٢٥٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان
وفيه فصول : المدخل :دراسة حول المارقين وجذور إنحرافهم الفصل الأوّل :نظرة عامّة الفصل الثانى :مواصفات الحرب الفصل الثالث :مسير المارقين إلي النهروان الفصل الرابع :عزم الإمام علي قتال معاوية ثانياً الفصل الخامس :مسير جيش الإمام إلي النهروان الفصل السادس :إقامة الحجّة فى ساحة القتال الفصل السابع :القتال الفصل الثامن :خروج بقايا من الخوارج الفصل التاسع :خروج الخرّيت بن راشد ٢٥٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان
٢٥٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل
إنّ ظهور حركة الخوارج وبالتالى قيام معركة النهروان يُعَدّ من الحوادث المليئة بالعبر فى التاريخ الإسلامى وعصر حكومة الإمام أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب ¼ ; ذلك أنّ طبيعة سلوكهم ، وسابقتهم الدينيّة ، وتمسّكهم القشرى بالإسلام ، ثمّ مواجهتهم للإمام ¼ ، كلّ ذلك يعتبر من الاُمور المهمّة الحسّاسة فى السيرة العلويّة . ويمكننا أن نقف علي المخاطر والمحاذير إزاء مواجهة تيّارهم ومحاربتهم ، من خلال كلام رفيع للإمام ¼ قال فيه : " . . . إنّى فقأتُ عين الفتنة ; ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيرى"(١) . أجلْ ، كيف يتسنّي أن تُسلّ السيوف علي وجوه قرآنيّة الظاهر ، وجباه ثَفِنَة من كثرة السجود ، ومن ثَمّ قهرها وإبادتها ؟ ! نحن فى هذا الموضوع سوف نتوفر ـ وقبل كلّ شىء ـ علي دراسة الوضع ٢٥٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم
النفسى والاجتماعى للخوارج اعتماداً عل الوثائق التاريخيّة والحديثيّة ، ونستعرض كيفيّة تبلور أفكارهم ، وما كان لهم من موقف متشدّد مَشُوب باللجاجة والجهل فى قبال الإمام ¼ . الدين والاعتدال الإسلام دينٌ وَسَط(١) ، وتعاليمه زاخرة بالتأكيد علي الاعتدال ، وبالنظرة الشموليّة المستوعبة ، وبضرورة الابتعاد عن الإفراط ، والنظرة الضيّقة الاُحاديّة الجانب إلي الاُمور . ورسول الله ½ ـ الذى كان يعرض الإسلام بوصفه منهاجاً للتكامل المادّى والمعنوى ويؤكّد شموليّته وكماله فى استيعابه المصالح الفرديّة والاجتماعيّة ـ كان يري الإفراط والنظرة الاُحاديّة الجانب أكبر خطر علي اُمّته ودينه . ولم يزل ينبّه علي هذه الحقيقة طيلة عمره المبارك ، فقد كان ½ يقول : "لا يقوم بدين الله إلاّ من حاطه من جميع جوانبه"(٢) . وكان ½ يري أنّ الذين يحملون النظرة الشموليّة المستوعبة للدين ، ويُحيطون بجميع التعاليم الدينيّة فى مجال الفكر ، والقول ، والتكامل الفردى والاجتماعى هم وحدهم الذين تُثمر جهودهم فى نصرة الدين ، وكان يحرص علي تعليم ذلك لاُمّته . ومن هنا كان ½ يقول : "إنّ دين الله عزّ وجلّ لن ينصره إلاّ من حاطَهُ من جميع جوانبه"(٣) . (١) قال تبارك وتعالي : ³ ٢٥٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم
ورسول الله ½ ـ إلي جوار ما كانت تعيشه الاُمّة من تعاليم سيرته الوضّاءة التى يُتحفها بها من أجل هدايتها واستقامتها علي الطريقة ، وجعلها الاُمّة الوسط ـ كان يدلّ علي القدوة فى هذا المجال ، ويؤكّد تمسّك المسلمين بسيرة العترة التى كان يعرّفها للاُمّة بوصفها المثال البارز للاعتدال والوسطيّة(١) . وقد أشار الأئمّة ¥ إلي منزلة أهل البيت ومكانتهم ، من ذلك دعاء الإمام السجّاد ¼ فى الصلوات الشعبانيّة ، حيث جاء فيها : اللهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد الفُلك الجارية فى اللُّجج الغامرة ; يأمن من ركبها ، ويغرق من تركها ، المتقدّم لهم مارق ، والمتأخّر عنهم زاهق ، واللازم لهم لاحق(٢) . وهكذا نبّه أئمّة الدين الناسَ علي لزوم الاعتدال فى الفكر والحياة ، وأكّدوا ذلك . ويمكننا أن نُدرك من هذا كلّه أنّ الخروج عن جادّة الاعتدال ، والسقوط فى حضيض الإفراط والتطرّف لا يستتبع إلاّ الشذوذ ، وربّما الانجراف مع تيّار الفساد . ومثّل الخوارج ـ فى نطاق الثقافة الإسلاميّة ـ تيّاراً متطرّفاً ذا مواقف حادّة متشنّجة بعيدة عن الاعتدال ، ونُعتوا فى الأحاديث النبويّة بصفة "التعمّق" : "إنّ أقواماً يتعمّقون فى الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرمِيّة" . ونتناول هذا الاصطلاح فيما يأتى بإيجاز قبل أن نتحدّث عن جذور تيّار (١) راجع : كتاب "أهل البيت فى الكتاب والسنّة" . ٢٦٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم
الخوارج : ٢٦١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
ذكرنا أنّ الإسلام دينٌ وسطٌ يرفض الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال ، ولنا أن نلمس هذه الحقيقة فى التعاليم الدينيّة بعناوين متنوّعة . منها : إنّنا نلحظ أنّ الإفراط والتطرّف وردا فى لسان الأحاديث والروايات تحت عنوان "التعمّق" ، قال رسول الله ½ : "إيّاكم والتعمّق فى الدين ! فإنّ الله تعالي قد جعله سهلاً ، فخذوا منه ما تطيقون ; فإنّ الله يحبّ ما دام من عمل صالح وإن كان يسيراً"(١) . ونُلقى فيما يأتى نظرة عابرة علي هذه المفردة مستهدين بما ذكره أرباب المعاجم . قال الخليل بن أحمد الفراهيدى : المُتَعَمِّق : المبالغ فى الأمر المنشود فيه الذى يُطلب أقصي غايته(٢) . (١) كنز العمّال : ٣ / ٣٥ / ٥٣٤٨ نقلاً عن أبى القاسم بن بشران فى أماليه عن عمر ، الجامع الصغير : ١ / ٤٥٢ / ٢٩٣٣ . ٢٦٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
وجاء فى "لسان العرب" : المُتَعَمِّق : المبالغ فى الأمر المتشدّد فيه الذى يطلب أقصي غايته(١) . ونجد هذا المعني أيضاً فى كلام المحدّثين ; فقد ذهبوا فى شرح روايات جمّة إلي أنّ التعمّق هو الإغراق فى الخروج عن الاعتدال ، والإفراط فى مقابل الاعتدال(٢) . إنّ التنقيب عن مواضع استعمال "التعمّق" فى المعاجم والأحاديث الإسلاميّة المنقولة فى مصادر الفريقين لا يُريب الباحث فى أنّ المراد من هذه الكلمة فى الثقافة الإسلاميّة ليس إلاّ الإفراط ، والتطرّف ، والخروج عن الاعتدال . وعلي أىّ حال لو لم يكن إلاّ الحديث الذى أوردناه آنفاً لكفي به برهاناً علي ما نقول . وكان النبىّ ½ يوصى أصحابه دائماً ألاّ يتجاوزوا حدّ الاعتدال فى اُمور الدين ، ولا يُحرجوا أنفسهم ، ولا يفقدوا حماسهم ونشاطهم فى العبادة ، وأن يُراعوا حدود السنّة ، ولأنّ المجال هنا يضيق عن ذكر جلّ وصاياه وتعاليمه التربويّة المليئة بالدروس والعبر ، الجديرة بالقراءة والتأمّل . فإننا نذكر نزداً يسيراً منها : "ألا وإنّ لكلّ عبادة شِرّة ، ثمّ تصير إلي فترة ، فمن صارت شرّة عبادته إلي سنّتى فقد اهتدي ، ومن خالف سنّتى فقد ضلّ ، وكان عمله فى تباب ، أما إنّى (١) لسان العرب : ١٠ / ٢٧١ ، النهاية : ٣ / ٢٩٩ . ٢٦٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
اُصلّى وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأضحك وأبكى ; فمن رغب عن منهاجى وسنّتى فليس منّى"(١) . وكان ½ ينظر فى مرآة الزمان إلي أفراد من اُمّته يناهضون الحقّ لإفراطهم وتطرّفهم ، ويصرّون علي موقفهم إصراراً سُرعان ما يُبعدهم عن الدين وحقائقه ، ولذا قال فى حقّهم : "إنّ أقواماً يتعمّقون فى الدين يمرقون كما يمرق السهم من الرميّة" . وقال مشيراً إلي علامات هؤلاء : "إنّ فيكم قوماً يعبدون ويدأبون يعنى يُعجبون الناس وتُعجبهم أنفسهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة" . فالتعمّق هو التطرّف والإفراط ، وإذا ما جُعل ميزاناً لأفعال الآخرين فلا يُنتج إلاّ الحكم الجائر ; فيري الحقّ دوماً فى جانبه ، وليس للآخرين حظٌّ منه ، وهذا النوع من الرؤي هو الذى يسبّب الفرقة ، ويستبتع الزيغ ويوجِد الشقاق ، وبالتالى فيصبح دغامة للكفر ، وحسبنا فى المقام كلام أمير المؤمنين ¼ فى بيان هذه الحقيقة ، وأنّ التعمّق أحد اُسس الكفر ، إذ يقول : "و الكفر علي أربع دعائم : علي التعمّق ، والتنازع ، والزيغ ، والشقاق ; فمن تعمّق لم يَنُب إلي الحقّ"(٢) . ومثل هؤلاء المتعمّقين بتماديهم فى ظنونهم وأوهامهم ، وإغراقهم فى أفكارهم ، ومن ثمّ أساليبهم المفرطة ، لا يجدون مجالاً للإنابة إلي الحقّ ، ومن (١) الكافى : ٢ / ٨٥ / ١ وراجع كنز العمّال : ١٦ / ٢٧٦ / ٤٤٤٣٩ . ٢٦٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
هنا لا ينقادون للإسلام ، وهل الإسلام إلاّ التسليم للحقّ ، والإقرار به ، والخضوع له بعد فهمه ؟ والمؤسف أنّ مشكلة الخوارج الكبري قد تمثّلت فى توجّهاتهم المتطرّفة المفرطة اللامتناهية ، لذلك آلَ أمرهم إلي حكمهم بالكفر علي كلّ من لا يري رأيهم ولا يعمل عملهم ! نقطة البداية فى الانحراف إنّ عدداً من المسلمين فى عصر صدر الإسلام لم يتلقّ تحذير النبىّ ½ من "التعمّق" بكثير من الجِدّية ; لأسباب سنعرضها عند الحديث عن جذور "التعمّق" ; فهؤلاء قد تجاوزوا السنّة النبويّة ، وأفرطوا فى نزعاتهم حتي وقحُوا فى بعض المرّات واجترؤوا يؤاخذون النبىّ ½ إذ كان ½ فى أحد الأيّام مشغولاً بتوزيع الغنائم ، وقسمتها بمراعاة مصالح معيّنة ، فهبّ أحد هؤلاء "المتقدّسين" ، وقد سوّلت له نفسه أنّه أعدل من رسول الله ½ فى القسمة بزعمه ، وطلب منه أن يعدل فى التوزيع ! وطعن فى تقسيمه القائم علي التعاليم القرآنيّة ، وكان أثر السجود بائناً علي جبهته ، ورأسه محلوق علي طريقة "المتقدّسين" يومئذ ورفع عقيرته بغلظة وفظاظة قائلاً : "محمّد ، والله ما تعدل !" فقال له النبىّ ½ مُغضباً : ويحك ! فمن يعدل إذا لم أعدل ؟ ! وَهَمَّ الصحابةُ بقتله لموقفه الوقِح هذا ، بَيْد أنّ النبىّ ½ منَعهم ، وحكي لهم صورةً عن مستقبله ، وأنبأهم بأنّه ورفقاءه بعيدون عن الحقّ من منطلق "التعمّق" وقال : "سيكون له شيعة يتعمّقون فى الدين حتي يخرجوا منه" . ٢٦٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
وقال فى خبر آخر : "إنّه يخرج هذا فى أمثاله وفى أشباهه وفى ضُربائه يأتيهم الشيطان مِن قِبَل دينهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، لا يتعلّقون من الإسلام بشيء" . والعجب أنّ هؤلاء قد تقمّصوا الزهد ، وعليهم سيماء العابدين أو هيئة الزاهدين ، بَيْد أنّهم ـ من منظار رسول الله ½ ـ من الدين خارجون ، وعن الحقّ والحقيقة بعيدون ، وهم الذين كانوا يسمّون أنفسهم "القُرّاء" أيضاً ، فى حين أبان النبىّ ½ هذه الصفة وجلّي طبيعتها أيضاً ، فقد قال ½ : "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم !" . ويحسن بنا أن نتحدّث بإجمال عن مصطلح "القرّاء" ; لِما كان له من أرضيّة اجتماعيّة فى التاريخ الإسلامى . تيّار القرّاء وتبلوره كان فى المجتمع الإسلامى أشخاص مشهورون بحُسن القراءة ، وحظى هؤلاء بشعبيّة لافتة للنظر ، وإقبال حَسَن بين الناس ، حتي غدا عنوان "القارئ" امتيازاً له أثر فى تعيين المناصب أحياناً(١) . وقد ازداد عددهم بمرور الأيّام ، وكانوا يحلقون رؤوسهم علي طريقة خاصّة(٢) ، ويضعون عليها برانس خاصّة لتمييزهم عن غيرهم ، فعُرفوا بـ"أصحاب البرانس" . (١) تاريخ الطبري : ٣ / ٩٩ ، الطبقات الكبري : ٢ / ٣٥٢ وج ١ / ٢٢٦ ، جوامع السيرة النبويّة لابن حزم : ٢٠٣ ، وراجع تفصيل ذلك فى "تاريخ القرآن" للدكتور راميار : ٢٣١ ـ ٢٣٣ . ٢٦٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
وكان القرّاء متفرّقين فى مكّة ، والمدينة ، والشام ، والكوفة ، لكنّ معظمهم كان فى الكوفة(١) . ولم يشتركوا فى الشؤون السياسيّة غالباً ، بَيْد أنّهم طفقوا ينتقدون عثمان فى أيّام خلافته ، ولم يُطِق انتقادهم وتعنيفهم فنفاهم ، ولهم فى الثورة عليه وقتله دَورٌ أيضاً . دور القرّاء فى جيش الإمام علىّ كان القرّاء ـ بسابقتهم الفكريّة والسياسيّة والاجتماعيّة هذه ـ يشكّلون قسماً لافتاً للنظر من جيش الإمام ¼ ، وعُرفوا بالشجاعة والإقدام والقتال ، وكان لهم موقع فى جيشه ¼ ، بحيث إنّهم لمّا اُبيدوا فى النهروان تركوا فراغاً مشهوداً فى الجيش . ويدلّ علي موقعهم أيضاً أنّ معاوية عندما شنّ غاراته ، وحثَّ الإمامُ ¼ جُنده علي الدفاع عن الثغور ، فلم يسمع جواباً منهم ، قال أحد أصحابه : "ما أحوج أمير المؤمنين ¼ ومن معه إلي أصحاب النهروان !"(٢) . القرّاء وفرض التحكيم علي الإمام ممّا يؤسف له أنّ هؤلاء القرّاء بماضيهم المعروف قد خدعتهم ـ وهم فى جيش الإمام ¼ ـ المكائد الخفيّة لمعاوية وعمرو بن العاص وعملائهما ، بسبب تطرّفهم ، وإفراطهم أو تعمّقهم علي حدّ تعبير النبىّ ½ ، ففرضوا التحكيم علي الإمام ¼ . لقد احتال ابن العاص وسوّل للجيش مكيدته فى وقت أوشك أن يُطوي فيه (١) حياة الشعر فى الكوفة : ٢٤٤ . ٢٦٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
ملفّ الشام إلي الأبد ، وتستريح الاُمّة من هذه الفتنة العمياء السوداء ، وأمر برفع المصاحف علي الرماح دلالةً علي الكفّ عن القتال ، وأمارةً علي تحكيم كتاب الله فيه ، فاتّخذ اُولئك القرّاء موقفهم المُشين المشهور ، وهم المعروفون بسطحيّتهم ونظرهم إلي ظاهر الاُمور لا باطنها ، ولم يروا وجه الحيلة ، فأجبروا الإمام ¼ علي قبول التحكيم ، والإمساك عن القتال تعظيماً لحرمة القرآن بزعمهم ، وأكرهوه علي ذلك بالرغم من معارضته ¼ ومعه الخاصّة من أصحابه ، وهدّدوه بالقتل عند الرفض ، ولم يكن له ¼ سبيل إلاّ الاستجابة لذلك المنطق المتعسّف الخاوى الجهول ; لما كان لهم من تغلغل ونفوذ فى جيشه ، وقَبِل الإمام ¼ اقتراحهم ، فاستدعي "مالكاً" الذى كان قد تقدّم فى المعركة واقترب من فسطاط معاوية . وهكذا انطلت الخديعة ، وواجهت حكومة الإمام ¼ مشكلة جدّية . انفصال القرّاء عن الإمام ما لبث أن اُميط اللثام ، وافتضحت خديعة معاوية ، وأدرك القرّاء السطحيّون خطأهم وانخداعهم بمكيدة رفع المصاحف ، ولكنّهم بدل أن يستفيقوا فيعيدوا الحقّ إلي نصابه ، والماء إلي مسابه نراهم كابروا بمضاعفة تطرّفهم ، وجهلهم ، وإفراطهم ، ونظرتهم الضيّقة المنغلقة ، واجترحوا سيّئةً أكبر من سابقتها ، فقالوا للإمام ¼ : لقد كفرنا بفعلنا هذا ، وإنّا تائبون منه ، وأنت كفرت أيضاً ; فعليك أن تتوب مثلنا ، وتنكث ما عاهدت عليه معاوية ، وتعود إلي مقاتلته ! ولا ريب فى أنّ نكث الإمام عهدَهُ ـ مضافاً إلي ما فيه من مخالفة لسيرته واُسلوبه وتعاليم دينه ـ يُفضى إلي تضيق هؤلاء "المتقدّسين" المتعنّتين الخناق علي الإمام ¼ ، وتحديد نطاق حكومته إلي درجة ينفلت معها زمام الاُمور ، ٢٦٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
ويفقد ¼ القدرة علي صنع قراره فى الحرب والسلم ، والسياسة والإدارة ; وتخرج الاُمور المهمّة من يده . فلذا واجه ¼ هذا الطلب الجهول بكلّ قوّة ، لكنّ اُولئك القرّاء بدل أن يتأمّلوا فى هشاشة موقفهم الأحمق هذا ، افترقوا ـ عند الرجوع من صفّين ـ عن أمير المؤمنين وإمام المتديّنين ; انطلاقاً من "التعمّق" فى الدين والإفراط فى السلوك المشين ، وعسكروا فى "حروراء" قريباً من الكوفة . انقلاب "القرّاء" إلي "المارقين" أجَل ، تحقّقت نبوءة رسول الله ½ ; وإذا الذين كانوا بالأمس وجوه المسلمين البارزة ، وممّن جمعوا فى حياتهم بين الجهاد والقتال ، والزهد والعبادة ، يقفون اليوم أمام الدين وإمام المسلمين بسبب إصابتهم بداء التعمّق والتطرّف ; متذرّعين بذريعة الدفاع عن ساحة القرآن وحريم الدين . وهكذا أخرجهم داء الإفراط والتطرّف من الدين حتي لم يبق فى نفوسهم للدين من أثر . وهكذا استحقّوا عنوان "المارقين" الذى كان رسول الله ½ قد وصفهم به من قبل . وممّا كان ½ قد قاله للإمام ¼ : "يا علىّ ! لولا أنت لما قوتل أهل النهر ، قال : فقلتُ : يا رسول الله ! ومَن أهل النهر ؟ قال : قوم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة" . الإمام ومباهاته باجتثاث فتنة "التعمّق" اتّضح ممّا ذكرناه إلي الآن حول تيّار "التعمّق" والوجوه المنتمية إليه أنّ الاصطدام به كان عملاً صعباً ، وحقيقة الأمر أنّ استئصال جذور هذه الفتنة ـ التى كانت فى ظاهرها تيّاراً وطيداً فى التديّن ـ عملٌ فى غاية الإعضال ، وكان الإمام ¼ يري أنّ إبادة هذا التيّار واقتلاع جذور الفتنة من مفاخر عصر خلافته ، ٢٦٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
فقد قال ¼ : "إنّى فقأتُ عين الفتنة ، ولم يكن لِيَجْترئ عليها أحدٌ غيرى" . إنّ قتالَ أدعياء الحقّ ; القرّاء الذين كانت ترنيمات القرآن قد ملأت حياتهم ، وجري علي السنتهم نداء "لا حُكْم إلاّ لله" وهم بِسيَر ربّانيّة الظاهر ، عملٌ جدُّ عسير ; فهؤلاء كانوا يُحيون الليل بالعبادة ، ويخرّون للأذقان سُجّداً سجدات طويلة ، وجباههم ثفنات من كثرة السجود . وكانوا لا يعرفون حدّاً لانتقاد غيرهم ، واشتُهروا بوصفهم رجالاً اُولى شأن وقوّة فى الدين . لكن وا أسفاه ! إذ كانوا مرضي القلوب ، ضيّقى الأفكار ، صغار العقول . من هنا كان الاصطدام بتيّار "التعمّق" ـ بناءً علي ما ذُكر ـ ممّا لم يقدر عليه يومئذ إلاّ الإمام ¼ وكان قمعه يتطلّب بصيرة وحزماً خاصّاً متميّزاً لم يقدر عليه سوي علىّ ¼ . وهذه الكلمة كلمته المشهورة التى نطق بها بعد قتال الخوارج لم يَقُلها ـ لذلك ـ فى حربه مع "الناكثين" و"القاسطين" فإنّه ما قال فى قتال هاتين الطائفتين : "لم يكن ليجترئ عليها أحدٌ غيرى" أو "لولا أنا ما قوتل . . ." ، بيد أنّه قال ذلك فى قتال الخوارج . ٢٧٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / التطرّف الدينى فى اصطلاح الحديث
٢٧١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
لننظر الآن من أين ظَهَر هذا التيّار ، وكيف ؟ ولماذا ظهر إنّ دراسة جذور هذا التيّار ، والوقوف علي بواعث انحراف أصحابه يعتبران من أهمّ موضوعاته وتتجلّي أهميّة هذه الدراسة بملاحظة إخبار النبيّ ½ والإمام علىّ ¼ باستمرار هذا التيّار عبر التاريخ الإسلامى ، وأنّ مقارعة التطرّف والإفراط ، واليقظة والحذر منهما حاجة لازمة للاُمّة الإسلاميّة . قال النبىّ ½ فى استمرار هذا التيّار الفكرى : "كلّما قُطع منهم قَرن نشأ قَرن ثمّ يخرج فى بقيّتهم الدجّال" . وعندما اُبيد الخوارج فى النهروان وقيل للإمام ¼ : هلك القوم بأجمعهم ، قال ¼ : "كلاّ والله ، إنّهم نُطف فى أصلاب الرجال وقرارات النساء ; كلّما نَجَم منهم قَرن قُطع ، حتي يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين" . من هنا ، ينبغى التوفّر قبل كلّ شىء علي دراسة نفسيّات المارقين ، والتنقيب ٢٧٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
عن جذور "التعمّق" ، واستقصاء ممهّدات هذا التطرّف ، لعلّ فى ذلك عبرة لمعتبر فى عصرنا هذا وجميع الأعصار . ١ ـ الجهل لا مناصَ من عدّ الجهل أوّل عامل فى دراسة جذور "التعمّق" وقد نصّت الأحاديث والروايات علي هذه النقطة ; فإنّنا نلحظ عليّاً ¼ ينظر إلي الجهل مصدراً للإفراط والتفريط ، والتطرّف والتلكّؤ ، قال ¼ : "لا تري الجاهل إلاّ مُفرِطاً أو مُفرِّطاً"(١) . وهكذا نجده فى كلام الإمام الباقر ¼ إذ عدّه أساس تطرّف الخوارج وموقفهم المفرِط ، فقد قال إسماعيل الجُعفى : سألتُ أبا جعفر ¼ عن الدين الذى لا يسعُ العبادَ جهلُه ؟ فقال : "الدين واسع ، ولكن الخوارج ضيّقوا علي أنفسهم من جهلهم"(٢) . وهذه هى النقطة التى أكّدها أمير المؤمنين ¼ من قبل عند تحليله النفسى والفكرى للخوارج وسبب تطرّفهم ونزعاتهم المفرطة ، فقال : " . . . ولكن منيتُ بمعشر أخِفّاء الهام ، سُفهاء الأحلام" . وقال فى كلام آخر يخاطبهم به : "و أنتم ـ والله ـ معاشرُ أخِفّاءُ الهامِ سفهاءُ الأحلام"(٣) . (١) نهج البلاغة : الحكمة ٧٠ ، بحار الأنوار : ١ / ١٥٩ / ٣٥ . ٢٧٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
وفى كلام رفيع له ¼ كان يهدف منه إيقاظهم ، أوصاهم فى سياق توضيح بعض الحقائق أن يرعووا عن لجاجهم وعملهم الذى يسوّله لهم جهلهم ، وأن يتبيّنوا طريق الاعتدال ، وأشار فيه إلي خلقهم وجبلّتهم فقال ¼ : "ثمّ أنتم شرار الناس ، ومن رمي به الشيطان مراميه ، وضرب به تيهه . وسيهلك فىّ صنفان : مُحبّ مُفرِط يذهب به الحبّ إلي غير الحقّ ; ومبغض مُفرط يذهب به البغض إلي غير الحقّ . وخير الناس فىَّ حالاً النَّمَط الأوسط ; فالزموه"(١) . العقل مقياس الأعمال إنّ التعقّل ، والانطلاق من العقل فى العمل ، وقياس السلوك بالفكر والتفكّر كلّ اُولئك فى غاية الأهميّة من منظار الدين . وللدين تأكيد عجيب فى هذا المجال ، فقد قال رسول الله ½ : "ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل ، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل ، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل"(٢) . من هنا ، لا يقام وزن للأعمال التى لا تُمارَس من وحى العقل ، ولا للجهود المنطلقة من الجهل والحمق . وهكذا كان الخوارج فى خفّة عقولهم وجهلهم ; فإنّهم لم يلجؤوا إلي ركن وثيق فى الدين مع جميع ما كانوا عليه من العبادة وقيام الليل . والغريب أنّهم لم يظفروا بمعتقدات راسخة قطّ مع ما عرفوا به من استبسالهم فى ساحات الوغي ، وعباداتهم الطويلة ، وتحمّلهم مشقّات فى (١) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٧ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ٣٧٣ / ٦٠٤ . ٢٧٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
العبادة . وهذا كلّه لم يؤدّ دوراً تكامليّاً فى عقائدهم . وحين سمع أمير المؤمنين ¼ رجلاً من الحروريّة يتهجّد ويقرأ ، قال : "نوم علي يقين خيرٌ من صلاة علي شكّ"(١) . عمق جهل الخوارج إنّ جهل الخوارج مُدهش إلي درجة أنّهم كانوا فى مِرْية وشكّ من أمرهم حتي اللحظات الأخيرة من الحرب التى أوقدوها وزهقت فيها أرواحهم ، بَيدْ أنّهم لم يرعووا عن مكابرتهم . وهذه من النقاط المهمّة فى تحليل شخصيّتهم ، أى أنّهم علي الرغم من تطرّفهم الشديد فى العمل لم يلجؤوا إلي ركن وثيق فى العقيدة . وعلي سبيل المثال لمّا هلك أحدهم فى النهروان قال : "حبّذا الروحة إلي الجنّة" ، فقال قائدهم عبد الله بن وهب : ما أدرى إلي الجنّة أم إلي النار ؟ فقال رجل من بنى أسد كان يري هذا المشهد : "إنّما حضرتُ اغتراراً بهذا ، وأراه قد شكّ ! ! وانخزل بجماعة من أصحابه ومال إلي ناحية أبى أيّوب الأنصارىّ" . ونُذكّر بأنّ جواب صادق آل محمّد ½ بشأن الخوارج جدير بالمطالعة والتأمّل . فقد سمّاهم "الشُّكّاك" ، ونبّه أيضاً علي مواقفهم من الوجهة النفسيّة ، فعن جميل بن درّاج : قال رجل لأبى عبد الله [الإمام الصادق] ¼ : الخوارج شُكّاك ؟ فقال : نعم . قال : كيف وهم يدعون إلي البراز ؟ (١) نهج البلاغة : الحكمة ٩٧ ، غرر الحكم : ٩٩٥٨ ، عيون الحكم والمواعظ : ٤٩٧ / ٩١٦٣ . ٢٧٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
قال : ذلك ممّا يجدون فى أنفسهم(١) . والنقطة اللافتة للانتباه فى هذا الحوار هى أنّ السائل يجد صعوبة فى أن يقرّ بأنّ رجالاً يشهرون سيوفهم ويقاتلون دفاعاً عن عقيدة مشوبة بالشّك والارتياب . وجواب الإمام ¼ هو أنّهم لا ينطلقون فى تحرّكهم من وحى عقيدة راسخة معيّنة ، بل من وحى عواطف باطنيّة دعتهم إلي اتّخاذ مثل ذلك الموقف ، وهذه النقطة شديدة الإثارة للتأمّل والدعوة إلي الاعتبار ، فقد يحدث ـ بل كثيراً ما يحدث ـ أن يقع الإنسان دونما تفكير أسيراً لعواطفه دفعةً واحدة ، فى المواطن المثيرة والمواضع التى تحكمها اللحظة الحاضرة إلي درجة يتعطّل معها عقله بغتةً ، وهو يعيش إعصار العاطفة ، فإذا ما سكن هذا الإعصار وهدأت فورته يفهم الراكب موجته ماذا كان فعل ، وكيف فَقَدَ كنزه ! وكلام الإمام ¼ يدلّ علي أنّ تحرّك المارقين لم يعتمد علي عقيدة راسخة . وفيما ذكرناه ـ وفى غيره من الحقائق التى تصدق علي حياة بعضهم ـ إنارة وبيان لهذه الحقيقة . ٢ ـ حبّ الدنيا يمكن أن نعدّ حبّ الدنيا وتأثير مغرياتها العامل الثانى لانحراف الخوارج ، مهما تعدّدت أشكال هذا الحبّ ومؤشّراته . وهذا الموضوع فى الحقيقة أهمّ عامل فى زيغ التيّارات الثلاثة : الناكثين والقاسطين والمارقين . وقد تعرّض الإمام ¼ إلي هذه الحقيقة فى كلام عميق له قال فيه : "فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ، ومرَقَت اُخري ، وقَسَط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : ³ تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي ٢٧٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
الاَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ² (١) . بلي والله ، لقد سمعوها ووَعَوْها ، ولكنّهم حَلِيَت الدنيا فى أعينهم ، وراقهم زِبرِجُها(٢) .ولعلّ ما جاء فى التاريخ حول الخوارج يجعل التصديق بهذا الموضوع عسيراً بعض العُسر ، ذلك أنّ قوماً اتّخذوا الزهد شعاراً لهم ، وظهروا بمظهر العازفين عن الدنيا ، وأتعبوا أنفسهم فى العبادة ، وجاوزوا حدّ الاعتدال فيها ، ورغبوا عن مادّيات هذه الحياة ، وكانوا يُبلون بلاءً حسناً فى ميادين القتال ، كيف يكون لحبّ الدنيا من معنيً بالنّسبة إليهم ؟ ! وهنا ينبغى أن نقول : "هاهنا ألف مسألة هى أدقّ من الشعرة"(٣) . فللإقبال علي الدنيا معالم ووجوه ، ذلك أنّ منهم مَن يتشدّد فيها علي نفسه حيناً ، ويعنُف بها ; لكى يكون مشهوراً محبوباً بين الناس ، ويذيع صيته ، ويتحدّث المتحدّثون باسمه ! أجل :
وليس للمرء أن يُخلِصَ دخيلته فيها ما لم يَخلَصْ من حبالة النفس وفخّ الشيطان ، ومن الواضح أنّ الإقبال علي الدنيا ـ إذا كان فى قالب التديّن ولباس أهل الآخرة ـ أخطر بكثير ممّا إذا كان فى قالب حبّ الدنيا واللهث وراءها ، وفى زىّ الإتراف . ذلك أنّ من العسير إدراك هذه الحقيقة من وراء ذلك الظاهر . ولنا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح فى تصوير شامل للإمام أمير المؤمنين ¼ يتحدّث فيه عن أصناف الناس فى عصره ، قال ¼ : (١) القصص : ٨٣ . ٢٧٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
"و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامَنَ من شخصه ، وقارَبَ من خَطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف من نفسه للأمانة ، واتّخذ ستر الله ذريعة إلي المعصية"(١) . ومن الصعب تمييز النماذج الماثلة لطلاّب الدنيا بخاصّة طلاّبها الذين عليهم مسحة التوجه إلي الآخرة ، فهذا اللون من التوجّه لا يظهر إلاّ عند محطّات الاختبار وفى منعطفات الحياة الوعرة ، وهناك تنجلى جوهرة الباطن ، ونِعمَ ما قاله الإمام ¼ فى هذا المجال : "فى تقلّب الأحوال علم جواهر الرجال" .(٢) إن إدراك الحقيقة المستخفية وراء حجاب الرياء والتدليس أمر لا يهتدى إليه كلّ أحد ; فهو يتطلّب بصيرة عميقة ثاقبة كبصيرة مالك الأشتر ، حتي يتسنّي أن يُري حبّ الدنيا كامناً وراء السجدات الطويلة والنزعات الخادعة ببريق قداستها المفتعلة . لقد كان مالك علي مشارف النصر فى صفّين ، وتقدّم حتي اقترب من خيمة طلاّب السلطة ، لكنّه اُكره علي التقهقر تحت ضغط "القرّاء" . وحين عاد خاطبهم بحرقة وألم ، فقال لهم : "يا أصحاب الجباه السُّود ! كنّا نظنّ صلاتكم زهادةً فى الدنيا ، وشوقاً إلي لقاء الله عزّ وجلّ ، فلا أري فراركم إلاّ إلي الدنيا من الموت ، ألا قبحاً يا أشباه النِّيْب الجلاّلة"(٣) . (١) نهج البلاغة : الخطبة ٣٢ ، بحار الأنوار : ٧٨ / ٥ / ٥٤ . ٢٧٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
وهذا اللون من طلب الدنيا وضروب حبّها والركون إليها ورد أيضاً فى كلام تربوىّ للإمام زين العابدين وسيّد الساجدين ¼ يبعث علي التذكير والتنبيه ، فلنقرأه معاً : "إذا رأيتم الرجل قد حَسُن سمته وهديه ، وتماوَتَ فى منطقه ، وتخاضَع فى حركاته ، فرويداً لا يغرّنّكم ; فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها لضعف نيّته ، ومهانته ، وجُبن قلبه ; فنَصَبَ الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ; فإن تمكّن من حرام اقتحمه . وإذا وجدتموه يعفّ عن المال الحرام فرويداً لا يغرّنّكم ; فإنّ شهوات الخلق مختلفة ; فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه علي شوهاء قبيحة فيأتى منها محرّماً ، فإذا وجدتموه يعفّ عن ذلك فرويداً لا يغرّكم حتي تنظروا ما عقد ه عقله ، فما أكثر مَنْ ترك ذلك أجمع ، ثمّ لا يرجع إلي عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر ممّا يصلحه بعقله ، فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغرّكم حتي تنظروا : أ مَع هواه يكون علي عقله ، أو يكون مع عقله علي هواه ؟ وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ؟ فإنّ فى الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ، ويري أنّ لذّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّة الأموال والنِّعم المباحة المحلّلة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة الباطلة ، حتي إذا قيل له : اتّقِ الله ، أخذته العزّة بالإثم ، فحسبه جهنّم ، ولبئس المهاد ; فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أوّل باطل إلي أبعد غايات الخسارة ، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه فى طغيانه ، فهو يُحلّ ما حرّم الله ، ويُحرّم ما أحلّ الله ، لا يُبالى ما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التى قد شقى من أجلها ، فاُولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مُهيناً . ولكن الرجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل هو الذى جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه ٢٧٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
مبذولة فى رضي الله ، يري الذلّ مع الحقّ أقرب إلي عزّ الأبد من العزّ فى الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلي دوام النعيم فى دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنّ كثير ما يلحقه من سرّائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلي عذاب لا انقطاع له ولا زوال ، فذلكم الرجل نِعْم الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلي ربّكم به فتوسّلوا ; فإنّه لا تردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة"(١) . ٢٨٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / جذور التعمّق
٢٨١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
من المناسب أن نتحدّث عن آثار "التعمّق" بعد أن تعرّفنا علي طبيعته وجذوره ; فإنّا نلحظ أنّ الأحاديث التى أحصت أخطار الجاهل "المتنسّك" هى فى الحقيقة قد صوّرت آثار "التعمّق" الضارّة . ونقرأ فى هذه الأحاديث : أنّ النبىّ ½ أخبر بهلاك اُمّته علي يد العلماء الفجّار ، والعبّاد الجهّال . وقد تجسّد هذا الخبر فى أيّام حكومة الإمام أمير المؤمنين ¼ واتّخذ شكله يومئذ ، قال ¼ : "قصم ظهرى عالم متهتّك ، وجاهل متنسّك"(١) . وقال : "قطع ظهرى اثنان : عالم فاسق . . . وجاهل ناسك"(٢) وقال فى خطبة له ¼ : "قطع ظهرى رجلان من الدنيا : رجل عليم اللسان فاسق ، ورجل جاهل القلب ناسك ; هذا يصدّ بلسانه عن فسقه ، وهذا بنُسكه عن جهله ; فاتّقوا الفاسق (١) منية المريد : ١٨١ ، غرر الحكم : ٩٦٦٥ . ٢٨٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
من العلماء ، والجاهل من المتعبّدين ، اُولئك فتنة كلّ مفتون"(١) . نلحظ هنا أنّ الإمام ¼ بكلماته هذه يذكّر بمشكلة حكومته فى الحقيقة ، وأنّه يلفتنا إلي أنّ حكومته قد تلقّت ضربتين قاصمتين من شريحتن ، وأنّ عمودها الفقرى قد اُصيب وتضعضع بذلك ، وهاتان الشريحتان هما : ١ ـ العلماء المتهتّكون ; وهم الوجوه البارزة الذين أوقدوا فتنة الجمل وصفّين (الناكثون والقاسطون) ومهّدوا سبل الفساد ، وقسطوا ونكثوا عامِدين . ٢ ـ الجهّال العابدون الذين واجهوا الإمام ¼ فى النهروان بسيماء الزاهدين وباسم الدين منطلقين من جهلهم وحمقهم . وهكذا ، فلا قيمة لعبادات الجاهل المتنسّك ، ولا وزن لتهجّداته ، ولا خلاقَ له منها . وليس هذا فحسب ، بل إنّهم يشكّلون خطراً عظيماً علي الإسلام والحكومة الإسلاميّة ، وبعبارة اُخري : مَثَلُ العالم المتهتّك فى خطره علي النظام الإسلامى كمثل الجاهل المتنسّك فى خطره علي الاُمّة الإسلاميّة والنظام الإسلامى أيضاً . ولا غرْو أن تُختم حياة الإمام ¼ علي يد هذه الشريحة الثانية ، فدلّ واقع التاريخ علي أنّ خطر العبّاد الجاهلين أشدّ وأنكي . فاستبان ـ إذن ـ أنّ أمرّ ثمرة وأضرّها لشجرة "التعمّق" الخبيثة ـ الضاربة جذورها فى الجهل وحبّ الدنيا والمرتدية لباس الدين ـ هو تقويض أركان النظام الإسلامى . والآن نعرّج علي أغصان هذه الشجرة بشىء من التوضيح : (١) الخصال : ٦٩ / ١٠٣ ، مشكاة الأنوار : ٢٣٨ / ٦٨٧ ، روضة الواعظين : ١٠ ، بحار الأنوار : ٢ / ١٠٦ / ٣ . ٢٨٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
١ ـ العُجب العُجُب ، والزهو ، والتعظّم ، كلّ ذلك يمثّل أوّل غصن للتعمّق ، والتطرّف ، والتنسّك الجاهل . وقد مُنى القرّاء بهذه الأدواء الوبيلة ; لإفراطهم فى تعبّدهم وتنسّكهم ، ونظرهم إلي هذا المرض علي أنّه قيمة مهمّة . وزعموا ـ بفعل هذا المرض ـ أنْ ليس فى الناس من هو أفضل منهم . ومن هنا سأل رسولُ الله ½ أحدهم بغية كشف باطنه الخفىّ له ووضعه أمامه ، فقال : "أ قلت فى نفسك حين وقفت علي المجلس : ليس فى القوم خيرٌ منّى ؟ قال : نعم !" . فأراد ½ أن ينبّهه علي إصابته بداء الزهو والعُجب . وقال فيه وفى نظائره : "إنّ فيكم قوماً يدأبون ويعملون حتي يُعجبوا الناس وتُعجبهم أنفسهم"(١) . خطر العُجب العُجب أخطر الأمراض الأخلاقيّة ، فإذا استفحل عند أحد غدا عُضالاً ، وأودي بصاحبه . وكلام صادق آل محمّد ¼ آية بيّنة علي هذه الحقيقة ، قال ¼ : "مَن اُعجب بنفسه هلك ، ومَن اُعجب برأيه هلك ، وإنّ عيسي بن مريم ¼ قال : داويتُ المرضي فشفيتهم بإذن الله ، وأبرأتُ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وعالجت الموتي فأحييتهم بإذن الله ، وعالجت الأحمق ; فلم أقدر علي إصلاحه ! فقيل : يا روح الله ، وما الأحمق ؟ قال : المعجب برأيه ونفسه ، الذى يري الفضل كلّه له لا عليه ، ويوجب الحقّ كلّه لنفسه ، ولا يوجب عليها حقّاً ، فذاك الأحمق ٢٨٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
الذى لا حيلة فى مداواته"(١) . وقال السيّد الإمام الخمينى § فى وصيّته لابنه : "يا بُنىّ اعتُقْ نفسك من رقّ الزهو والعُجب ; فإنّه إرث الشيطان الذى عصي الله تعالي فى الخضوع لوليّه وصفيّه جلّ وعلا بسببه . واعلَمْ أنّ جميع بلايا الإنسان من هذا الإرث الشيطانى ، فهو أصل اُصول الفتنة"(٢) . وإذا ترسّخ هذا الداء فى نفس أحد ، فلا ينفعه عندئذ أىّ عمل من أعماله فى نجاته وتكامله . وقال الإمام الصادق ¼ : "قال إبليس لعنة الله عليه لجنوده : إذا استمكنتُ من ابن آدم فى ثلاث ، لم اُبالِ ما عمل ; فإنّه غير مقبول منه : إذا استكثر عمله ، ونسى ذنبه ، ودخله العُجب"(٣) . إنّ داء العجب فى الحقيقة يحول دون استمتاع المرء ببركات أعماله الصالحة من جهة ، ويُفضى إلي ضروب الانحرافات الأخلاقيّة من جهة اُخري . وهكذا ينبغى أن نؤكّد أنّ سائر أعراض "التعمّق" التى سنُشير إليها لاحقاً ترشُف من هذه الرذيلة . ٢ ـ استدامة الجهل وتُمثّل الغصن الآخر من أغصان شجرة "التعمّق" ، ولها فى العُجب جذور علي نحو ما ; فحينما يُفرط الإنسان فى عمله ، وينطلق فيه بلا تعقّل ، ويري نفسه (١) الاختصاص : ٢٢١ عن أبى الربيع الشامى ، بحار الأنوار : ٧٢ / ٣٢٠ / ٣٥ . ٢٨٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
أفضل من الآخرين من دون منازِع ; فإنّه لا يعيد النظر فى فكره وعمله ، ويسعي فى جهله ، ويَلجّ فيه ، ويَظلّ حبيسَ حبالته . ومن هنا قال الإمام الهادى ¼ : "العُجب صارف عن طلب العلم ، داع إلي التخبّط فى الجهل"(١) . وفى الواقع أنّ داء العُجب يُلقى الإنسان فى الجهل المركّب حقّاً ، و"المتعمّق" ـ كما قلنا ـ يري أنّ ما يفعله هو الأفضل ، فلِمَ التأمّل وإعادة النظر فيه إذن ؟ وتحدّث القرآن الكريم عن أمثال هذا النموذج بنحو يدعو إلي الاعتبار والاتّعاظ . قال جلّ من قائل : ³ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ± الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ² (٢) . وحين تُليت هذه الآية الكريمة عند الإمام ¼ ، قال : "أهل حَروراء منهم" . وهكذا يأسر العجب الإنسان فى الجهل ، والمفتون بهذا الجهل لا يري نفسه جاهلاً أبداً ، ولا ينفكّ من هذا القيد بتاتاً ، وكلام الإمام ¼ فى هذا الشأن معبِّر ناطق بليغ ، فقد قال ¼ فى وصيّته لابنه الحسن ¼ : "إنّ الجاهل مَنْ عدّ نفسه ـ بما جهل من معرفة العلم ـ عالماً ، وبرأيه مكتفياً ; فما يزال للعلماء مباعداً ، وعليهم زارياً ، ولمن خالفه مخطّئاً ، ولعالم يعرف من الاُمور مضلِّلاً ، فإذا ورد عليه من الاُمور ما لم يعرفه أنكره وكذّب به وقال (١) نزهة الناظر : ١٤٠ / ١٦ ، بحار الأنوار : ٧٢ / ١٩٩ / ٢٧ وراجع الدرّة الباهرة : ٤٢ . ٢٨٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
بجهالته : ما أعرف هذا ، وما أراه كان ، وما أظنّ أن يكون ، وأنّي كان ؟ ! وذلك لثقته برأيه ، وقلّة معرفته بجهالته . فما ينفكّ ـ بما يري ممّا يلتبس عليه رأيه ممّا لم يعرف ـ للجهل مستفيداً ، وللحقّ منكراً ، وفى الجهالة متحيّراً ، وعن طلب العلم مستكبراً"(١) . ٣ ـ التكفير والاتّهام إنّ إحدي الثمار المرّة المضرّة للتطرّف المنطلق من الجهل ، والإفراط الهشّ الخاوى ، و"التعمّق" فى الدين ، وحبّ التمحور المنبثق منه هى اتّهام الآخرين بالخروج من الدين ; فالسطحيّون المتحجّرون الزاهون بأنفسهم العادّون سلوكهم معياراً للحقّ يحكمون علي الآخرين بلا أناة ولا أساس ، ويقصمون ظهر كلّ من لا يفكّر تفكيرهم بعصا التكفير . وهكذا كان الخوارج ، فهم الذين كانوا قد فرضوا التحكيم علي الإمام ¼ غير آذِنين لأنفسهم بالتفكير فيه والتأمّل فيما ابتدعوه ولو قليلاً ، ثمّ حملوا عصا التكفير وكفّروا الإمام ¼ وهو الذى كان كيان الإيمان الماثل ، وصورة الحقّ المتجسّد ، ومظهر الربّانيّة الرفيعة . والعجب أنّهم قد أفتوا بقتل كلّ من لم يعتقد بعقيدتهم ، وأقدموا علي ذلك عمليّاً ، فقتلوا أشخاصاً فى هذا السبيل(٢) . وواصلوا نهجهم علي هذا المنوال ، وشرّعوا التكفير ، وقالوا بكفر كلّ من يرتكب الكبيرة . ومن هنا ، لمّا سُئل أحد قادتهم ; وهو قطرى بن الفُجاءة ، فى إحدي المعارك : هل تقاتل أم لا ؟ فأجاب بالنفى ، ثمّ استدرك فعزم علي القتال ، قال جنده : كَذَبَ وكَفَرَ . وعرّضوا به قائلين : "دابّة الله" ، فحكم عليهم (١) تحف العقول : ٧٣ ، بحار الأنوار : ٧٧ / ٢٠٣ / ١ نقلاً عن كتاب الرسائل للكلينى . ٢٨٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
بالكفر(١) . ٤ ـ التعصّب واللجاج اللجاج من وحى الجهل والتعصّب الأعمي إفراز آخر من الإفرازات الخطرة للتطرّف الدينى والعُجب المنبثق منه . وهكذا فالشخص المتعمّق مرتهن بحبالة الزيغ والضلال بحيث تتعذّر نجاته . من هذا المنطلق ، ولمّا اتّصف به الخوارج ، خاطبهم الإمام ¼ قائلاً : "أيّتها العصابة التى أخرجتها عداوة المراء واللجاجة ، وصدّها عن الحقّ الهوي ، وطمع بها النَّزَق(٢) ، وأصبحت فى اللبس والخطب العظيم"(٣) . وهكذا "فالمتعمّقون" و"المتعصّبون" أولو اللجاجة لم ينظروا فيما يعتقدون به قطّ ، ولم يحتملوا فيه الخطأ فيرونه بحاجة إلي إعادة نظر وتمحيص . من هنا صمّوا عن سماع توجيهات الإمام ¼ الناصحة الشفيقة ، ولم يعيدوا النظر فى مواقفهم حين حاورهم ابن عبّاس وغيره من رُسُل الإمام ¼ حواراً استدلاليّاً واعياً ، بل أنّهم قد تصامّوا عن الكلام ; لئلاّ يسمعوهُ فيؤثّر فيهم . قال عبد الله بن وهب ، وهو يقاتل : "ألقوا الرماح ، وسلّوا سيوفكم من جفونها ; فإنّى أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حَروراء !" . وصرخوا بعد مناظرة للإمام ¼ معهم قائلين : "لا تخاطبوهم ولا تكلّموهم" . (١) راجع الكامل للمبرّد : ٣ / ١٣٣٤ . ٢٨٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / آثار التعمّق
ولمّا سمعوا احتجاج ابن عبّاس الرصين ، وقد أغلق عليهم منافذ التذرّع والتشبّث ، مستهدياً بالقرآن الكريم ، صاحوا : "لا تجعلوا احتجاج قريش حجّةً عليكم ; فإنّ هذا من القوم الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم : ³ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ² (١) ! وحين سمعوا أجوبته القويّة فى حوار آخر وعَيَوا عن ردّه ، رفعوا عقيرتهم بوجهه مخاطبين إيّاه بقولهم : "أمْسِكْ عنّا غَرْب لسانك يا ابن عبّاس ; فانّه طلق ذلق غوّاص علي موضع الحجّة !" . وعلي هذا فالخوارج ـ وبعنوان آخر "القرّاء" ، وأخيراً "المتعمّقون" فى الدين ، وفيما نتج عنهم من الإفراط ، والتطرّف ، والجهل ، واللجاجة ـ قد ظلّوا علي كفرهم ، وصاروا مصدراً للغىّ والضياع فى المجتمع الإسلامى . (١) الزخرف : ٥٨ . ٢٨٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين
ينبغى فى الختام ألاّ نغفل عن نقطة فى تحليل فتنة الخوارج واستقصاء جذورها ، وتتمثّل هذه النقطة فى دور المتغلغلين بخاصّة "القاسطين" فى انحراف "المارقين" ، مع تذكيرنا بصعوبة العثور علي وثائق تاريخيّة لإثبات هذا الموضوع نتيجةً للسرّيّة الموجودة فى هذا المجال بشكل طبيعىّ ، بَيْد أنّنا يتسنّي لنا أن نبلغ ما نصبوا إليه إلي حدٍّ ما عبر قرائن معيّنة ، ومن هذه القرائن التى يمكن أن تساعد الباحث فى هذا الحقل : دراسة دور الأشعث بن قيس فى هذه الفتنة(١) . إنّ التأمّل فى النصوص التاريخيّة ، لا سيّما فيما ذكره كتاب "وقعة صفّين" الثمين حول الأشعث وموقفه فى ذروة القتال يوم صفّين وما بعده لا يدع مجالاً للشكّ فى أنّه لم يرتبط بالإمام ¼ ولم يُوالِه قطّ ، وأنّه كان عنصراً متغلغلاً عميلاً لمعاوية فى جيشه ¼ ، ويعود ذلك إمّا لإقالته عن ولاية آذربايجان(٢) ، وعزله عن (١) راجع : القسم السادس عشر / الأشعث بن قيس . ٢٩٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين
رئاسة قبيلته(١) ، أو لتقلّباته الاعتقاديّة واضطراب عقائده الدينيّة ، ممّا دفع ابن أبى الحديد أن يقول : "كلّ فساد كان فى خلافة علىّ ¼ وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث"(٢) . وكان الأشعث متّهماً بارتباطه بمعاوية ، وهو نفسه كان منتبهاً إلي هذه النقطة ، حذِراً منها ، وكان يحاول ألاّ يعمل ما يفضحه ويكشف للناس حقيقته ، وقد راودته فكرة التوجّه إلي معاوية بعد عزله ، فمنعه قومه من ذلك(٣) . وارتباطاته مع معاوية ، وحواره مع رُسُله إليه دليل علي نفاقه(٤) . وعندما احتدم القتال ، وتضعضع جيش معاوية ، ولاحت فى الاُفق بشائر آيات النصر لجيش الإمام ¼ ، خطب الأشعث بقبيلته ، وأفزعهم ذاكراً ترمّل النساء ويُتم الأطفال ، فبان وهن عجيب فى صفوفهم(٥) . ولمّا رفع أصحاب معاوية المصاحف بمكيدة ابن العاص ، خطب الأشعث وأكره الإمام ¼ علي قبول التحكيم(٦) . وحينما وافق الإمام علي التحكيم ، واختار مالك الأشتر أو عبد الله بن عبّاس ممثّلاً عنه ، عمل الأشعث بكلّ ما له من قوّة للحيلولة دون ذلك(٧) . ولمّا كُتِب نصّ التحكيم رفعه أمام الجيش ، فصاح بعض الأفراد قائلين : لا حكم إلاّ (١) وقعة صفّين : ١٣٧ ـ ١٣٩ . ٢٩١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين
٢٩٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / المدخل / دور المتغلغلين
أصحابه هى التى أوقدت فتنة النهروان بعد تلك الأحداث ، ممّا أدّي إلي أن يُقرَن رجل أحمق غير واع كأبى موسي الأشعرى اليمنى إلي رجل محتال ماكر مثير للفتن كعمرو بن العاص ، ويبدّل من بعدها مجري التاريخ الإسلامى ! |
||