الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد الرابع

 

 

 ١٠٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة

٢ / ١

صوت العدالة وصداها

١٣٣٩ ـ شرح نهج البلاغة عن أبى جعفر الإسكافى : صعد [علىّ  ¼ ] المنبر فى اليوم الثانى من يوم البيعة وهو يوم السبت لإحدي عشرة ليلة بقينَ من ذى الحجة ، فحمد الله وأثني عليه ، وذكر محمّداً فصلّي عليه ، ثمّ ذكر نعمة الله علي أهل الإسلام ، ثمّ ذكر الدنيا فزهّدهم فيها ، وذكر الآخرة فرغّبهم إليها ، ثمّ قال :

أمّا بعد ، فإنّه لمّا قُبِضَ رسول الله  ½ استخلف الناس أبا بكر ، ثمّ استخلف أبو بكر عمر فعمل بطريقه ، ثمّ جعلها شوري بين ستّة ، فأفضي الأمر منهم إلي عثمان ، فعمل ما أنكرتم وعرفتم ، ثمّ حُصِرَ وقُتِلَ ، ثمّ جئتمونى طائعين فطلبتم إلىّ ، وإنّما أنا رجل منكم ، لى ما لكم وعلىّ ما عليكم ، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، ولا يحمل هذا الأمر إلاّ أهل

 ١٠٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر ، وإنّى حاملكم علي منهج نبيّكم  ½ ومنفّذ فيكم ما اُمرت به ، إن استقمتم لى وبالله المستعان . ألا إنّ موضعى من رسول الله  ½ بعد وفاته كموضعى منه أيّام حياته ، فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عند ما تنهون عنه ، ولا تعجلوا فى أمر حتي نبيّنه لكم ، فإنّ لنا عن كلّ أمر تنكرونه عذراً .

ألا وإنّ الله عالم من فوق سمائه وعرشه أنى كنت كارهاً للولاية علي اُمّة محمّد حتي اجتمع رأيكم علي ذلك ; لأنى سمعت رسول الله  ½ يقول : "أيّما وال وَلِىَ الأمر من بعدى اُقيم علي حدّ الصراط ، ونشرت الملائكة صحيفته ; فإن كان عادلاً أنجاه الله بعدله ، وإن كان جائراً انتفض به الصراط حتي تتزايل مفاصله ، ثمّ يهوى إلي النار ; فيكون أوّل ما يتّقيها به أنفه وحرّ وجهه" ولكنى لمّا اجتمع رأيكم لم يسعنى ترككم .

ثم التفت  ¼ يميناً وشمالاً فقال :

ألا لا يقولنّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتّخذوا العقار ، وفجّروا الأنهار ، وركبوا الخيول الفارهة ، واتّخذوا الوصائف الروقة(١) فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً ، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم إلي حقوقهم التى يعلمون ، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون : حرمنا ابن أبى طالب حقوقنا .

ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله  ½ يري أنّ الفضل له علي من سواه لصحبته ، فإنّ الفضل النيّر غداً عند الله ، وثوابه وأجره علي الله ، وأيّما رجل استجاب لله وللرسول فصدق ملّتنا ودخل فى ديننا


(١) الرّوقة : الجميل جدّاً من الناس (لسان العرب : ١٠ / ١٣٤) .

 ١٠٧ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

واستقبل قبلتنا ، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده ، فأنتم عباد الله ، والمال مال الله يقسم بينكم بالسويّة ، لا فضل فيه لأحد علي أحد ، وللمتّقين عند الله غداً أحسن الجزاء وأفضل الثواب ، لم يجعل الله الدنيا للمتّقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار .

وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا فإنّ عندنا مالاً نقسمه فيكم ، ولا يتخلّفنّ أحد منكم عربى ولا عجمى ، كان من أهل العطاء أو لم يكن إلاّ حضر إذا كان مسلماً حرّاً . أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم . ثمّ نزل .

قال شيخنا أبو جعفر : وكان هذا أوّل ما أنكروه من كلامه  ¼ ، وأورثهم الضغن عليه ، وكرهوا إعطاءه وقَسمه بالسويّة . فلمّا كان من الغد غدا وغدا الناس لقبض المال ، فقال لعبيد الله بن أبى رافع كاتبه : اِبدأ بالمهاجرين فنادهم وأعط كلّ رجل ممّن حضر ثلاثة دنانير ، ثمّ ثنّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ، ومن يحضر من الناس كلّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك .

فقال سهل بن حنيف : يا أمير المؤمنين ، هذا غلامى بالأمس وقد أعتقتُه اليوم ، فقال : نعطيه كما نعطيك ، فأعطي كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير ، ولم يفضّل أحداً علي أحد ، وتخلّف عن هذا القَسم يومئذ : طلحة والزبير وعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش وغيرها .

قال : وسمع عبيد الله بن أبى رافع عبد الله بن الزبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد : ما خفى علينا أمسِ من كلام علىّ ما يريد ، فقال سعيد بن العاص والتفت إلي زيد بن ثابت : إيّاك أعنى واسمعى يا جارة ، فقال عبيد الله بن أبى رافع لسعيد وعبد الله بن الزبير : إنّ الله يقول فى كتابه ³ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ  ²  (١) .


(١) الزخرف : ٧٨ .

 ١٠٨ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

ثمّ إنّ عبيد الله بن أبى رافع أخبر عليّاً  ¼ بذلك فقال : والله إن بقيتُ وسلمتُ لهم لأقيمنّهم علي المحجّة البيضاء والطريق الواضح . قاتل الله ابن العاص ، لقد عرف من كلامى ونظرى إليه أمسِ أنّى اُريده وأصحابه ممّن هلك فيمن هلك .

قال : فبينا الناس فى المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبير وطلحة فجلسا ناحية عن علىّ  ¼ ، ثمّ طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزبير فجلسوا إليهما ، ثمّ جاء قوم من قريش فانضمّوا إليهم ، فتحدّثوا نجيّاً ساعة ، ثمّ قام الوليد بن عقبة بن أبى معيط فجاء إلي علىٍّ  ¼ فقال : يا أبا الحسن ، إنّك قد وترتنا(١) جميعاً ، أمّا أنا فقتلتَ أبى يوم بدر صبراً ، وخذلتَ أخى يوم الدار بالأمس ، وأمّا سعيد فقتلتَ أباه يوم بدر فى الحرب وكان ثور قريش ، وأمّا مروان فسخّفتَ أباه عند عثمان إذ ضمّه إليه ، ونحن إخوتك ونظراؤك من بنى عبد مناف ، ونحن نبايعك اليوم علي أن تضع عنّا ما أصبناه من المال فى أيّام عثمان ، وأن تقتل قتلته ، وإنّا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام .

فقال : أمّا ما ذكرتم من وترى إيّاكم فالحقّ وتركم ، وأمّا وضعى عنكم ما أصبتم فليس لى أن أضع حقّ الله عنكم ولا عن غيركم ، وأمّا قتلى قتلة عثمان فلو لزِمَنى قتلُهم اليوم لقتلتهم أمس ، ولكن لكم علىّ إن خفتمونى أن اُؤمّنكم وإن خفتُكم أن اُسيّركم .

فقام الوليد إلي أصحابه فحدّثهم ، وافترقوا علي إظهار العداوة وإشاعة الخلاف . فلمّا ظهر ذلك من أمرهم ، قال عمّار بن ياسر لأصحابه : قوموا بنا إلي هؤلاء النفر من إخوانكم فإنّه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف


(١) الوِتر : ظلامة فى دم (المحيط فى اللغة : ٩ / ٤٥٥) .

 ١٠٩ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

والطعن علي إمامهم ، وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاقّ ـ يعنى طلحة ـ .

فقام أبو الهيثم وعمّار وأبو أيّوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم ، فدخلوا علي علىّ  ¼ فقالوا : يا أمير المؤمنين انظر فى أمرك وعاتب قومك هذا الحىّ من قريش ، فإنّهم قد نقضوا عهدك وأخلفوا وعدك ، وقد دعونا فى السرّ إلي رفضك ، هداك الله لرشدك ، وذاك لأنّهم كرهوا الاُسوة وفقدوا الأثرة ، ولمّا آسيتَ بينهم وبين الأعاجم أنكروا واستشاروا عدوّك وعظّموه ، وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقةً للجماعة وتألّفاً لأهل الضلالة ، فرأيك !

فخرج علىّ  ¼ فدخل المسجد وصعد المنبر مرتدياً بطاق مؤتزراً ببُرد قطرى ، متقلّداً سيفاً متوكّئاً علي قوس ، فقال :

أمّا بعد ، فإنّا نحمد الله ربّنا وإلهنا ووليّنا وولىّ النعم علينا ، الذى أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة ، امتناناً منه بغير حول منّا ولا قوّة ، ليبلونا أ نشكر أم نكفر فمن شكر زاده ومن كفر عذّبه ، فأفضل الناس عند الله منزلة وأقربهم من الله وسيلة أطوعهم لأمره ، وأعملهم بطاعته ، وأتبعهم لسنّة رسوله ، وأحياهم لكتابه ، ليس لأحد عندنا فضل إلاّ بطاعة الله وطاعة الرسول . هذا كتاب الله بين أظهرنا ، وعهد رسول الله وسيرته فينا ، لا يجهل ذلك إلاّ جاهل عاند عن الحق منكر ، قال الله تعالي : ³ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائـِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  ²  (١) .

ثمّ صاح بأعلي صوته : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّيتم فإنّ الله لا يحبّ الكافرين .


(١) الحجرات : ١٣ .

 ١١٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

ثم قال : يا معشر المهاجرين والأنصار ، أ تمنّون علي الله ورسوله بإسلامكم بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين(١) .

ثمّ قال : أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ثمّ قال : ألا إنّ هذه الدنيا التى أصبحتم تمنّونها وترغبون فيها ، وأصبحت تُغضبكم وتُرضيكم ، ليست بداركم ولا منزلكم الذى خلقتم له ، فلا تغرّنّكم فقد حذّرتكموها ، واستتمّوا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم علي طاعة الله والذلّ لحكمه جلّ ثناؤه ، فأمّا هذا الفىء فليس لأحد علي أحد فيه أثرة ، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله ، وأنتم عباد الله المسلمون ، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا ، وعهدُ نبيّنا بين أظهرنا ، فمن لم يرضَ به فليتولّ كيف شاء ، فإنّ العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه .

ثمّ نزل عن المنبر فصلّي ركعتين ، ثمّ بعث بعمّار بن ياسر وعبد الرحمن بن حسل القرشى إلي طلحة والزبير وهما فى ناحية المسجد ، فأتياهما فدعواهما فقاما حتي جلسا إليه  ¼ .

فقال لهما : نشدتكما الله هل جئتمانى طائعين للبيعة ، ودعوتمانى إليها وأنا كاره لها ؟

قالا : نعم .

فقال : غير مجبرَين ولا مقسورَين ، فأسلمتما لىّ بيعتكما وأعطيتمانى عهدكما .

قالا : نعم .


(١) إشارة إلي الآية ١٧ من سورة الحجرات .

 ١١١ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

قال : فما دعاكما بعد إلي ما أري ؟

قالا : أعطيناك بيعتنا علي ألاّ تقضى الاُمور ولا تقطعها دوننا ، وأن تستشيرنا فى كلّ أمر ، ولا تستبدّ بذلك علينا ، ولنا من الفضل علي غيرنا ما قد علمت ، فأنت تقسم القَسم وتقطع الأمر ، وتمضى الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا .

فقال : لقد نقمتما يسيراً ، وأرجأتما كثيراً ، فاستغفرا الله يغفر لكما . أ لا تُخبراننى ، أ دفعتكما عن حقّ وجب لكما فظلمتكما إيّاه ؟

قالا : معاذ الله !

قال : فهل استأثرت من هذا المال لنفسى بشىء ؟

قالا : معاذ الله !

قال : أ فوقع حكم أو حقّ لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه ؟

قالا : معاذ الله !

قال : فما الذى كرهتما من أمرى حتي رأيتما خلافى ؟

قالا : خلافك عمر بن الخطاب فى القَسم ، إنّك جعلت حقّنا فى القَسم كحقّ غيرنا ، وسوّيت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالي علينا بأسيافنا ورماحنا ، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا ، وظهرت عليه دعوتنا ، وأخذناه قسراً قهراً ممّن لا يري الإسلام إلاّ كرها .

فقال : فأمّا ما ذكرتماه من الاستشارة بكما ، فو الله ما كانت لى فى الولاية رغبة ، ولكنّكم دعوتمونى إليها وجعلتمونى عليها ، فخفتُ أن أردّكم فتختلف الاُمّة ، فلمّا أفضت إلىّ نظرتُ فى كتاب الله وسنّة رسوله فأمضيت ما دلاّنى عليه واتّبعته ، ولم أحتج إلي آرائكما فيه ولا رأى غيركما ، ولو وقع حكم ليس فى

 ١١٢ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

كتاب الله بيانه ولا فى السنّة برهانه ، واحتيج إلي المشاورة فيه لشاورتكما فيه .

وأمّا القَسم والاُسوة ، فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء ، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله  ½ يحكم بذلك ، وكتاب الله ناطق به ، وهو الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

وأمّا قولكما : جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا ، فقديماً سبق إلي الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضّلهم رسول الله  ½ فى القَسم ولا آثرهم بالسبق ، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم ، وليس لكما والله عندى ولا لغيركما إلاّ هذا ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلي الحقّ وألهمنا وإيّاكم الصبر . ثمّ قال : رحم الله امرأً رأي حقّاً فأعان عليه ، ورأي جوراً فردّه ، وكان عوناً للحقّ علي من خالفه .

قال شيخنا أبو جعفر : وقد روى أنّهما قالا له وقت البيعة : نبايعك علي أنّا شركاؤك فى هذا الأمر . فقال لهما : لا ، ولكنّكما شريكاى فى الفىء ، لا أستأثر عليكما ولا علي عبد حبشى مجدّع(١) بدرهم فما دونه ، لا أنا ولا ولداى هذان ، فإن أبيتما إلاّ لفظ الشركة ، فأنتما عونان لى عند العجز والفاقة ، لا عند القوّة والاستقامة .

قال أبو جعفر : فاشترطا ما لا يجوز فى عقد الأمانة ، وشرط  ¼ لهما ما يجب فى الدين والشريعة .

قال : وقد روى أيضاً أنّ الزبير قال فى ملأ من الناس : هذا جزاؤنا من علىّ ! قمنا له فى أمر عثمان حتي قتل ، فلمّا بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنّا فوقه .


(١) الجَدْع : قطع الأنف والاُذن والشفة ، وهو بالأنف أخصّ فإذا اُطلق غلب عليه (النهاية : ١ / ٢٤٦) .

 ١١٣ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

وقال طلحة : ما اللوم إلاّ علينا ، كنّا معه أهل الشوري ثلاثة فكرهه أحدنا ـ يعنى سعداً ـ وبايعناه فأعطيناه ما فى أيدينا ومنعَنا ما فى يده ، فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس ، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم .

فإن قلت : فإنّ أبا بكر قَسم بالسواء كما قسمه أمير المؤمنين  ¼ ، ولم ينكروا ذلك كما أنكروه أيام أمير المؤمنين  ¼ ، فما الفرق بين الحالتين ؟

قلت : إنّ أبا بكر قَسم محتذياً لقَسم رسول الله  ½ ، فلمّا وَلىَ عمر الخلافة وفضّل قوماً علي قوم ألفوا ذلك ونسوا تلك القسمة الاُولي ، وطالت أيام عمر ، وأشربت قلوبهم حبّ المال وكثرة العطاء ، وأمّا الذين اهتضموا فقنعوا ومرنوا علي القناعة ، ولم يخطر لأحد من الفريقين له أنّ هذه الحال تنتقض أو تتغيّر بوجه ما ، فلمّا وَلىَ عثمان أجري الأمر علي ما كان عمر يجريه ، فازداد وثوق القوم بذلك ، ومن ألف أمراً أشقّ عليه فراقه ، وتغيير العادة فيه ، فلمّا وَلىَ أمير المؤمنين  ¼ أراد أن يردّ الأمر إلي ما كان فى أيام رسول الله  ½ وأبى بكر ، وقد نُسى ذلك ورفض وتخلّل بين الزمانين اثنتان وعشرون سنة ، فشقّ ذلك عليهم ، وأنكروه وأكبروه حتي حدث ما حدث من نقض البيعة ومفارقة الطاعة ، ولله أمر هو بالغه(١) .

١٣٤٠ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ فى أوّل خطبة خطبها بعد بيعة الناس له علي الأمر ، وذلك بعد قتل عثمان ـ : أمّا بعد ، فلا يُرعينّ مُرع إلاّ علي نفسه ، شُغل عن الجنّة مَن النار أمامه ، ساع مجتهدٌ ، وطالبٌ يرجو ، ومقصّرٌ فى النار ، ثلاثة ، واثنان : ملَكٌ طار بجناحيه ، ونبىٌّ أخذ الله بضَبعيه(٢) ، لا سادس .


(١) شرح نهج البلاغة : ٧ / ٣٦ ; بحار الأنوار : ٣٢ / ١٦ / ٧ وراجع نهج البلاغة : الخطبة ٢٠٥ والمعيار والموازنة : ١٠٩ والأمالى للطوسى : ٧٢٧ / ١٥٣٠ .
(٢) الضَّبْع : وسط العَضُد . وقيل : هو ما تحت الإبط (النهاية : ٣ / ٧٣) .

 ١١٤ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

هلك من ادّعي ، ورَدِى من اقتحم . اليمين والشمال مضلّة ، والوسطي الجادّة ، منهج عليه باقى الكتاب والسنّة وآثار النبوّة .

إنّ الله تعالي داوي هذه الاُمّة بدواءين : السوط والسيف ، لا هوادة عند الإمام ، فاستتروا ببيوتكم ، وأصلحوا فيما بينكم ، والتوبة من ورائكم ، من أبدي صفحته للحقّ هلك .

قد كانت اُمور لم تكونوا عندى فيها معذورين ، أما إنّى لو أشاء أن أقول لقلت ، عفا الله عمّا سلف ، سبق الرجلان ، وقام الثالث كالغراب همّته بطنه ، وَيلَهُ لو قُصّ جناحاه وقُطع رأسه لكان خيراً له .

انظروا فإن أنكرتم فأنكروا ، وإن عرفتم فبادروا ، حقّ وباطل ولكلٍّ أهل ، ولئن أمِرَ(١) الباطل لقديماً فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلرُبّما ولعلّ ، ولَقلّ ما أدبر شىء فأقبل ، ولئن رجعت إليكم نفوسُكم إنّكم لسعداء ، وإنّى لأخشي أن تكونوا فى فترة ، وما علىَّ إلاّ الاجتهاد .

ألا إنّ أبرارَ عترتى وأطايب أرومتى ، أحلمُ الناس صِغاراً ، وأعلمُ الناس كباراً ، ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، وبقول صادق أخذنا ، فإن تَتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا ، وإن لم تفعلوا يُهلككم الله بأيدينا ، معنا راية الحقّ ، من تبعها لَحِق ، ومن تأخّر عنها غرق ، ألا وبنا تُدرك تِرَةُ(٢) كلّ مؤمن ، وبنا تُخلع رِبقَةُ الذلّ من أعناقكم ، وبنا فُتح لا بكم ، وبنا يُختم لا بكم(٣) .


(١) أمِرَ الشىء : كَثُر وتمّ (لسان العرب : ٤ / ٣١) .
(٢) التِّرَةُ : النَّقص ، وقيل : التَّبِعة (النهاية : ١ / ١٨٩) .
(٣) الإرشاد : ١ / ٢٣٩ ، نثر الدرّ : ١ / ٢٧٠ ; البيان والتبيين : ٢ / ٥٠ كلّها عن أبى عبيدة ، العقد الفريد : ٣ / ١١٩ وفى الثلاثة الأخيرة من قوله "ألا إنّ أبرار عترتى . . ." وردت عن الإمام الصادق عنه    ¤ ، عيون الأخبار لابن قتيبة : ٢ / ٢٣٦ وفيه إلي "ما أدبر شىء فأقبل" وكلّها نحوه .

 ١١٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / صوت العدالة وصداها

١٣٤١ ـ عنه  ¼ ـ من كلامه لمّا بويع فى المدينة ـ : ذمّتى بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ، إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات ، حجزته التقوي عن تقحّم الشبهات ، ألا وإنّ بليّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّه  ½ ، والذى بعثه بالحقّ لَتُبَلبَلُنّ بَلبلةً ، وَلَتُغربَلُنّ غَربلةً ، وَلَتُساطُنّ سوطَ القِدر(١) ، حتي يعود أسفلُكم أعلاكم ، وأعلاكم أسفلَكم ، وَلَيسبِقنّ سابقون كانوا قصّروا ، وَلَيُقصّرَنّ سبّاقون كانوا سبقوا .

والله ما كتمتُ وشمة(٢) ، ولا كذبتُ كذبة ، ولقد نُبّئتُ بهذا المقام وهذا اليوم . ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلُها ، وخُلِعت لُجُمُها ، فتقحّمت بهم فى النار . ألا وإنّ التقوي مطايا ذُلُل ، حُمل عليها أهلُها ، واُعطوا أزِمّتَها ، فأوردتهم الجنّة . حقّ وباطل ، ولكلٍّ أهل ، فلئن أمِرَ الباطل لَقديماً فعل ، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ ، ولَقلّما أدبر شىء فأقبل !(٣)


(١) ساطَ الشىء سوطاً : خاضَه وخلَطه وأكثرَ ذلك . وخصّ بعضهم به القِدر إذا خُلِط ما فيها (لسان العرب : ٧ / ٣٢٥) .
(٢) أى كلمة (النهاية : ٥ / ١٨٩) .
(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٦ ، الكافى : ٨ / ٦٧ / ٢٣ عن علىّ بن رئاب ويعقوب السرّاج عن الإمام الصادق عنه    ¤ وفيه من "ألا وإنّ بليّتكم" وزاد فيه "و فتحت لهم أبوابها ووجدوا ريحها وطيبها وقيل لهم : ادخلوها بسلام آمنين . ألا وقد سبقنى إلي هذا الأمر من لم أشركه فيه ومن لم أهبه له ومن ليست له منه نوبة إلاّ بنبىّ يبعث ، ألا ولا نبىَّ بعد محمّد  ½ ، أشرف منه علي شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنّم" بعد "فأوردتهم الجنّة" . قال الشريف الرضى : إنّ فى هذا الكلام الأدني من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به . وفيه ـ مع الحال التى وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطّلع فجّها إنسان ، ولا يعرف ما أقول إلاّ مَن ضرب فى هذه الصناعة بحقّ ، وجري فيها علي عرق ، ³ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ  ²  (العنكبوت : ٤٣) (نهج البلاغة : ذيل الخطبة ١٦) .

 ١١٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / عزل عمّال عثمان

١٣٤٢ ـ عنه  ¼ ـ من كلام له بعدما بويع بالخلافة ، وقد قال له قوم من الصحابة : لو عاقبت قوماً ممّن أجلب علي عثمان ؟ : يا إخوتاه ! إنى لست أجهل ما تعلمون ، ولكن كيف لى بقوة والقوم المُجلبون(١) علي حدّ شوكتهم ، يملكوننا ولا نملكهم ؟ ! وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عِبدانكم ، والتفّت إليهم أعرابكم ، وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا . وهل ترون موضعاً لقدرة علي شىء تريدونه ؟ ! إنّ هذا الأمر أمر جاهلية . وإنّ لهؤلاء القوم مادة . إنّ الناس من هذا الأمر ـ إذا حُرّك ـ علي أمور : فرقة تري ما ترون ، وفرقة تري ما لا ترون ، وفرقة لا تري هذا ولا ذاك ، فاصبروا حتي يهدأ الناس ، وتقع القلوب مواقعها ، وتؤخذ الحقوق مسمحة ، فاهدؤوا عنّى ، وانظروا ماذا يأتيكم به أمرى ، ولا تفعلوا فَعلة تُضعضع قوةً ، وتُسقط مُنَّةً ، وتورث وهناً وذلّةً . وساُمسك الأمر ما استمسك . وإذا لم أجد بُدًّا فآخر الدواء الكىّ(٢) .

٢ / ٢

عزل عمّال عثمان

١٣٤٣ ـ تاريخ اليعقوبى : عزل علىّ عمّال عثمان عن البلدان خلا أبى موسي الأشعرى ، كلّمه فيه الأشتر فأقرّه(٣) .

١٣٤٤ ـ الاختصاص : اجتمع الناس عليه جميعاً ، فقالوا له : اكتب يا أمير المؤمنين


(١) يقال : أجلَبوا عليه ; إذا تجمّعوا وتألّبوا (النهاية : ١ / ٢٨٢) .
(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٦٨ ; تاريخ الطبرى : ٤ / ٤٣٧ ، معالم الفتن : ١ / ٤٩٩ .
(٣) تاريخ اليعقوبى : ٢ / ١٧٩ .

 ١١٧ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / عزل عمّال عثمان

إلي من خالفك بولايته ثمّ اعزله ، فقال : المكر والخديعة والغدر فى النار(١) .

١٣٤٥ ـ الأمالى للطوسى عن سحيم : لمّا بويع أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب  ¼ ، بلغه أنّ معاوية قد توقّف عن إظهار البيعة له ، وقال : إن أقرّنى علي الشام وأعمالى التى ولاّنيها عثمان بايعته ، فجاء المغيرة إلي أمير المؤمنين  ¼ فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّ معاوية من قد عرفت ، وقد ولاّه الشام من قد كان قبلك ، فولّه أنت كيما تتّسق عري الاُمور ، ثمّ اعزله إن بدا لك .

فقال أمير المؤمنين  ¼ : أ تضمن لى عمرى يا مغيرة فيما بين توليته إلي خلعه ؟

قال : لا .

قال : لا يسألنى الله عزّ وجلّ عن توليته علي رجلين من المسلمين ليلة سوداء أبداً ³ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا  ²  (٢) لكن أبعث إليه وادعوه إلي ما فى يدى من الحقّ ، فإن أجاب فرجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، وإن أبي حاكمته إلي الله .

فولّي المغيرة وهو يقول : فحاكمه إذن ، وأنشأ يقول :

نصحتُ عليّاً فى ابن حرب نصيحةًفردّ فما مني له(٣) الدهر ثانيهْ
ولم يقبل النصح الذى جئتُه به وكانت له تلك النصيحة كافيهْ
وقالوا له ما أخلص النصح كلّه فقلتُ له إنّ النصيحة غاليهْ(٤)

(١) الاختصاص : ١٥٠ ، بحار الأنوار : ٤٠ / ١٠٥ .
(٢) الكهف : ٥١ .
(٣) المَني القَدَر ، مناه الله يمنيه : قدّره (لسان العرب : ١٥ / ٢٩٢) .
(٤) الأمالى للطوسى : ٨٧ / ١٣٣ ، بشارة المصطفي : ٢٦٣ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ١٩٥ نحوه وليس فيه الشعر وراجع مروج الذهب : ٢ / ٣٨٢ والاستيعاب : ٤ / ٩ / ٢٥١٢ والفتوح : ٢ / ٤٤٦ .

 ١١٨ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / عزل عمّال عثمان

١٣٤٦ ـ تاريخ الطبرى عن ابن عبّاس : دعانى عثمان فاستعملنى علي الحجّ ، فخرجت إلي مكّة فأقمت للناس الحجّ ، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم ، ثمّ قدمت المدينة وقد بويع لعلىّ ، فأتيته فى داره فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به ، فحبسنى حتي خرج من عنده ، فقلت : ماذا قال لك هذا ؟

فقال : قال لى قبل مرّته هذه : أرسل إلي عبد الله بن عامر وإلي معاوية وإلي عمّال عثمان بعهودهم تقرّهم علي أعمالهم ويبايعون لك الناس ، فإنّهم يهدِّئون البلاد ويسكّنون الناس ، فأبيت ذلك عليه يومئذ وقلت : والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدتُ فيها رأيى ، ولا ولّيتُ هؤلاء ولا مثلُهم يُولَّي(١) .

قال : ثمّ انصرف من عندى وأنا أعرف فيه أنّه يري أنّى مخطئ ، ثمّ عاد إلى الآن فقال : إنّى أشرتُ عليك أوّل مرّة بالذى أشرتُ عليك وخالفتنى فيه ، ثمّ رأيتُ بعد ذلك رأياً ، وأنا أري أن تصنع الذى رأيتَ فتنزعهم وتستعين بمن تثق به ، فقد كفي الله ، وهم أهون شوكةً مما كان .

قال ابن عبّاس : فقلت لعلىّ : أمّا المرّة الاُولي فقد نصحك ، وأمّا المرّة الآخرة فقد غشّك .

قال له علىّ : ولِمَ نصحنى ؟

قال ابن عبّاس : لأنّك تعلم أنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتي تثبتهم لا يبالوا بمن ولى هذا الأمر ، ومتي تعزلهم يقولوا : أخذ هذا الأمر بغير شوري وهو قتلَ صاحبَنا ، ويؤلّبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق ، مع أنّى لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك .


(١) وفى الكامل فى التاريخ : "فأبيت عليه ذلك وقلت : لا اُداهن فى دينى ، ولا اُعطى الدنيّة فى أمرى" .

 ١١٩ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / عزل عمّال عثمان

فقال علىّ : أمّا ما ذكرتَ من إقرارهم ، فو الله ما أشكّ أنّ ذلك خير فى عاجل الدنيا لإصلاحها ، وأمّا الذى يلزمنى من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان فو الله لا اُولّى منهم أحداً أبداً ، فإن أقبلوا فذلك خير لهم ، وإن أدبروا بذلتُ لهم السيف .

قال ابن عبّاس : فأطعنى وادخل دارك والحق بمالك بينبع(١) وأغلق بابك عليك ، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك ، فإنّك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليُحمِّلنّك الناس دمَ عثمان غداً .

فأبي علىّ ، فقال لابن عبّاس : سر إلي الشام فقد ولّيتُكها .

فقال ابن عبّاس : ما هذا برأى ، معاوية رجل من بنى اُمية وهو ابن عمّ عثمان وعامله علي الشام ، ولستُ آمن أن يضرب عنقى لعثمان أو أدني ما هو صانع أن يحبسنى فيتحكّم علىّ .

فقال له علىّ : ولِمَ ؟

قال : لقرابة ما بينى وبينك ، وإنّ كلّ ما حمل عليك حمل علىّ ، ولكن اكتب إلي معاوية فمنّه وعِده .

فأبي علىّ وقال : والله لا كان هذا أبداً(٢) .

١٣٤٧ ـ شرح نهج البلاغة عن المدائنى ـ فى ذكر مجلس حضر فيه ابن عبّاس ومعاوية : فقال المغيرة بن شعبة : أما والله لقد أشرتُ علي علىٍّ بالنصيحة فآثر رأيه ، ومضي علي غلوائه ، فكانت العاقبة عليه لا له ، وإنّى لأحسب أن خلقه يقتدون بمنهجه .


(١) يَنْبُع : بليدة بالقرب من المدينة ، بها عيون وحضر وحصن (تقويم البلدان : ٨٩) .
(٢) تاريخ الطبرى : ٤ / ٤٣٩ وراجع مروج الذهب : ٢ / ٣٦٤ والكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٠٦ والبداية والنهاية : ٧ / ٢٢٩ .

 ١٢٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / استرداد أموال بيت المال

فقال ابن عبّاس : كان والله أمير المؤمنين  ¼ أعلم بوجوه الرأى ، ومعاقد الحزم ، وتصريف الاُمور ، من أن يقبل مشورتك فيما نهي الله عنه ، وعنّف عليه ، قال سبحانه : ³ لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ . . .  ²  (١) ، ولقد وقفك علي ذكر مبين ، وآية متلوّة ; قوله تعالي : ³ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا  ²  (٢) .

وهل كان يسوغ له أن يحكّم فى دماء المسلمين وفىء المؤمنين ، من ليس بمأمون عنده ، ولا موثوق به فى نفسه ؟ هيهات هيهات ! هو أعلم بفرض الله وسنّة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلاّ للتقية ، ولات حين تقيّة ! مع وضوح الحقّ ، وثبوت الجنان ، وكثرة الأنصار ، يمضى كالسيف المصلت فى أمر الله ، مؤثراً لطاعة ربّه ، والتقوي علي آراء أهل الدنيا(٣) .

٢ / ٣

استرداد أموال بيت المال

١٣٤٨ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ من كلام له فيما ردّه علي المسلمين من قطائع عثمان ـ : والله لو وجدتُه قد تُزوِّج به النساء ، ومُلك به الإماء ; لرددتُه ، فإنّ فى العدل سعة ، ومَن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق(٤) .

١٣٤٩ ـ شرح نهج البلاغة : هذه الخطبة ذكرها الكلبى مرويّةً مرفوعةً إلي


(١) المجادلة : ٢٢ .
(٢) الكهف : ٥١ .
(٣) شرح نهج البلاغة : ٦ / ٣٠١ ; بحار الأنوار : ٤٢ / ١٧٠ .
(٤) نهج البلاغة : الخطبة ١٥ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ١١٠ ، دعائم الإسلام : ١ / ٣٩٦ ، شرح الأخبار : ١ / ٣٧٣ / ٣١٦ كلاهما نحوه .

 ١٢١ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الاصلاحات

أبى صالح عن ابن عبّاس : أنّ علياً  ¼ خَطب فى اليوم الثانى من بيعته بالمدينة ، فقال :

ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاهُ من مال الله ، فهو مردود فى بيت المال ، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شىء ، ولو وجدتُه وقد تُزوِّج به النساء ، وفُرّق فى البلدان ، لرددتُه إلي حاله ; فإنّ فى العدل سعة ، ومَن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق .

وتفسير هذا الكلام : أنّ الوالى إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره فى العدل ، فهى فى الجور أضيق عليه ; لأنّ الجائر فى مظنّة أن يُمنع ويُصدّ عن جوره .

قال الكلبى : ثمّ أمر  ¼ بكلّ سلاح وُجِد لعثمان فى داره ممّا تقوّي به علي المسلمين فقبض ، وأمر بقبض نجائب كانت فى داره من إبل الصدقة فقبضت ، وأمر بقبض سيفه ودرعه ، وأمر ألاّ يعرض لسلاح وُجِد له لم يقاتل به المسلمون ، وبالكفّ عن جميع أمواله التى وُجِدت فى داره وفى غير داره ، وأمر أن تُرتجع الأموال التى أجاز بها عثمان حيث اُصيبت أو اُصيب أصحابها .

فبلغ ذلك عمرو بن العاص ، وكان بأيلة من أرض الشام ، أتاها حيث وثب الناس علي عثمان فنزلها ، فكتب إلي معاوية : ما كنت صانعاً فاصنع ، إذ قشرك ابن أبى طالب من كلّ مال تملكه كما تُقشر عن العصا لِحاها(١) .

٢ / ٤

تعذّر بعض الاصلاحات

١٣٥٠ ـ الإمام علىّ  ¼ : لو قد استوت قدماى من هذه المداحض لغيّرت أشياء(٢) .


(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٦٩ .
(٢) نهج البلاغة : الحكمة ٢٧٢ ، غرر الحكم : ٧٥٧٠ ، عيون الحكم والمواعظ : ٤١٥ / ٧٠٦٠ .

 ١٢٢ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الاصلاحات

١٣٥١ ـ الكافى عن سليم بن قيس : خطب أمير المؤمنين  ¼ فحمد الله وأثني عليه ، ثمّ صلّي علي النبىّ  ½ ، ثمّ قال : ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان : اتّباع الهوي ، وطول الأمل . أمّا اتّباع الهوي : فيصدّ عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل : فينسى الآخرة ، ألا إنّ الدنيا قد ترحّلت مدبرة ، وإنّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة ، ولكلّ واحدة بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا . فإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وإنّ غداً حساب ولا عمل .

وإنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتّبع وأحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم الله ، يتولّي فيها رجال رجالاً ، ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلص لم يخفَ علي ذى حجي . لكنّه يؤخذ من هذا ضغث(١) ومن هذا ضغث فيمزجان فيجلّلان معاً ، فهنالك يستولى الشيطان علي أوليائه ، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسني .

إنّى سمعت رسول الله  ½ يقول : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، يجرى الناس عليها ويتّخذونها سنّة ، فإذا غيّر منها شىء قيل : قد غيّرت السنّة ، وقد أتي الناس منكراً ! ثمّ تشتدّ البليّة وتسبي الذرّية ، وتدقّهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب ، وكما تدقّ الرحا بثفالها(٢) ، ويتفقّهون لغير الله ، ويتعلّمون لغير العمل ، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثمّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته ، فقال : قد عملت


(١) الضِّغث : قبضة من قضبان مختلفة ، وقيل : هى الحُزمة من الحشيش (لسان العرب : ٢ / ١٦٤) .
(٢) الثِّفال : جلدة تُبسط تحت رَحا اليد ليقع عليها الدقيق ، ويسمّي الحجر الأسفل ثفالا بها . والمعني : أنّها [الفتنة] تدقّهم دقّ الرحا للخبّ إذا كانت مُثفَّلة ، ولا تُثفّل إلاّ عند الطحن (النهاية : ١ / ٢١٥) .

 ١٢٣ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الاصلاحات

الولاة قبلى أعمالاً خالفوا فيها رسول الله  ½ متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملتُ الناس علي تركها وحوّلتها إلي مواضعها ، وإلي ما كانت فى عهد رسول الله  ½ ، لتفرّق عنّى جندى حتي أبقي وحدى ، أو قليل من شيعتى الذين عرفوا فضلى وفرض إمامتى من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله  ½ .

أ رأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم  ¼ فرددته إلي الموضع الذى وضعه فيه رسول الله  ½ ، ورددت فدكَ إلي ورثة فاطمة (ع) ، ورددت صاع رسول الله  ½ كما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله  ½ لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر إلي ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضى بها ، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ فرددتهنّ إلي أزواجهنّ ، واستقبلت بهنّ الحكم فى الفروج والأحكام ، وسبيت ذرارى بنى تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا ، وأعطيت كما كان رسول الله  ½ يعطى بالسويّة ، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة ، وسوّيت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجلّ وفرضه ، ورددت مسجد رسول الله  ½ إلي ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب ، وفتحت ما سدّ منه ، وحرّمت المسح علي الخفّين ، وحددت علي النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير علي الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من اُدخل مع رسول الله  ½ فى مسجده ممّن كان رسول الله  ½ أخرجه ، وأدخلت من اُخرج بعد رسول الله  ½ ممّن كان رسول الله  ½ أدخله ، وحملت الناس علي حكم القرآن وعلي الطلاق علي

 ١٢٤ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الاصلاحات

السنّة ، وأخذت الصدقات علي أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلي مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلي مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائر الاُمم إلي كتاب الله وسنّة نبيّه  ½ ، إذاً لتفرّقوا عنّى .

والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا فى شهر رمضان إلاّ فى فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم فى النوافل بدعة ، فتنادي بعض أهل عسكرى ممّن يقاتل معى : يا أهل الإسلام ، غيّرت سنّة عمر ، ينهانا عن الصلاة فى شهر رمضان تطوّعاً . ولقد خفت أن يثوروا فى ناحية جانب عسكرى ما لقيت من هذه الاُمّة من الفرقة ، وطاعة أئمّة الضلالة ، والدعاة إلي النار .

وأعطيت(١) من ذلك سهم ذى القربي الذى قال الله عزّ وجلّ : ³ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَي الْجَمْعَانِ  ²  (٢) فنحن والله عني بذى القربي ، الذى قرننا الله بنفسه وبرسوله  ½ فقال تعالي : ³ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ  ²  (٣) فينا خاصّة ³ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ  ²  (٤) فى ظلم آل محمّد ³ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  ²  (٥) لمن ظلمهم ، رحمة منه لنا وغني أغنانا الله به ووصّي به نبيّه  ½ .

ولم يجعل لنا فى سهم الصدقة نصيباً ، أكرم الله رسوله  ½ وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس ، فكذّبوا الله وكذّبوا رسوله وجحدوا كتاب الله


(١) كذا فى المصدر وفى الاحتجاج : "و أعظم" وهو الصحيح ظاهراً .
(٢) الأنفال : ٤١ .
(٣)
(٤)
(٥) (٣ ـ ) الحشر : ٧ .

 ١٢٥ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام على / الفصل الثانى : الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الاصلاحات

الناطق بحقّنا ، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا ، ما لقى أهل بيت نبىّ من اُمّته ما لقينا بعد نبيّنا  ½ والله المستعان علي من ظلمنا ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم(١) .


(١) الكافى : ٨ / ٥٨ / ٢١ ، الاحتجاج : ١ / ٦٢٦ / ١٤٦ عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عنه    ¤ وفيه من "إنّى سمعتُ رسول الله  ½ " ، كتاب سليم بن قيس : ٢ / ٧١٨ / ١٨ كلاهما نحوه .