٢٠١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم
١٢ / ١ مخالفة الإمام فى تعيين الحَكَم ٢٥٩٠ ـ الإمام الباقر ¼ : لمّا أراد الناس عليّاً علي أن يضع حكمين قال لهم علىّ : إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ، وإنّه لا يصلح للقرشى إلاّ مثله ، فعليكم بعبد الله بن عبّاس فارموه به ; فإنّ عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلّها عبد الله ، ولا يحلّ عقدة إلاّ عقدها ، ولا يبرم أمراً إلاّ نقضه ، ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه . فقال الأشعث : لا والله ، لا يحكم فيها مضريّان حتي تقوم الساعة ، ولكن اجعله رجلاً من أهل اليمن إذ جعلوا رجلاً من مضر . فقال علىّ : إنّى أخاف أن يُخدع يَمنيّكم ; فإنّ عمراً ليس من الله فى شىء إذا كان له فى أمر هوًي . ٢٠٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / مخالفة الإمام فى تعيين الحَكَم
فقال الأشعث : والله ، لأن يحكما ببعض ما نكره ، وأحدهما من أهل اليمن ، أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ فى حكمهما وهما مضريّان(١) . ٢٥٩١ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كلام له فى شأن الحكمين وذمّ أهل الشام ـ : جُفاة طَغام ، وعبيد أقزام ، جُمعوا من كلّ أوْب ، وتُلُقِّطوا من كلّ شَوب ، ممّن ينبغى أن يُفقَّه ويُؤدَّبَ ، ويُعلَّمَ ويُدرَّبَ ، ويُولَّي عليه ، ويُؤخَذَ علي يديه . ليسوا من المهاجرين والأنصار ، ولا من الذين تبوّؤوا الدار والإيمان . ألا وإنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم ممّا يُحبّون(٢) ، وإنّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم ممّا تكرهون . وإنّما عهدكم بعبد الله بن قيس بالأمس يقول : "إنّها فتنة ، فقطِّعوا أوتاركم ، وشيموا سيوفكم" . فإن كان صادقاً فقد أخطأ بمسيره غير مستكره ، وإن كان كاذباً فقد لزمته التهمة . فادفعوا فى صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن العبّاس ، وخذوا مَهَلَ الأيّام ، وحوطوا قواصى الإسلام .أ لا ترون إلي بلادكم تغزي ، وإلي صفاتكم تُرمي ؟(٣) ٢٥٩٢ ـ وقعة صفّين : ذكروا أنّ ابن الكوّاء قام إلي علىّ فقال : هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلي رسول الله ½ وصاحب مقاسِم أبى بكر ، وعامل عمر ، وقد رضى به القوم . وعرضنا علي القوم عبد الله بن عبّاس فزعموا : أنّه قريب القرابة منك ، ظنونٌ فى أمرك(٤) . (١) وقعة صفّين : ٥٠٠ عن جابر ; الفتوح : ٤ / ١٩٨ نحوه . ٢٠٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / مخالفة الإمام فى تعيين الحَكَم
٢٥٩٣ ـ الأخبار الطوال : اجتمع قرّاء أهل العراق وقرّاء أهل الشام ، فقعدوا بين الصفّين ، ومعهم المصحف يتدارسونه ، فاجتمعوا علي أن يُحكّموا حكمين ، وانصرفوا . فقال أهل الشام : قد رضينا بعمرو . وقال الأشعث ومن كان معه من قرّاء أهل العراق : قد رضينا نحن بأبى موسي . فقال لهم علىّ : لست أثق برأى أبى موسي ، ولا بحزمه ، ولكن أجعل ذلك لعبد الله بن عبّاس . قالوا : والله ، ما نفرّق بينك وبين ابن عبّاس ، وكأنّك تريد أن تكون أنت الحاكم ، بل اجعله رجلاً هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلي أحد منكما بأدني منه إلي الآخر . قال علىّ ¢ : فلِمَ ترضون لأهل الشام بابن العاص ، وليس كذلك ؟ قالوا : اُولئك أعلم ، إنّما علينا أنفسنا . قال : فإنّى أجعل ذلك إلي الأشتر . قال الأشعث : وهل سعّر هذه الحرب إلاّ الأشتر ؟ وهل نحن إلاّ فى حكم الأشتر ؟ قال علىّ : وما حكمه ؟ قال : يضرب بعض وجوه بعض حتي يكون ما يريد الله . قال : فقد أبيتم إلاّ أن تجعلوا أبا موسي ؟ ! قالوا : نعم . ٢٠٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / مخالفة الإمام فى تعيين الحَكَم
قال : فاصنعوا ما أحببتم(١) . ٢٥٩٤ ـ تاريخ الطبرى عن أبى مخنف : جاء الأشعث بن قيس إلي علىّ فقال له : ما أري الناس إلاّ قد رضوا ، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلي ما دعوهم إليه من حكم القرآن ، فإن شئتَ أتيتُ معاوية فسألته ما يريد ، فنظرت ما يسأل . قال : ائته إن شئت فسله . فأتاه فقال : يا معاوية ! لأىّ شىء رفعتم هذه المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن وأنتم إلي ما أمر الله عزّ وجلّ به فى كتابه ، تبعثون منكم رجلاً ترضون به ، ونبعث منّا رجلاً ، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما فى كتاب الله لا يعدوانه ، ثمّ نتّبع ما اتّفقا عليه . فقال له الأشعث بن قيس : هذا الحقّ . فانصرف إلي علىّ فأخبره بالذى قال معاوية . فقال الناس : فإنّا قد رضينا وقبلنا . فقال أهل الشام : فإنّا قد اخترنا عمرو بن العاص . فقال الأشعث واُولئك الذين صاروا خوارج بعد : فإنّا قد رضينا بأبى موسي الأشعرى . قال علىّ : فإنّكم قد عصيتمونى فى أوّل الأمر ، فلا تعصونى الآن ، إنّى لا أري أن اُولّى أبا موسي . فقال الأشعث ، وزيد بن حُصين الطائى ، ومسعر بن فدكى : لا نرضي إلاّ به ، ٢٠٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / مخالفة الإمام فى تعيين الحَكَم
فإنّه ما كان يحذّرنا منه وقعنا فيه . قال علىّ : فإنّه ليس لى بثقة ، قد فارقنى ، وخذّل الناس عنّى ، ثمّ هرب منّى حتي آمنته بعد أشهر ، ولكن هذا ابن عبّاس نولّيه ذلك . قالوا : ما نبالى أنت كنت أم ابن عبّاس ! لا نريد إلاّ رجلاً هو منك ومن معاوية سواء ، ليس إلي واحد منكما بأدني منه إلي الآخر . فقال علىّ : فإنّى أجعل الأشتر . قال أبو مخنف : . . . أنّ الأشعث قال : وهل سعّر الأرض غير الأشتر ؟ ! . . . وهل نحن إلاّ فى حكم الأشتر ؟ ! قال علىّ : وما حكمه ؟ قال : حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيوف حتي يكون ما أردتَ وما أراد . قال : فقد أبيتم إلاّ أبا موسي ؟ ! قالوا : نعم . قال : فاصنعوا ما أردتم . فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال ، وهو بعُرض(١) ، فأتاه مولي له ، فقال : إنّ الناس قد اصطلحوا . فقال : الحمد لله ربّ العالمين ! قال : قد جعلوك حكماً . (١) عُرْض : بليدة فى بريّة الشام تدخل فى أعمال حلب (معجم البلدان : ٤ / ١٠٣) . ٢٠٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / وثيقة التحكيم
قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! وجاء أبو موسي حتي دخل العسكر ، وجاء الأشتر حتي أتي عليّاً فقال : ألِزّنى بعمرو بن العاص ، فو الله الذى لا إله إلاّ هو ، لئن ملأتُ عينى منه لأقتلنّه . وجاء الأحنف فقال : يا أمير المؤمنين ! إنّك قد رُميتَ بحجر الأرض ، وبمن حارب الله ورسوله أنف الإسلام ، وإنّى قد عجمتُ(١) هذا الرجل ، وحلبتُ أشطره ، فوجدته كَليلَ الشفرة ، قريبَ القعر ، وإنّه لا يصلح لهؤلاء القوم إلاّ رجل يدنو منهم حتي يصير فى أكفّهم ، ويبعد حتي يصير بمنزلة النجم منهم . فإن أبيَت أن تجعلنى حكماً ، فاجعلنى ثانياً أو ثالثاً ، فإنّه لن يعقد عقدة إلاّ حللتُها ، ولن يحلّ عقدة أعقدها إلاّ عقدتُ لك اُخري أحكم منها . فأبي الناس إلاّ أبا موسي والرضا بالكتاب(٢) . ١٢ / ٢ ٢٥٩٥ ـ الأمالى للطوسى عن جندب : لمّا وقع الاتّفاق علي كتب القضية بين أمير المؤمنين ¼ وبين معاوية بن أبى سفيان ، حضر عمرو بن العاص فى رجال من أهل الشام وعبد الله بن عبّاس فى رجال من أهل العراق . فقال أمير المؤمنين ¼ للكاتب : اكتب : هذا ما تقاضي عليه أمير المؤمنين (١) يُقال : عَجَمتُ الرجلَ : إذا خَبَرتَه (لسان العرب : ١٢ / ٣٩٠) . ٢٠٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / وثيقة التحكيم
علىّ ابن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان . فقال عمرو بن العاص : اكتب اسمه واسم أبيه ولا تسمّه بإمرة المؤمنين ، فإنّما هو أمير هؤلاء وليس بأميرنا . فقال الأحنف بن قيس : لا تمح هذا الاسم فإنّى أتخوّف إن محوته لا يرجع إليك أبداً . فامتنع أمير المؤمنين ¼ من محوه ، فتراجع الخطاب فيه مليّاً من النهار ، فقال الأشعث بن قيس : امحُ هذا الاسم ترَحه الله . فقال أمير المؤمنين ¼ : الله أكبر ! سُنّة بسُنّة ومثل بمثل ، والله ، إنّى لكاتب رسول الله ½ يوم الحديبيّة وقد أملي علىَّ : هذا ما قاضي عليه محمّد رسول الله سهيل بن عمر ، فقال له سهيل : امحُ رسول الله فإنّا لا نقرّ لك بذلك ، ولا نشهد لك به ، اكتب اسمك واسم أبيك ، فامتنعتُ من محوه فقال النبىّ ½ : امحه يا علىّ ! وستُدعي إلي مثلها فتجيب ، وأنت علي مضض . فقال عمرو بن العاص : سبحان الله ! ومثل هذا يُشبّه بذلك ونحن مؤمنون ، واُولئك كانوا كفّاراً ! فقال أمير المؤمنين ¼ : يابن النابغة ! ومتي لم تكن للفاسقين وليّاً وللمسلمين عدوّاً ، وهل تشبه إلاّ اُمّك التى دفعت بك ؟ فقال عمرو : لا جرم ، لا يجمع بينى وبينك مجلس أبداً . فقال أمير المؤمنين ¼ : والله ، إنّى لأرجو أن يُطهّر الله مجلسى منك ومن أشباهك . ٢٠٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / وثيقة التحكيم
ثمّ كتب الكتاب وانصرف الناس(١) . ٢٥٩٦ ـ تاريخ الطبرى عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه ـ فى ذكر ما احتوت عليه وثيقة التحكيم ـ : وثيقة التحكيم هى ما يلى : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضي عليه علىّ بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان ، قاضي علىّ علي أهل الكوفة ومن معهم من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين ، وقاضي معاوية علي أهل الشام ومن كان معهم من المؤمنين والمسلمين ، إنّا ننزل عند حكم الله عزّ وجلّ وكتابه ، ولا يجمع بيننا غيره ، وإنّ كتاب الله عزّ وجلّ بيننا من فاتحته إلي خاتمته ، نُحيى ما أحيا ، ونميت ما أمات . فما وجد الحكمان فى كتاب الله عزّ وجلّ ـ وهما أبو موسي الأشعرى عبد الله بن قيس ، وعمرو بن العاص القرشى ـ عملا به ، وما لم يجدا فى كتاب الله عزّ وجلّ فالسنّة العادلة الجامعة غير المفرّقة . وأخذ الحكمان من علىّ ومعاوية ومن الجندين من العهود والميثاق ، والثقة من الناس ، أنّهما آمنان علي أنفسهما وأهلهما ، والاُمّة لهما أنصار علي الذى يتقاضيان عليه . وعلي المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما عهد الله وميثاقه أنّا علي ما فى هذه الصحيفة ، وأن قد وجبت قضيّتهما علي المؤمنين ، فإنّ الأمن والاستقامة ووضع السلاح بينهم أينما ساروا علي أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، وشاهدهم وغائبهم . ٢٠٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / وثيقة التحكيم
وعلي عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الاُمّة ، ولا يَرُدّاها فى حرب ولا فرقة حتي يُعصيا ، وأجلُ القضاء إلي رمضان . وإن أحبّا أن يؤخّرا ذلك أخّراه علي تراض منهما ، وإن توفِّى أحد الحكمين فإنّ أمير الشيعة يختار مكانه ، ولا يألو من أهل المَعدلة والقسط . وإنّ مكان قضيّتهما الذى يقضيان فيه مكانٌ عدلٌ بين أهل الكوفة وأهل الشام ، وإن رضيا وأحبّا فلا يحضرهما فيه إلاّ من أرادا ، ويأخذ الحكمان من أرادا من الشهود ، ثمّ يكتبان شهادتهما علي ما فى هذه الصحيفة ، وهم أنصار علي من ترك ما فى هذه الصحيفة ، وأراد فيه إلحاداً وظلماً . اللهمّ ! إنّا نستنصرك علي من ترك ما فى هذه الصحيفة(١) . ٢٥٩٧ ـ شرح نهج البلاغة عن أبى إسحاق الشيبانى : قرأت كتاب الصلح عند سعيد بن أبى بُردة فى صحيفة صفراء عليها خاتمان خاتم من أسفلها وخاتم من أعلاها علي خاتم علىّ ¼ "محمّد رسول الله" وعلي خاتم معاوية "محمّد رسول الله" وقيل لعلىّ ¼ حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام :أ تقرّ أنّهم مؤمنون مسلمون ؟ فقال علىّ ¼ : ما أقرّ لمعاوية ولا لأصحابه أنّهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء بما شاء ويقرّ بما شاء لنفسه ولأصحابه ، ويسمّى نفسه بما شاء وأصحابه(٢) . ٢٥٩٨ ـ تاريخ الطبرى عن فضيل بن خديج الكندى ـ فى وثيقة التحكيم ـ : كان (١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٥٣ ، الأخبار الطوال : ١٩٤ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٨٨ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٢ ، الفتوح : ٤ / ٢٠٤ ; وقعة صفّين : ٥١٠ وص ٥٠٤ ، شرح الأخبار : ٢ / ١٣٥ كلّها نحوه . ٢١٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / عدم رضاء الأشتر بما فى الوثيقة
الكتاب فى صفر والأجل رمضان إلي ثمانية أشهر ، إلي أن يلتقى الحكمان . ثمّ إنّ الناس دفنوا قتلاهم ، وأمر علىّ الأعور فنادي فى الناس بالرحيل(١) . ٢٥٩٩ ـ تاريخ الطبرى عن أبى جعفر : كتب كتاب القضيّة بين علىّ ومعاوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين من الهجرة علي أن يوافى علىّ ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل فى شهر رمضان(٢) . ١٢ / ٣ عدم رضاء الأشتر بما فى الوثيقة ٢٦٠٠ ـ تاريخ الطبرى عن عُمارة بن ربيعة الجرمى : لمّا كتبت الصحيفة دعى لها الأشتر فقال : لا صحبتنى يمينى ولا نفعتنى بعدها شمالى إن خُطّ لى فى هذه الصحيفة اسم علي صلح ولا موادعة ، أ وَلستُ علي بينة من ربّى ومن ضلال عدوى ؟ أ ولستم قد رأيتم الظفر لو لم تُجمعوا علي الجور ؟ فقال له الأشعث بن قيس : إنّك والله ، ما رأيت ظفراً ولا جوراً ، هلمّ إلينا فإنّه لا رغبة بك عنّا . فقال : بلي والله ، لرغبة بى عنك فى الدنيا للدنيا والآخرة للآخرة ،و لقد سفك الله عزّ وجلّ بسيفى هذا دماء رجال ما أنت عندى خير منهم ولا أحرم دماً . قال عمارة : فنظرت إلي ذلك الرجل وكأنما قُصع علي أنفه الحمم ـ يعنى الأشعث ـ (٣) . (١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٥٩ ، أنساب الأشراف : ٣ / ١١١ وفيه إلي "قتلاهم" . ٢١١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / اختلاف الكلمة فى أصحاب الإمام
٢٦٠١ ـ تاريخ الطبرى عن فضيل بن خديج الكندى : قيل لعلىّ بعدما كتبت الصحيفة : إنّ الأشتر لا يُقرّ بما فى الصحيفة ، ولا يري إلاّ قتال القوم . قال علىّ : وأنا والله ، ما رضيتُ ولا أحببتُ أن ترضوا ، فإذ أبيتم إلاّ أن ترضوا فقد رضيتُ ، فإذ رضيتُ فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ، ولا التبديل بعد الإقرار ، إلاّ أن يُعصي الله عزّ وجلّ ويُتعدّي كتابه ، فقاتلوا من ترك أمر الله عزّ وجلّ . وأمّا الذى ذكرتم من تركه أمرى وما أنا عليه فليس من اُولئك ، ولستُ أخافه علي ذلك ، يا ليتَ فيكم مثله اثنين ! يا ليتَ فيكم مثله واحداً ! يري فى عدوّى ما أري ; إذاً لخفّت علىَّ مؤونتكم ورجوتُ أن يستقيم لى بعض أودكم ، وقد نهيتكم عمّا أتيتم فعصيتمونى ، وكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن :
١٢ / ٤ ٢٦٠٢ ـ تاريخ الطبرى عن أبى جناب : خرج الأشعث بذلك الكتاب يقرؤه علي الناس ، ويعرضه عليهم فيقرؤنه حتي مرّ به علي طائفة من بنى تميم فيهم عروة بن أديّة وهو أخو أبى بلال فقرأه عليهم فقال عروة بن أديّة : تُحكمون فى أمر الله عزّ وجلّ الرجال ؟ ! لا حكم إلاّ لله ، ثمّ شد بسيفه فضرب به عجز دابته ضربة خفيفة واندفعت الدابة ، وصاح به أصحابه أن أملك يدك فرجع ، فغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن فمشي الأحنف بن قيس السعدى ومعقل بن قيس ٢١٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثانى عشر : تعيين الحَكَم / اختلاف الكلمة فى أصحاب الإمام
الرياحى ومسعر بن فدكى وناس كثير من بنى تميم فتنصلوا(١) إليه واعتذروا فقبل وصفح(٢) . ٢٦٠٣ ـ الكامل للمبرّد عن أبى العبّاس : أمّا أوّل سيف سُلّ من سيوف الخوارج فسيف عروة بن اُديّة ، وذلك أنّه أقبل علي الأشعث فقال : ما هذه الدنيئة يا أشعث ؟ وما هذا التحكيم ؟ أشرط أوثق من شرط الله عزّ وجلّ ؟ ! ثمّ شهر عليه السيف والأشعث مولّ ، فضرب به عجز البغلة ، فشبّت البغلة فنفرت اليمانية ، وكانوا جُلّ أصحاب علىّ صلوات الله عليه . فلمّا رأي ذلك الأحنف قصد هو وجارية بن قدامة ، ومسعود بن فدكى بن أعبد ، وشبث بن ربعى الرياحى إلي الأشعث ، فسألوه الصفح ، ففعل(٣) . ٢٦٠٤ ـ مروج الذهب : لمّا وقع التحكيم تباغض القوم جميعاً ، وأقبل بعضهم يتبرّأ من بعض : يتبرّأ الأخ من أخيه ، والابن من أبيه ، وأمر علىّ بالرحيل ، لعلمه باختلاف الكلمة ، وتفاوت الرأى ، وعدم النظام لاُمورهم ، وما لحقه من الخلاف منهم ، وكثر التحكيم فى جيش أهل العراق ، وتضارب القوم بالمقارع ونعال السيوف ، وتسابّوا ، ولام كلّ فريق منهم الآخر فى رأيه . وسار علىّ يؤمّ الكوفة ، ولحق معاوية بدمشق من أرض الشام وفرّق عساكره ، فلحق كلّ جند منهم ببلده(٤) . (١) تَنَصّل إليه من الجناية : خرج وتبرّأ (لسان العرب : ١١ / ٦٦٤) . ٢١٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين
١٣ / ١ خطبة الإمام عند منصرفه من صفّين ٢٦٠٥ ـ نهج البلاغة ـ من خطبة له ¼ بعد انصرافه من صفّين ـ : أحمدُه استتماماً لنعمته ، واستسلاماً لعزّته ، واستعصاماً من معصيته . وأستعينه فاقةً إلي كفايته ; إنّه لا يضلّ من هداه ، ولا يَئِلُ من عاداه ، ولا يفتقر من كفاه ; فإنّه أرجح ما وزن وأفضل ما خزن . وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، شهادةً مُمتحناً إخلاصها ، معتقداً مُصاصُها ، نتمسّك بها أبداً ما أبقانا . وندّخرها لأهاويل ما يلقانا ، فإنّها عزيمة الإيمان ، وفاتحة الاحسان ، ومرضاة الرحمن ، ومدحرة الشيطان . وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالدِّين المشهور ، والعلم المأثور ، والكتاب المسطور ، والنور الساطع ، والضياء اللاّمع ، والأمر الصادع ، إزاحةً للشبهات ، ٢١٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / خطبة الإمام عند منصرفه من صفّين
واحتجاجاً بالبيّنات . وتحذيراً بالآيات ، وتخويفاً بالمَثُلات ، والناس فى فتن انجذم فيها حبل الدين ، وتزعزعت سوارى اليقين ، واختلف النَّجْرُ(١) وتشتت الأمر ، وضاق المخرج وعمى المصدر ، فالهدي خامل والعمي شامل . عُصى الرحمن ، ونصر الشيطان ، وخذل الإيمان ، فانهارت دعائمه ، وتنكّرت معالمه ، ودرست سبله ، وعفَت شُركُه . أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، ووردوا مناهله ، بهم سارت أعلامه ، وقام لواؤه فى فتن داستهم بأخفافها(٢) ، ووطِئتهم بأظلافها(٣) ، وقامت علي سنابكها(٤) ، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون فى خير دار وشرّ جيران . نومهم سهود وكُحلهم دموع ، بأرض عالمها ملجم وجاهلها مكرم . [قال الشريف الرضى :] ومنها يعنى آل النبىّ عليه الصلاة والسلام : هُم موضع سرّه ، وَلَجَأ أمره ، وعيبة(٥) علمه ، وموئل(٦) حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ، بهم أقام إنحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه . [قال شريف الرضى : ]و منها يعنى قوماً آخرين : (١) النَّجْرُ : الطَّبْع ، والأصل ، والسَّوقُ الشديد (النهاية : ٥ / ٢١) . ٢١٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
زرعوا الفجور ، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثبور(١) . لا يقاس بآل محمّد ½ من هذه الاُمّة أحدٌ ، ولا يُسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً . هم أساس الدين ، وعماد اليقين . إليهم يفيءُ الغالى ، وبهم يلحق التالى . ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة . الآن إذ رجع الحقّ إلي أهله ، ونقل إلي منتقله(٢) . ١٣ / ٢ رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين (٣) ٢٦٠٦ ـ الإمام الباقر ¼ : لمّا أقبل أمير المؤمنين ¼ من صفّين كتب إلي ابنه الحسن ¼ : (١) الثبور : الهلاك (النهاية : ١ / ٢٠٦) . ٢١٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
بسم الله الرحمن الرحيم مِن الوالد الفانِ ، المقرّ للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر . الذامّ للدنيا ، الساكن مساكن الموتي ، والظاعن عنها غداً . إلي المولود المؤمِّل ما لا يُدرَك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الأسقام ، ورهينة الأيّام ، ورَميّة المصائب ، وعبد الدنيا ، وتاجر الغرور ، وغريم المنايا ، وأسير الموت ، وحليف الهموم ، وقرين الأحزان ، ونُصب الآفات ، وصريع الشهوات ، وخليفة الأموات . أمّا بعد ، فإنّ فيما تبيّنتُ من إدبار الدنيا عنّى ، وجموح الدهر علىَّ ، وإقبال الآخرة إلىَّ ، ما يزَعُنى(١) عن ذكر من سواىَ ، والاهتمام بما ورائى ، غير أنّى حيثُ تفرّد بى دون هموم الناس همُّ نفسى ، فصدفنى رأيى ، وصرفنى عن هواى ، وصرّح لى محضُ أمرى ، فأفضي بى إلي جدٍّ لا يكون فيه لعبٌ ، وصدق لا يشوبه كذبٌ . ووجدتك بعضى ، بل وجدتك كلّى حتي كأنّ شيئاً لو أصابك أصابنى ، وكأنّ الموت لو أتاك أتانى ، فعنانى من أمرك ما يعنينى من أمر نفسى ، فكتبت إليك مستظهراً به إن أنا بقيتُ لك أو فنيتُ . فإنّى اُوصيك بتقوي الله ـ أى بُنىَّ ـ ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله . وأىُّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به ؟ ! أحى قلبك بالموعظة ، وأمته بالزهادة ، وقوّهِ باليقين ، ونوّرهُ بالحكمة ، وذلّلهُ بذكر الموت ، وقرّره بالفناء ، وبصّرهُ فجائع الدنيا ، وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالى والأيّام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكّره بما أصاب من كان (١) وَزَعه يَزَعُه وَزْعاً : إذا كَفَّهُ ومَنَعَهُ (النهاية : ٥ / ١٨٠) . ٢١٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
قبلك من الأوّلين ، وسِرْ فى ديارهم وآثارهم ، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا ، وأين حلّوا ونزلوا ! فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة ، وحلّوا ديار الغربة ، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم . فأصلح مثواك ، ولا تبع آخرتك بدنياك ، ودع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لم تُكلّف . وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال . وأمر بالمعروف تكن من أهله ، وأنكر المنكر بيدك ولسانك ، وباين مَن فَعلَه بجهدك . وجاهد فى الله حقّ جهاده ، ولا تأخُذْك فى الله لومة لائم . وخُض الغمرات للحقّ حيث كان ، وتفقّه فى الدين ، وعوّد نفسك التصبّر علي المكروه ونعم الخُلق التصبّر ! وألْجِئ نفسك فى الاُمور كلّها إلي إلهك ، فإنّك تُلجئها إلي كهف حريز ، ومانع عزيز . وأخلص فى المسألة لربّك ، فإنّ بيده العطاء والحرمان ، وأكثر الاستخارة ، وتفهّم وصيّتى ، ولا تذهبنّ عنها صفحاً ، فإنّ خير القول ما نفع . واعلم أنّه لا خير فى علم لا يُنفع ، ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه . أى بُنىَّ ، إنّى لمّا رأيتنى قد بلغت سنّاً ، ورأيتنى أزداد وهناً ، بادرتُ بوصيّتى إليك ، وأوردتُ خصالاً منها قبل أن يعجل بى أجلى دون أن اُفضى إليك بما فى نفسى ، وأن أنقص فى رأيى كما نُقِصتُ فى جسمى ، أو يسبقنى إليك بعض غلبات الهوي وفِتن الدنيا ، فتكون كالصّعب النفور . وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما اُلقى فيها من شىء قبلته . فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك ; لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته ، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب ، وعوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه ، واستبان لك ما رُبّما أظلم علينا منه . أى بُنىَّ ، إنّى وإن لم أكن عُمّرتُ عمر من كان قبلى ، فقد نظرت فى أعمالهم ، ٢١٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
وفكّرتُ فى أخبارهم ، وسرت فى آثارهم حتي عُدتُ كأحدهم ، بل كأنّى بما انتهي إلىّ من أمورهم قد عمّرتُ مع أوّلهم إلي آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره ، ونفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله(١) وتوخّيت لك جميله وصرفت عنك مجهوله ، ورأيت حيث عنانى من أمرك ما يعنى الوالد الشفيق ، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر ، ذو نيّة سليمة ونفس صافية ، وأن أبتدِئك بتعليم كتاب الله وتأويله ، وشرائع الإسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا اُجاوز ذلك بك إلي غيره . ثمّ أشفقتُ أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائِهم مثل الذى التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك علي ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إلىّ من إسلامك إلي أمر لا آمن عليك به الهلكة ، ورجوت أن يوفّقك الله فيه لرشدك ، وأن يهديك لقصدك ، فعهدت إليك وصيّتى هذه . واعلم يا بُنىَّ ، أنّ أحبّ ما أنت آخذٌ به إلىّ من وصيّتى تقوي الله والاقتصار علي ما فرضه اللهُ عليك ، والأخذ بما مضي عليه الأوّلون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظرٌ ، وفكّروا كما أنت مفكّرٌ ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلي الأخذ بما عرفوا والإمساك عمّا لم يكلّفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم ، لا بتورّط الشبهات وغلوِّ الخصومات . وابدأ قبل نظرك فى ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه فى توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولجتك فى شبهة ، أو أسلمتك إلي ضلالة . فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتمّ رأيك فاجتمع ، وكان همّك فى ذلك همّاً واحداً فانظر فيما فسّرتُ لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من (١) نخَلَ الشىء يَنخُله نْخلاً : صَفَّاه واختارَه (لسان العرب : ١١ / ٦٥١) . ٢١٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
نفسك ، وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء(١) ، وتورّط الظلماء . وليس طالب الدين من خبط أو خلط ، والإمساك عن ذلك أمثل . فتفهّم يا بُنىَّ وصيّتى ، واعلم أنّ مالِك الموت هو مالِك الحياة ، وأنّ الخالق هو المميت ، وأنّ المفنى هو المعيد ، وأنّ المبتلى هو المعافى ، وأنّ الدنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ علي ما جعلها الله عليه من النعماء ، والابتلاء ، والجزاء فى المعاد أو ما شاء ممّا لا نعلم ، فإن أشكل عليك شيءٌ من ذلك فاحمله علي جهالتك به ، فإنّك أوّل ما خُلقتَ خُلقتَ جاهلاً ثمّ علمتَ . وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيك ، ويضلّ فيه بصرك ! ثمّ تبصره بعد ذلك ، فاعتصم بالذى خلقك ورزقك وسوّاك ، وليكن له تعبّدك وإليه رغبتك ومنه شفقتك . واعلم يا بُنىَّ أنّ أحداً لم يُنبِئ عن الله كما أنبأ عنه الرسول ½ فارضَ به رائداً ، وإلي النجاة قائداً ، فإنّى لم آلُكَ نصيحةً . وإنّك لن تبلغ فى النظر لنفسك ـ وإن اجتهدت ـ مبلغ نظرى لك . واعلم يا بُنىَّ أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إلهٌ واحدٌ كما وصف نفسه ، لا يضادّهُ فى ملكه أحدٌ ، ولا يزول أبداً ولم يزل . أوّلٌ قبل الأشياء بلا أوّليّة ، وآخرٌ بعد الأشياء بلا نهاية . عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر . فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغى لمثلك أن يفعله فى صغر خطره ، وقلّة مقدرته ، وكثرة عجزه ; وعظيم حاجته إلي ربّه فى طلب طاعته ، والرهبة من عقوبته ، والشفقة من سُخطه ; فإنّه لم يأمرك إلاّ بحَسن ، ولم ينهك إلاّ عن قبيح . (١) عَشَا عن الشىء : ضعفَ بصرُه عنه . وخبَطَه خبطَ عشواء : لم يتعمّده (لسان العرب : ١٥ / ٥٧) . ٢٢٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
يا بُنىَّ ، إنّى قد أنبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها ، وأنبأتك عن الآخرة وما اُعدّ لأهلها فيها ، وضربت لك فيهما الأمثال ; لتعتبر بها وتحذو عليها . إنّما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزلٌ جديبٌ ، فأمّوا منزلاً خصيباً وجناباً مريعاً ، فاحتملوا وعثاء الطريق وفراق الصديق ، وخشونة السفر ، وجشوبة المطعم ; ليأتوا سعة دارهم ومنزل قرارهم ، فليس يجدون لشىء من ذلك ألماً ، ولا يرون نفقةً مغرماً ، ولا شىء أحبُّ إليهم ممّا قرّبهم من منزلهم ، وأدناهم من محلّهم . ومثلُ من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلي منزل جديب ، فليس شيءٌ أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلي ما يهجمون عليه ويصيرون إليه . يا بُنىَّ ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تُحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لها ، ولا تَظلم كما لا تُحبّ أن تُظلم ، وأحسن كما تُحبّ أن يُحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، وارض من الناس بما ترضاهُ لهم من نفسك ، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم ، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك . واعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصواب ، وآفةُ الألباب . فاسع فى كدحك ، ولا تكن خازناً لغيرك . وإذا أنت هُديتَ لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك . واعلم أنّ أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة ومشقّة شديدة ، وأنّه لا غني لك فيه عن حُسن الارتياد . قدّر بلاغك من الزاد مع خفّة الظهر ، فلا تحملنّ علي ظهرك فوق طاقتك ، فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك . وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلي يوم القيامة فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمِّلهُ إيّاه ، ٢٢١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
وأكثر من تزويده وأنت قادرٌ عليه ، فلعلّك تطلبه فلا تجده . واغتنم من استقرضك فى حال غناك ; ليجعل قضاءه لك فى يوم عُسرتك . واعلم أنّ أمامك عقبةً كؤوداً(١) ، المُخفّ فيها أحسنُ حالاً من المثقل ، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع ، وأنّ مهبطك بها لا محالة علي جنّة أو علي نار . فارتد لنفسك قبل نزُلك ووطّى المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مُستعتبٌ ، ولا إلي الدنيا منصرفٌ . واعلم أنّ الذى بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك فى الدعاء وتكفَّل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عنك ، ولم يُلجئك إلي من يشفع لك إليه ، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة ، ولم يعاجلك بالنقمة ، ولم يعيّرك بالإنابة ، ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولي ، ولم يُشدّد عليك فى قبول الإنابة ، ولم يُناقشك بالجريمة ، ولم يؤيسك من الرحمة . بل جعل نزوعك عن الذنب حسنةً ، وَحَسَبَ سَيّئتك واحدةً ، وَحَسَبَ حسنتك عشراً ، وفتح لك باب المتاب . فإذا ناديته سمع نداءك ، وإذا ناجيته علم نجواك ، فأفضيت إليه بحاجتك ، وأبثثته ذات نفسك ، وشكوت إليه همومك ، واستكشفته كروبك ، واستعنته علي اُمورك ، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر علي إعطائه غيُره من زيادة الأعمار وصحّة الأبدان وسعة الأرزاق . ثمّ جعل فى يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك من مسألته ، فمتي شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته ، واستمطرت شآبيب(٢) رحمته . فلا يُقنّطنّك إبطاء إجابته ، فإنّ العطيّة علي قدر النيّة . وربّما اُخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر (١) العَقَبة الكَؤود : أى الشاقة (النهاية : ٤ / ١٣٧) . ٢٢٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
السائل وأجزل لعطاء الآمل . وربّما سألت الشىء فلا تُؤتاه واُوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً ، أو صُرِف عنك لما هو خيرٌ لك . فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو اُوتيتَه . فلتكن مسألتك فيما يبقي لك جماله ويُنفى عنك وباله ، فالمال لا يبقي لك ولا تبقي له . واعلم أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللموت لا للحياة ، وأنّك فى منزل قلعة(١) ودار بُلغة(٢) وطريق إلي الآخرة ، وأنّك طريد الموت الذى لا ينجو منه هاربه ، ولابدّ أنّه مدركه ، فكن منه علي حذر أن يدركك وأنت علي حال سيّئة ، قد كنت تُحدّث نفسك منها بالتّوبة فيحول بينك وبين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك . يا بُنىَّ ، أكثر من ذكر الموت ، وذكر ما تهجم عليه ، وتُفضى بعد الموت إليه ، حتي يأتيك وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك ، ولا يأتيك بغتةً فيبهَرك . وإيّاك أن تغترّ بما تري من إخلاد أهل الدنيا إليها ، وتكالبهم عليها ، فقد نبّأك الله عنها ، ونعت لك نفسها ، وتكشّفت لك عن مساويها ، فإنّما أهلها كلابٌ عاويةٌ ، وسباعٌ ضاريةٌ ، يهرّ بعضها بعضاً ، ويأكل عزيزُها ذليلَها ، ويقهر كبيرُها صغيرَها . نَعَمٌ مُعقّلَةٌ ، واُخري مهملةٌ ، قد أضلّت عقولها وركبت مجهولها . سروحُ عاهة بواد وعث(٣) ، ليس لها راع يُقيمها ، ولا يُسيمها . سلكت بهم الدنيا طريق العمي ، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدي ، فتاهوا فى حيرتها ، وغرقوا فى نعمتها ، واتّخذوها ربّاً ، فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها . (١) قُلعة : أى تَحَوُّل وارتحال (النهاية : ٤ / ١٠٢) . ٢٢٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
رويداً يُسفر الظلام ، كأن قد وردت الأظعان ، يوشك من أسرع أن يلحق ! واعلم أنّ من كانت مطيّته الليل والنهار فإنّه يُسار به وإن كان واقفاً ، ويقطع المسافة وإن كان مقيماً وادعاً . واعلم يقيناً أنّك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك ، وأنّك فى سبيل من كان قبلك . فخفّض فى الطلب ، وأجمل فى المكتسب فإنّه رُبَّ طلب قد جرّ إلي حرب ، فليس كلّ طالب بمرزوق ، ولاكلّ مُجمل بمحروم . وأكرم نفسك عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلي الرغائب ، فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً . ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً . وما خير خير لا يُنال إلاّ بشرٍّ ، ويسر لا يُنالُ إلاّ بعسر . وإيّاك أن توجف بك مطايا الطمع ، فتوردك مناهل الهلكة . وإن استطعت ألاّ يكون بينك وبين الله ذُو نعمة فافعل ، فإنّك مدركٌ قسمك وآخذٌ سهمك . وإنّ اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كان كلٌّ منه . وتلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك ، وحفظ ما فى الوعاء بشدّ الوكاء(١) ، وحفظ ما فى يديك أحبّ إلىّ من طلب ما فى يد غيرك . ومرارة اليأس خيرٌ من الطلب إلي الناس . والحرفة مع العفّة خيرٌ من الغني مع الفجور . والمرء أحفظ لسرّه . ورُبّ ساع فيما يضرّه ! مَن أكثر أهجر . ومن تفكّر أبصر . قارن أهل الخير تكن منهم . وباين أهل الشرّ تَبِن عنهم . بئس الطعام الحرام ! وظلم الضعيف أفحش الظلم ! إذا كان الرفق خُرقاً كان الخُرق رفقاً . ربّما كان الدواء داءً . وربّما نصح غير الناصح ، وغشّ المستنصح . وإيّاك واتّكالك علي (١) الوِكاء : الخيْطُ الذى تُشَدُّ به الصُّرَّة والكيسُ وغيرها (النهاية : ٥ / ٢٢٢) . ٢٢٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
المُني فإنّها بضائع الموتي ، والعقل حفظُ التجارب . وخير ما جرّبت ما وعظك . بادر الفرصة قبل أن تكون غُصّةً . ليس كلّ طالب يُصيب ، ولا كلّ غائب يؤوب . ومن الفساد إضاعة الزاد ومفسدة المعاد . ولكلّ أمر عاقبةٌ . سوف يأتيك ما قُدّر لك . التاجر مخاطرٌ . ورُبَّ يسير أنمي من كثير ! لا خير فى مُعين مَهين ولا فى صديق ظنين . ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده . ولا تخاطر بشىء رجاء أكثر منه . وإياك أن تجمح بك مطيّة اللجاج . احمل نفسك من أخيك عند صرمه(١) علي الصلة ، وعند صدوده علي اللطف والمقاربة ، وعند جموده علي البذل ، وعند تباعده علي الدنوّ ، وعند شدّته علي اللين ، وعند جرمه علي العذر حتي كأنّك له عبدٌ وكأنّه ذو نعمة عليك . وإيّاك أن تضع ذلك فى غير موضعه ، أو أن تفعله بغير أهله . لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقاً فتعادى صديقك . وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحةً . وتجرّع الغيظ(٢) فإنّى لم أر جُرعةً أحلي منها عاقبةً ولا ألذّ مغبّةً ! ولمن غالظك فإنّه يوشك أن يلين لك . وخذ علي عدوّك بالفضل فإنّه أحلي الظفرين . وإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقيّةً ترجع إليها إن بدا له ذلك يوماً ما . ومن ظنّ بك خيراً فصدّق ظنّه . ولا تُضيعنّ حقّ أخيك اتّكالاً علي ما بينك وبينه ، فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه . ولا يكن أهلك أشقي الخلق بك . ولا ترغبنّ فيمن زهد فيك . ولا يكوننّ أخوك أقوي علي قطيعتك منك علي صلته . ولا تكوننّ علي الإساءة أقوي منك علي الإحسان . ولا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك فإنّه يسعي فى مضرّته ونفعك . وليس جزاء من سرّك أن تسوءه . (١) الصَّرمُ : القطع البائن ، والهِجْرانُ (لسان العرب : ١٢ / ٣٣٤) . ٢٢٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / رسالة الإمام لابنه الحسن فى حاضرين
واعلم يا بُنىَّ ، أنّ الرزق رزقان : رزقٌ تطلبه ، ورزقٌ يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك . ما أقبح الخضوع عند الحاجة والجفاء عند الغني ! إنّ لك من دنياك ما أصلحت به مثواك . وإن جزعت علي ما تفلّتَ من يديك فاجزع علي كلّ ما لم يصل إليك . استدلّ علي ما لم يكن بما قد كان ، فإنّ الاُمور أشباهٌ . ولا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغتَ فى إيلامه ، فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب والبهائم لا تتّعظ إلاّ بالضرب . اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين . من ترك القصد جار . والصاحبُ مناسب . والصديقُ من صدق غيبُه . والهوي شريك العناء . ربّ قريب أبعد من بعيد ، وربّ بعيد أقربُ من قريب . والغريب من لم يكن له حبيب . من تعدّي الحقّ ضاق مذهبه . ومن اقتصر علي قدره كان أبقي له . وأوثق سبب أخذتَ به سببٌ بينك وبين الله ! ومن لم يُبالِك فهو عدوّك . قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً . ليس كلّ عورة تظهر ولا كلّ فرصة تصاب . وربّما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمي رشده . أخِّرِ الشرّ فإنّك إذا شئت تَعجّلتَه . وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل . من أمن الزمان خانه ، ومن أعظمه أهانه . ليس كلّ من رمي أصاب . إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان . سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار . إيّاك أن تذكر فى الكلام ما يكون مضحكاً وإن حكيت ذلك عن غيرك . وإيّاك ومشاورة النساء فإنّ رأيهنّ إلي أفن(١) وعزمهنّ إلي وهن . واكفُف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ فإنّ شدّة الحجاب أبقي عليهنّ ، وليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل . ولا تُملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها فإنّ المرأة ريحانةٌ وليست بقهرمانة ولا تَعْدُ بكرامتها نفسها ، ولا تُطمعها (١) الأَفْنُ : النقص . ورجل أفين ومأفون ، أى ناقص العقل (النهاية : ١ / ٥٧) . ٢٢٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / بدءُ تدفّق الاعتراض
فى أن تشفع بغيرها . وإيّاك والتغاير فى غير موضع غيرة فإنّ ذلك يدعو الصحيحة إلي السقم والبريئة إلي الريب . واجعل لكلّ إنسان من خدمك عملاً تأخذه به فإنّه أحري أن لا يتواكلوا فى خدمتك . وأكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الذى به تطير ، وأصلك الذى إليه تصير ، ويدك التى بها تصول . استودع الله دينك ودنياك ، واساله خير القضاء لك فى العاجلة والآجلة والدنيا والآخرة ، والسلام(١) . ١٣ / ٣ ٢٦٠٧ ـ تاريخ الطبرى عن جندب الأزدى ـ فى بيان مسير الإمام ¼ من صفّين إلي الكوفة ـ : ثمّ مضي علىّ غير بعيد ، فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصارى ، فدنا منه ، وسلّم عليه وسايره . فقال له : ما سمعت الناس يقولون فى أمرنا ؟ قال : منهم المعجب به ، ومنهم الكاره له ، كما قال عزّ وجلّ : ³ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ± إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ² (٢) . فقال له : فما قول ذوى الرأى فيه ؟ قال : أمّا قولهم فيه فيقولون : إنّ عليّاً كان له جمع عظيم ففرّقه ، وكان له حصن (١) كشف المحجّة : ٢٢٠ عن عمر بن أبى المقدام ، نهج البلاغة : الكتاب ٣١ ، تحف العقول : ٦٨ كلاهما نحوه . والنصّ المذكور مع أنّه منقول أيضاً فى نهج البلاغة وتحف العقول ، لكننا آثرنا نقله من كشف المحجّة باعتباره أجمع وأكمل منهما ، مضافاً إلي احتواء الموسوعة علي عدد غفير من النصوص المنقولة عن نهج البلاغة ; فكان من الأفضل أن يتعرّف ويطّلع القارئ علي نصوص سائر الكتب الحديثية الاُخري . ٢٢٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / بدءُ تدفّق الاعتراض
حصين فهدّمه ، فحتّي متي يبنى ما هدم ، وحتي متي يجمع ما فرّق ! فلو أنّه كان مضي بمن أطاعه ـ إذ عصاه من عصاه ـ فقاتل حتي يظفر أو يهلك إذاً كان ذلك الحزم . فقال علىّ : أنا هدمت أم هم هدموا ! أنا فرّقت أم هم فرّقوا ! أمّا قولهم : إنّه لو كان مضي بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتي يظفر أو يهلك ، إذاً كان ذلك الحزم ; فو الله ، ما غبى عن رأيى ذلك ، وإن كنت لسخيّاً بنفسى عن الدنيا ، طيّب النفس بالموت ، ولقد هممت بالإقدام علي القوم ، فنظرت إلي هذين قد ابتدرانى ـ يعنى الحسن والحسين ـ ونظرت إلي هذين قد استقدمانى ـ يعنى عبد الله بن جعفر ومحمّد بن علىّ ـ فعلمت أنّ هذين إن هلكا انقطع نسل محمّد ½ من هذه الاُمّة ، فكرهت ذلك ، وأشفقت علي هذين أن يهلكا ، وقد علمت أن لولا مكانى لم يستقدما ـ يعنى محمّد بن علىّ وعبد الله بن جعفر ـ وايم الله ، لئن لقيتهم بعد يومى هذا لألقينّهم وليسوا معى فى عسكر ولا دار(١) . ٢٦٠٨ ـ الإمام علىّ ¼ ـ فى جواب الخوارج المعترضين علي التحكيم قبل دخول الكوفة ـ : اللهمّ هذا مقامٌ من فَلَج(٢) فيه كان أولي بالفلج يوم القيامة ، ومن نَطِفَ(٣) فيه أو غَلَّ فهو فى الآخرة أعمي وأضلّ سبيلاً . نشدتكم بالله ! أ تعلمون أنّهم حين رفعوا المصاحف ، فقلتم : نُجيبهم إلي كتاب الله ، قلت لكم : إنّى أعلم بالقوم منكم ، إنّهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّى (١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٦٠ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٩٠ ; وقعة صفّين : ٥٢٩ عن عبد الرحمن بن جندب . ٢٢٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / بدءُ تدفّق الاعتراض
صحبتهم وعرفتهم أطفالاً ورجالاً ; فكانوا شرّ أطفال ، وشرّ رجال ، امضوا علي حقّكم وصدقكم ، إنّما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ووهناً ومكيدة . فرددتم علىَّ رأيى ، وقلتم : لا ، بل نقبل منهم . فقلت لكم : اذكروا قولى لكم ومعصيتكم إيّاى ؟ فلمّا أبيتم إلاّ الكتاب ، اشترطت علي الحَكَمَين أن يُحييا ما أحياه القرآن ، وأن يُميتا ما أمات القرآن ; فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حُكم من حَكَم بما فى الكتاب ، وإن أبيا فنحن من حكمهما بُرَآء . فقال له بعض الخوارج : فخبّرنا أ تراه عدلاً تحكيم الرجال فى الدماء ؟ فقال : إنّا لم نحكّم الرجال ، إنّما حكّمنا القرآن ، وهذا القرآن إنّما هو خطّ مسطور بين دفّتين لا ينطق ، وإنّما يتكلّم به الرجال . قالوا له : فخبّرنا عن الأجل ; لِمَ جعلته فيما بينك وبينهم . قال : ليتعلّم الجاهل ، ويتثبّت العالم ، ولعلّ الله أن يُصلح فى هذه الهدنة هذه الاُمّة . ادخلوا مصركم رحمكم الله . ودخلوا من عند آخرهم(١) . ٢٦٠٩ ـ عنه ¼ ـ لمّا قال له رجل من أصحابه : نهيتنا عن الحكومة ، ثمّ أمرتنا بها ، فلم ندرِ أىّ الأمرين أرشد ؟ ـ : هذا جزاء من ترك العُقْدَة ! أما والله لو أنّى حين أمرتكم به حملتكم علي المكروه الذى يجعل الله فيه خيراً ، فإن استقمتم هديتكم ، وإن اعوججتم قوّمتكم ، وإن أبيتم تداركتكم ـ لكانت الوثقي . ٢٢٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / بدءُ تدفّق الاعتراض
ولكن بمن ، وإلي من ؟ اُريد أن اُداوى بكم وأنتم دائى ; كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أنّ ضَلْعَها(١) معها ! اللهمّ قد ملّت أطبّاءُ هذا الداء الدوىّ ، وكلّت النَّزَعة بأشطان الرَّكِىّ ! أين القوم الذين دُعوا إلي الإسلام فقبلوه ، وقرؤوا القرآن فأحكموه ، وهِيجوا إلي الجهاد فوَلِهوا وَلَهَ اللِّقاح إلي أولادها ، وسلبوا السيوف أغمادها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وصفّاً صفّاً . بعضٌ هلك ، وبعضٌ نجا . لا يُبَشَّرون بالأحياء ، ولا يُعَزَّون ع ن الموتي . مُرْهُ العيون من البكاء ، خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، صفر الألوان من السهر ، علي وجوههم غبرة الخاشعين . اُولئك إخوانى الذاهبون . فحقّ لنا أن نظمأ إليهم ، ونعضّ الأيدى علي فراقهم . إنّ الشيطان يُسنِّى لكم طُرُقَه ، ويريد أن يَحُلّ دينكم عقدة عقدة ، ويُعطيكم بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة ، فاصدفوا عن نزغاته ونَفَثاته ، واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليهم ، واعقِلوها علي أنفسكم(٢) (٣) . (١) ضَلْعها : أى ميلها (النهاية : ٣ / ٩٦) . ٢٣٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الثالث عشر : الإنصراف من صفّين / دخول الكوفة وبدء فتنة اُخرى
١٣ / ٤ ٢٦١٠ ـ تاريخ الطبرى عن عمارة بن ربيعة ـ فى صفة أصحاب الإمام ¼ ـ : خرجوا مع علىّ إلي صفّين وهم متوادّون أحبّاء ، فرجعوا متباغضين أعداء ، ما برحوا من عسكرهم بصفّين حتي فشا فيهم التحكيم، ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كلّه ويتشاتمون ويضطربون بالسياط . يقول الخوارج : يا أعداء الله ! أدهنتم فى أمر الله عزّ وجلّ وحكّمتم ! وقال الآخرون : فارقتم إمامنا ، وفرّقتم جماعتنا . فلمّا دخل علىّ الكوفة لم يدخلوا معه حتي أتَوا حروراء(١) ، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً ، ونادي مناديهم : إنّ أمير القتال شَبَث بن رِبعى التميمى ، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوّاء اليشكرى ، والأمر شوري بعد الفتح ، والبيعة لله عزّ وجلّ ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . . . ولمّا قدم علىّ الكوفة وفارقته الخوارج وثبت إليه الشيعة فقالوا : فى أعناقنا بيعة ثانية ; نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت . فقالت الخوارج استبقتم أنتم وأهل الشام إلي الكفر كفرَسَى رهان ; بايع أهل الشام معاوية علي ما أحبّوا وكرهوا ، وبايعتم أنتم عليّاً علي أنّكم أولياء من والي وأعداء من عادي ! فقال لهم زياد بن النضر : والله ما بسط علي يده فبايعناه قطّ إلاّ علي كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه ½ ولكنّكم لمّا خالفتموه جاءته شيعته فقالوا : نحن أولياء من واليت ، وأعداء من عاديت ، ونحن كذلك وهو علي الحقّ والهدي ، ومن خالفه ضالّ مُضِلّ(٢) . (١) حَرَوْراء : قرية بظاهر الكوفة، وقيل : موضع علي ميلين منها، نزل به الخوارج (معجم البلدان : ٢/٢٤٥). |
||