الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد السادس

 

 

 ١٣٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / استشهاد خزيمة بن ثابت ذى الشهادتين

٩ / ٩

استشهاد خزيمة بن ثابت ذى الشهادتين

٢٥١٤ ـ الطبقات الكبري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت : شهد خزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسلّ سيفاً ، وشهد صفّين وقال : أنا لا أصلُ أبداً حتي يقتل عمّار ، فأنظر من يقتله ; فإنّى سمعت رسول الله  ½ يقول : تقتله الفئة الباغية . فلمّا قُتل عمّار بن ياسر قال خزيمة : قد بانت لى الضلالة ، واقترب فقاتل حتي قُتل(١) .

٩ / ١٠

قتال الأشتر ودوره الأساسى فى الحرب

تؤدّى الحوادث العصيبة ومشقّات الحياة وصروف الدهر دوراً مهمّاً فى صقل الناس ، وتبلور رفعتهم وعزّتهم .

إنّ هذا النوع من الحوادث كما يُجلّى عظمة الروح الإنسانيّة بنحو بيّن ، فإنّه يترك أثره العميق فى إيجاد الأرضيّة التى تتبلور فيها شخصيّة الإنسان فى بعض الأحيان ، وبها تتجلّي بواطن الناس ; فإنّه فى صروف الدهر وحدثانه تُعرف حقيقة الإنسان ، وقول الإمام أمير المؤمنين  ¼ : "فى تقلّب الأحوال تعرف جواهر الرجال" خير آية علي هذه الحقيقة العميقة .

وهكذا كانت معركة صفّين مرآةً تجلّت فيها شخصيّة مالك المتألّقة فى تاريخ التشيّع ; فقد كان الوجه البارز ، والبطل الشجاع الباسل فى هذه الحرب .

١ ـ كان دور مالك واضحاً فى تحفيز الكوفيّين الذين كانوا يسمعون كلامه ،


(١) الطبقات الكبري : ٣ / ٢٥٩ ، اُسد الغابة : ٤ / ١٢٧ / ٣٨٠٤ ، العقد الفريد : ٣ / ٣٣٦ ، المناقب للخوارزمى : ١٩١ / ٢٢٩ ; رجال الكشّى : ١ / ٢٦٨ / ١٠١ كلّها نحوه .

 ١٣٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الأشتر ودوره الأساسى فى الحرب

وفى إرسالهم إلي المعركة .

٢ ـ كان له دور أساسى فى تنظيم الجيش .

٣ ـ كان مالك علي مقدّمة الجيش ، وكانت هيمنته العظيمة ومواجهته البطوليّة لمقدّمة جيش معاوية ـ التى كان عليها أبو الأعور السلمى ـ قد أرغمتا هؤلاء علي الفرار من الميدان .

٤ ـ كان أهل الرقّة(١) من أنصار عثمان ، فدمّروا الجسور المنصوبة علي نهر الفرات لخلق العقبات أمام الجيش العلوى الذى كان قوامه مائة ألف مقاتل . فعزم الإمام  ¼ علي الرجوع والبحث عن معبر آخر ; لأنّه لم يُرد أن يستخدم القوّة العسكريّة ويقسر الناس علي القيام بعمل شاقّ ، وهنا عرّف مالك نفسه لأهل الرقّة وهدّدهم ، فاضطرّوا إلي نصب جسر للعبور ، وعبر الجيش بالفعل .

٥ ـ حال جيش معاوية دون وصول جيش الإمام  ¼ إلي الماء ، فاستبسل ومعه الأشعث بن قيس حتي تمكّن الجيش من الحصول علي الماء .

٦ ـ تولّي مالك قيادة الخيّالة عند نشوب الحرب .

٧ ـ كان له الدور الأكبر فى صولات ذى الحجّة . وحين بدأت الحرب فى شهر صفر ودامت ثمانية أيّام ، كان مالك فى يومين منها قائداً عامّاً لها علي الإطلاق .

٨ ـ كان مقاتلاً لا نظير له فى المواجهات الفرديّة ، ولم ينكص قطّ عند مواجهة أحد .

٩ ـ فى الأيّام الأخيرة من المعركة ، كان حلاّلاً للمشاكل العويصة فيها ، وكان


(١) الرَّقّة : مدينة مشهورة علي الفرات بينها وبين حرّان ثلاثة أيّام (معجم البلدان : ٣ / ٥٩) .

 ١٣٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الأشتر ودوره الأساسى فى الحرب

يحضر بأمر مولاه حيثما ظهرت مشكلة فيبادر إلي حلّها .

١٠ ـ تألّق مالك تألّقاً عظيماً فى وقعة الخميس وليلة الهرير .

١١ ـ قاد مع أصحابه جولة مرعبة مهيبة من جولات صفّين ، فتقدّم حتي وصل خيمة معاوية فجرَ يومِ جمعة ، ولم يكن بينه وبين الانتصار الأخير وإخماد نار الفتنة الاُمويّة إلاّ خطوة واحدة ، فتآمر الأشعث والخوارج وأجبروا الإمام  ¼ علي إرجاعه ، فابتعد عن خيمة معاوية بقلب ملؤه الأسي ; كى لا يصل إلي مولاه أذي . فيا عجباً لكلّ هذا الإيثار مع ذلك التحجّر ، واسوداد ضمائر المناوئين للإمام  ¼ ، وقبح سرائرهم ! !

إنّ أعظم ما تميّز به مالك هو معرفته العميقة للإمام  ¼ وتواضعه أمام مولاه ، ذلك التواضع النابع من وعيه الفذّ ، ومعرفته العظيمة .

٢٥١٥ ـ الفتوح : خرج رجل من أهل العراق علي فرس له كميت ـ لا يري منه إلاّ حماليق الحدق ، وفى يده رمح له ـ فجعل يضرب بالرمح علي رؤوس أصحاب علىٍّ ويقول : سوّوا صفوفكم ! والناس لا يعرفونه .

حتي إذا اعتدلت الصفوف والرايات ، استقبلهم بوجهه وولّي ظهره إلي أهل الشام ، ثمّ حمد الله وأثني عليه ، ثمّ قال : احمدوا الله عباد الله ، واشكروه ; إذ جعل فيكم ابن عمّ نبيّه محمّد  ½ ، ووصيّه ، وأحبّ الخلق إليه ، أقدمهم هجرة ، وأوّلهم إيماناً ، سيف من سيوف الله صبَّه علي أعدائه . فانظروا إذا حمى الوطيس ، وثار القتام ، وتكسّرت الرماح ، وتثلّمت الصفاح ، وجالت الخيل بالأبطال ، ولا أسمع منكم إلاّ غمغمة أو همهمة .

قال : ثمّ حمل علي أهل الشام ، فقاتل حتي كُسر رمحه ، ثمّ رجع فإذا هو

 ١٤٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الأشتر ودوره الأساسى فى الحرب

الأشتر(١) .

٢٥١٦ ـ تاريخ الطبرى عن الحرّ بن الصيّاح النخعى : إنّ الأشتر يومئذ كان يقاتل علي فرس له فى يده ص فيحة يمانية ; إذا طأطأها خِلتَ فيها ماءً منصبّاً ، وإذا رفعها كاد يعشى البصر شعاعها ، وجعل يضرب بسيفه ويقول : الغمرات ثمّ ينجلينا(٢) .

٢٥١٧ ـ تاريخ الطبرى عن عبد الله بن عاصم الفائشى : حدّثنى رجل من قومى أنّ الأشتر خرج يوماً يقاتل بصفّين فى رجال من القرّاء ، ورجال من فرسان العرب ، فاشتدّ قتالهم ، فخرج علينا رجل ـ والله لقلّما رأيت رجلاً قطّ هو أطول ولا أعظم منه ـ فدعا إلي المبارزة ، فلم يخرج إليه أحد إلاّ الأشتر ، فاختلفا ضربتين ، فضربه الأشتر ، فقتله . وايم الله ، لقد كنّا أشفقنا عليه ، وسألناه أن لا يخرج إليه ، فلمّا قتله الأشتر نادي مناد من أصحابه :

يا سهم سهمَ ابنَ أبى العَيزارِ يا خيرَ مَن نَعلَمُه مِن زارِ

ـ و"زارة" حىّ من الأزد ـ وقال : اُقسم بالله ، لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنى ، فخرج فحمل علي الأشتر ، وعطف عليه الأشتر فضربه ، فإذا هو بين يدى فرسه ، وحمل عليه أصحابه فاستنقذوه جريحاً .

فقال أبو رفيقة الفهمى : هذا كان ناراً ، فصادف إعصاراً(٣) .

٢٥١٨ ـ تاريخ الطبرى عن الحرّ بن الصيّاح النخعى ـ فى الأشتر ـ : رآه منقذُ


(١) الفتوح : ٣ / ١٥٧ .
(٢) تاريخ الطبرى : ٥ / ٢٢ ; وقعة صفّين : ٢٥٤ .
(٣) تاريخ الطبرى : ٤ / ٥٧٥ ; وقعة صفّين : ١٩٦ وفيه "أبو رقيقة السهمى" بدل "أبو رفيقة الفهمى" .

 ١٤١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

وحميرُ ابنا قيس الناعطيّان ، فقال منقذ لحمير : ما فى العرب مثل هذا إن كان ما أري من قتاله علي نيّته .

فقال له حمير : وهل النيّة إلاّ ما تراه يصنع !

قال : إنّى أخاف أن يكون يحاول ملكاً(١) .

٢٥١٩ ـ وقعة صفّين عن عمر بن سعد عن رجاله : إنّ معاوية دعا مروان بن الحكم فقال : يا مروان ، إنّ الأشتر قد غمّنى وأقلقنى ، فاخرج بهذه الخيل فى كلاع ويحصب ، فالقَه فقاتل بها .

فقال له مروان : ادعُ لها عمراً فإنّه شعارك دون دثارك .

. . . ودعا معاوية عمراً ، وأمره بالخروج إلي الأشتر . . . فخرج عمرو فى تلك الخيل فلقيه الأشتر أمام الخيل . . . فعرف عمرو أنّه الأشتر ، وفشل حَيْلُه وجبن ، واستحيا أن يرجع . . . فلمّا غشيه الأشتر بالرمح زاغ عنه عمرو ، فطعنه الأشتر فى وجهه فلم يصنع الرمح شيئاً ، وثقل عمرو فأمسك عنان فرسه ، وجعل يده علي وجهه ، ورجع راكضاً إلي العسكر(٢) .

راجع : القسم السادس عشر / مالك الأشتر .

القسم السابع / استشهاد مالك الأشتر .

٩ / ١١

قتال الإمام بنفسه

٢٥٢٠ ـ وقعة صفّين عن جابر بن عمير الأنصارى ـ فى بيان شجاعة علىّ  ¼ فى


(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٢٢ ; وقعة صفّين : ٢٥٥ .
(٢) وقعة صفّين : ٤٣٩ ; شرح نهج البلاغة : ٨ / ٧٩ و٨٠ وراجع الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٢ .


إرجاعات 
٢٧٥ - المجلد الثاني عشر / القسم السادس عشر : أصحاب الإمام عليّ وعمّاله / مالِكٌ الأشْتَر
٥١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل السادس : استشهاد مالك الأشتر

 ١٤٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

حرب صفّين ـ : لا والله الذى بعث محمّداً  ½ بالحقّ نبيّاً ، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق الله السماوات والأرض أصاب بيده فى يوم واحد ما أصاب ; إنّه قتل فيما ذكر العادّون زيادةً علي خمسمائة من أعلام العرب ، يخرج بسيفه منحنياً فيقول : معذرةً إلي الله عزّ وجلّ وإليكم من هذا ، لقد هممت أن أصقله ولكن حجزنى عنه أنّى سمعت رسول الله  ½ يقول كثيراً : "لا سيف إلاّ ذو الفقار ، ولا فتي إلاّ علىّ" وأنا اُقاتل به دونه .

قال : فكنّا نأخذه فنقوّمه ، ثمّ يتناوله من أيدينا فيتقحّم به فى عرض الصفّ ، فلا والله ما ليث بأشدّ نكاية فى عدوّه منه ، رحمة الله عليه رحمة واسعة(١) .

٢٥٢١ ـ ذخائر العقبي عن ابن عبّاس ـ وقد سأله رجل : أ كان علىّ   ¢ يباشر القتال بنفسه يوم صفّين ؟ ـ : والله ما رأيت رجلاً أطرح لنفسه فى متلف من علىّ ، ولقد رأيته يخرج حاسرَ الرأس ، بيده السيف إلي الرجل الدارع فيقتله(٢) .

٢٥٢٢ ـ تاريخ الطبرى عن أبى عبد الرحمن السلمى : كنّا مع علىّ بصفّين ، فكنّا قد وكّلنا بفرسه رجلين يحفظانه ويمنعانه من أن يحمل ، فكان إذا حانت منهما غفلة يحمل ، فلا يرجع حتي يخضب سيفه .

وإنّه حمل ذات يوم فلم يرجع حتي انثني سيفه ، فألقاه إليهم ، وقال : لولا أنّه انثني ما رجعت(٣) .

٢٥٢٣ ـ تاريخ الطبرى عن أبى روق الهمدانى ـ فى شدّة حرب صفّين ـ : . . .


(١) وقعة صفّين : ٤٧٧ ; شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢١١ وراجع البداية والنهاية : ٧ / ٢٦٤ .
(٢) ذخائر العقبي : ١٧٦ ، حياة الحيوان الكبري : ١ / ٥٣ .
(٣) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤٠ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٨٣ ، الإصابة : ٦ / ٤٠٥ / ٨٩٣٤ وفيه إلي "يخضب سيفه" ، البداية والنهاية : ٧ / ٢٧٠ ; شرح الأخبار : ٢ / ٣ / ٣٧٩ .

 ١٤٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

انتهت الهزيمة إلي علىّ ، فانصرف يتمشّي نحو الميسرة ، فانكشفت عنه مضر من الميسرة ، وثبتت ربيعة .

قال أبو مخنف : حدّثنى مالك بن أعين الجهنى ، عن زيد بن وهب الجهنى قال : مرّ علىّ معه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها ، وإنّى لأري النبل يمرّ بين عاتقه ومنكبه ، وما من بنيه أحد إلاّ يقيه بنفسه ، فيكره علىّ ذلك ، فيتقدّم عليه فيحول بين أهل الشام وبينه ، فيأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه .

فبصر به أحمر ـ مولي أبى سفيان ، أو عثمان ، أو بعض بنى اُميّة ـ فقال علىّ وربّ الكعبة ! قتلنى الله إن لم أقتلك أو تقتلنى ، فأقبل نحوه ، فخرج إليه كيسان مولي علىّ ، فاختلفا ضربتين ، فقتله مولي بنى اُميّة ، وينتهزه علىّ ، فيقع بيده فى جيب درعه ، فيجبذه(١) ، ثمّ حمله علي عاتقه ، فكأنّى أنظر إلي رجيلتيه ، تختلفان علي عنق علىّ ، ثمّ ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه ، وشدّ ابنا علىّ عليه حسين ومحمّد ، فضرباه بأسيافهما حتي برد ، فكأنّى أنظر إلي علىّ قائماً ، وإلي شبليه يضربان الرجل . . . .

ثمّ إنّ أهل الشام دنوا منه ، وو الله ما يزيده قربهم منه سرعة فى مشيه ، فقال له الحسن : ما ضرّك لو سعيت حتي تنتهى إلي هؤلاء الذين قد صبروا لعدوّك من أصحابك ؟

فقال : يا بنىّ ، إنّ لأبيك يوماً لن يعدوه ، ولا يبطّئ به عنه(٢) السعى ، ولا يعجّل


(١) جَبَذ يَجبذ : لغة فى جَذَبَ (لسان العرب : ٣ / ٤٧٨) .
(٢) فى المصدر : "عند" ، والتصحيح من وقعة صفّين .

 ١٤٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

به إليه المشى ، إنّ أباك والله ما يبالى أ وَقع علي الموت ، أو وقع الموت عليه !(١)

٢٥٢٤ ـ الأخبار الطوال : كان فارس معاوية الذى يبتهى(٢) به حريث مولاه ، وكان يلبس بزّة معاوية ، ويستلئم سلاحه ، ويركب فرسه ، ويحمل متشبّهاً بمعاوية ، فإذا حمل قال الناس : هذا معاوية . وقد كان معاوية نهاه عن علىّ ، وقال : اجتنبه ، وضع رمحك حيث شئت .

فخلا به عمرو ، وقال : ما يمنعك من مبارزة علىّ ، وأنت له كفء ؟

قال : نهانى مولاى عنه .

قال : وإنّى والله لأرجو إن بارزته أن تقتله ، فتذهب بشرف ذلك .

فلم يَزل يزيّن له ذلك حتي وقع فى قلب حريث . فلمّا أصبحوا خرج حريث حتي قام بين الصفّين ، وقال : يا أبا الحسن ، ابرز إلىَّ ! أنا حريث . فخرج إليه علىّ  ¼ ، فضربه ، فقتله(٣) .

٢٥٢٥ ـ وقعة صفّين عن صعصعة بن صوحان : إنّ علىّ بن أبى طالب صافّ أهل الشام ، حتي برز رجل من حمير من آل ذى يزن ، اسمه : كريب بن الصباح ، ليس فى أهل الشام يومئذ رجل أشهر شدّة بالبأس منه ، ثمّ نادي : من يبارز ؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدى ، فقتل المرتفع .

ثمّ نادي : من يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاح ، فقتل .


(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ١٨ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٧٣ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٩٨ كلاهما نحوه ; وقعة صفّين : ٢٤٨ وراجع البداية والنهاية : ٧ / ٢٦٥ وكشف الغمّة : ١ / ٢٥١ .
(٢) ابتهأت بالشىء : أنستَ به وأحببتَ قربه (تاج العروس : ١٩ / ٢٣٢) .
(٣) الأخبار الطوال : ١٧٦ ، تاريخ دمشق : ١٢ / ٣٣٥ ، الفتوح : ٣ / ٢٩ ، الفصول المهمّة : ٩١ ، المناقب للخوارزمى : ٢٢٣ / ٢٤٠ ; وقعة صفّين : ٢٧٢ كلّها نحوه .

 ١٤٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

ثمّ نادي : من يبارز ؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمدانى ، فقتل عائذاً .

ثمّ رمي بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثمّ قام عليها بغياً واعتداءً . ثمّ نادي : هل بقى من مبارز ؟

فبرز إليه علىّ ثمّ ناداه : ويحك يا كريب ! إنّى اُحذّرك الله وبأسه ونقمته ، وأدعوك إلي سنّة الله وسنّة رسوله ، ويحك ! لا يدخلنّك ابن آكلة الأكباد النار .

فكان جوابه أن قال : ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك ، فلا حاجة لنا فيها . أقدم إذا شئت ، من يشترى سيفى وهذا أثره ؟

فقال علىّ  ¼ : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، ثمّ مشي إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خرّ منها قتيلاً يتشحّط فى دمه .

ثمّ نادي : من يبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميرى ، فقتل الحارث .

ثمّ نادي : من يبارز ؟ فبرز إليه المطاع بن المطّلب القينى ، فقتل مطاعاً .

ثمّ نادي : من يبرز ؟ فلم يبرز إليه أحد .

ثمّ إنّ عليّاً نادي : يا معشر المسلمين ! ³ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ  ²  (١) ، ويحك يا معاوية هلمّ إلىَّ فبارزنى ، ولا يُقتلنّ الناس فيما بيننا !

فقال عمرو : اغتنمه منتهزاً ، قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإنّى أطمع أن يظفرك الله به .


(١) البقرة : ١٩٤ .

 ١٤٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

فقال معاوية : ويحك يا عمرو ! والله ، إن تريد إلاّ أن اُقتل فتصيب الخلافة بعدى ، اذهب إليك ، فليس مثلى يُخدع(١) .

٢٥٢٦ ـ وقعة صفّين عن صعصعة بن صوحان والحارث بن أدهم : برز يومئذ عروة بن داود الدمشقى فقال : إن كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلمّ إلىَّ . فتقدّم إليه علىّ ، فقال له أصحابه : ذر هذا الكلب فإنّه ليس لك بخطر . فقال : والله ، ما معاوية اليوم بأغيظ لى منه ، دعونى وإيّاه ، ثمّ حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين ، سقطت إحداهما يمنة ، والاُخري يسرة ، فارتجّ العسكران لهول الضربة .

ثمّ قال : اذهب يا عروة فأخبر قومك ، أما والذى بعث محمّداً بالحقّ لقد عاينت النار وأصبحت من النادمين .

وقال ابن عمّ لعروة : وا سوء صباحاه ، قبّح الله البقاء بعد أبى داود . . . .

وحمل ابن عمّ أبى داود علي علىّ فطعنه فضرب الرمح فبراه ، ثمّ قنّعه ضربة فألحقه بأبى داود ، ومعاوية واقف علي التلّ يبصر ويشاهد ، فقال : تبّاً لهذه الرجال وقبحاً ; أ ما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة ، أو فى اختلاط الفيلق وثوران النقع ! فقال الوليد بن عقبة : ابرز إليه أنت فإنّك أولي الناس بمبارزته .

فقال : والله ، لقد دعانى إلي البراز حتي استحييت من قريش ، وإنّى والله لا أبرز إليه ، ما جُعل العسكر بين يدى الرئيس إلاّ وقاية له .

فقال عتبة بن أبى سفيان : الهوا عن هذا ; كأنّكم لم تسمعوا نداءه ، فقد علمتم أنّه قتل حريثاً ، وفضح عمراً ، ولا أري أحداً يتحكّك(٢) به إلاّ قتله .


(١) وقعة صفّين : ٣١٥ ; الفتوح : ٣ / ١١٢ ، الفصول المهمّة : ٨٨ ، البداية والنهاية : ٧ / ٢٦٤ كلّها نحوه وراجع جواهر المطالب : ١ / ٢٦٥ .
(٢) التحكّك : التحرّش والتعرّض (لسان العرب : ١٠ / ٤١٤) .

 ١٤٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

فقال معاوية لبسر بن أرطاة :أ تقوم لمبارزته ؟

فقال : ما أحد أحقّ بها منك ، وإذ أبيتموه فأنا له . . . فاستقبله بسر قريباً من التلّ وهو مقنّع فى الحديد لا يعرف ، فناداه : ابرز إلىَّ أبا حسن ! فانحدر إليه علي تؤدَة غير مكترث ، حتي إذا قاربه طعنه وهو دارع ، فألقاه علي الأرض ، ومنع الدرع السنان أن يصل إليه ، فاتّقاه بسر بعورته وقصد أن يكشفها يستدفع بأسه ، فانصرف عنه علىّ  ¼ مستدبراً له ، فعرفه الأشتر حين سقط ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطاة ، عدوّ الله وعدوّك .

فقال : دعه عليه لعنة الله ، أبعد أن فعلها . . . .

وقام بسر من طعنة علىّ مولّياً ، وولّت خيله ، وناداه علىّ : يا بسر ، معاوية كان أحقّ بهذا منك .

فرجع بسر إلي معاوية ، فقال له معاوية : ارفع طرفك قد أدال الله عمراً منك . . . . فكان بسر بعد ذلك إذا لقى الخيل التى فيها علىّ تنحّي ناحية . وتحامي فرسان أهل الشام عليّاً(١) .

٢٥٢٧ ـ الفتوح : خرج رجل من أصحاب معاوية يقال له : المخارق بن عبد الرحمن ـ وكان فارساً بطلاً ـ حتي وقف بين الجمعين ، ثمّ سأل النزال ، فخرج إليه المؤمّل بن عبيد المرادى ، فقتله الشامى . . . فلم يزل كذلك حتي قتل أربعة نفر ، واحتزَّ رؤوسهم ، وكشف عوراتهم . قال : فتحاماه الناس خوفاً منه .

قال : ونظر إليه علىّ   ¢ وقد فعل ما فعل فخرج إليه متنكّراً ، وحمل عليه


(١) وقعة صفّين : ٤٥٨ ; شرح نهج البلاغة : ٨ / ٩٥ وراجع الفتوح : ٣ / ١٠٥ والمناقب للخوارزمى : ٢٤٠ / ٢٤٠ .

 ١٤٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / قتال الإمام بنفسه

الشامى وهو لم يعرفه ، فبدره علىّ بضربة علي حبل عاتقه فرمي بشقّه ، ثمّ نزل إليه فاحتزّ رأسه ، وقلب وجهه إلي السماء ، ولم يكشف عورته . ثمّ نادي : هل من مبارز ؟

فخرج إليه آخر ، فقتله علىّ   ¢ ، وفعل به كما فعل بالأوّل . فلم يزَل كذلك حتي قتل منهم سبعة أم ثمانية وهو يفعل بهم كما يفعل بالأوّل ، ولا يكشف عوراتهم .

فأحجم الناس عنه وتحامته الأبطال من أصحاب معاوية ، وردها عن معاوية عبد له يقال له : حرب ، فكان فارساً لا يُصطلي بناره . فقال له معاوية : ويحك يا حرب ، اخرج إلي هذا الفارس فاكفنى أمره ، فإنّه قد قتل من أصحابى من قد علمت !

قال : فقال حرب : جعلت فداك إنّى والله أري مقام فارس بطل لو برز إليه أهل عسكرك لأفناهم عن آخرهم ، فإن شئت برزت إليه وأنا أعلم أنّه قاتلى ، وإن شئت فأبقنى لغيره .

فقال معاوية : لا والله ، ما أحبّ أن تقتل ، فقف مكانك حتي يخرج إليه غيرك .

قال : وجعل يناديهم ولا يخرج إليه واحد منهم ، فرفع المغفر عن رأسه ثمّ قال : أنا أبو الحسن ثمّ رجع إلي عسكره .

فقال حرب لمعاوية : جعلت فداك أ لم أقُل لك إنّى أعرف مقام الفارس البطل(١) .

راجع :أشدّ الأيّام / وقعة الخميس .

القسم العاشر / الخصائص الحربيّة .


(١) الفتوح : ٣ / ١١١ ; كشف الغمّة : ١ / ٢٤٦ نحوه وفيه "المخراق" بدل "المخارق" ، بحار الأنوار : ٣٢ / ٥٩٦ / ٤٧٥ .


إرجاعات 
١٧٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل العاشر : أشدّ الأيّام
٤٢١ - المجلد التاسع / القسم العاشر : خصائص الإمام عليّ / الفصل الخامس : الخصائص الحربيّة

 ١٤٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / طمأنينة الإمام فى ساحة القتال

٩ / ١٢

طمأنينة الإمام فى ساحة القتال

٢٥٢٨ ـ وقعة صفّين عن أبى إسحاق : خرج علىّ يوم صفّين وفى يده عنزة ، فمرّ علي سعيد بن قيس الهمدانى ، فقال له سعيد : أ ما تخشي يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد وأنت قرب عدوّك ؟ فقال له علىّ : إنّه ليس من أحد إلاّ عليه من الله حَفَظة يحفظونه من أن يتردّي فى قليب(١) ، أو يخرّ عليه حائط ، أو تصيبه آفة ، فإذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه(٢) .

٢٥٢٩ ـ الكافى عن سعيد بن قيس الهمدانى : نظرت يوماً فى الحرب إلي رجل عليه ثوبان فحرّكت فرسى فإذا هو أمير المؤمنين  ¼ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، فى مثل هذا الموضع ؟ !

فقال : نعم ، يا سعيد بن قيس ، إنّه ليس من عبد إلاّ وله من الله حافظ وواقية ، معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل ، أو يقع فى بئر ، فإذا نزل القضاء خلّيا بينه وبين كلّ شىء(٣) .

٢٥٣٠ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ وهو يطوف بين الصفّين بصفّين فى غلالة(٤) لمّا قال له الحسن ابنه : ما هذا زىّ الحرب ـ : يا بنىَّ إنّ أباك لا يُبالى وقع علي الموت ، أو


(١) القَلِيب : البئر التى لم تطو (النهاية : ٤ / ٩٨) .
(٢) وقعة صفّين : ٢٥٠ ، بحار الأنوار : ٣٢ / ٤٧٠ / ٤٠٨ ; شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٩٩ .
(٣) الكافى : ٢ / ٥٩ / ٨ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٩٧ وفيه "قيس بن سعيد" بدل "سعيد بن قيس" فى كلا الموضعين ، بحار الأنوار : ٥ / ١٠٥ / ٣١ وراجع التوحيد : ٣٦٨ / ٥ ونهج البلاغة : الحكمة ٢٠١ .
(٤) الغِلالة : شعار يلبس تحت الثوب (لسان العرب : ١١ / ٥٠٢) .

 ١٥٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / فضيحة عمرو بن العاص

وقع الموت عليه(١) .

٢٥٣١ ـ العقد الفريد : كان علىّ بن أبى طالب   ¢ يخرج كلّ يوم بصفّين حتي يقف بين الصفّين ويقول :

أىّ يَومَىّ مِن الموتِ أفِرّيَوم لا يُقدرُ أو يومٌ قُدِر
يَوم لا يُقدرُ لا أرهَبُهُ ومِن المَقدورِ لا يُنجِى الحَذَر(٢)

راجع : وقعة الجمل / القتال / السكينة العلوية فى الحرب .

٩ / ١٣

فضيحة عمرو بن العاص

٢٥٣٢ ـ الإمامة والسياسة : ذكروا أنّ عمراً قال لمعاوية :أ تجبن عن علىّ ، وتتّهمنى فى نصيحتى إليك ؟ ! والله لاُبارزنّ عليّاً ولو متّ ألف موتة فى أوّل لقائه . فبارزه عمرو ، فطعنه علىّ فصرعه ، فاتّقاه بعورته ، فانصرف عنه علىّ ، وولّي بوجهه دونه .

وكان علىّ   ¢ لم ينظر قطّ إلي عورة أحد ; حياءً وتكرّماً ، وتنزّهاً عمّا لا يحلّ ولا يجمل بمثله(٣) .

٢٥٣٣ ـ البداية والنهاية : ذكروا أنّ عليّاً حمل علي عمرو بن العاص يوماً فضربه


(١) مجمع البيان : ١ / ٣٢٠ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ١١٩ وراجع وقعة صفّين : ٢٥٠ وتاريخ الطبرى : ٥ / ١٩ والكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٧٤ والبداية والنهاية : ٧ / ٢٦٥ .
(٢) العقد الفريد : ١ / ١٠٠ وراجع شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٣٢ ووقعة صفّين : ٣٩٥ والمناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ٢٩٨ .
(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ١٢٧ .


إرجاعات 
٢٢٩ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الاُولى : وقعة الجمل / الفصل التاسع : القتال / السكينة العلويّة في الحرب

 ١٥١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / فضيحة عمرو بن العاص

بالرمح ، فألقاه إلي الأرض ، فبدت سَوءته ، فرجع عنه . فقال له أصحابه : ما لك يا أمير المؤمنين رجعت عنه ؟

فقال :أ تدرون ما هو ؟

قالوا : لا !

قال : هذا عمرو بن العاص تلقّانى بسَوءته ، فذكّرنى بالرحم ، فرجعت عنه .

فلمّا رجع عمرو إلي معاوية قال له : احمد الله واحمد إستك(١) .

٢٥٣٤ ـ وقعة صفّين : حمل عمرو بن العاص معلّماً وهو يقول :

شدّوا عَلَىَّ شكَّتى لا تَنكشِف بَعدَ طُليح والزبير فأتلف
يَومٌ لهَمدان ويَومٌ للصدف وفى تَميم نَخوةٌ لا تَنحرف
أضرِبُها بالسيف حتي تَنصرِف إذا مَشيتُ مشيةَ العودِ الصَّلف
ومثلها لحِمير ، أو تنحرف والربعيّون لهم يومٌ عَصف

فاعترضه علىّ وهو يقول :

قد عَلِمت ذاتُ القرونِ المِيل والخُصر والأنامل الطفولِ
أنّى بنَصلِ السيف خنشَليل أحمى وأرمى أوّلَ الرعيلِ

بِصارم ليسَ بذى فلولِ

ثمّ طعنه فصرعه ، واتّقاه عمرو برجله ، فبدت عورته ، فصرف علىّ وجهه عنه وارتثّ ، فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين .

قال : وهل تدرون من هو ؟


(١) البداية والنهاية : ٧ / ٢٦٤ ، الأخبار الطوال : ١٧٧ ، المناقب للخوارزمى : ٢٣٦ / ٢٤٠ ، الفصول المهمّة : ٨٩ ، كلّها نحوه وراجع مروج الذهب : ٢ / ٣٩٧ .

 ١٥٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / كتاب معاوية إلي الإمام يهدّده بالقتال

قالوا : لا .

قال : فإنّه عمرو بن العاص تلقّانى بعورته فصرفت وجهى عنه .

ورجع عمرو إلي معاوية فقال له : ما صنعت يا عمرو ؟

قال : لقينى علىّ فصرعنى .

قال : احمد الله وعورتك ، أما والله أن لو عرفته ما أقحمت عليه(١) .

٢٥٣٥ ـ عيون الأخبار عن المدائنى : رأي عمرو بن العاص معاوية يوماً يضحك ، فقال له : ممّ تضحك يا أمير المؤمنين ، أضحك الله سنّك ؟ قال : أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سَوءتك يوم ابن أبى طالب ! أما والله لقد وافقته منّاناً كريماً ، ولو شاء أن يقتلك لقتلك .

قال عمرو : يا أمير المؤمنين ، أما والله إنّى لعن يمينك حين دعاك إلي البراز فاحوَلَّت عيناك ، وربا سحرك ، وبدا منك ما أكره ذكره لك ، فمن نفسك فاضحك أو دَع ! !(٢) .

٩ / ١٤

كتاب معاوية إلي الإمام يهدّده بالقتال

٢٥٣٦ ـ كنز الفوائد : نسخة كتاب معاوية بن أبى سفيان إلي أمير المؤمنين علىّ بن


(١) وقعة صفّين : ٤٠٦ و٤٠٧ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٠ عن ابن عبّاس وليس فيه الشعر .
(٢) عيون الأخبار لابن قتيبة : ١ / ١٦٩ ، العقد الفريد : ٣ / ٣٣٤ عن أبى الحسن وفيه "و لولا ذلك لخرم رفغيك بالرمح" بدل "و لو شاء أن يقتلك لقتلك" ، شرح نهج البلاغة : ٦ / ١٠٧ ، المحاسن والمساوئ : ٥٣ عن الشعبى نحوه وراجع الأمالى للطوسى : ١٣٤ / ٢١٧ .

 ١٥٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب الإمام لكتاب معاوية

أبى طالب  ¼ : أمّا بعد ، فإنّ الهوي يُضلّ من اتّبعه ، والحرص يُتعب الطالب المحروم ، وأحمد العاقبتين ما هدي إلي سبيل الرشاد . ومن العجب العجيب ذامّ ومادح ، وزاهد وراغب ، ومتوكّل وحريص ، كلاماً ضربته لك مثلاً لتدبّر حكمته بجميع الفهم ، ومباينة الهوي ، ومناصحة النفس .

فلعمرى يابن أبى طالب ، لولا الرحم التى عطفتنى عليك ، والسابقة التى سلفت لك ، لقد كان اختطفتك بعض عقبان أهل الشام ، فصعد بك فى الهواء ثمّ قذفك علي دكادك شوامخ الأبصار ، فاُلفيتَ كسحيق الفِهر(١) علي صن(٢) الصلابة لا يجد الذرّ(٣) فيك مرتعاً .

ولقد عزمت عزمة من لا يعطفه رقّة الإنذار ، إن لم تباين ما قربتَ به أملك وطال له طلبُك ، لاُوردنّك(٤) مورداً تستمرّ الندامة إن فُسح لك فى الحياة ، بل أظنّك قبل ذلك من الهالكين ، وبئس الرأى رأى يورد أهله إلي المهالك ، ويُمنّيهم العطب إلي حين لات مناص . وقد قذف بالحقّ علي الباطل ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، ولله الحجّة البالغة والمنّة الظاهرة . والسلام(٥) .

٩ / ١٥

جواب الإمام لكتاب معاوية

٢٥٣٧ ـ كنز الفوائد : من عبد الله أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب إلي معاوية بن


(١) الفِهر : الحجر قدر ما يدقّ به الجوز ونحوه (لسان العرب : ٥ / ٦٦) .
(٢) كذا فى المصدر ، وفى بحار الأنوار نقلاً عن المصدر : "مسنّ" .
(٣) الذرّ : صغار النمل (لسان العرب : ٤/٣٠٤) .
(٤) فى المصدر : "و لاُوردنّك" ، والتصحيح من بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .
(٥) كنز الفوائد : ٢ / ٤٢ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ١٢٧ / ٤١٥ .

 ١٥٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب الإمام لكتاب معاوية

أبى سفيان .

أمّا بعد ، فقد أتانا كتابك بتنويق المقال ، وضرب الأمثال ، وانتحال الأعمال ، تصف الحكمةَ ولستَ من أهلها ، وتذكر التقوي وأنتَ علي ضدّها ، قد اتّبعتَ هواكَ فحادَ بك عن الحجّة(١) ، وألحج(٢) بك عن سواء السبيل .

فأنت تسحب أذيال لذّات الفتن ، وتحيط(٣) فى زهرة الدنيا ، كأنّك لستَ توقن بأوبة البعث ، ولا برجعة المنقلب ، قد عقدتَ التاج ، ولبستَ الخزّ ، وافترشتَ الديباج ، سُنّة هرقليّة ، وملكاً فارسيّاً ، ثمّ لم يقنعك ذلك حتي يبلغنى أنّك تعقد الأمر من بعدك لغيرك ، فيملك(٤) دونك فتحاسب دونه . ولعمرى لئن فعلتَ ذلك فما ورثتَ الضلالة عن كلالة ، وإنّك لابن من كان يبغى علي أهل الدين ، ويحسد المسلمين .

وذكرتَ رحماً عطفتكَ عَلَىّ ، فاُقسم بالله الأعزّ الأجلّ أن لو نازعك هذا الأمر فى حياتك من أنتَ تمهد له بعد وفاتك لقطعتَ حبلَه ، وأبنتَ أسبابه .

وأمّا تهديدك لى بالمشارب الوبيئة(٥) والموارد المهلكة ، فأنا عبد الله علىّ بن أبى طالب ، أبرز إلىّ صفحتك ، كلاّ وربّ البيت ما أنت بأبى عذر عند القتال ، ولا عند مناطحة الأبطال ، وكأنّى بك لو شهدتَ الحرب وقد قامت علي ساق ،


(١) فى بحار الأنوار : "المحجّة" ، ولعلّه أنسب .
(٢) اللَّحْج : المَيل ، وألحَجَهم إليه : أمالهم (لسان العرب : ٢ / ٣٥٦) .
(٣) كذا فى المصدر وفى بحار الأنوار : "تخبط" .
(٤) فى المصدر : "فيهلك" والتصحيح من بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .
(٥) فى المصدر : "العربيّة" والتصحيح من بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .

 ١٥٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب الإمام لكتاب معاوية

وكشرت عن منظر كريه ، والأرواح تُختطف اختطاف البازى زُغْب(١) القطا ، لصِرتَ كالمُولَهة الحيرانة تصربها(٢) العبرة بالصدمة ، لا تعرف أعلا الوادى عن أسفله . فدَع عنك ما لستَ أهله ; فإنّ وقع الحسام غير تشقيق الكلام ، فكم عسكر قد شهدته ، وقَرن نازلته ، [و رأيت] اصطكاك قريش بين يدى رسول الله  ½ ، إذ أنت وأبوك و[من] هو [أعلا منكما لي](٣) تبع ، وأنت اليوم تهدّدنى !

فاُقسم بالله أن لو تُبدى الأيّام عن صفحتك لنشب فيك مخلب ليث هصور(٤) ، لا يفوته فريسة بالمراوغة ، كيف وأنّى لك بذلك وأنت قعيدة بنت البكر المخدرة ; يُفزعها صوت الرعد ، وأنا علىّ بن أبى طالب الذى لا اُهدّد بالقتال ، ولا اُخوّف بالنزال ، فإن شئت يا معاوية فابرز . والسلام .

فلما وصل هذا الجواب إلي معاوية بن أبى سفيان جمع جماعة من أصحابه وفيهم عمرو بن العاص فقرأه عليهم . فقال له عمرو : قد أنصفك الرجل ، كم رجل أحسن فى الله قد قتل بينكما ، ابرز إليه .

فقال له : أبا عبد الله أخطأت استك الحفرة ، أنا أبرز إليه مع علمى أنّه ما برز إليه أحد قط إلاّ وقتله ! لا والله ، ولكنّى ساُبرزك إليه(٥) .


(١) الزغب : الفِراخ (لسان العرب : ١ / ٤٥٠) .
(٢) صَرَب بوله : إذا حقنه (الصحاح : ١ / ١٦٢) . والمراد أنّه يصير ملازماً للعبرة ومحبوساً بها بسبب الصدمة التى يواجهها من مشاهدة الحرب .
(٣) ما بين المعاقيف سقط من المصدر ، وأثبتناه من بحار الأنوار نقلاً عن المصدر .
(٤) أسدٌ هَصور : يكسر ويميل (لسان العرب : ٥ / ٢٦٤) .
(٥) كنز الفوائد : ٢ / ٤٣ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ١٢٨ / ٤١٥ .

 ١٥٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / التأكيد علي الدعوة إلي البراز

٩ / ١٦

التأكيد علي الدعوة إلي البراز

٢٥٣٨ ـ شرح نهج البلاغة عن المدائنى : كتب إليه[معاوية] علىٌ  ¼ : أمّا بعد ، فإنّ مساوئك مع علم الله تعالي فيك حالت بينك وبين أن يصلح لك أمرك ، وأن يرعوى قلبك ، يابن الصخر اللعين ! زعمت أن يَزِن الجبالَ حلمُك ، ويفصلَ بين أهل الشكّ علمُك ، وأنت الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرذل ، فان كنتَ صادقاً فيما تسطر ويعينك عليه أخو بنى سهم ، فدَع الناس جانباً وتيسّر لما دعوتنى إليه من الحرب والصبر علي الضرب ، واعفُ الفريقين من القتال ; ليُعلم أيّنا المرين علي قلبه ، المغطّي علي بصره ، فأنا أبو الحسن قاتل جدّك وأخيك وخالك ، وما أنت منهم ببعيد . والسلام(١) .

٢٥٣٩ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ من كتاب له  ¼ إلي معاوية ـ : وكيف أنت صانع إذا تكشّفت عنك جلابيبَ ما أنت فيه من دنيا قد تبهجتَ بزينتها ، وخُدعتَ ، بلذّتها ، دعتكَ فأجبتَها ، وقادتكَ فاتّبعتَها ، وأمرتكَ فأطعتَها . وإنّه يوشك أن يقِفك واقف علي ما لا يُنجيك منه مجن ، فاقعس عن هذا الأمر ، وخذ اُهبة الحساب ، وشمّر لما قد نزل بك ، ولا تُمكن الغواة من سمعك ، وإلاّ تفعل اُعلمك ما أغفلتَ من نفسك ; فإنّك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه ، وبلغ فيك أمله ، وجري منك مجري الروح والدم .

ومتي كنتم ـ يا معاوية ـ ساسة الرعيّة ، وولاة أمر الاُمة ، بغير قدم سابق ، ولا شرف باسق ؟ ! ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء ، واُحذّرك أن تكون متمادياً فى


(١) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٣٥ ; بحار الأنوار : ٣٣ / ٨٧ / ٤٠١ وراجع شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٨٢ .

 ١٥٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / التأكيد علي الدعوة إلي البراز

غرّة الاُمنية ، مختلف العلانية والسريرة .

وقد دعوتَ إلي الحرب ، فدَع الناسَ جانباً ، واخرج إلىّ واعفُ الفريقين من القتال ; ليُعلم أيّنا المرين علي قلبه ، والمغطّي علي بصره ، فأنا أبو حسن قاتل جدّك وأخيك وخالك شدخاً(١) يوم بدر ، وذلك السيف معى ، وبذلك القلب ألقي عدوّى ، ما استبدلت ديناً ، ولا استحدثت نبيّاً . وإنّى لعلي المنهاج الذى تركتموه طائعين ، ودخلتُم فيه مكرَهين .

وزعمتَ أنّك جئتَ ثائراً بدم عثمان ، ولقد علمتَ حيث وقع دم عثمان فاطلبه من هناك إن كنت طالباً ، فكأنّى قد رأيتُك تضجّ من الحرب إذا عضّتك ضجيج الجمال بالأثقال ، وكأنّى بجماعتك تدعونى ـ ; جزعاً من الضرب المتتابع ، والقضاء الواقع ، ومصارع بعد مصارع ـ إلي كتاب الله ، وهى كافرة جاحدة ، أو مبايعة حائدة(٢) .

٢٥٤٠ ـ وقعة صفّين عن الشعبى : أرسل علىّ إلي معاوية : أن ابرز لى واعفُ الفريقين من القتال ، فأيّنا قتل صاحبه كان الأمر له .

قال عمرو : لقد أنصفك الرجل .

فقال معاوية : إنّى لأكره أن اُبارز الأهوج الشجاع ، لعلّك طمعت فيها يا عمرو .

فلمّا لم يجُب قال علىّ : وا نفساه ، أ يُطاع معاوية واُعصي ؟ ! ما قاتلت اُمّة قطّ أهل بيت نبيّها وهى مقرّة بنبيّها إلاّ هذه الاُمّة(٣) .


(١) الشدخ : كسرك الشىء الأجوف كالرأس ونحوه (لسان العرب : ٣ / ٢٨) .
(٢) نهج البلاغة : الكتاب ١٠ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ١٠١ / ٤٠٦ .
(٣) وقعة صفّين : ٣٨٧ وراجع تاريخ الطبرى : ٥ / ٤٢ والكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٨٣ ومروج الذهب : ٢ / ٣٩٦ والأخبار الطوال : ١٧٦ والمناقب للخوارزمى : ٢٣٧ / ٢٤٠ والبداية والنهاية : ٧ / ٢٧٢ .

 ١٥٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / التأكيد علي الدعوة إلي البراز

٢٥٤١ ـ وقعة صفّين عن عمرو بن شمر : قام علىّ بين الصفّين ثمّ نادي : يا معاوية ، يكرّرها . فقال معاوية : اسألوه ، ما شأنه ؟ قال : اُحبّ أن يظهر لى فاُكلّمه كلمة واحدة .

فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص ، فلمّا قارباه لم يلتفت إلي عمرو ، وقال لمعاوية : ويحك ، علامَ يقتتل الناس بينى وبينك ، ويضرب بعضهم بعضاً ؟ ! ابرز إلىَّ ; فأيّنا قتل صاحبه فالأمر له .

فالتفتَ معاوية إلي عمرو فقال : ما تري يا أبا عبد الله فيما ها هنا ، اُبارزه ؟

فقال عمرو : لقد أنصفك الرجل ، واعلم أنّه إن نكلتَ عنه لم تزَل سَبّة عليك وعلي عقبك ما بقى عربىّ .

فقال معاوية : يا عمرو بن العاص ، ليس مثلى يخدع عن نفسه ، والله ما بارز ابنُ أبى طالب رجلاً قطّ إلاّ سقي الأرض من دمه ! ثمّ انصرف راجعاً حتي انتهي إلي آخر الصفوف ، وعمرو معه . فلمّا رأي علىّ  ¼ ذلك ضحك ، وعاد إلي موقفه(١) .

٢٥٤٢ ـ تاريخ الطبرى عن أبى جعفر : قال علىّ لربيعة وهمدان : أنتم درعى ورمحى ، فانتدب له نحو من اثنى عشر ألفاً ، وتقدّمهم علىّ علي بغلته ، فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد ، فلم يبقَ لأهل الشام صفّ إلاّ انتقض ، وقتلوا كلّ من انتهوا إليه ، حتي بلغوا معاوية ، وعلىّ يقول :

أضرِبُهم ولا أري معاوِيَه الجاحِظ العَينِ العَظيم الحاوِيَه

(١) وقعة صفّين : ٢٧٤ ; شرح نهج البلاغة : ٥ / ٢١٧ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٢٦ نحوه وراجع أنساب الأشراف : ٣ / ٨٥ والعقد الفريد : ٣ / ٣٣٤ وجواهر المطالب : ٢ / ٣٨ .

 ١٥٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / ذكري دعوة الإمام إلي المبارزة

ثمّ نادي معاوية ، فقال علىّ : علامَ يُقتل الناس بيننا ! هلمّ اُحاكمك إلي الله ، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الاُمور . فقال له عمرو : أنصفك الرجل .

فقال معاوية : ما أنصف ، وإنّك لتعلم أنّه لم يبارزه رجل قطّ إلاّ قتله .

قال له عمرو : وما يجمل بك إلاّ مبارزتَه .

فقال معاوية : طمعتَ فيها بعدى(١) .

٩ / ١٧

ذكري دعوة الإمام إلي المبارزة

٢٥٤٣ ـ الأمالى للصدوق عن عدى بن أرطاة : قال معاوية يوماً لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله ، أيّنا أدهي ؟ قال عمرو أنا للبديهة ، وأنت للرويّة . قال معاوية : قضيت لى علي نفسك ، وأنا أدهي منك فى البديهة . قال عمرو : فأين كان دهاؤك يوم رفعت المصاحف ؟ قال : بها غلبتنى يا أبا عبد الله ، فلا أسألك عن شىء تصدّقنى فيه . قال : والله إنّ الكذب لقبيح ، فسَل عمّا بدا لك أصدقك .

فقال : هل غششتَنى منذ نصحتَنى ؟

قال : لا .

قال : بلي والله ، لقد غششتنى ، أما إنّى لا أقول فى كلّ المواطن ولكن فى موطن واحد . قال : وأىّ موطن هذا ؟ قال : يوم دعانى علىّ بن أبى طالب للمبارزة ، فاستشرتُك ، فقلتُ : ما تري يا أبا عبد الله ، فقلتَ : كفؤ كريم ، فأشرت علىّ بمبارزته ، وأنتَ تعلم من هو ، فعلمتُ أنّك غششتَنى .


(١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٤١ ، مروج الذهب : ٢ / ٣٩٦ نحوه ، البداية والنهاية : ٧ / ٢٧٢ .

 ١٦٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / هجوم الإمام علي المجموعة التى فيها معاوية

قال : يا أمير المؤمنين ، دعاك رجل إلي مبارزته ، عظيم الشرف ، جليل الخطر ، فكنتَ من مبارزته علي إحدي الحسنيين ; إمّا أن تقتَله فتكون قد قتلت قتّال الأقران ، وتزداد به شرفاً إلي شرفك وتخلو بملكك ، وإمّا أن تعجّل إلي مرافقة الشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقاً .

قال معاوية : هذه شرّ من الأول ، والله إنّى لأعلم أنّى لو قتلته دخلت النار ، ولو قتلنى دخلت النار .

قال عمرو : فما حملك علي قتاله ؟

قال : الملك عقيم ، ولن يسمعها منّى أحد بعدك(١) .

٩ / ١٨

هجوم الإمام علي المجموعة التى فيها معاوية

٢٥٤٤ ـ الأخبار الطوال : حمل علىّ   ¢ علي الجمع الذى كان فيه معاوية فى أهل الحجاز من قريش والأنصار وغيرهم ، وكانوا زهاء اثنى عشر ألف فارس ، وعلىّ أمامهم ، وكبّروا وكبّر الناس تكبيرة ارتجّت لها الأرض ، فانتقضت صفوف أهل الشام ، واختلفت راياتهم ، وانتهوا إلي معاوية وهو جالس علي منبره معه عمرو ابن العاص ينظران إلي الناس ، فدعا بفرس ليركبه .

ثمّ إنّ أهل الشام تداعوا بعد جولتهم ، وثابوا(٢) ، ورجعوا علي أهل العراق ، وصبر القوم بعضهم لبعض إلي أن حجز بينهم الليل(٣) .


(١) الأمالى للصدوق : ١٣٢ / ١٢٥ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ٤٩ / ٣٩٣ .
(٢) ثابَ الناس : اجتمعوا وجاؤوا (لسان العرب : ١ / ٢٤٣) .
(٣) الأخبار الطوال : ١٨١ .

 ١٦١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / هجوم الإمام علي المجموعة التى فيها معاوية

٢٥٤٥ ـ وقعة صفّين : ركب علىّ  ¼ فرسه الذى كان لرسول الله ، وكان يقال له : المرتجز ، فركبه ثمّ تقدّم أمام الصفوف ، ثمّ قال : بل البغلة ، بل البغلة . فقُدّمت له بغلة رسول الله  ½ الشهباء ، فركبها ، ثمّ تعصّب بعمامة رسول الله السوداء ، ثمّ نادي : أيّها الناس ! من يشرِ نفسه للهِ يربح ; هذا يوم له ما بعده ، إنّ عدوّكم قد مسّه القرح كما مسّكم .

فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلي اثنى عشر ألفاً قد وضعوا سيوفهم علي عواتقهم ، وتقدّمهم علىّ منقطعاً علي بغلة رسول الله  ½ . . . وتبعه ابن عدىّ بن حاتم بلوائه . . . وتقدّم الأشتر . . . وحمل الناس حملة واحدة ، فلم يبقَ لأهل الشام صفّ إلاّ انتقض ، وأهمدوا ما أتوا عليه ، حتي أفضي الأمر إلي مضرب معاوية ، وعلىّ يضربهم بسيفه ويقول :

أضرِبُهم ولا أري معاويَه الأخزَر العينِ العظيم الحاوِيَه

هَوَت بهِ فى النارِ اُمٌّ هاوِيَه

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلمّا وضع رجله فى الركاب تمثّل بأبيات عمرو بن الإطنابة :

أبَت لى عِفّتى وأبي بلائى وأخذى الحمدَ بالثمنِ الربيحِ
وإجشامِى علَي المكروهِ نَفسى وضَربِى هامَةَ البطلِ المشيحِ
وقَولى كُلّما جَشأت وجاشَت مكانَك تحمَدى أو تَستريحى
لأدفعَ عن مآثرَ صالحات وأحمى بعدُ عَن عرض صَحيحِ
بذى شَطب كلَونِ المِلح صاف ونفس ما تَقرّ علي القبيحِ

وقال : يابن العاص ، اليومَ صبرٌ ، وغداً فخر ، صدقتَ ، إنّا وما نحن فيه كما قال

 ١٦٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / كتاب معاوية إلي الإمام فى أثناء الحرب

ابن أبى الأقلح :

ما عِلّتى وأنا رام نابِل والقوسُ فيها وتَرٌ عَنابِل
تَزِلّ عن صَفحتِها المَعابِل الموتُ حقٌّ والحياةَ باطِل

فثني معاوية رجله من الركاب ونزل ، واستصرخ بعَكٍّ والأشعريّين ، فوقفوا دونه ، وجالدوا عنه ، حتي كره كلّ من الفريقين صاحبه ، وتحاجز الناس(١) .

٢٥٤٦ ـ الأخبار الطوال : إنّ عليّاً   ¢ لينغمس فى القوم فيضرب بسيفه حتي ينثنى ، ثمّ يخرج متخضّباً بالدم حتي يسوّي له سيفه ، ثمّ يرجع ، فينغمس فيهم ، وربيعة لا تترك جهداً فى القتال معه والصبر ، وغابت الشمس ، وقربوا من معاوية ، فقال لعمرو : ما تري ؟ قال : أن تُخلى سرادقك .

فنزل معاوية عن المنبر الذى كان يكون عليه ، وأخلي السرادق ، وأقبلت ربيعة ، وأمامها علىّ   ¢ حتي غشوا السرادق ، فقطعوه ، ثمّ انصرفوا . وبات علىّ تلك الليلة فى ربيعة(٢) .

٩ / ١٩

كتاب معاوية إلي الإمام فى أثناء الحرب

٢٥٤٧ ـ شرح نهج البلاغة : كتب معاوية إليه [الإمام علىّ  ¼ ]فى أثناء حرب


(١) وقعة صفّين : ٤٠٣ ، بحار الأنوار : ٣٢ / ٥١٠ / ٤٣٦ ; شرح نهج البلاغة : ٨ / ٥٨ وراجع مروج الذهب : ٢ / ٣٩٦ والأخبار الطوال : ١٨٦ والإمامة والسياسة ١ / ١٤٧ والفتوح : ٣ / ١٧٥ و١٧٦ والمناقب للخوارزمى : ٢٤٣ و٢٤٤ / ٢٤٠ .
(٢) الأخبار الطوال : ١٨٣ .

 ١٦٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / كتاب معاوية إلي الإمام فى أثناء الحرب

صفّين ، بل فى أواخرها : من عبد الله معاوية بن أبى سفيان إلي علىّ بن أبى طالب :

أمّا بعدُ ; فإنّ الله تعالي يقول فى محكم كتابه : ³ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَـئـِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ  ²  (١) وإنّى اُحذّرك الله أن تُحبِط عملك وسابقتك بشقّ عصا هذه الاُمّة ، وتفريق جماعتها ، فاتّقِ الله ، واذكر موقف القيامة ، واقلع عمّا أسرفت فيه من الخوض فى دماء المسلمين ، وإنّى سمعت رسول الله  ½ يقول : "لو تمالأ أهل صنعاء وعدن علي قتل رجل واحد من المسلمين لأكبّهم الله علي مناخرهم فى النار" فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين وسادات المهاجرين ، بَلْهَ(٢) ما طحنت رحا حربه من أهل القرآن وذى العبادة والإيمان ; من شيخ كبير ، وشابّ غرير(٣) ، كلّهم بالله تعالي مؤمن ، وله مخلص ، وبرسوله مقرّ عارف ، فإن كنتَ أبا حسن إنّما تحارب علي الإمرة والخلافة ، فلعمرى لو صحّت خلافتك لكنت قريباً من أن تُعذر فى حرب المسلمين ، ولكنّها ما صحّت لك ، أنّى بصحّتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ، ولم يرتضوا بها ؟ وخَفِ الله وسطواته ، واتّقِ بأسه ونكاله ، واغمد سيفك عن الناس ، فقد والله أكلتهم الحرب ، فلم يبق منهم إلاّ كالثَّمَد(٤) فى قرارة الغدير ، والله المستعان(٥) .


(١) الزمر : ٦٥ .
(٢) بَلْهَ : مِن أسماء الأفعال بمعني دَعْ واتْرُكْ (النهاية : ٢ / ١٥٥) .
(٣) وَجْهٌ غَرِير : حَسَن . والغَرير : الشابّ الذى لا تجربة له (لسان العرب : ٥ / ١٦) .
(٤) الثَّمَد : الماء القليل (النهاية : ١ / ٢٢١) .
(٥) شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٤٢ ; بحار الأنوار : ٣٣ / ٨٠ .

 ١٦٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب الإمام علي كتابه

٩ / ٢٠

جواب الإمام عنه

٢٥٤٨ ـ شرح نهج البلاغة ـ فى ذكر كتاب الإمام  ¼ إلي معاوية ـ : من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلي معاوية بن أبى سفيان : أمّا بعدُ ; فقد أتتنى منك موعظة موصلة ورسالة محبّرة ، نمّقتها بضلالك ، وأمضيتها بسوء رأيك ، وكتاب امرئ ليس له بصر يهديه ، ولا قائد يرشده ، دعاه الهوي فأجابه ، وقاده الضلال فاتّبعه ; فهجر لاغطاً ، وضلّ خابطاً ، فأمّا أمرك لى بالتقوي فأرجو أن أكون من أهلها ، وأستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا اُمروا بها أخذتهم العزّة بالإثم ، وأمّا تحذيرك إيّاى أن يُحبط عملى وسابقتى فى الإسلام ، فلعمرى لو كنت الباغى عليك لكان لك أن تحذّرنى ذلك ، ولكنّى وجدت الله تعالي يقول : ³ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِىءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ  ²  (١) فنظرنا إلي الفئتين ; أمّا الفئة الباغية فوجدناها الفئة التى أنت فيها ; لأنّ بيعتى بالمدينة لزمتك وأنت بالشام ، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر علي الشام ، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبى بكر علي الشام . وأمّا شقّ عصا هذه الاُمّة فأنا أحقّ أن أنهاك عنه ، فأمّا تخويفك لى من قتل أهل البغى فإنّ رسول الله  ½ أمرنى بقتالهم وقتلهم ، وقال لأصحابه : "إنّ فيكم من يقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت علي تنزيله" وأشار إلىّ ، وأنا أولي من اتُّبِع أمرُه . وأمّا قولك : إنّ بيعتى لم تصحّ لأنّ أهل الشام لم يدخلوا فيها ، كيف وإنّما هى بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب ، لا يُثنّي فيها


(١) الحجرات : ٩ .

 ١٦٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / حيلة معاوية للنجاة من الحرب

النظر ، ولا يُستأنف فيها الخيار ، الخارج منها طاعن ، والمُرَوِّى فيها مُداهِن(١) ، فاربَعْ علي ظَلْعك ، وانزع سِربال(٢) غيّك ، واترك ما لا جدوي له عليك ، فليس لك عندى إلاّ السيف ، حتي تفىء إلي أمر الله صاغراً ، وتدخل فى البيعة راغماً . والسلام(٣) .

٩ / ٢١

حيلة معاوية للنجاة من الحرب

٢٥٤٩ ـ وقعة صفّين ـ فى بيان ما قاله معاوية لعمرو بن العاص حين بلغه شعر الأشتر ـ : قد رأيت أن أكتب إلي علىّ كتاباً أسأله الشام ـ وهو الشىء الأوّل الذى ردّنى عنه ـ واُلقى فى نفسه الشكّ والريبة . فضحك عمرو بن العاص ، ثمّ قال : أين أنت يا معاوية من خدعة علىّ ؟ ! فقال : أ لسنا بنى عبد مناف ؟ قال : بلي ، ولكن لهم النبوّة دونك ، وإن شئت أن تكتب فاكتب . فكتب معاوية إلي علىّ مع رجل من السكاسك ، يقال له عبد الله بن عقبة ، وكان من ناقلة(٤) أهل العراق ، فكتب :

أمّا بعدُ ، فإنّى أظنُّك أن لو علمتَ أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت وعلمنا ، لم يجِنها بعضنا علي بعض ، وإنّا وإن كنّا قد غُلِبنا علي عقولنا فقد بقى لنا منها ما نندم به علي ما مضي ، ونُصلح به ما بقى . وقد كنت سألتك الشام علي ألاّ يلزمنى لك


(١) المُرَوِّى : الذى يرتئى ويُبطئ عن الطاعة ويُفكّر ، وأصله من الرويّة . والمداهن : المنافق (شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٤٤) .
(٢) السِّربال : القميص (النهاية : ٢ / ٣٥٧)
(٣) شرح نهج البلاغة : ١٤ / ٤٣ ; بحار الأنوار : ٣٣ / ٨١ وراجع العقد الفريد : ٣ / ٣٢٩ والإمامة والسياسة : ١ / ١١٣ ونهج البلاغة : الكتاب ٧ ووقعة صفّين : ٢٩ .
(٤) الناقِلة : ضدُّ القاطنين (تاج العروس : ١٥ / ٧٥٣) .

 ١٦٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب الإمام

طاعة ولا بيعة ، فأبيتَ ذلك علىّ ، فأعطانى الله ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم إلي ما دعوتك إليه أمس ، فإنّى لا أرجو من البقاء إلاّ ما ترجو ، ولا أخاف من الموت إلاّ ما تخاف . وقد والله رقّت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا علي بعض فضل إلاّ فضل لا يستذلّ به عزيز ، ولا يسترقّ حرٌّ به . والسلام(١) .

٩ / ٢٢

جواب الإمام

٢٥٥٠ ـ وقعة صفّين : فلمّا انتهي كتاب معاوية إلي علىّ قرأه ، ثمّ قال : العجب لمعاوية وكتابه ! ثمّ دعا علىٌّ عبيدَ الله بن أبى رافع كاتبه ، فقال : اكتب إلي معاوية :

أمّا بعد ; فقد جاءنى كتابك ، تذكر أنّك لو علمتَ وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنِها بعضنا علي بعض ، فإنّا وإيّاك منها فى غاية لم تبلغها ، وإنّى لو قُتلت فى ذات الله وحَييت ، ثمّ قُتلت ثمّ حَييت سبعين مرّة ، لم أرجع عن الشدّة فى ذات الله ، والجهاد لأعداء الله . وأمّا قولك : إنّه قد بقى من عقولنا ما نندم به علي ما مضي ، فإنّى ما نقصت عقلى ، ولا ندمت علي فعلى . فأمّا طلبك الشام ، فإنّى لم أكن لاُعطيَك اليوم ما منعتك منها أمسِ . وأمّا استواؤنا فى الخوف والرجاء ; فإنّك لست أمضي علي الشكّ منّى علي اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص علي الدنيا من أهل العراق علي الآخرة . وأمّا قولك : إنّا بنو عبد مناف


(١) وقعة صفّين : ٤٧٠ ، كنز الفوائد : ٢ / ٤٤ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ١٢٩ / ٤١٦ ; مروج الذهب : ٣ / ٢٢ ، الأخبار الطوال : ١٨٧ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٧ ، المناقب للخوارزمى : ٢٥٥ / ٢٤٠ كلّها نحوه وفيها من "أمّا بعد . . ." .

 ١٦٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب الإمام

ليس لبعضنا علي بعض فضل ; فلعمرى إنّا بنو أب واحد ، ولكن ليس اُميّة كهاشم ، ولا حرب كعبد المطّلب ، ولا أبو سفيان كأبى طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا المحقّ كالمبطل . وفى أيدينا بعدُ فضل النبوّة التى أذللنا بها العزيز ، وأعززنا بها الذليل . والسلام(١) .

٢٥٥١ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ من كتاب له إلي معاوية جواباً علي كتاب منه إليه ـ : أمّا طلبك إلىّ الشام ; فإنّى لم أكُن لاُعطيَك اليوم ما منعتك أمس . وأمّا قولك : إنّ الحرب قد أكلت العرب إلاّ حشاشات أنفس بقيت ; ألا ومَن أكَلَه الحقّ فإلي الجنّة ، ومَن أكَلَه الباطل فإلي النار . وأمّا استواؤنا فى الحرب والرجال ; فلستَ بأمضي علي الشكّ منّى علي اليقين ، وليس أهل الشام بأحرص علي الدنيا من أهل العراق علي الآخرة . وأمّا قولك : إنّا بنو عبد مناف ; فكذلك نحن . ولكن ليس اُمّية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطّلب . ولا أبو سفيان كأبى طالب . ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق . ولا المحقّ كالمُبطل ، ولا المؤمن كالمُدغِل(٢) . ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوي فى نار جهنّم .

وفى أيدينا بعدُ فضل النبوّة التى أذللنا بها العزيز ونعشنا بها الذليل . ولمّا أدخل الله العرب فى دينه أفواجاً ، وأسلمت له هذه الاُمّة طوعاً وكرهاً ، كنتم ممّن دخل فى الدين إمّا رغبة وإمّا رهبة ، علي حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وذهب


(١) وقعة صفّين : ٤٧١ ، كنز الفوائد : ٢ / ٤٥ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ١٣٠ / ٤١٦ ; مروج الذهب : ٣ / ٢٢ ، الأخبار الطوال : ١٨٧ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٨ ، المناقب للخوارزمى : ٢٥٦ / ٢٤٠ كلّها نحوه .
(٢) رجل مُدْغِل : مخابٌّ مُفسِد ، وأدغل فى الأمر : أدخلَ فيه ما يفسده ويخالفه (لسان العرب : ١١ / ٢٤٤) .

 ١٦٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / معاوية يتوسّل بابن عبّاس !

المهاجرون الأوّلون بفضلهم ; فلا تجعلنّ للشيطان فيك نصيباً ، ولا علي نفسك سبيلاً(١) .

٩ / ٢٣

معاوية يتوسّل بابن عبّاس !

٢٥٥٢ ـ أنساب الأشراف عن عيسي بن يزيد : لمّا قامت الحرب بين علىّ ومعاوية بصفّين ، فتحاربوا أيّاماً قال معاوية لعمرو بن العاص فى بعض أيّامهم : إنّ رأس الناس مع علىٍّ عبدُ الله بن عبّاس ، فلو ألقيتَ إليه كتاباً تعطفه به ; فإنّه إن قال قولاً لم يخرج منه علىٌّ ، وقد أكلتنا هذه الحرب . فقال عمرو : إنّ ابن عبّاس أرِيبٌ(٢) يُخدَع ولو طمعت فيه لطمعت فى علىّ . قال : صدقت إنّه لأريب ، ولكن اكتب إليه علي ذلك ، فكتب إليه :

من عمرو بن العاص إلي عبد الله بن العبّاس .

أمّا بعد ; فإنّ الذى نحن وأنتم فيه ، ليس بأوّل أمر قاده البلاء ، وساقه سفه العاقبة ، وأنت رأس هذا الأمر بعد علىّ ، فانظر فيما بقى بغير ما مضي ، فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حيلة ، واعلم أنّ الشام لا يُملك إلاّ بهلاك العراق ، وأنّ العراق لا يُملك إلاّ بهلاك الشام ، فما خيرنا بعد إسراعنا فيكم ، وما خيركم بعد إسراعكم فينا ، ولست أقول : ليت الحرب عادت ، ولكن أقول : ليتها لم تكن ، وإنّ فينا من يكره اللقاء كما أنّ فيكم من يكرهه ، وإنّما هو أمير مطاع ، أو مأمور


(١) نهج البلاغة : الكتاب ١٧ ، بحار الأنوار : ٣٣ / ١٠٤ / ٤٠٧ وراجع جواهر المطالب : ١ / ٣٦٢ .
(٢) من الإرب ; وهو الدهاء والبصر بالاُمور ، وهو من العقل (لسان العرب : ١ / ٢٠٩) .

 ١٦٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب ابن عبّاس عنه

مطيع ، أو مشاور مأمون وهو أنت ، فأمّا السفيه فليس بأهل أن يعدّ من ثقات أهل الشوري ولا خواصّ أهل النجوي . وكتب فى آخر كتابه :

طال البلاء فما يُرجي له آسِبعد الإلهِ سوي رفق ابن عبّاسِ
قولا له قول مسرور بحظوتهِلا تنسَ حظّك إنّ التارك الناسى
كلٌّ لصاحبه قرن يعادلهُاُسدٌ تلاقى اُسوداً بين أخياسِ(١)
انظر فديً لك نفسى قبلَ قاصمةللظهر ليس لها راق ولا آسى
أهل العراق وأهل الشام لن يجدواطعم الحياة لحرب ذات أنفاسِ
والسلم فيه بقاء ليس يجهلهُإلاّ الجهول وما النَّوكي(٢) كأكياسِ
فاصدع بأمرك أمر القوم إنّهمُخشاش طير رأت صقراً بحَسْحاسِ(٣)

٩ / ٢٤

جواب ابن عبّاس عنه

٢٥٥٣ ـ أنساب الأشراف عن عيسي بن يزيد : فلمّا قرأ ابن عبّاس الكتاب والشعر أقرأهما عليّاً ، فقال علىّ : قاتل الله ابن العاص ! ما أغرّه بك ؟ يابن عبّاس أجِبه ، وليردّ عليه شعره فضل بن عبّاس بن أبى لهب . فكتب إليه عبد الله بن عبّاس :

أمّا بعد : فإنّى لا أعلم رجلاً من العرب أقلّ حياء منك ! إنّه مالَ بك إلي معاوية الهوي ، وبعته دينك بالثمن اليسير ، ثمّ خبطت للناس فى عشواء طخياء طمعاً فى هذا الملك ، فلمّا لم ترَ شيئاً أعظمت الدماء إعظامَ أهل الدين ، وأظهرت فيها


(١) أخياس : جمع خِيْسة ; وهى الشجر الكثير الملتفّ (لسان العرب : ٦ / ٧٥) .
(٢) النَّوكي : الحَمْقي (النهاية : ٥ / ١٢٩) .
(٣) أنساب الأشراف : ٣ / ٨٧ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٣ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٣١ ; وقعة صفّين : ٤١٠ ، الدرجات الرفيعة : ١١٠ كلّها نحوه وراجع المناقب لابن شهر آشوب : ٣ / ١٧٨ .

 ١٧٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / كتاب معاوية إلي ابن عبّاس

زهادة أهل الورع ، ولا تريد بذلك إلاّ تهييب الحرب وكسر أهل العراق ; فإن كنت أردت الله بذلك ، فدع مصر وارجع إلي بيتك ; فإنّ هذه حرب ليس معاوية فيها كعلىّ ; بدأها علىّ بالحقّ وانتهي فيها إلي العذر ، وابتدأها معاوية بالبغى فانتهي منها إلي السرف ، وليس أهل الشام فيها كأهل العراق ; بايع عليّاً أهل العراق وهو خير منهم ، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه ، ولستَ وأنا فيها سواء . أردتُ الله ، وأردتَ مصر ، فإن تُرِد شرّاً لا يَفُتْنا ، وإن تُرِد خيراً لا تسبقنا .

ثمّ دعا الفضل بن العبّاس بن عتبة فقال : يابن عمّ أجب عمرو بن العاص ، قال :

يا عمرو حسبك من خدع ووسواسِفاذهب فما لك فى ترك الهدي آسِ
إلاّ بوادر طعن(١) فى نحوركمُ ووشك ضرب يُفزّى(٢) جلدة الراسِ
هذا لكم عندنا فى كلّ معركةحتي تُطيعوا عليّاً وابن عبّاسِ
أمّا علىٌّ فإنّ الله فضّلهُفضلاً له شرف عال علي الناسِ
لا بارك الله فى مصر فقد جلبتشرّاً وحظّك منها حسوة الحاسى(٣)

٩ / ٢٥

كتاب معاوية إلي ابن عبّاس

٢٥٥٤ ـ وقعة صفّين : كتب معاوية إلي ابن عبّاس :

أمّا بعدُ ; فإنّكم يا معشر بنى هاشم لستم إلي أحد أسرع بالمساءة منكم إلي


(١) فى المصدر : "يطعن" ، والصحيح ما أثبتناه كما فى شرح نهج البلاغة .
(٢) كذا فى المصدر ، ولعلّه مصحّف عن "يفرى" .
(٣) أنساب الأشراف : ٣ / ٨٨ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٤ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٢ ; وقعة صفّين : ٤١٢ ، الدرجات الرفيعة : ١١١ كلّها نحوه .

 ١٧١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب ابن عبّاس عنه

أنصار عثمان بن عفّان ، حتي إنّكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه ، واستعظامهما ما نيل منه ، فإن يكن ذلك لسلطان بنى اُميّة فقد وليها عدىّ وتَيْم ، فلم تنافسوهم ، وأظهرتم لهم الطاعة . وقد وقع من الأمر ما قد تري ، وأكلت هذه الحروب بعضها من بعض حتي استوينا فيها ، فما أطمعكم فينا أطمعنا فيكم ، وما آيسكم منّا آيسنا منكم . وقد رجونا غير الذى كان ، وخشينا دون ما وقع ، ولستم بملاقينا اليوم بأحدَّ من حدِّ أمسِ ، ولا غداً بأحدَّ من حدِّ اليوم ، وقد قنعنا بما كان فى أيدينا من ملك الشام فاقنعوا بما فى أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا علي قريش ; فإنّما بقى من رجالها ستّة ; رجلان بالشام ، ورجلان بالعراق ، ورجلان بالحجاز ; فأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو ، وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعلىّ ، وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، واثنان من الستّة ناصبان لك ، واثنان واقفان فيك ، وأنت رأس هذا الجمع اليوم . ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنّا إليك أسرع منّا إلي علىّ(١) .

٩ / ٢٦

جواب ابن عبّاس عنه

٢٥٥٥ ـ وقعة صفّين : لمّا انتهي الكتاب إلي ابن عبّاس أسخطه ثمّ قال : حتي متي يخطب ابن هند إلىّ عقلى ، وحتي متي اُجمجَم علي ما فى نفسى ؟ ! فكتب إليه :

أمّا بعد ; فقد أتانى كتابك وقرأته ، فأمّا ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة فى أنصار ابن عفّان ، وكراهيتنا لسلطان بنى اُميّة ، فلعمرى لقد أدركت فى عثمان


(١) وقعة صفّين : ٤١٤ ، الدرجات الرفيعة : ١١٢ ; الفتوح : ٣ / ١٥٢ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٥ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٣ ، المناقب للخوارزمى : ٢٥٦ / ٢٤٠ .

 ١٧٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل التاسع : اشتداد القتال / جواب ابن عبّاس عنه

حاجتك حين استنصرك فلم تنصره ، حتي صرت إلي ما صرت إليه ، وبينى وبينك فى ذلك ابن عمّك وأخو عثمان الوليدُ بن عقبة . وأمّا طلحة والزبير ; فإنّهما أجلبا عليه ، وضيّقا خناقه ، ثمّ خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك ، فقاتلناهما علي النكث ، وقاتلناك علي البغى . وأمّا قولك : إنّه لم يبقَ من قريش غير ستّة ; فما أكثر رجالها وأحسن بقيّتها ، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ، لم يخذلنا إلاّ من خذلك . وأمّا إغراؤك إيّانا بعدىّ وتَيم ; فأبو بكر وعمر خير من عثمان ، كما أنّ عثمان خير منك ، وقد بقى لك منّا يومٌ يُنسيك ما قبله ، ويُخاف ما بعده . وأمّا قولك : إنّه لو بايع الناس لى لاستقامت لى ، فقد بايع الناس عليّاً وهو خير منّى فلم يستقيموا له ، وإنّما الخلافة لمن كانت له فى المشورة . وما أنت يا معاوية والخلافة ، وأنت طليق ؟ ! وابن طليق ، والخلافة للمهاجرين الأوّلين ، وليس الطلقاء منها فى شىء . والسلام(١) .


(١) وقعة صفّين : ٤١٥ ، الدرجات الرفيعة : ١١٣ ; الفتوح : ٣ / ١٥٣ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٦٦ ، المناقب للخوارزمى : ٢٥٧ / ٢٤٠ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٣٣ نحوه .