الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد السادس

 

 

 ٢٥٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان

وفيه فصول :

المدخل :دراسة حول المارقين وجذور إنحرافهم

الفصل الأوّل :نظرة عامّة

الفصل الثانى :مواصفات الحرب

الفصل الثالث :مسير المارقين إلي النهروان

الفصل الرابع :عزم الإمام علي قتال معاوية ثانياً

الفصل الخامس :مسير جيش الإمام إلي النهروان

الفصل السادس :إقامة الحجّة فى ساحة القتال

الفصل السابع :القتال

الفصل الثامن :خروج بقايا من الخوارج

الفصل التاسع :خروج الخرّيت بن راشد

 ٢٥٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان

 ٢٥٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل

إنّ ظهور حركة الخوارج وبالتالى قيام معركة النهروان يُعَدّ من الحوادث المليئة بالعبر فى التاريخ الإسلامى وعصر حكومة الإمام أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب  ¼ ; ذلك أنّ طبيعة سلوكهم ، وسابقتهم الدينيّة ، وتمسّكهم القشرى بالإسلام ، ثمّ مواجهتهم للإمام  ¼ ، كلّ ذلك يعتبر من الاُمور المهمّة الحسّاسة فى السيرة العلويّة . ويمكننا أن نقف علي المخاطر والمحاذير إزاء مواجهة تيّارهم ومحاربتهم ، من خلال كلام رفيع للإمام  ¼ قال فيه : " . . . إنّى فقأتُ عين الفتنة ; ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيرى"(١) .

أجلْ ، كيف يتسنّي أن تُسلّ السيوف علي وجوه قرآنيّة الظاهر ، وجباه ثَفِنَة من كثرة السجود ، ومن ثَمّ قهرها وإبادتها ؟ !

نحن فى هذا الموضوع سوف نتوفر ـ وقبل كلّ شىء ـ علي دراسة الوضع


(١) سيوافيك تفصيل النصوص التى أفاد منها هذا التحليل خلال البحوث القادمة ، ما عدا بعض الموارد الخاصّة حيث لم يرد لها ذكر هناك ; فعمدنا إلي تخريجها من مصادرها وذكرها هنا فى الهامش .

 ٢٥٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم

النفسى والاجتماعى للخوارج اعتماداً عل الوثائق التاريخيّة والحديثيّة ، ونستعرض كيفيّة تبلور أفكارهم ، وما كان لهم من موقف متشدّد مَشُوب باللجاجة والجهل فى قبال الإمام  ¼ .

الدين والاعتدال

الإسلام دينٌ وَسَط(١) ، وتعاليمه زاخرة بالتأكيد علي الاعتدال ، وبالنظرة الشموليّة المستوعبة ، وبضرورة الابتعاد عن الإفراط ، والنظرة الضيّقة الاُحاديّة الجانب إلي الاُمور .

ورسول الله  ½ ـ الذى كان يعرض الإسلام بوصفه منهاجاً للتكامل المادّى والمعنوى ويؤكّد شموليّته وكماله فى استيعابه المصالح الفرديّة والاجتماعيّة ـ كان يري الإفراط والنظرة الاُحاديّة الجانب أكبر خطر علي اُمّته ودينه . ولم يزل ينبّه علي هذه الحقيقة طيلة عمره المبارك ، فقد كان  ½ يقول :

"لا يقوم بدين الله إلاّ من حاطه من جميع جوانبه"(٢) .

وكان  ½ يري أنّ الذين يحملون النظرة الشموليّة المستوعبة للدين ، ويُحيطون بجميع التعاليم الدينيّة فى مجال الفكر ، والقول ، والتكامل الفردى والاجتماعى هم وحدهم الذين تُثمر جهودهم فى نصرة الدين ، وكان يحرص علي تعليم ذلك لاُمّته . ومن هنا كان  ½ يقول :

"إنّ دين الله عزّ وجلّ لن ينصره إلاّ من حاطَهُ من جميع جوانبه"(٣) .


(١) قال تبارك وتعالي : ³ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا  ²  (البقرة : ١٤٣) .
(٢) كنز العمّال : ٣ / ٨٤ / ٥٦١٢ نقلاً عن أبى نعيم ; شرح الأخبار : ٢ / ٣٨٩ .
(٣) الفردوس : ١ / ٢٣٤ / ٨٩٧ عن ابن عبّاس ، كنز العمّال : ١٠ / ١٧١ / ٢٨٨٨٦ .

 ٢٥٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم

ورسول الله  ½ ـ إلي جوار ما كانت تعيشه الاُمّة من تعاليم سيرته الوضّاءة التى يُتحفها بها من أجل هدايتها واستقامتها علي الطريقة ، وجعلها الاُمّة الوسط ـ كان يدلّ علي القدوة فى هذا المجال ، ويؤكّد تمسّك المسلمين بسيرة العترة التى كان يعرّفها للاُمّة بوصفها المثال البارز للاعتدال والوسطيّة(١) . وقد أشار الأئمّة    ¥ إلي منزلة أهل البيت ومكانتهم ، من ذلك دعاء الإمام السجّاد  ¼ فى الصلوات الشعبانيّة ، حيث جاء فيها :

اللهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد الفُلك الجارية فى اللُّجج الغامرة ; يأمن من ركبها ، ويغرق من تركها ، المتقدّم لهم مارق ، والمتأخّر عنهم زاهق ، واللازم لهم لاحق(٢) .

وهكذا نبّه أئمّة الدين الناسَ علي لزوم الاعتدال فى الفكر والحياة ، وأكّدوا ذلك . ويمكننا أن نُدرك من هذا كلّه أنّ الخروج عن جادّة الاعتدال ، والسقوط فى حضيض الإفراط والتطرّف لا يستتبع إلاّ الشذوذ ، وربّما الانجراف مع تيّار الفساد .

ومثّل الخوارج ـ فى نطاق الثقافة الإسلاميّة ـ تيّاراً متطرّفاً ذا مواقف حادّة متشنّجة بعيدة عن الاعتدال ، ونُعتوا فى الأحاديث النبويّة بصفة "التعمّق" :

"إنّ أقواماً يتعمّقون فى الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرمِيّة" .

ونتناول هذا الاصطلاح فيما يأتى بإيجاز قبل أن نتحدّث عن جذور تيّار


(١) راجع : كتاب "أهل البيت فى الكتاب والسنّة" .
(٢) مصباح المتهجّد : ٣٦١ / ٤٨٥ عن الإمام الصادق  ¼ وص ٨٢٨ / ٨٨٨ ، الإقبال : ٣ / ٣٠٠ كلاهما عن مجاهد ، المزار الكبير : ٤٠١ / ١ عن العبّاس بن مجاهد ، بحار الأنوار : ٩٠ / ٢٠ .

 ٢٦٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم

الخوارج :

 ٢٦١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

ذكرنا أنّ الإسلام دينٌ وسطٌ يرفض الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال ، ولنا أن نلمس هذه الحقيقة فى التعاليم الدينيّة بعناوين متنوّعة . منها : إنّنا نلحظ أنّ الإفراط والتطرّف وردا فى لسان الأحاديث والروايات تحت عنوان "التعمّق" ، قال رسول الله  ½ :

"إيّاكم والتعمّق فى الدين ! فإنّ الله تعالي قد جعله سهلاً ، فخذوا منه ما تطيقون ; فإنّ الله يحبّ ما دام من عمل صالح وإن كان يسيراً"(١) .

ونُلقى فيما يأتى نظرة عابرة علي هذه المفردة مستهدين بما ذكره أرباب المعاجم .

قال الخليل بن أحمد الفراهيدى : المُتَعَمِّق : المبالغ فى الأمر المنشود فيه الذى يُطلب أقصي غايته(٢) .


(١) كنز العمّال : ٣ / ٣٥ / ٥٣٤٨ نقلاً عن أبى القاسم بن بشران فى أماليه عن عمر ، الجامع الصغير : ١ / ٤٥٢ / ٢٩٣٣ .
(٢) كتاب العين : ٥٧٩ .

 ٢٦٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

وجاء فى "لسان العرب" : المُتَعَمِّق : المبالغ فى الأمر المتشدّد فيه الذى يطلب أقصي غايته(١) .

ونجد هذا المعني أيضاً فى كلام المحدّثين ; فقد ذهبوا فى شرح روايات جمّة إلي أنّ التعمّق هو الإغراق فى الخروج عن الاعتدال ، والإفراط فى مقابل الاعتدال(٢) .

إنّ التنقيب عن مواضع استعمال "التعمّق" فى المعاجم والأحاديث الإسلاميّة المنقولة فى مصادر الفريقين لا يُريب الباحث فى أنّ المراد من هذه الكلمة فى الثقافة الإسلاميّة ليس إلاّ الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال . وعلي أىّ حال لو لم يكن إلاّ الحديث الذى أوردناه آنفاً لكفي به برهاناً علي ما نقول .

وكان النبىّ  ½ يوصى أصحابه دائماً ألاّ يتجاوزوا حدّ الاعتدال فى اُمور الدين ، ولا يُحرجوا أنفسهم ، ولا يفقدوا حماسهم ونشاطهم فى العبادة ، وأن يُراعوا حدود السنّة ، ولأنّ المجال هنا يضيق عن ذكر جلّ وصاياه وتعاليمه التربويّة المليئة بالدروس والعبر ، الجديرة بالقراءة والتأمّل . فإننا نذكر نزداً يسيراً منها :

"ألا وإنّ لكلّ عبادة شِرّة ، ثمّ تصير إلي فترة ، فمن صارت شرّة عبادته إلي سنّتى فقد اهتدي ، ومن خالف سنّتى فقد ضلّ ، وكان عمله فى تباب ، أما إنّى


(١) لسان العرب : ١٠ / ٢٧١ ، النهاية : ٣ / ٢٩٩ .
(٢) قال المجلسى فى بيان ما روى عن الإمام الكاظم  ¼ : "لا تعمّق فى الوضوء" : أى بإكثار الماء ، أو بالمبالغة كثيراً فى إيصال الماء زائداً عن الإسباغ المطلوب" . بحار الأنوار : ٨٠ / ٢٥٨ وراجع وسائل الشيعة : ١ / ٤٣٤ "باب استحباب صفق الوجه بالماء قليلا عند الوضوء وكراهة المبالغة فى الضرب ، والتعمّق فى الوضوء" وصحيح البخارى : ٦ / ٢٦٦١ "باب ما يكره من التعمّق والتنازع فى العلم والغلوّ فى الدين والبِدع" .

 ٢٦٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

اُصلّى وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأضحك وأبكى ; فمن رغب عن منهاجى وسنّتى فليس منّى"(١) .

وكان  ½ ينظر فى مرآة الزمان إلي أفراد من اُمّته يناهضون الحقّ لإفراطهم وتطرّفهم ، ويصرّون علي موقفهم إصراراً سُرعان ما يُبعدهم عن الدين وحقائقه ، ولذا قال فى حقّهم : "إنّ أقواماً يتعمّقون فى الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرميّة" .

وقال مشيراً إلي علامات هؤلاء : "إنّ فيكم قوماً يعبدون ويدأبون يعنى يُعجبون الناس وتُعجبهم أنفسهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة" .

فالتعمّق هو التطرّف والإفراط ، وإذا ما جُعل ميزاناً لأفعال الآخرين فلا يُنتج إلاّ الحكم الجائر ; فيري الحقّ دوماً فى جانبه ، وليس للآخرين حظٌّ منه ، وهذا النوع من الرؤي هو الذى يسبّب الفرقة ، ويستبتع الزيغ ويوجِد الشقاق ، وبالتالى فيصبح دغامة للكفر ، وحسبنا فى المقام كلام أمير المؤمنين  ¼ فى بيان هذه الحقيقة ، وأنّ التعمّق أحد اُسس الكفر ، إذ يقول :

"و الكفر علي أربع دعائم : علي التعمّق ، والتنازع ، والزيغ ، والشقاق ; فمن تعمّق لم يَنُب إلي الحقّ"(٢) .

ومثل هؤلاء المتعمّقين بتماديهم فى ظنونهم وأوهامهم ، وإغراقهم فى أفكارهم ، ومن ثمّ أساليبهم المفرطة ، لا يجدون مجالاً للإنابة إلي الحقّ ، ومن


(١) الكافى : ٢ / ٨٥ / ١ وراجع كنز العمّال : ١٦ / ٢٧٦ / ٤٤٤٣٩ .
(٢) نهج البلاغة : الحكمة ٣١ ، الكافى : ٢ / ٣٩٢ / ١ عن سليم بن قيس ، الخصال : ٢٣٢ / ٧٤ عن الأصبغ بن نباتة ، تحف العقول : ١٦٦ كلّها نحوه ، روضة الواعظين : ٥٣ وفيه "ينسب" بدل "ينب" .

 ٢٦٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

هنا لا ينقادون للإسلام ، وهل الإسلام إلاّ التسليم للحقّ ، والإقرار به ، والخضوع له بعد فهمه ؟

والمؤسف أنّ مشكلة الخوارج الكبري قد تمثّلت فى توجّهاتهم المتطرّفة المفرطة اللامتناهية ، لذلك آلَ أمرهم إلي حكمهم بالكفر علي كلّ من لا يري رأيهم ولا يعمل عملهم !

نقطة البداية فى الانحراف

إنّ عدداً من المسلمين فى عصر صدر الإسلام لم يتلقّ تحذير النبىّ  ½ من "التعمّق" بكثير من الجِدّية ; لأسباب سنعرضها عند الحديث عن جذور "التعمّق" ; فهؤلاء قد تجاوزوا السنّة النبويّة ، وأفرطوا فى نزعاتهم حتي وقحُوا فى بعض المرّات واجترؤوا يؤاخذون النبىّ  ½ إذ كان  ½ فى أحد الأيّام مشغولاً بتوزيع الغنائم ، وقسمتها بمراعاة مصالح معيّنة ، فهبّ أحد هؤلاء "المتقدّسين" ، وقد سوّلت له نفسه أنّه أعدل من رسول الله  ½ فى القسمة بزعمه ، وطلب منه أن يعدل فى التوزيع ! وطعن فى تقسيمه القائم علي التعاليم القرآنيّة ، وكان أثر السجود بائناً علي جبهته ، ورأسه محلوق علي طريقة "المتقدّسين" يومئذ ورفع عقيرته بغلظة وفظاظة قائلاً : "محمّد ، والله ما تعدل !" فقال له النبىّ  ½ مُغضباً :

ويحك ! فمن يعدل إذا لم أعدل ؟ !

وَهَمَّ الصحابةُ بقتله لموقفه الوقِح هذا ، بَيْد أنّ النبىّ  ½ منَعهم ، وحكي لهم صورةً عن مستقبله ، وأنبأهم بأنّه ورفقاءه بعيدون عن الحقّ من منطلق "التعمّق" وقال :

"سيكون له شيعة يتعمّقون فى الدين حتي يخرجوا منه" .

 ٢٦٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

وقال فى خبر آخر : "إنّه يخرج هذا فى أمثاله وفى أشباهه وفى ضُربائه يأتيهم الشيطان مِن قِبَل دينهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، لا يتعلّقون من الإسلام بشيء" .

والعجب أنّ هؤلاء قد تقمّصوا الزهد ، وعليهم سيماء العابدين أو هيئة الزاهدين ، بَيْد أنّهم ـ من منظار رسول الله  ½ ـ من الدين خارجون ، وعن الحقّ والحقيقة بعيدون ، وهم الذين كانوا يسمّون أنفسهم "القُرّاء" أيضاً ، فى حين أبان النبىّ  ½ هذه الصفة وجلّي طبيعتها أيضاً ، فقد قال  ½ : "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم !" .

ويحسن بنا أن نتحدّث بإجمال عن مصطلح "القرّاء" ; لِما كان له من أرضيّة اجتماعيّة فى التاريخ الإسلامى .

تيّار القرّاء وتبلوره

كان فى المجتمع الإسلامى أشخاص مشهورون بحُسن القراءة ، وحظى هؤلاء بشعبيّة لافتة للنظر ، وإقبال حَسَن بين الناس ، حتي غدا عنوان "القارئ" امتيازاً له أثر فى تعيين المناصب أحياناً(١) .

وقد ازداد عددهم بمرور الأيّام ، وكانوا يحلقون رؤوسهم علي طريقة خاصّة(٢) ، ويضعون عليها برانس خاصّة لتمييزهم عن غيرهم ، فعُرفوا بـ"أصحاب البرانس" .


(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٩٩ ، الطبقات الكبري : ٢ / ٣٥٢ وج ١ / ٢٢٦ ، جوامع السيرة النبويّة لابن حزم : ٢٠٣ ، وراجع تفصيل ذلك فى "تاريخ القرآن" للدكتور راميار : ٢٣١ ـ ٢٣٣ .
(٢) قال ابن أبى الحديد : كان شعارهم أنّهم يحلقون وسط رؤوسهم ويبقي الشعر مستديراً حوله كالإكليل (شرح نهج البلاغة : ٨ / ١٢٣ وراجع بحار الأنوار : ٦٨ / ٢٨٩) .

 ٢٦٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

وكان القرّاء متفرّقين فى مكّة ، والمدينة ، والشام ، والكوفة ، لكنّ معظمهم كان فى الكوفة(١) . ولم يشتركوا فى الشؤون السياسيّة غالباً ، بَيْد أنّهم طفقوا ينتقدون عثمان فى أيّام خلافته ، ولم يُطِق انتقادهم وتعنيفهم فنفاهم ، ولهم فى الثورة عليه وقتله دَورٌ أيضاً .

دور القرّاء فى جيش الإمام علىّ

كان القرّاء ـ بسابقتهم الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة هذه ـ يشكّلون قسماً لافتاً للنظر من جيش الإمام  ¼ ، وعُرفوا بالشجاعة والإقدام والقتال ، وكان لهم موقع فى جيشه  ¼ ، بحيث إنّهم لمّا اُبيدوا فى النهروان تركوا فراغاً مشهوداً فى الجيش . ويدلّ علي موقعهم أيضاً أنّ معاوية عندما شنّ غاراته ، وحثَّ الإمامُ  ¼ جُنده علي الدفاع عن الثغور ، فلم يسمع جواباً منهم ، قال أحد أصحابه :

"ما أحوج أمير المؤمنين  ¼ ومن معه إلي أصحاب النهروان !"(٢) .

القرّاء وفرض التحكيم علي الإمام

ممّا يؤسف له أنّ هؤلاء القرّاء بماضيهم المعروف قد خدعتهم ـ وهم فى جيش الإمام  ¼ ـ المكائد الخفيّة لمعاوية وعمرو بن العاص وعملائهما ، بسبب تطرّفهم ، وإفراطهم أو تعمّقهم علي حدّ تعبير النبىّ  ½ ، ففرضوا التحكيم علي الإمام  ¼ .

لقد احتال ابن العاص وسوّل للجيش مكيدته فى وقت أوشك أن يُطوي فيه


(١) حياة الشعر فى الكوفة : ٢٤٤ .
(٢) الأمالى للطوسى : ١٧٤ / ٢٩٣ ، الغارات : ٢ / ٤٨١ ; شرح نهج البلاغة : ٢ / ٩٠ .

 ٢٦٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

ملفّ الشام إلي الأبد ، وتستريح الاُمّة من هذه الفتنة العمياء السوداء ، وأمر برفع المصاحف علي الرماح دلالةً علي الكفّ عن القتال ، وأمارةً علي تحكيم كتاب الله فيه ، فاتّخذ اُولئك القرّاء موقفهم المُشين المشهور ، وهم المعروفون بسطحيّتهم ونظرهم إلي ظاهر الاُمور لا باطنها ، ولم يروا وجه الحيلة ، فأجبروا الإمام  ¼ علي قبول التحكيم ، والإمساك عن القتال تعظيماً لحرمة القرآن بزعمهم ، وأكرهوه علي ذلك بالرغم من معارضته  ¼ ومعه الخاصّة من أصحابه ، وهدّدوه بالقتل عند الرفض ، ولم يكن له  ¼ سبيل إلاّ الاستجابة لذلك المنطق المتعسّف الخاوى الجهول ; لما كان لهم من تغلغل ونفوذ فى جيشه ، وقَبِل الإمام  ¼ اقتراحهم ، فاستدعي "مالكاً" الذى كان قد تقدّم فى المعركة واقترب من فسطاط معاوية . وهكذا انطلت الخديعة ، وواجهت حكومة الإمام  ¼ مشكلة جدّية .

انفصال القرّاء عن الإمام

ما لبث أن اُميط اللثام ، وافتضحت خديعة معاوية ، وأدرك القرّاء السطحيّون خطأهم وانخداعهم بمكيدة رفع المصاحف ، ولكنّهم بدل أن يستفيقوا فيعيدوا الحقّ إلي نصابه ، والماء إلي مسابه نراهم كابروا بمضاعفة تطرّفهم ، وجهلهم ، وإفراطهم ، ونظرتهم الضيّقة المنغلقة ، واجترحوا سيّئةً أكبر من سابقتها ، فقالوا للإمام  ¼ : لقد كفرنا بفعلنا هذا ، وإنّا تائبون منه ، وأنت كفرت أيضاً ; فعليك أن تتوب مثلنا ، وتنكث ما عاهدت عليه معاوية ، وتعود إلي مقاتلته !

ولا ريب فى أنّ نكث الإمام عهدَهُ ـ مضافاً إلي ما فيه من مخالفة لسيرته واُسلوبه وتعاليم دينه ـ يُفضى إلي تضيق هؤلاء "المتقدّسين" المتعنّتين الخناق علي الإمام  ¼ ، وتحديد نطاق حكومته إلي درجة ينفلت معها زمام الاُمور ،

 ٢٦٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

ويفقد  ¼ القدرة علي صنع قراره فى الحرب والسلم ، والسياسة والإدارة ; وتخرج الاُمور المهمّة من يده . فلذا واجه  ¼ هذا الطلب الجهول بكلّ قوّة ، لكنّ اُولئك القرّاء بدل أن يتأمّلوا فى هشاشة موقفهم الأحمق هذا ، افترقوا ـ عند الرجوع من صفّين ـ عن أمير المؤمنين وإمام المتديّنين ; انطلاقاً من "التعمّق" فى الدين والإفراط فى السلوك المشين ، وعسكروا فى "حروراء" قريباً من الكوفة .

انقلاب "القرّاء" إلي "المارقين"

أجَل ، تحقّقت نبوءة رسول الله  ½ ; وإذا الذين كانوا بالأمس وجوه المسلمين البارزة ، وممّن جمعوا فى حياتهم بين الجهاد والقتال ، والزهد والعبادة ، يقفون اليوم أمام الدين وإمام المسلمين بسبب إصابتهم بداء التعمّق والتطرّف ; متذرّعين بذريعة الدفاع عن ساحة القرآن وحريم الدين . وهكذا أخرجهم داء الإفراط والتطرّف من الدين حتي لم يبق فى نفوسهم للدين من أثر .

وهكذا استحقّوا عنوان "المارقين" الذى كان رسول الله  ½ قد وصفهم به من قبل . وممّا كان  ½ قد قاله للإمام  ¼ :

"يا علىّ ! لولا أنت لما قوتل أهل النهر ، قال : فقلتُ : يا رسول الله ! ومَن أهل النهر ؟ قال : قوم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة" .

الإمام ومباهاته باجتثاث فتنة "التعمّق"

اتّضح ممّا ذكرناه إلي الآن حول تيّار "التعمّق" والوجوه المنتمية إليه أنّ الاصطدام به كان عملاً صعباً ، وحقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة ـ التى كانت فى ظاهرها تيّاراً وطيداً فى التديّن ـ عملٌ فى غاية الإعضال ، وكان الإمام  ¼ يري أنّ إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته ،

 ٢٦٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

فقد قال  ¼ :

"إنّى فقأتُ عين الفتنة ، ولم يكن لِيَجْترئ عليها أحدٌ غيرى" .

إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ; القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم ، وجري علي السنتهم نداء "لا حُكْم إلاّ لله" وهم بِسيَر ربّانيّة الظاهر ، عملٌ جدُّ عسير ; فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة ، ويخرّون للأذقان سُجّداً سجدات طويلة ، وجباههم ثفنات من كثرة السجود . وكانوا لا يعرفون حدّاً لانتقاد غيرهم ، واشتُهروا بوصفهم رجالاً اُولى شأن وقوّة فى الدين . لكن وا أسفاه ! إذ كانوا مرضي القلوب ، ضيّقى الأفكار ، صغار العقول .

من هنا كان الاصطدام بتيّار "التعمّق" ـ بناءً علي ما ذُكر ـ ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلاّ الإمام  ¼ وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزماً خاصّاً متميّزاً لم يقدر عليه سوي علىّ  ¼ . وهذه الكلمة كلمته المشهورة التى نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها ـ لذلك ـ فى حربه مع "الناكثين" و"القاسطين" فإنّه ما قال فى قتال هاتين الطائفتين : "لم يكن ليجترئ عليها أحدٌ غيرى" أو "لولا أنا ما قوتل . . ." ، بيد أنّه قال ذلك فى قتال الخوارج .

 ٢٧٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث

 ٢٧١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

لننظر الآن من أين ظَهَر هذا التيّار ، وكيف ؟ ولماذا ظهر إنّ دراسة جذور هذا التيّار ، والوقوف علي بواعث انحراف أصحابه يعتبران من أهمّ موضوعاته وتتجلّي أهميّة هذه الدراسة بملاحظة إخبار النبيّ  ½ والإمام علىّ  ¼ باستمرار هذا التيّار عبر التاريخ الإسلامى ، وأنّ مقارعة التطرّف والإفراط ، واليقظة والحذر منهما حاجة لازمة للاُمّة الإسلاميّة .

قال النبىّ  ½ فى استمرار هذا التيّار الفكرى :

"كلّما قُطع منهم قَرن نشأ قَرن ثمّ يخرج فى بقيّتهم الدجّال" .

وعندما اُبيد الخوارج فى النهروان وقيل للإمام  ¼ : هلك القوم بأجمعهم ، قال  ¼ :

"كلاّ والله ، إنّهم نُطف فى أصلاب الرجال وقرارات النساء ; كلّما نَجَم منهم قَرن قُطع ، حتي يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين" .

من هنا ، ينبغى التوفّر قبل كلّ شىء علي دراسة نفسيّات المارقين ، والتنقيب

 ٢٧٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

عن جذور "التعمّق" ، واستقصاء ممهّدات هذا التطرّف ، لعلّ فى ذلك عبرة لمعتبر فى عصرنا هذا وجميع الأعصار .

١ ـ الجهل

لا مناصَ من عدّ الجهل أوّل عامل فى دراسة جذور "التعمّق" وقد نصّت الأحاديث والروايات علي هذه النقطة ; فإنّنا نلحظ عليّاً  ¼ ينظر إلي الجهل مصدراً للإفراط والتفريط ، والتطرّف والتلكّؤ ، قال  ¼ :

"لا تري الجاهل إلاّ مُفرِطاً أو مُفرِّطاً"(١) .

وهكذا نجده فى كلام الإمام الباقر  ¼ إذ عدّه أساس تطرّف الخوارج وموقفهم المفرِط ، فقد قال إسماعيل الجُعفى : سألتُ أبا جعفر  ¼ عن الدين الذى لا يسعُ العبادَ جهلُه ؟ فقال :

"الدين واسع ، ولكن الخوارج ضيّقوا علي أنفسهم من جهلهم"(٢) .

وهذه هى النقطة التى أكّدها أمير المؤمنين  ¼ من قبل عند تحليله النفسى والفكرى للخوارج وسبب تطرّفهم ونزعاتهم المفرطة ، فقال :

" . . . ولكن منيتُ بمعشر أخِفّاء الهام ، سُفهاء الأحلام" .

وقال فى كلام آخر يخاطبهم به :

"و أنتم ـ والله ـ معاشرُ أخِفّاءُ الهامِ سفهاءُ الأحلام"(٣) .


(١) نهج البلاغة : الحكمة ٧٠ ، بحار الأنوار : ١ / ١٥٩ / ٣٥ .
(٢) الكافى : ٢ / ٤٠٥ / ٦ ، تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٦٨ / ١٥٢٩ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٢٥٧ / ٧٩١ .
(٣) تاريخ الطبرى : ٥ / ٨٥ .

 ٢٧٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

وفى كلام رفيع له  ¼ كان يهدف منه إيقاظهم ، أوصاهم فى سياق توضيح بعض الحقائق أن يرعووا عن لجاجهم وعملهم الذى يسوّله لهم جهلهم ، وأن يتبيّنوا طريق الاعتدال ، وأشار فيه إلي خلقهم وجبلّتهم فقال  ¼ :

"ثمّ أنتم شرار الناس ، ومن رمي به الشيطان مراميه ، وضرب به تيهه . وسيهلك فىّ صنفان : مُحبّ مُفرِط يذهب به الحبّ إلي غير الحقّ ; ومبغض مُفرط يذهب به البغض إلي غير الحقّ . وخير الناس فىَّ حالاً النَّمَط الأوسط ; فالزموه"(١) .

العقل مقياس الأعمال

إنّ التعقّل ، والانطلاق من العقل فى العمل ، وقياس السلوك بالفكر والتفكّر كلّ اُولئك فى غاية الأهميّة من منظار الدين . وللدين تأكيد عجيب فى هذا المجال ، فقد قال رسول الله  ½ :

"ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل"(٢) .

من هنا ، لا يقام وزن للأعمال التى لا تُمارَس من وحى العقل ، ولا للجهود المنطلقة من الجهل والحمق . وهكذا كان الخوارج فى خفّة عقولهم وجهلهم ; فإنّهم لم يلجؤوا إلي ركن وثيق فى الدين مع جميع ما كانوا عليه من العبادة وقيام الليل . والغريب أنّهم لم يظفروا بمعتقدات راسخة قطّ مع ما عرفوا به من استبسالهم فى ساحات الوغي ، وعباداتهم الطويلة ، وتحمّلهم مشقّات فى


(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٧ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ٣٧٣ / ٦٠٤ .
(٢) الكافى : ١ / ١٢ / ١١ ، المحاسن : ١ / ٣٠٨ / ٦٠٩ .

 ٢٧٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

العبادة . وهذا كلّه لم يؤدّ دوراً تكامليّاً فى عقائدهم . وحين سمع أمير المؤمنين  ¼ رجلاً من الحروريّة يتهجّد ويقرأ ، قال : "نوم علي يقين خيرٌ من صلاة علي شكّ"(١) .

عمق جهل الخوارج

إنّ جهل الخوارج مُدهش إلي درجة أنّهم كانوا فى مِرْية وشكّ من أمرهم حتي اللحظات الأخيرة من الحرب التى أوقدوها وزهقت فيها أرواحهم ، بَيدْ أنّهم لم يرعووا عن مكابرتهم . وهذه من النقاط المهمّة فى تحليل شخصيّتهم ، أى أنّهم علي الرغم من تطرّفهم الشديد فى العمل لم يلجؤوا إلي ركن وثيق فى العقيدة . وعلي سبيل المثال لمّا هلك أحدهم فى النهروان قال : "حبّذا الروحة إلي الجنّة" ، فقال قائدهم عبد الله بن وهب : ما أدرى إلي الجنّة أم إلي النار ؟ فقال رجل من بنى أسد كان يري هذا المشهد :

"إنّما حضرتُ اغتراراً بهذا ، وأراه قد شكّ ! ! وانخزل بجماعة من أصحابه ومال إلي ناحية أبى أيّوب الأنصارىّ" .

ونُذكّر بأنّ جواب صادق آل محمّد  ½ بشأن الخوارج جدير بالمطالعة والتأمّل . فقد سمّاهم "الشُّكّاك" ، ونبّه أيضاً علي مواقفهم من الوجهة النفسيّة ، فعن جميل بن درّاج : قال رجل لأبى عبد الله [الإمام الصادق]  ¼ :

الخوارج شُكّاك ؟

فقال : نعم . قال : كيف وهم يدعون إلي البراز ؟


(١) نهج البلاغة : الحكمة ٩٧ ، غرر الحكم : ٩٩٥٨ ، عيون الحكم والمواعظ : ٤٩٧ / ٩١٦٣ .

 ٢٧٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

قال : ذلك ممّا يجدون فى أنفسهم(١) .

والنقطة اللافتة للانتباه فى هذا الحوار هى أنّ السائل يجد صعوبة فى أن يقرّ بأنّ رجالاً يشهرون سيوفهم ويقاتلون دفاعاً عن عقيدة مشوبة بالشّك والارتياب . وجواب الإمام  ¼ هو أنّهم لا ينطلقون فى تحرّكهم من وحى عقيدة راسخة معيّنة ، بل من وحى عواطف باطنيّة دعتهم إلي اتّخاذ مثل ذلك الموقف ، وهذه النقطة شديدة الإثارة للتأمّل والدعوة إلي الاعتبار ، فقد يحدث ـ بل كثيراً ما يحدث ـ أن يقع الإنسان دونما تفكير أسيراً لعواطفه دفعةً واحدة ، فى المواطن المثيرة والمواضع التى تحكمها اللحظة الحاضرة إلي درجة يتعطّل معها عقله بغتةً ، وهو يعيش إعصار العاطفة ، فإذا ما سكن هذا الإعصار وهدأت فورته يفهم الراكب موجته ماذا كان فعل ، وكيف فَقَدَ كنزه ! وكلام الإمام  ¼ يدلّ علي أنّ تحرّك المارقين لم يعتمد علي عقيدة راسخة . وفيما ذكرناه ـ وفى غيره من الحقائق التى تصدق علي حياة بعضهم ـ إنارة وبيان لهذه الحقيقة .

٢ ـ حبّ الدنيا

يمكن أن نعدّ حبّ الدنيا وتأثير مغرياتها العامل الثانى لانحراف الخوارج ، مهما تعدّدت أشكال هذا الحبّ ومؤشّراته . وهذا الموضوع فى الحقيقة أهمّ عامل فى زيغ التيّارات الثلاثة : الناكثين والقاسطين والمارقين . وقد تعرّض الإمام  ¼ إلي هذه الحقيقة فى كلام عميق له قال فيه :

"فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ، ومرَقَت اُخري ، وقَسَط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : ³ تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي


(١) تهذيب الأحكام : ٦ / ١٤٥ / ٢٥١ .

 ٢٧٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

الاَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ  ²  (١) . بلي والله ، لقد سمعوها ووَعَوْها ، ولكنّهم حَلِيَت الدنيا فى أعينهم ، وراقهم زِبرِجُها(٢) .

ولعلّ ما جاء فى التاريخ حول الخوارج يجعل التصديق بهذا الموضوع عسيراً بعض العُسر ، ذلك أنّ قوماً اتّخذوا الزهد شعاراً لهم ، وظهروا بمظهر العازفين عن الدنيا ، وأتعبوا أنفسهم فى العبادة ، وجاوزوا حدّ الاعتدال فيها ، ورغبوا عن مادّيات هذه الحياة ، وكانوا يُبلون بلاءً حسناً فى ميادين القتال ، كيف يكون لحبّ الدنيا من معنيً بالنّسبة إليهم ؟ ! وهنا ينبغى أن نقول : "هاهنا ألف مسألة هى أدقّ من الشعرة"(٣) . فللإقبال علي الدنيا معالم ووجوه ، ذلك أنّ منهم مَن يتشدّد فيها علي نفسه حيناً ، ويعنُف بها ; لكى يكون مشهوراً محبوباً بين الناس ، ويذيع صيته ، ويتحدّث المتحدّثون باسمه ! أجل :

كلّ من فى الوجود يطلب صيداًإنّما الإختلاف فى الشبكاتِ

وليس للمرء أن يُخلِصَ دخيلته فيها ما لم يَخلَصْ من حبالة النفس وفخّ الشيطان ، ومن الواضح أنّ الإقبال علي الدنيا ـ إذا كان فى قالب التديّن ولباس أهل الآخرة ـ أخطر بكثير ممّا إذا كان فى قالب حبّ الدنيا واللهث وراءها ، وفى زىّ الإتراف . ذلك أنّ من العسير إدراك هذه الحقيقة من وراء ذلك الظاهر .

ولنا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح فى تصوير شامل للإمام أمير المؤمنين  ¼ يتحدّث فيه عن أصناف الناس فى عصره ، قال  ¼ :


(١) القصص : ٨٣ .
(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٣ ، الإرشاد : ١ / ٢٨٩ ، الاحتجاج : ١ / ٤٥٧ / ١٠٥ ، الطرائف : ٤١٨ .
(٣) ترجمة لمثل فارسى .

 ٢٧٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

"و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامَنَ من شخصه ، وقارَبَ من خَطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر الله ذريعة إلي المعصية"(١) .

ومن الصعب تمييز النماذج الماثلة لطلاّب الدنيا بخاصّة طلاّبها الذين عليهم مسحة التوجه إلي الآخرة ، فهذا اللون من التوجّه لا يظهر إلاّ عند محطّات الاختبار وفى منعطفات الحياة الوعرة ، وهناك تنجلى جوهرة الباطن ، ونِعمَ ما قاله الإمام  ¼ فى هذا المجال :

"فى تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال" .(٢)

إن إدراك الحقيقة المستخفية وراء حجاب الرياء والتدليس أمر لا يهتدى إليه كلّ أحد ; فهو يتطلّب بصيرة عميقة ثاقبة كبصيرة مالك الأشتر ، حتي يتسنّي أن يُري حبّ الدنيا كامناً وراء السجدات الطويلة والنزعات الخادعة ببريق قداستها المفتعلة . لقد كان مالك علي مشارف النصر فى صفّين ، وتقدّم حتي اقترب من خيمة طلاّب السلطة ، لكنّه اُكره علي التقهقر تحت ضغط "القرّاء" . وحين عاد خاطبهم بحرقة وألم ، فقال لهم :

"يا أصحاب الجباه السُّود ! كنّا نظنّ صلاتكم زهادةً فى الدنيا ، وشوقاً إلي لقاء الله عزّ وجلّ ، فلا أري فراركم إلاّ إلي الدنيا من الموت ، ألا قبحاً يا أشباه النِّيْب الجلاّلة"(٣) .


(١) نهج البلاغة : الخطبة ٣٢ ، بحار الأنوار : ٧٨ / ٥ / ٥٤ .
(٢) نهج البلاغة : الحكمة ٢١٧ .
(٣) تاريخ الطبرى : ٥ / ٥٠ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٨٧ ; وقعة صفّين : ٤٩١ .

 ٢٧٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

وهذا اللون من طلب الدنيا وضروب حبّها والركون إليها ورد أيضاً فى كلام تربوىّ للإمام زين العابدين وسيّد الساجدين  ¼ يبعث علي التذكير والتنبيه ، فلنقرأه معاً :

"إذا رأيتم الرجل قد حَسُن سمته وهديه ، وتماوَتَ فى منطقه ، وتخاضَع فى حركاته ، فرويداً لا يغرّنّكم ; فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيّته ، ومهانته ، وجُبن قلبه ; فنَصَبَ الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ; فإن تمكّن من حرام اقتحمه . وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّكم ; فإنّ شهوات الخلق مختلفة ; فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه علي شوهاء قبيحة فيأتى منها محرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّكم حتي تنظروا ما عقد ه عقله ، فما أكثر مَنْ ترك ذلك أجمع ، ثمّ لا يرجع إلي عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر ممّا يصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغرّكم حتي تنظروا : أ مَع هواه يكون علي عقله ، أو يكون مع عقله علي هواه ؟ وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ؟ فإنّ فى الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويري أنّ لذّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنِّعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة الباطلة ، حتي إذا قيل له : اتّقِ الله ، أخذته العزّة بالإثم ، فحسبه جهنّم ، ولبئس المهاد ; فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أوّل باطل إلي أبعد غايات الخسارة ، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه فى طغيانه ، فهو يُحلّ ما حرّم الله ، ويُحرّم ما أحلّ الله ، لا يُبالى ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التى قد شقى من أجلها ، فاُولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مُهيناً .

ولكن الرجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل هو الذى جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه

 ٢٧٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

مبذولة فى رضي الله ، يري الذلّ مع الحقّ أقرب إلي عزّ الأبد من العزّ فى الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلي دوام النعيم فى دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنّ كثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلي عذاب لا انقطاع له ولا زوال ، فذلكم الرجل نِعْم الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلي ربّكم به فتوسّلوا ; فإنّه لا تردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة"(١) .


(١) الاحتجاج : ٢ / ١٥٩ / ١٩٢ ، التفسير المنسوب إلي الإمام العسكرى  ¼ : ٥٣ / ٢٧ كلاهما عن الإمام الرضا  ¼ ، بحار الأنوار : ٢ / ٨٤ / ١٠ .

 ٢٨٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق

 ٢٨١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

من المناسب أن نتحدّث عن آثار "التعمّق" بعد أن تعرّفنا علي طبيعته وجذوره ; فإنّا نلحظ أنّ الأحاديث التى أحصت أخطار الجاهل "المتنسّك" هى فى الحقيقة قد صوّرت آثار "التعمّق" الضارّة . ونقرأ فى هذه الأحاديث : أنّ النبىّ  ½ أخبر بهلاك اُمّته علي يد العلماء الفجّار ، والعبّاد الجهّال . وقد تجسّد هذا الخبر فى أيّام حكومة الإمام أمير المؤمنين  ¼ واتّخذ شكله يومئذ ، قال  ¼ :

"قصم ظهرى عالم متهتّك ، وجاهل متنسّك"(١) .

وقال : "قطع ظهرى اثنان : عالم فاسق . . . وجاهل ناسك"(٢)

وقال فى خطبة له  ¼ :

"قطع ظهرى رجلان من الدنيا : رجل عليم اللسان فاسق ، ورجل جاهل القلب ناسك ; هذا يصدّ بلسانه عن فسقه ، وهذا بنُسكه عن جهله ; فاتّقوا الفاسق


(١) منية المريد : ١٨١ ، غرر الحكم : ٩٦٦٥ .
(٢) تنبيه الخواطر : ١ / ٨٢ .

 ٢٨٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

من العلماء ، والجاهل من المتعبّدين ، اُولئك فتنة كلّ مفتون"(١) .

نلحظ هنا أنّ الإمام  ¼ بكلماته هذه يذكّر بمشكلة حكومته فى الحقيقة ، وأنّه يلفتنا إلي أنّ حكومته قد تلقّت ضربتين قاصمتين من شريحتن ، وأنّ عمودها الفقرى قد اُصيب وتضعضع بذلك ، وهاتان الشريحتان هما :

١ ـ العلماء المتهتّكون ; وهم الوجوه البارزة الذين أوقدوا فتنة الجمل وصفّين (الناكثون والقاسطون) ومهّدوا سبل الفساد ، وقسطوا ونكثوا عامِدين .

٢ ـ الجهّال العابدون الذين واجهوا الإمام  ¼ فى النهروان بسيماء الزاهدين وباسم الدين منطلقين من جهلهم وحمقهم .

وهكذا ، فلا قيمة لعبادات الجاهل المتنسّك ، ولا وزن لتهجّداته ، ولا خلاقَ له منها . وليس هذا فحسب ، بل إنّهم يشكّلون خطراً عظيماً علي الإسلام والحكومة الإسلاميّة ، وبعبارة اُخري : مَثَلُ العالم المتهتّك فى خطره علي النظام الإسلامى كمثل الجاهل المتنسّك فى خطره علي الاُمّة الإسلاميّة والنظام الإسلامى أيضاً .

ولا غرْو أن تُختم حياة الإمام  ¼ علي يد هذه الشريحة الثانية ، فدلّ واقع التاريخ علي أنّ خطر العبّاد الجاهلين أشدّ وأنكي .

فاستبان ـ إذن ـ أنّ أمرّ ثمرة وأضرّها لشجرة "التعمّق" الخبيثة ـ الضاربة جذورها فى الجهل وحبّ الدنيا والمرتدية لباس الدين ـ هو تقويض أركان النظام الإسلامى . والآن نعرّج علي أغصان هذه الشجرة بشىء من التوضيح :


(١) الخصال : ٦٩ / ١٠٣ ، مشكاة الأنوار : ٢٣٨ / ٦٨٧ ، روضة الواعظين : ١٠ ، بحار الأنوار : ٢ / ١٠٦ / ٣ .

 ٢٨٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

١ ـ العُجب

العُجُب ، والزهو ، والتعظّم ، كلّ ذلك يمثّل أوّل غصن للتعمّق ، والتطرّف ، والتنسّك الجاهل . وقد مُنى القرّاء بهذه الأدواء الوبيلة ; لإفراطهم فى تعبّدهم وتنسّكهم ، ونظرهم إلي هذا المرض علي أنّه قيمة مهمّة . وزعموا ـ بفعل هذا المرض ـ أنْ ليس فى الناس من هو أفضل منهم . ومن هنا سأل رسولُ الله  ½ أحدهم بغية كشف باطنه الخفىّ له ووضعه أمامه ، فقال :

"أ قلت فى نفسك حين وقفت علي المجلس : ليس فى القوم خيرٌ منّى ؟ قال : نعم !" .

فأراد  ½ أن ينبّهه علي إصابته بداء الزهو والعُجب . وقال فيه وفى نظائره :

"إنّ فيكم قوماً يدأبون ويعملون حتي يُعجبوا الناس وتُعجبهم أنفسهم"(١) .

خطر العُجب

العُجب أخطر الأمراض الأخلاقيّة ، فإذا استفحل عند أحد غدا عُضالاً ، وأودي بصاحبه . وكلام صادق آل محمّد  ¼ آية بيّنة علي هذه الحقيقة ، قال  ¼ :

"مَن اُعجب بنفسه هلك ، ومَن اُعجب برأيه هلك ، وإنّ عيسي بن مريم  ¼ قال : داويتُ المرضي فشفيتهم بإذن الله ، وأبرأتُ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وعالجت الموتي فأحييتهم بإذن الله ، وعالجت الأحمق ; فلم أقدر علي إصلاحه ! فقيل : يا روح الله ، وما الأحمق ؟ قال : المعجب برأيه ونفسه ، الذى يري الفضل كلّه له لا عليه ، ويوجب الحقّ كلّه لنفسه ، ولا يوجب عليها حقّاً ، فذاك الأحمق


(١) فتح البارى : ١٢ / ٢٨٩ عن أنس .

 ٢٨٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

الذى لا حيلة فى مداواته"(١) .

وقال السيّد الإمام الخمينى  § فى وصيّته لابنه :

"يا بُنىّ اعتُقْ نفسك من رقّ الزهو والعُجب ; فإنّه إرث الشيطان الذى عصي الله تعالي فى الخضوع لوليّه وصفيّه جلّ وعلا بسببه . واعلَمْ أنّ جميع بلايا الإنسان من هذا الإرث الشيطانى ، فهو أصل اُصول الفتنة"(٢) .

وإذا ترسّخ هذا الداء فى نفس أحد ، فلا ينفعه عندئذ أىّ عمل من أعماله فى نجاته وتكامله . وقال الإمام الصادق  ¼ :

"قال إبليس لعنة الله عليه لجنوده : إذا استمكنتُ من ابن آدم فى ثلاث ، لم اُبالِ ما عمل ; فإنّه غير مقبول منه : إذا استكثر عمله ، ونسى ذنبه ، ودخله العُجب"(٣) .

إنّ داء العجب فى الحقيقة يحول دون استمتاع المرء ببركات أعماله الصالحة من جهة ، ويُفضى إلي ضروب الانحرافات الأخلاقيّة من جهة اُخري . وهكذا ينبغى أن نؤكّد أنّ سائر أعراض "التعمّق" التى سنُشير إليها لاحقاً ترشُف من هذه الرذيلة .

٢ ـ استدامة الجهل

وتُمثّل الغصن الآخر من أغصان شجرة "التعمّق" ، ولها فى العُجب جذور علي نحو ما ; فحينما يُفرط الإنسان فى عمله ، وينطلق فيه بلا تعقّل ، ويري نفسه


(١) الاختصاص : ٢٢١ عن أبى الربيع الشامى ، بحار الأنوار : ٧٢ / ٣٢٠ / ٣٥ .
(٢) صحيفة النور "مجموعة كلمات الإمام الخمينى" : ٢٢ / ٣٧١ .
(٣) الخصال : ١١٢ / ٨٦ عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، روضة الواعظين : ٤١٨ ، بحار الأنوار : ٧٢ / ٣١٥ / ١٥ .

 ٢٨٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

أفضل من الآخرين من دون منازِع ; فإنّه لا يعيد النظر فى فكره وعمله ، ويسعي فى جهله ، ويَلجّ فيه ، ويَظلّ حبيسَ حبالته .

ومن هنا قال الإمام الهادى  ¼ :

"العُجب صارف عن طلب العلم ، داع إلي التخبّط فى الجهل"(١) .

وفى الواقع أنّ داء العُجب يُلقى الإنسان فى الجهل المركّب حقّاً ، و"المتعمّق" ـ كما قلنا ـ يري أنّ ما يفعله هو الأفضل ، فلِمَ التأمّل وإعادة النظر فيه إذن ؟

وتحدّث القرآن الكريم عن أمثال هذا النموذج بنحو يدعو إلي الاعتبار والاتّعاظ . قال جلّ من قائل :

³ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً  ± الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا  ²  (٢) . وحين تُليت هذه الآية الكريمة عند الإمام  ¼ ، قال :

"أهل حَروراء منهم" .

وهكذا يأسر العجب الإنسان فى الجهل ، والمفتون بهذا الجهل لا يري نفسه جاهلاً أبداً ، ولا ينفكّ من هذا القيد بتاتاً ، وكلام الإمام  ¼ فى هذا الشأن معبِّر ناطق بليغ ، فقد قال  ¼ فى وصيّته لابنه الحسن  ¼ :

"إنّ الجاهل مَنْ عدّ نفسه ـ بما جهل من معرفة العلم ـ عالماً ، وبرأيه مكتفياً ; فما يزال للعلماء مباعداً ، وعليهم زارياً ، ولمن خالفه مخطّئاً ، ولعالم يعرف من الاُمور مضلِّلاً ، فإذا ورد عليه من الاُمور ما لم يعرفه أنكره وكذّب به وقال


(١) نزهة الناظر : ١٤٠ / ١٦ ، بحار الأنوار : ٧٢ / ١٩٩ / ٢٧ وراجع الدرّة الباهرة : ٤٢ .
(٢) الكهف : ١٠٣ و١٠٤ .

 ٢٨٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

بجهالته : ما أعرف هذا ، وما أراه كان ، وما أظنّ أن يكون ، وأنّي كان ؟ ! وذلك لثقته برأيه ، وقلّة معرفته بجهالته . فما ينفكّ ـ بما يري ممّا يلتبس عليه رأيه ممّا لم يعرف ـ للجهل مستفيداً ، وللحقّ منكراً ، وفى الجهالة متحيّراً ، وعن طلب العلم مستكبراً"(١) .

٣ ـ التكفير والاتّهام

إنّ إحدي الثمار المرّة المضرّة للتطرّف المنطلق من الجهل ، والإفراط الهشّ الخاوى ، و"التعمّق" فى الدين ، وحبّ التمحور المنبثق منه هى اتّهام الآخرين بالخروج من الدين ; فالسطحيّون المتحجّرون الزاهون بأنفسهم العادّون سلوكهم معياراً للحقّ يحكمون علي الآخرين بلا أناة ولا أساس ، ويقصمون ظهر كلّ من لا يفكّر تفكيرهم بعصا التكفير . وهكذا كان الخوارج ، فهم الذين كانوا قد فرضوا التحكيم علي الإمام  ¼ غير آذِنين لأنفسهم بالتفكير فيه والتأمّل فيما ابتدعوه ولو قليلاً ، ثمّ حملوا عصا التكفير وكفّروا الإمام  ¼ وهو الذى كان كيان الإيمان الماثل ، وصورة الحقّ المتجسّد ، ومظهر الربّانيّة الرفيعة . والعجب أنّهم قد أفتوا بقتل كلّ من لم يعتقد بعقيدتهم ، وأقدموا علي ذلك عمليّاً ، فقتلوا أشخاصاً فى هذا السبيل(٢) . وواصلوا نهجهم علي هذا المنوال ، وشرّعوا التكفير ، وقالوا بكفر كلّ من يرتكب الكبيرة . ومن هنا ، لمّا سُئل أحد قادتهم ; وهو قطرى بن الفُجاءة ، فى إحدي المعارك : هل تقاتل أم لا ؟ فأجاب بالنفى ، ثمّ استدرك فعزم علي القتال ، قال جنده : كَذَبَ وكَفَرَ . وعرّضوا به قائلين : "دابّة الله" ، فحكم عليهم


(١) تحف العقول : ٧٣ ، بحار الأنوار : ٧٧ / ٢٠٣ / ١ نقلاً عن كتاب الرسائل للكلينى .
(٢) من جملتهم عبد الله بن خباب بن الأرت ، وقصّته مشهورة .

 ٢٨٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

بالكفر(١) .

٤ ـ التعصّب واللجاج

اللجاج من وحى الجهل والتعصّب الأعمي إفراز آخر من الإفرازات الخطرة للتطرّف الدينى والعُجب المنبثق منه . وهكذا فالشخص المتعمّق مرتهن بحبالة الزيغ والضلال بحيث تتعذّر نجاته . من هذا المنطلق ، ولمّا اتّصف به الخوارج ، خاطبهم الإمام  ¼ قائلاً :

"أيّتها العصابة التى أخرجتها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوي ، وطمع بها النَّزَق(٢) ، وأصبحت فى اللبس والخطب العظيم"(٣) .

وهكذا "فالمتعمّقون" و"المتعصّبون" أولو اللجاجة لم ينظروا فيما يعتقدون به قطّ ، ولم يحتملوا فيه الخطأ فيرونه بحاجة إلي إعادة نظر وتمحيص . من هنا صمّوا عن سماع توجيهات الإمام  ¼ الناصحة الشفيقة ، ولم يعيدوا النظر فى مواقفهم حين حاورهم ابن عبّاس وغيره من رُسُل الإمام  ¼ حواراً استدلاليّاً واعياً ، بل أنّهم قد تصامّوا عن الكلام ; لئلاّ يسمعوهُ فيؤثّر فيهم . قال عبد الله بن وهب ، وهو يقاتل :

"ألقوا الرماح ، وسلّوا سيوفكم من جفونها ; فإنّى أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حَروراء !" .

وصرخوا بعد مناظرة للإمام  ¼ معهم قائلين : "لا تخاطبوهم ولا تكلّموهم" .


(١) راجع الكامل للمبرّد : ٣ / ١٣٣٤ .
(٢) النَّزَق : خفّة فى كلّ أمر وعجلة فى جهل وحمق (لسان العرب : ١٠ / ٣٥٢) .
(٣) تاريخ الطبرى : ٥ / ٨٤ .

 ٢٨٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق

ولمّا سمعوا احتجاج ابن عبّاس الرصين ، وقد أغلق عليهم منافذ التذرّع والتشبّث ، مستهدياً بالقرآن الكريم ، صاحوا :

"لا تجعلوا احتجاج قريش حجّةً عليكم ; فإنّ هذا من القوم الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم : ³ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ  ²  (١) !

وحين سمعوا أجوبته القويّة فى حوار آخر وعَيَوا عن ردّه ، رفعوا عقيرتهم بوجهه مخاطبين إيّاه بقولهم :

"أمْسِكْ عنّا غَرْب لسانك يا ابن عبّاس ; فانّه طلق ذلق غوّاص علي موضع الحجّة !" .

وعلي هذا فالخوارج ـ وبعنوان آخر "القرّاء" ، وأخيراً "المتعمّقون" فى الدين ، وفيما نتج عنهم من الإفراط ، والتطرّف ، والجهل ، واللجاجة ـ قد ظلّوا علي كفرهم ، وصاروا مصدراً للغىّ والضياع فى المجتمع الإسلامى .


(١) الزخرف : ٥٨ .

 ٢٨٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين

ينبغى فى الختام ألاّ نغفل عن نقطة فى تحليل فتنة الخوارج واستقصاء جذورها ، وتتمثّل هذه النقطة فى دور المتغلغلين بخاصّة "القاسطين" فى انحراف "المارقين" ، مع تذكيرنا بصعوبة العثور علي وثائق تاريخيّة لإثبات هذا الموضوع نتيجةً للسرّيّة الموجودة فى هذا المجال بشكل طبيعىّ ، بَيْد أنّنا يتسنّي لنا أن نبلغ ما نصبوا إليه إلي حدٍّ ما عبر قرائن معيّنة ، ومن هذه القرائن التى يمكن أن تساعد الباحث فى هذا الحقل : دراسة دور الأشعث بن قيس فى هذه الفتنة(١) .

إنّ التأمّل فى النصوص التاريخيّة ، لا سيّما فيما ذكره كتاب "وقعة صفّين" الثمين حول الأشعث وموقفه فى ذروة القتال يوم صفّين وما بعده لا يدع مجالاً للشكّ فى أنّه لم يرتبط بالإمام  ¼ ولم يُوالِه قطّ ، وأنّه كان عنصراً متغلغلاً عميلاً لمعاوية فى جيشه  ¼ ، ويعود ذلك إمّا لإقالته عن ولاية آذربايجان(٢) ، وعزله عن


(١) راجع : القسم السادس عشر / الأشعث بن قيس .
(٢) وقعه صفّين : ٢١ .

 ٢٩٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين

رئاسة قبيلته(١) ، أو لتقلّباته الاعتقاديّة واضطراب عقائده الدينيّة ، ممّا دفع ابن أبى الحديد أن يقول :

"كلّ فساد كان فى خلافة علىّ  ¼ وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث"(٢) .

وكان الأشعث متّهماً بارتباطه بمعاوية ، وهو نفسه كان منتبهاً إلي هذه النقطة ، حذِراً منها ، وكان يحاول ألاّ يعمل ما يفضحه ويكشف للناس حقيقته ، وقد راودته فكرة التوجّه إلي معاوية بعد عزله ، فمنعه قومه من ذلك(٣) . وارتباطاته مع معاوية ، وحواره مع رُسُله إليه دليل علي نفاقه(٤) .

وعندما احتدم القتال ، وتضعضع جيش معاوية ، ولاحت فى الاُفق بشائر آيات النصر لجيش الإمام  ¼ ، خطب الأشعث بقبيلته ، وأفزعهم ذاكراً ترمّل النساء ويُتم الأطفال ، فبان وهن عجيب فى صفوفهم(٥) . ولمّا رفع أصحاب معاوية المصاحف بمكيدة ابن العاص ، خطب الأشعث وأكره الإمام  ¼ علي قبول التحكيم(٦) . وحينما وافق الإمام علي التحكيم ، واختار مالك الأشتر أو عبد الله بن عبّاس ممثّلاً عنه ، عمل الأشعث بكلّ ما له من قوّة للحيلولة دون ذلك(٧) . ولمّا كُتِب نصّ التحكيم رفعه أمام الجيش ، فصاح بعض الأفراد قائلين : لا حكم إلاّ


(١) وقعة صفّين : ١٣٧ ـ ١٣٩ .
(٢) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٧٩ وليُتأمّل فى تتمّة كلام ابن أبى الحديد .
(٣) وقعة صفّين : ٢١ .
(٤) وقعة صفّين : ٤٠٨ ، تاريخ اليعقوبى : ٢ / ١٨٨ .
(٥) وقعه صفّين : ٤٨١ .
(٦) وقعة صفّين : ٤٨٢ .
(٧) وقعة صفّين : ٤٩٩ .

 ٢٩١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين

 ٢٩٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين

أصحابه هى التى أوقدت فتنة النهروان بعد تلك الأحداث ، ممّا أدّي إلي أن يُقرَن رجل أحمق غير واع كأبى موسي الأشعرى اليمنى إلي رجل محتال ماكر مثير للفتن كعمرو بن العاص ، ويبدّل من بعدها مجري التاريخ الإسلامى !