنّ سياسة الرفق بالمعارضين

 ٤٢ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

ومداراتهم تُخفّف من غلوائهم وتُقلّل مخالفتهم . فالإمام لم يعمد إلي مواجهة الخوارج ما داموا لم يرتكبوا قتلاً ، ولم يُخلّوا بأمن المجتمع الإسلامى ولم يجرّوه إلي الخطر ، بل تحمّل سُبابهم وتجريحهم ، ولم يقطع عنهم حتي عطاءهم من بيت المال !

أمّا فى التعامل مع المتآمرين ضدّ الأمن العام فقد كان الإمام يختار الحكم بما يناسب سعة المؤامرة وعمقها . فقد كان ينفى المتآمرين حيناً ، ويحبسهم حيناً آخر ، وقد يلجأ إلي المواجهة العسكريّة والقوّة كحلٍّ .

اُصول السياسة الحربيّة

تنطوى السياسة الحربيّة للإمام علي دروس كبيرة وعِبَر ، وهى جديرة بالاهتمام . وترجع هذه السياسة إلي الاُصول التالية :

١ ـ العناية بالتدريب الحربى وتنظيم الجيش

كان الإمام أمير المؤمنين  ¼ واحداً من أبرز القادة العسكريين تجربة . فقد أمضي عمراً فى سوح القتال ، وعلاوة علي ما كان يتمتّع به من قوّة وشجاعة لا نظير لهما ، فقد كان علي دراية تامّة بضروب الفنون العسكريّة .

لقد راح الإمام يتولّي بنفسه تدريب جيشه ، وكان قبل انطلاق المعركة يرتّب القوّات وينظّمها علي نسق خاص ، وهو يكرّر علي مسامعها أبرز النقاط التدريبيّة علي هذا الصعيد .

لقد حصل فى أثناء الغارات التى شنّها معاوية أن ندَّت بعض الأصوات تتّهم الإمام أن لا علم له بالحرب ! فكان ممّا أجاب به وهو يشكو أصحابه ، قوله  ¼ : " وأفسدتم علىَّ رأيى بالعصيان والخذلان ; حتي لقد قالت قريش : إنَّ ابن

 ٤٣ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب .

لله أبوهم ! وهل أحد منهم أشدّ لها مراساً ، وأقدم فيها مقاماً منّى ! لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين ، وها أنذا قد ذرّفت علي الستّين ، ولكن لا رأى لمن لا يُطاع !"(١) .

لم يكن الإمام يغفل فى تدريب المقاتلين علي ضروب الفنون العسكريّة أدقّ النقاط وأصغرها ، من قبيل عدم الانفصال عن السلاح فى المعركة ، استثمار الفرص المناسبة لإنزال الضربة بالعدوّ ، طبيعة النظرة إلي قوّات العدوّ وكيفيّة ممارسة الانسحاب التكتيكى .

٢ ـ تأسيس القوّات الخاصّة

واحدة من المعالم البارزة فى سياسة الإمام الحربيّة تأسيسه قوّات خاصّة عرفت باسم "شُرْطة الخميس(٢)" أو ما يعبّر عنه اليوم بـ "الفدائييّن" .

لقد انضمّت إلي "شُرْطة الخميس" أوفي القوات للإمام وأكثرها إخلاصاً واستعداداً للتضحية والفداء ; فقد كانت هذه القوّات تتحلّي بكفاءة ممتازة ، ويستفيد منها الإمام فى المهمّات الخاصّة .

لقد خاطب الإمام هذه القوّات فى واحدة من خطبه ، بقوله  ¼ : "أنتم الأنصار


(١) نهج البلاغة : الخطبة ٢٧ .
(٢) الشُّرطة (بسكون الراء وفتحها) : الجُنْد ، والجمع شُرَط ; وهم أعوان السلطان والولاة ، وأوّل كتيبة تشهد الحرب ، وتتهيّأ للموت ، سُمّوا بذلك لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامات يُعرفون بها للأعداء (مجمع البحرين : ٢/٩٤٢) والمراد هنا نُخَبه وأصحابه  ¼ المتقدّمين علي غيرهم من الجند . والخميس : الجيش ، سمّى به لأنّه مقسوم بخمسة أقسام : المقدّمة والسابقة والميمنة والميسرة والقلب . وقيل : لأنّه تُخمّس فيه الغنائم (النهاية : ٢ / ٧٩) .

 ٤٤ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

علي الحقّ ، والإخوان فى الدين ، والجُنَن(١) يوم البأس ، والبِطانة دون الناس ، بكم أضرب المُدبِر ، وأرجو طاعة المُقبِل ، فأعينونى بمناصحة خَلِيّة من الغشّ ، سليمة من الريب ; فوَ الله إنّى لأولي الناس بالناس"(٢) .

ويمكن مقاربة "شُرْطة الخميس" فى إطار الثقافة المعاصرة بمصطلح "الاُصوليين" وحالة "حزب الله" التى تتمتّع بالعقلانيّة والخبرة والكفاءة ، وهى تقف إلي جوار الإمام . فلقد كان لهذه "القوّات" القدرة علي النقد البنّاء فى اللحظة المطلوبة ، كما كانت وفيّة للإمام ، ثابتة علي ولائه فى أحلك الأوضاع التى مرَّ بها الحكم العلوى .

أمّا سبب تسمية هذه القوّة بـ "شُرْطة الخميس" فلعلامات خاصّة كانوا يُعرفون بها ، أو لعهد خاص أبرموه مع الإمام ، حيث سئل الأصبغ بن نباتة : كيف تسمّيتم شُرْطة الخميس يا أصبغ ؟ قال : "لأنّا ضمنّا له الذبح ، وضمن لنا الفتح" يعنى أمير المؤمنين  ¼ (٣) .

٣ ـ تقوية البنية المعنويّة

حرص الإمام علي أن يولى القدرة النفسيّة وما تحظي به القوات المسلّحة من قوّة فى البنية المعنويّة وروح تضحويّة عالية ; أهمّيةً استثنائية فائقة . وعلي هذا الأساس سعي الإمام للإفادة من أىّ طريق ممكن فى تعزيز الروح المعنويّة للقوّات المسلّحة فى مواجهة العدوّ .

لقد راح الإمام يبثّ روح الإيثار والتضحية فى القوّات المقاتلة ويلهب فيها


(١) الجُنَن : جمع جُنّة ; ما استترت به من سلاح (الصحاح : ٥ / ٢٠٩٤) .
(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١١٨ .
(٣) مجمع البحرين : ٢/٩٤٢ .

 ٤٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

روح الحماس والاستعداد لاستقبال الشهادة ، من خلال الخطب الناريّة ، والشعارات المؤثِّرة ، وعبر الترغيب بالحياة ما بعد الموت ، والاستمداد من الله والاستعانة بالذكر والدعاء .

بيدَ أنّ ما يثير الانتباه علي هذا الصعيد ، ويدخل فى عداد العناصر المهمّة ، توظيف الإمام عنصر "الإيحاء والتلقين" فى تقوية الجانب النفسى للمجاهدين ; فمن خلال تربية ابنه محمّد عبر هذا البعد ، يصف الإمام تجربته الشخصيّة لولده ، بقوله : "إنّنى لم ألقَ أحداً إلاّ حدّثتنى نفسى بقتله ، فحدِّث نفسك ـ بعون الله ـ بظهورك عليهم" .

وبالعكس ، تُعدّ عمليّة تلقين النفس بالضعف والإيحاء لها بالخوف واحدة من موجبات الهزيمة أمام العدوّ ، وفى هذا المضمار يقول الإمام فى جواب مَن سأله : بأىّ شىء غَلَبْت الأقران ؟ : "ما لقيت رجلاً إلاّ أعاننى علي نفسه"(١) .

لقد تمثّلت واحدة أخري من وسائل تعزيز الحالة النفسيّة للمجاهدين فى نطاق النهج الحربى للنظام العلوى ، بتحذير هؤلاء من العواقب الدنيويّة والاُخرويّة الخطيرة التى قد تترتّب علي إدبارهم عن العدوّ ، وفرارهم من الجبهات .

من النقاط الاُخر التى تبرز فى هذا المضمار تأكيد الإمام علي كتمان الاُمور التى يُفضى فشوها إلي تضعيف روح المقاومة .

٤ ـ الحيلة فى الحرب

ذكرنا فيما سلف أنّه لا مكان للحيلة والخداع فى سياسة الإمام الإداريّة . وفى


(١) نهج البلاغة : الحكمة ٣١٨ .

 ٤٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

هذا المعني يكمن الفارق الأساسى والأكثر أهمّية بين المنهجين العلوى والاُموى . لكن ينبغى أنّ ننتبه إلي أن هذا النهج العامّ يسجِّل استثناءً واحداً يتمثّل بموقع الحيلة فى الحرب .

ففى الوقت الذى يعارض الإمام بقوّة استخدام الحيلة والتوسّل بالخداع فى غير الحرب ، يجيز ذلك فى الحرب ، بل ويوصى به ، ويعدّ نفسه فى طليعة المختصّين بهذا المبدأ فى مضمار الحرب ، ويقول : "كُن فى الحرب بحيلتك أوثق منك بشدّتك" .

٥ ـ أخلاق الحرب

تتمثّل واحدة من النقاط الغنيّة بالدروس فى السياسة الحربيّة للنظام العلوى ، بموضوع أخلاق الحرب ، حيث يمكن إجمال اُصول الأخلاق الحربيّة من المنظار العلوى ، بالنقاط التالية :

أ : تجنّب الحرب وعدم البدء بالقتال

تأتى هذه السياسة تأكيداً علي جنوح الإسلام العلوى إلي السلم ومناهضة النزعة الحربيّة . ففى جميع الحروب التى اندلعت علي عهد الإمام أمير المؤمنين ، كان  ¼ ينهي جيشه عن مبادأة القوم بالقتال ، ويوصيه بعدم مباشرة القتال حتي يبدأ العدوّ بذلك .

عن جندب الأزدى أنّه قال : إنّ علياً كان يأمرنا فى كلّ موطن لقينا فيه معه عدوّاً ، فيقول : "لا تقاتلوا القوم حتي يبدؤوكم ; فأنتم بحمد الله عزّ وجلّ علي حجّة ، وترككم إيّاهم حتي يبدؤوكم حجّة اُخري لكم" .

ب : عدم الدعوة إلي المبارزة

فى اتّجاه ترسيخ سياسة مناهضة النزعة الحربيّة ، كان الإمام ينهي المقاتلين

 ٤٧ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

معه عن الدعوة إلي المبارزة ، أمّا إذا دعا إليها العدوّ فتلزم إجابته .

ج : الحصانة السياسيّة لرُسل العدوّ

تتمثّل واحدة من مبادئ السياسة الدوليّة للإسلام بمبدأ الحصانة السياسيّة لممثّلى البلدان الأجنبيّة ، ولرُسُل العدوّ أيضاً . لقد كان الإمام علىّ  ¼ يحثّ جيشه علي التزام هذا النهج بشكل جدّى ، ويدعوهم إلي التلبّث فى الموارد المشكوكة ، فإذا ما ادّعي إنسان أنّه من رسل العدوّ ، لا تسوغ مواجهته قبل إنجاز التحريات الكافية .

د : إقامة الحجّة قبل بدء القتال

لقد بلغ من عناية الإمام بالتوعية وإنارة البصائر ، والحرص علي عدم سفك الدماء ، أنّه لم يكن يُضيع أيّة فرصة تسنح لهداية العدوّ ، بل كان يمارس الهداية حتي فى ساحة القتال وبين الجيشين وهما علي وشك الالتحام ، ويُقيم الحجّة مكرّراً علي العدوّ .

هـ : الدعاء أثناء القتال

عندما يكون الجيش العلوى مستعدّاً للالتحام مع العدوّ ، وبعد إقامة الحجّة وقبل الشروع بالقتال ، يلجأ الإمام إلي الدعاء وذكر الله لكى يستمدّ العون منه ، وحتي يكون الجهاد مقدّمة لحبّ الله والاقتراب إليه أكثر ، ووسيلة لتحقّق الأهداف والقيم الإنسانيّة .

و: الشروع فى القتال عند الزوال

كان الإمام أمير المؤمنين يسعي أن لا يقاتل حتي تزول الشمس ; فإنّه أقرب إلي الليل ، ومن ثم فهو أدعي إلي انتهاء القتال سريعاً ، وأجدر أن يقلّ القتل ، ويرجع الطالب ، ويفلت المنهزم .

 ٤٨ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

ز : الإحسان إلي فلول العدوّ

كان الإمام يأمر جيشه بحسن السيرة مع الجيش المهزوم ويحثّهم علي الرفق بالأسري ومن بقى منه بالأخصّ النساء . فقد كان من وصاياه لمقاتليه أن لا يتبعوا مدبراً ، ولا يجهزوا علي جريح ، ولا يدخلوا داراً ، ولا يأخذوا من أموال الناس شيئاً إلاّ ما وجدوه فى عسكر القوم ، ولا يعرضوا إلي النساء ولا يهيجوهن بأذيً وإن شتمن الأعراض وسببن الاُمراء والصلحاء .

اُصول السياسة العالميّة

مرَّت ـ فى الفقرات السابقة ـ إشارات إلي اُصول سياسة الإمام علىّ  ¼ فى مختلف المضامير الإداريّة ومرافق البلاد . وما نقصده من السياسة العالميّة للإمام ـ فى هذه الفقرة ـ هو توظيف تعاليمه والإفادة ممّا رسمه من توجيهات ، ممّا يعدّ ضرورياً لإدارة البلاد واستقرار الاجتماع السياسى بغضّ النظر عن أىّ عقيدة واتجاه .

ومعني ذلك تحديداً ، أنّ التوجيهات السياسيّة والاجتماعيّة هذه هى ممّا تقتضيه الفطرة ويُمليه العقل السليم ; فبمقدور كلّ إنسان أن يشهد بصحّة هذه المنطلقات السياسيّة والاجتماعيّة العلويّة فى مضمار إدارة البلد وتوجيه الاجتماع السياسى ، ويتأكّد من سلامتها بمحض احتكامه إلي وجدانه ، ورجوعه إلي التاريخ ، وبغضّ النظر عن معتقده الدينى مهما كان .

لقد توفّر الفصل العاشر علي تصنيف سياسة الإمام وما وضعه من قواعد عامّة ومنطلقات عالميّة علي صعيد إدارة البلد والاجتماع السياسى ، إلي ثلاثة أقسام ، هى :

 ٤٩ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

المجموعة الأولي : القواعد التى تضمن بقاء الدول

تتضمّن هذه المجموعة جملة القواعد التى يعدّ الالتزام بها ضرورياً لبقاء الدول ودوامها ، مثل السعى الحثيث لترسيخ العدالة الاجتماعيّة ، والاستناد إلي حسن التدبير فى إدارة شؤون الاجتماع السياسى ، وإلي الرفق فى التعامل مع الناس ، بالإضافة إلي توخّى الحذر فى الدفاع عن الحرّية ، وتأمين الاستقلال والعزّة ، وكلّ ما له صلة بالحقوق الفرديّة والاجتماعيّة للشعب .

المجموعة الثانية : القواعد التى تجرّ إلي زوال الدول

وهى تتضمّن جملة من القواعد والسياسات التى وإن كان اللجوء إليها يمكن أن يكون فاعلاً علي المدي القصير ، إلاّ أنّها تجرّ فى نهاية المطاف إلي زوال الحكم ، مثل التعدّى علي حقوق الناس ، وسفك الدماء ، والركون إلي سوء التدبير فى إدارة الاُمور ، والاستئثار وتقديم المسؤولين عن النظام لمصالحهم الذاتيّة ومصالح من يحيط بهم علي الآخرين ، والتفريط بقواعد الحاكميّة واُصولها ، وانجرار مسؤولى النظام إلي الاُمور التافهة ، وإناطة المسؤوليّة لغير المؤهّلين فى مقابل إقصاء الأكفّاء .

المجموعة الثالثة : المنطلقات الفاعلة فى العلاقات الدوليّة

وهذه تشمل التوجيهات التى صدرت عن الإمام  ¼ فى مجال العلاقات الدوليّة ، مثل الإقرار للآخرين بحقوق إنسانيّة نظير ما يتمتّع به الإنسان المسلم من حقوق علي هذا الصعيد ; ضرورة التمسّك بمبدأ العزّة فى إقامة العلاقات مع الآخرين ، والاهتمام بسياسة إزالة التوتّر مع سائر البلدان ، والوفاء بالمعاهدات والمواثيق ، والتزام جانب الأمانة فى حفظ حقوق الآخرين ، واستثمار ما تحظي

 ٥٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / منهج حكومة القلوب

به البلدان الأجنبيّة من علوم وفنون مع الحفاظ فى الوقت ذاته علي الاستقلال الثقافى وعدم الذوبان فى ثقافة الآخر .

وبالإضافة إلي هذه المجموعات الثلاث ، فقد عُرف عن الإمام فى مضمار العلاقات الدوليّة ، عناصر اُخري بالغة الأهميّة ، وتنطوى علي قيمة تعليميّة فائقة ، مبثوثة فى الثنايا ، ستأتى تحت عنوان "النوادر" .

استخلاص

ما تمّ استعراضه حتي اللحظة من خلاصات مكثّفة حيال الاُصول السياسيّة للإمام علىّ  ¼ فى مجال الإدارة العامة والاجتماع السياسى ـ ممّا سيأتى تفصيله فى هذا الجزء من الموسوعة ـ يكشف بجلاء أنّ السياسة فى منظار الإمام أمير المؤمنين هى أداة للحكم علي أساس الحقوق والاحتياجات الواقعيّة للناس ، وليست أداة لترسيخ سلطة الأقوياء والمعتدين علي حقوق الشعب .

علي ضوء تلك الاُصول وهذا الاستخلاص يمكن الإجابة بسهولة علي ما يُثار من انتقادات حول كفاءة الإمام وأهليّته السياسيّة .

 ٥١ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة

( ٣ )

إنّ من ينظر إلي السياسة بوصفها أداة للتسلّط علي الاُمّة ، وليست مجرّد وسيلة للحكم علي أساس الحقوق العامة للاُمّة واحتياجاتها الواقعيّة ، يظنّ أن بعض المواقف السياسيّة للإمام هى دليل عدم تأهّله السياسى وعدم كفاءته فى هذا المجال ، ويزعم أنّ علياً رجل حرب وشجاعة ، وليس رجل سياسة !

من المواضع التى تُغرى هؤلاء بهذا الوهم بعض مواقف الإمام قبل بلوغه السلطة ، مثل موقفه فى عمل الشوري السداسيّة التى انتخبها عمر لتعيين الخليفة من بعده ، وعدد آخر من مواقفه السياسيّة بعد تسنّمه الحكم ، كعزله معاوية بداية خلافته .

فلو كان الإمام رجل سياسة ـ فى منطق هؤلاء ـ لاستجاب إلي شرط عبد الرحمن بن عوف عندما اشترط لبيعته أن يعمل الإمام بسيرة الشيخين أبى بكر وعمر ، ولا يضيّع الفرصة التى واتته لتسنّم الخلافة ، حتي إذا ما استقرّت قواعد حكمه عمل بما يريد . وإلاّ هل تري أنّ عثمان الذى قبل شرط

 ٥٢ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة

عبد الرحمن هذا قد وفّي به !

يُضيف هؤلاء : ولو أنّ عليّاً كان رجل سياسة لداهن خصومه بداية عهده بالحكم ، بالأخصّ طلحة والزبير ومعاوية ، واستجاب لرغائبهم مؤقّتاً ، حتي إذا ما استقرّ حكمه بادر لمواجهتهم والقضاء عليهم .

ليست قليلة مثل هذه المواقف فى حياة الإمام السياسيّة ، حيث حال إصراره علي التمسّك بالقيم الأخلاقيّة والإسلاميّة دون وصوله إلي السلطة ، أو أدّي إلي تضعيف قواعد حكمه .

يكتب ابن أبى الحديد فى هذا المضمار : "و اعلم أنّ قوماً ممّن لم يعرِف حقيقة فضل أمير المؤمنين عليه السلام ، زعموا أنّ عمر كان أسوس منه ، وإن كان هو أعلم من عمر ، ثم زعم أعداؤه ومباغضوه أنّ معاوية كان أسوس منه وأصحّ تدبيراً" .(١)

لكى لا يطول هذا الجزء من موسوعة الإمام أكثر ، نكل الجواب التفصيلى عمّا اُثير من نقد حيال مواضع خاصّة من سياسة الإمام إلي موضعه المناسب من الموسوعة ، لنكتفى فى هذا المجال بجواب عامّ يعالج جميع الانتقادات التى اُثيرت حول منهجه أو التى يمكن أن تُثار .

وجوهر هذا الجواب : أنّنا إذا أخذنا السياسة بمعني أنّها أداة لحكم القلوب ، أو أنّها وسيلة لممارسة الحكم علي أساس حقوق الناس والاحتياجات الواقعيّة للمجتمع ; فإنّ عليّاً هو أعظم رجل سياسة فى التأريخ بعد النبى  ½ . أمّا إذا كانت السياسة بمعني الوصول إلي الحكم وفرض السلطة علي المجتمع بأىّ طريق


(١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢١٢ .

 ٥٣ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة

ممكن ، فإنّ عليّاً  ¼ ليس رجل سياسة أصلاً .

بديهى ، لا يعنى ذلك أنّ الإمام أمير المؤمنين  ¼ لم يكن يعرف السياسة بهذا المعني ، إنّما معناه أنّ التزامه بالأحكام الإلهيّة ; وتمسّكه بالقيم الأخلاقيّة أثنياه أن يكون سياسيّاً بهذا المعني ، وإلاّ فإنّ الإمام كان أعرف الناس بألاعيب السياسة وحيلها اللامشروعة من أجل فرض السلطة ، كيف لا ، وهو الذى يقول : "لولا أنّ المكر والخديعة فى النار لكنت أمكر الناس" .

كما يقول : "هيهات ، لولا التقي لكنت أدهي العرب" .

وقوله  ¼ : "و الله ما معاوية بأدهي منى ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهيّة الغدر لكنت من أدهي الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، وكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة" .

إنّه  ¼ لعلي دراية بأىّ مكر سياسى يستطيع أن يحبس الأنفاس فى الصدور ، كما بمقدوره أن يلجأ إلي سياسة الترغيب والتهديد والتجاوز علي حقوق عامّة الناس ليقضى علي ضروب المعارضة والعصيان الداخلى ، بيد أنّ التزامه يُثنيه عن ذلك ، وتربأ به قيمه الإسلاميّة والإنسانيّة من الجنوح إلي هذا المنحدر ، وتعصمه عن التوسّل بالوسائل غير المشروعة . ولطالما كرّر صلوات الله وسلامه عليه قوله : "إنّى لعالم بما يُصلحكم ويُقيم أوَدكم ، ولكنّى لا أري إصلاحكم بإفساد نفسى"(١) .

يُشير الإمام فى هذا الكلام إلي تلك السياسات والوسائل الفاعلة علي صعيد فرض الحكم التسلّطى علي المجتمع ، بيد أنّه لا يستطيع أن يلجأ إليها ، لأنّها


(١) نهج البلاغة : الخطبة ٦٩ .

 ٥٤ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة

تنتهى إلي ثمن باهض هو فساد السياسى نفسه !

أجل ، إنّه الإصلاح الذى يكون ثمنه فساد المصلح !و هذا الكلام لأمير المؤمنين يعلن أنّ حركة الإصلاح قد تنتهى أحياناً إلي فساد المصلح . ومن ثَمّ فإنّ اُصول المنهج السياسى العلوى لا تسمح لحكم الإمام أن يلجأ الي ممارسة ذلك النمط من الإصلاحات القائم علي مرتكزات غير مشروعة ، مثل الإصلاح الاقتصادى الذى يكون ثمنه التضحية بالعدالة الاجتماعيّة ، ممّا هو سائد فى العالم المعاصر .

إنّ الإمام عليّاً  ¼ يعرف جيّداً كيف يخدع المعارضين الأقوياء ذوى النفوذ السياسى الهائل ، ويُغريهم بأنّ مصالحهم سوف تتأمّن فى إطار حكمه ، ثمّ يعمد إلي استيصالهم والقضاء عليهم تدريجيّاً ، كما يعرف أيضاً كيف يخدع الشعب ، ويُغريه بأنّ حقوقه الواقعيّة سوف تتأمّن ، وأنّه سوف يحترم القيم الإسلاميّة ، علي حين ينهج فى العمل سبيلاً آخر ، ليرسّخ بذلك قواعد حكمه ويحافظ علي استقراره .

ولو أنّ ذلك قد حصل ، لما كان علىُّ بن أبى طالب عندئذ ، هو علىَّ بن أبى طالب ، بل لكان رجل سياسة محترف مثله كمثل بقيّة السياسيّين المحترفين فى التاريخ ، له اُسوة بهم وهم يتّخذون السياسة أداة لفرض السلطة علي الناس ، لا أن تكون وسيلة لإقامة الحقّ وتأمين حقوق المجتمع .

لم يكن لحركة الإصلاح العلوى من هدف سوي إحياء منهج الحكم النبوى ، ومن ثَمّ لم يكن بمقدورها أن تتحرّك علي اُسس غير مبدئيّ ة ، مناهضة للقيم والدين وكلّ ما هو غير إنسانى . من هذا المنطلق راحت هذه الحركة الإصلاحيّة

 ٥٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / المدخل / دفاع عامّ عن كفاءة الإمام السياسيّة

تواجه ذات العقبات والمشكلات التى اصطدم بها الحكم النبوى(١) .

لكن الإمام استطاع من خلال تحمله كافّة المشكلات ، أن يُعيد فى التاريخ الإسلامى ـ ولمرّة أخري ـ المعالم الوضّاءة لمنهج الحكم النبوى ، وأن يُعلّم الآخرين ممّن يأتى فى المستقبل منهج حكومة القلوب .

لكن ينبثق هنا سؤال أساسى ، فحواه : إذا كان النهج الذى اختاره الإمام لإدارة الاجتماع السياسى ممكناً وعمليّاً من خلال الاُصول التى مرّت الإشارة إليها ، فلماذا راحت أكثريّة الناس تبتعد عن رجل سياسة كعلىّ نهض بتنفيذ هذا المنهج ، مع أنّه  ¼ كان قد وصل إلي السلطة بحماية عامّة من الجمهور نفسه عبر عمليّة انتخابيّة حرّة ؟ ولماذا انفضّت عنه بعد مرور مدّة قصيرة علي حكمه ، بحيث أمضي الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً فريداً ؟

يمكن القول إجمالاً فى جواب هذا السؤال بأنّ ابتعاد الناس عن الإمام وبقاءه وحيداً ، ليس دليلاً علي خطأ هذا النهج وعدم صحّته . بل ثَمَّ لذلك دلائل اُخري ستأتى تفصيلاً نهاية القسم السابع من هذه الموسوعة ، المخصّص لمصير الإمام وما آل إليه من غربة موجعة .


(١) راجع شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢١٤ وص ٢٢٢ .