٢٣١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم
١٤ / ١ ٢٦١١ ـ الطرائف عن أبى رافع : لمّا أحضرنى أمير المؤمنين ¼ وقد وجّه أبا موسي الأشعرى فقال له : احكم بكتاب الله ولا تجاوزه ، فلمّا أدبر قال : كأنّى به وقد خُدِع . قلت : يا أمير المؤمنين ! فلِمَ توجّهه وأنت تعلم أنّه مخدوع ؟ فقال : يا بنىّ ، لو عمل الله فى خلقه بعلمه ما احتجّ عليهم بالرسل(١) . ٢٦١٢ ـ وقعة صفّين : بعث [ معاوية ] إلي رجال من قريش من الذين كرهوا أن يُعينوه فى حربه : إنّ الحرب قد وضعت أوزارها ، والتقي هذان الرجلان بدومة الجندل(٢) ، فاقدموا علىَّ . فأتاه عبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وأبو الجهم (١) الطرائف : ٥١١ ، المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٢٦١ ، بحار الأنوار : ٤١ / ٣١٠ . ٢٣٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / وصيّة ابن عبّاس لأبى موسى
ابن حذيفة ،و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث الزهرى ، وعبد الله بن صفوان الجمحى ، ورجال من قريش . وأتاه المغيرة بن شعبة ; وكان مقيماً بالطائف لم يشهد صفّين . فقال : يا مغيرة ما تري ؟ قال : يا معاوية لو وسعنى أن أنصرك لنصرتك ، ولكن علىَّ أن آتيك بأمر الرجلين ، فركب حتي أتي دومة الجندل ، فدخل علي أبى موسي كأنّه زائر له فقال : يا أبا موسي ، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر وكره الدماء ؟ قال : اُولئك خيار الناس ، خفّت ظهورهم من دمائهم ، وخمصت بطونهم من أموالهم ، ثمّ أتي عمراً فقال : يا أبا عبد الله ، ما تقول فيمن اعتزل هذا الأمر ، وكره هذه الدماء ؟ قال : اُولئك شرار الناس ; لم يعرفوا حقّاً ، ولم يُنكروا باطلاً ، فرجع المغيرة إلي معاوية فقال له : قد ذُقْتُ(١) الرجلين ; أمّا عبد الله بن قيس فخالعٌ صاحبَه وجاعلها لرجل لم يشهد هذا الأمر ، وهواه فى عبد الله بن عمر ، وأمّا عمرو فهو صاحب الذى تعرف ، وقد ظنّ الناس أنّه يرومها لنفسه ، وأنّه لا يري أ أنّك أحقّ بهذا الأمر منه(٢) . ١٤ / ٢ ٢٦١٣ ـ مروج الذهب : وفى سنة ثمان وثلاثين كان التقاء الحكمين بدومة الجندل وقيل بغيرها ، علي ما قدّمنا من وصف التنازع فى ذلك ، وبعث علىٌّ بعبد الله بن العبّاس ، وشريح بن هانى الهمدانى فى أربعمائة رجل فيهم أبو موسي (١) ذُقْتُ ما عنده : أى خَبَرْته (لسان العرب : ١٠ / ١١١) . ٢٣٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / وصيّة ابن عبّاس لأبى موسى
الأشعرى ، وبعث معاوية بعمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن السمط فى أربعمائة ، فلمّا تداني القوم من الموضع الذى كان فيه الاجتماع قال ابن عبّاس لأبى موسي : إنّ عليّاً لم يرضَ بك حكماً لفضل عندك ، والمتقدّمون عليك كثير ، وإنّ الناس أبَوا غيرك ، وإنّى لأظنّ ذلك لشرّ يُراد بهم ، وقد ضُمّ داهية العرب معك . إن نسيت فلا تنسَ أنّ عليّاً بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وليس فيه خصلة تباعده من الخلافة ، وليس فى معاوية خصلة تقرّبه من الخلافة(١) . ٢٦١٤ ـ شرح نهج البلاغة : لمّا أجمع أهل العراق علي طلب أبى موسي ، وأحضروه للتحكيم علي كره من علىّ ¼ ، أتاه عبد الله بن العبّاس ، وعنده وجوه الناس وأشرافهم ، فقال له : يا أبا موسي ! إنّ الناس لم يرضوا بك ، ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارَك فيه ، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدّمين قبلك ، ولكنّ أهل العراق أبَوا إلاّ أن يكون الحَكَم يمانيّاً ، ورأوا أنّ معظم أهل الشام يمان ، وايمُ الله إنّى لأظنّ ذلك شرّاًلك ولنا ; فإنّه قد ضُمّ إليك داهية العرب ، وليس فى معاوية خلّة يستحقّ بها الخلافة ، فإن تقذف بحقّك علي باطله تدرك حاجتك منه ، وإن يطمع باطله فى حقّك يدرك حاجته منك . واعلم يا أبا موسي أنّ معاوية طليق الإسلام ، وإنّ أباه رأس الأحزاب ، وأنّه يدّعى الخلافة من غير مشورة ولا بيعة ; فإن زعم لك أنّ عمر وعثمان استعملاه فلقد صدق ; استعمله عمر ; وهو الوالى عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهى ، ويُوْجِره ما يكره ، ثمّ استعمله عثمان برأى عمر ، وما أكثر من استعملا ممّن لم ٢٣٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / وصيّة شريح بن هانى لأبى موسى
يدّعِ الخلافة . واعلم أنّ لعمرو مع كلّ شىء يسرّك خبيئاً يسوؤك ومهما نسيت فلا تنسَ أنّ عليّاً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان ، وإنّها بيعة هدي وأنّه لم يقاتل إلاّ العاصين والناكثين(١) . ١٤ / ٣ ٢٦١٥ ـ وقعة صفّين عن الجرجانى : لمّا أراد أبو موسي المسير قام شريح ، فأخذ بيد أبى موسي فقال : يا أبا موسي ! إنّك قد نُصبت لأمر عظيم لا يُجبر صدعُه ، ولا يستقال فتقُه ، ومهما تقُل شيئاً لك أو عليك يثبت حقّه ويُرَ صحّته وإن كان باطلاً . وإنّه لا بقاء لأهل العراق إن ملكها معاوية ، ولا بأس علي أهل الشام إن ملكها علىّ . وقد كانت منك تثبيطةٌ أيّام قدمت الكوفة ; فإن تشفعها بمثلها يكن الظنّ بك يقيناً ، والرجاء منك يأساً ، وقال شريح فى ذلك :
(١) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٤٦ ، ينابيع المودّة : ٢ / ٢٢ ; بحار الأنوار : ٣٣ / ٢٩٨ / ٥٥٣ . ٢٣٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / وصيّة الأحنف بن قيس لأبى موسى
فقال أبو موسي : ما ينبغى لقوم اتّهمونى أن يُرسلونى لأدفع عنهم باطلاً أو أجرّ إليهم حقّاً . . . وسار مع عمرو بن العاص شرحبيلُ بن السمط الكندى فى خيل عظيمة ، حتي إذا أمن عليه خيل أهل العراق ودّعه ، ثمّ قال : يا عمرو ! إنّك رجل قريش ، وإنّ معاوية لم يبعثك إلاّ ثقة بك ، وإنّك لن تؤتي من عجز ولا مكيدة ، وقد عرفتَ أن وطأتُ هذا الأمر لك ولصاحبك ، فكُن عند ظنّنا بك . ثمّ انصرف ، وانصرف شريح بن هانئ حين أمن أهل الشام علي أبى موسي ، وودّعه هو ووجوه الناس(١) . ١٤ / ٤ ٢٦١٦ ـ وقعة صفّين عن الجرجانى : كان آخر من ودّع أبا موسي الأحنف بن قيس ، أخذ بيده ثمّ قال له : يا أبا موسي ! اعرفْ خطب هذا الأمر ، واعلمْ أنّ له ما بعده ، وأنّك إن أضعت العراق فلا عراق . فاتّقِ الله ; فإنّها تجمع لك دنياك وآخرتك ، وإذا لقيت عمراً غداً فلا تبدأه بالسلام ; فإنّها وإن كانت سنّة إلاّ أنّه ليس من أهلها ، ولا تعطِه يدك ; فإنّها أمانة ، وإيّاك أن يُقعدك علي صدر الفراش ; فإنّها خدعة ، ولا تَلْقَه وحده ، واحذر أن يكلّمك فى بيت فيه مُخْدَع تُخَبّأ فيه الرجال والشهود . ثمّ أراد أن يبور(٢) ما فى نفسه لعلىّ فقال له : فإن لم يستقم لك عمرو علي (١) وقعة صفّين : ٥٣٤ ـ ٥٣٦ ; الفتوح : ٤ / ٢٠٧ نحوه وراجع الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٣ ـ ١٥٥ . ٢٣٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / وصيّة معاوية لعمرو بن العاص
الرضي بعلىّ فخيّره أن يختار أهلُ العراق من قريش الشام مَن شاؤوا ; فإنّهم يولّونا الخيار ; فنختار من نريد ، وإن أبَوا فليختر أهلُ الشام من قريش العراق مَن شاؤوا ، فإن فعلوا كان الأمر فينا . قال أبو موسي : قد سمعت ما قلت . ولم يتحاشَ لقول الأحنف . قال : فرجع الأحنف فأتي عليّاً فقال : يا أمير المؤمنين ! أخرجَ والله أبو موسي زبدة سقائه فى أوّل مخضه ، لا أرانا إلاّ بعثنا رجلاً لا يُنكِر خلعك . فقال علىّ : يا أحنف ! إنّ الله غالب علي أمره . قال : فمن ذلك نجزع يا أمير المؤمنين . وفشا أمر الأحنف وأبى موسي فى الناس(١) . ١٤ / ٥ ٢٦١٧ ـ البيان والتبيين : قال معاوية لعمرو بن العاص : يا عمرو ! إنّ أهل العراق قد أكرهوا عليّاً علي أبى موسي ، وأنا وأهل الشام راضون بك . وقد ضُمّ إليك رجل طويل اللسان ، قصير الرأى ; فأجد الحزّ ، وطبّق المفصل ، ولا تلقه برأيك كلّه(٢) . (١) وقعة صفّين : ٥٣٦ ; الفتوح : ٤ / ٢٠٨ ، الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٤ وفيه إلي "الأمر فينا" وكلاهما نحوه . ٢٣٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / نصيحة الإمام لعمرو بن العاص
١٤ / ٦ ٢٦١٨ ـ وقعة صفّين عن شقيق بن سلمة : كتب علىّ إلي عمرو بن العاص يعظه ويرشده : أمّا بعد ; فإنّ الدنيا مَشْغَلة عن غيرها ، ولم يُصِب صاحبها منها شيئاً إلاّ فتحت له حرصاً يزيده فيها رغبة ، ولن يستغنى صاحبها بما نال عمّا لم يبلغه ، ومن وراء ذلك فراق ما جمع . والسعيد من وُعِظ بغيره ; فلا تُحبِط ـ أبا عبد الله ـ أجرَك ، ولا تُجارِ معاوية فى باطله . فأجابه عمرو بن العاص : أمّا بعدُ ; فإنّ ما فيه صلاحنا واُلفتنا الإنابة إلي الحقّ ، وقد جعلنا القرآن حَكَماً بيننا ، فأجِبْنا إليه . وصَبَرَ الرجلُ منّا نفسَه علي ما حكم عليه القرآن ، وعذَره الناس بعد المحاجزة . والسلام . فكتب إليه علىّ : أمّا بعدُ فإنّ الذى أعجبك من الدنيا ممّا نازعتك إليه نفسك ووثقت به منها لمنقلب عنك ، ومفارق لك ; فلا تطمئنّ إلي الدنيا ; فإنّها غرّارة . ولو اعتبرت بما مضي لحفظت ما بقى ، وانتفعت بما وُعِظت به . والسلام . فأجابه عمرو : أمّا بعدُ ; فقد أنصف من جعل القرآن إماماً ، ودعا الناس إلي أحكامه . فاصبر أبا حسن ، وأنا غير مُنيلك إلاّ ما أنالك القرآن (١) . ١٤ / ٧ ٢٦١٩ ـ شرح نهج البلاغة عن أبى جناب الكلبى : إنّ عمراً وأبا موسي لمّا التقيا ٢٣٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / مفاوضات الحَكَمين
بدومة الجندل أخذ عمرو يقدِّم أبا موسي فى الكلام ، ويقول : إنّك صحبت رسول الله ½ قبلى ، وأنت أكبر منّى سّناً ، فتكلّم أنت ، ثمّ أتكلّم أنا ، فجعل ذلك سُنّة وعادة بينهما ، وإنّما كان مكراً وخديعةً واغتراراً له أن يقدِّمه ; فيبدأ بخلع علىّ ، ثمّ يري رأيه . وقال ابن ديزيل فى كتاب "صفّين" : أعطاه عمرو صدر المجلس ، وكان لا يتكلّم قبله ، وأعطاه التقدّم فى الصلاة ، وفى الطعام لا يأكل حتي يأكل ، وإذا خاطبه فإنّما يخاطبه بأجلّ الأسماء ويقول له : يا صاحب رسول الله ، حتي اطمأنّ اليه وظنّ أنّه لا يغشّه(١) . ٢٦٢٠ ـ تاريخ الطبرى عن الزهرى ـ فى بيان ما جري بين الحكمين ـ : قال عمرو : يا أبا موسي ، أ أنت علي أن نُسمّى رجلاً يلى أمر هذه الاُمّة ؟ فسمِّه لى ; فإن أقدر علي أن اُتابعك فلك علىَّ أن اُتابعك ، وإلاّ فلى عليك أن تُتابعنى ! قال أبو موسي : اُسمّى لك عبد الله بن عمر . وكان ابن عمر فيمن اعتزل . قال عمرو : إنّى اُسمّى لك معاوية بن أبى سفيان ، فلم يبرحا مجلسهما حتي استبّا(٢) . ٢٦٢١ ـ تاريخ الطبرى عن أبى جناب الكلبى ـ فى ذكر خبر اجتماع الحكمين ـ : قال أبو موسي : أما والله ، لئن استطعت لاُحيينّ اسم عمر بن الخطّاب . فقال له عمرو : إن كنت تحبّ بيعة ابن عمر ، فما يمنعك من ابنى وأنت تعرف (١) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢٥٤ ، ينابيع المودّة : ٢ / ٢٤ ; وقعة صفّين : ٥٤٤ نحوه ، بحار الأنوار : ٣٣ / ٣٠٠ . ٢٣٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / مفاوضات الحَكَمين
فضله وصلاحه ! فقال : إنّ ابنك رجل صدق ، ولكنّك قد غمسته فى هذه الفتنة(١) . ٢٦٢٢ ـ مروج الذهب : دعا عمرو بصحيفة وكاتب ، وكان الكاتب غلاماً لعمرو ، فتقدّم إليه ليبدأ به أولا دون أبى موسي ; لما أراد من المكر به ، ثمّ قال له بحضرة الجماعة : اكتب ; فإنّك شاهد علينا ، ولا تكتب شيئاً يأمرك به أحدنا حتي تستأمر الآخر فيه ، فإذا أمرك فاكتب ، وإذا نهاك فانتهِ حتي يجتمع رأينا ، اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضي عليه فلان وفلان ، فكتب وبدأ بعمرو ، فقال له عمرو : لا اُمّ لك ! أ تقدّمنى قبله كأنّك جاهل بحقّه ؟ ! فبدأ باسم عبد الله بن قيس ، وكتب : تقاضَيا علي أنّهما يشهدان أن لا إلهَ إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدي ودين الحقّ ليظهره علي الدين كلّه ولو كره المشركون . ثمّ قال عمرو : ونشهد أنّ أبا بكر خليفة رسول الله ½ عمل بكتاب الله وسنّة رسول الله حتي قبضه الله إليه ، وقد أدَّي الحقّ الذى عليه ، قال أبو موسي : اكتب ، ثمّ قال فى عمر مثل ذلك ، فقال أبو موسي : اكتب . ثمّ قال عمرو : واكتب : وأنّ عثمان ولىّ هذا الأمر بعد عمر علي إجماع من المسلمين وشوري من أصحاب رسول الله ½ ورضيً منهم ، وأنّه كان مؤمناً ، فقال أبو موسي الأشعرى : ليس هذا ممّا قعدنا له ، قال عمرو : والله لابدّ من أن يكون مؤمناً أو كافراً ، فقال أبو موسي : كان مؤمناً ، قال عمرو : فَمُره يكتب قال (١) تاريخ الطبرى : ٥ / ٦٨ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٣٩٦ ، الأخبار الطوال : ١٩٩ نحوه ; وقعة صفّين : ٥٤١ . ٢٤٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / مفاوضات الحَكَمين
أبو موسي : اكتب ، قال عمرو : فظالماً قُتِلَ عثمان أو مظلوماً ، قال أبو موسي : بل قُتل مظلوماً ، قال عمرو : أ فليس قد جعل الله لولىّ المظلوم سلطاناً يطلب بدمه ؟ قال أبو موسي : نعم ، قال عمرو : فهل تعلم لعثمان وليّاً أولي من معاوية ؟ قال أبو موسي : لا ، قال عمرو : أ فليس لمعاوية أن يطلب قاتله حيثما كان حتي يقتله أو يعجز عنه ؟ قال أبو موسي : بلي ، قال عمرو للكاتب : اكتب ، وأمره أبو موسي فكتب ، قال عمرو : فإنّا نقيم البيّنة أنّ عليّاً قتل عثمان ، قال أبو موسي : هذا أمر قد حَدَثَ فى الإسلام ، وإنّما اجتمعنا لغيره ، فهلمّ إلي أمر يُصلح الله به أمر اُمّة محمّد ، قال عمرو : وما هو ؟ قال أبو موسي : قد علمت أنّ أهل العراق لا يحبّون معاوية أبداً ، وأنّ أهل الشام لا يُحبّون عليّاً أبداً ; فهلمّ نخلعهما جميعاً ونستخلف عبد الله بن عمر ! وكان عبد الله بن عمر علي بنت أبى موسي(١) . ٢٦٢٣ ـ العقد الفريد عن أبى الحسن ـ فى ذكر اجتماع الحَكَمين ـ : اُخلى لهما[عمرو بن العاص وأبى موسى] مكان يجتمعان فيه ، فأمهله عمرو بن العاص ثلاثة أيّام ، ثمّ أقبل إليه بأنواع من الطعام يُشهّيه بها ، حتي إذا استبطن أبو موسي ناجاه عمرو ، فقال له : يا أبا موسي ! إنّك شيخ أصحاب محمّد ½ ، وذو فضلها ، وذو سابقتها ، وقد تري ما وقعت فيه هذه الاُمّة من الفتنة العمياء التى لا بقاء معها ، فهل لك أن تكون ميمون هذه الاُمّة ; فيحقن الله بك دماءها ; فإنّه يقول فى نفس واحدة : ³ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ² (٢) ، فكيف بمن أحيا أنفس هذا الخلق كلّه ! قال له : وكيف ذلك ؟ قال : تخلع أنت علىّ بن أبى طالب ، وأخلع أنا معاوية بن (١) مروج الذهب : ٢ / ٤٠٧ . ٢٤١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / رأى الحَكَمين
أبى سفيان ، ونختار لهذه الاُمّة رجلاً لم يحضر فى شىء من الفتنة ، ولم يغمس يده فيها . قال له : ومن يكون ذلك ؟ ـ وكان عمرو بن العاص قد فهم رأى أبى موسي فى عبد الله بن عمر ـ فقال له : عبد الله بن عمر . فقال : إنّه لَكَما ذكرت ، ولكن كيف لى بالوثيقة منك ؟ فقال له : يا أبا موسي ، ³ أَ لاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئـِنُّ الْقُلُوبُ ² (١) ، خذ من العهود والمواثيق حتي ترضي . ثمّ لم يُبْقِ عمرو بن العاص عهداً ولا موثقاً ولا يميناً مؤكّدة حتي حلف بها ، حتي بقى الشيخ مبهوتاً ، وقال له : قد أحببتُ(٢) . ١٤ / ٨ ٢٦٢٤ ـ تاريخ الطبرى عن أبى جناب الكلبى : إنّ عمراً وأبا موسي حيث التقيا بدومة الجندل ، أخذ عمرو يقدّم أبا موسي فى الكلام ، يقول : إنّك صاحب رسول الله ½ وأنت أسنّ منى ، فتكلَّمْ وأتكلَّمُ ; فكان عمرو قد عوّد أبا موسي أن يقدّمه فى كلّ شىء ، اغتزي بذلك كله أن يقدّمه ، فيبدأ بخلع علىّ . قال : فنظر فى أمرهما وما اجتمعا عليه ، فأراده عمرو علي معاوية فأبي ، وأراده علي ابنه فأبي ، وأراد موسي عمراً علي عبد الله بن عمر فأبي عليه ، فقال له عمرو : خبّرنى ما رأيك ؟ قال : رأيى أن نخلع هذين الرجلين ، ونجعل الأمر شوري بين المسلمين ، (١) الرعد : ٢٨ . ٢٤٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / رأى الحَكَمين
فيختار المسلمون لأنفسهم مَن أحبّوا . فقال له عمرو : فإنّ الرأى ما رأيت . فأقبَلا إلي الناس وهم مجتمعون ، فقال : يا أبا موسي ، أعلِمْهم بأنّ رأينا قد اجتمع واتّفق ، فتكلّم أبو موسي فقال : إنّ رأيى ورأى عمرو قد اتّفق علي أمر نرجو أن يُصلِح الله عزّ وجلّ به أمرَ هذه الاُمة . فقال عمرو : صدق وبرّ ، يا أبا موسي ! تقدّم فتكلّم ، فتقدّم أبو موسي ليتكلّم ، فقال له ابنُ عبّاس : وَيْحَك ! والله إنّى لأظنّه قد خدعك . إن كنتما قد اتّفقتما علي أمر ; فقدّمْه فليتكلّم بذلك الأمر قبلك ، ثمّ تكلّم أنت بعده ; فإنّ عمراً رجل غادر ، ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضي فيما بينك وبينه ، فإذا قمت فى الناس خالفك ـ وكان أبو موسي مغفّلاً ـ فقال له : إنّا قد اتّفقنا . فتقدّم أبو موسي فحمد الله عزّ وجلّ وأثني عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس ! إنّا قد نظرنا فى أمر هذه الاُمة فلم نَرَ أصلح لأمرها ، ولا ألمّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيى ورأى عمرو عليه ; وهو أن نخلع عليّاً ومعاوية ، وتستقبل هذه الاُمّة هذا الأمر ; فيولّوا منهم مَنْ أحبّوا عليهم ، وإنّى قد خلعت عليّاً ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم ، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلاً . ثمّ تنحّي . وأقبل عمرو بن العاص فقام مقامه ، فحمد اللهَ وأثني عليه وقال : إنّ هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه ، واُثبتُ صاحبى معاوية ; فإنّه ولىّ عثمان بن عفّان ، والطالب بدمه ، وأحقّ الناس بمقامه . فقال أبو موسي : ما لك لا وفّقك الله ! غدرتَ وفجرتَ ! إنّما مَثَلك ³ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ² (١) . قال عمرو : إنّما مَثَلك ³ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ (١) الأعراف : ١٧٦ . ٢٤٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / كلام الإمام لمّا بلغه أمر الحَكَمين
أَسْفَاراً ² (١) . وحَمَل شُرَيح بن هانئ علي عَمرو فقنّعه بالسوط ، وحَمَل علي شُرَيح ابنٌ لعَمرو فضربه بالسوط ، وقام الناس فحجزوا بينهم . وكان شُريح بعد ذلك يقول : ما ندمتُ علي شىء ندامتى علي ضرب عَمرو بالسوط ألاّ أكون ضربته بالسيف آتياً به الدهرُ ما أتي . والتمس أهلُ الشام أبا موسي ، فركب راحلتَه ولحق بمكّة .قال ابن عبّاس : قبّح الله رأي أبى موسي ! حذّرته وأمرْته بالرأى فما عَقَل . فكان أبو موسي يقول : حذّرنى ابنُ عبّاس غَدْرة الفاسق ، ولكنّى اطمأننت إليه ، وظننت أنّه لن يؤثِر شيئاً علي نصيحة الاُمّة . ثمّ انصرف عمرو وأهل الشام إلي معاوية ، وسلّموا عليه بالخلافة ، ورجع ابن عبّاس وشريح بن هانئ إلي علىّ(٢) . ٢٦٢٥ ـ تاريخ اليعقوبى : تنادي الناس : حَكَم والله الحَكَمان بغير ما فى الكتاب والشرط عليهما غير هذا . وتضارب القوم بالسياط ، وأخذ قوم بشعور بعض ، وافترق الناس . ونادت الخوارج : كَفَر الحَكَمان ، لا حُكْم إلاّ لله(٣) . ١٤ / ٩ كلام الإمام لمّا بلغه أمر الحَكَمين ٢٦٢٦ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من كلام له بعد التحكيم وما بلغه من أمر الحَكَمين ـ : أمّا (١) الجمعة : ٥ . ٢٤٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / كلام الإمام لمّا بلغه أمر الحَكَمين
بعدُ ; فإنّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرّب ، تورث الحسرة ، وتُعقب الندامة . وقد كنت أمرتكم فى هذه الحكومة أمرى ، ونخلت لكم مخزون رأيى ، لو كان يُطاعُ لِقصير أمرٌ(١) ! فأبيتم علىَّ إباء المخالفين الجفاة ، والمنابذين العصاة . حتي ارتاب الناصح بنصحه ، وضنّ الزَّنْد بقَدحه ، فكنت أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن :
(١) هو مثل يضرب لمن خالف ناصحه ، وأصل المثل أنّ قصيراً كان مولي لجذيمة بن الأبرش ـ بعض ملوك العرب ـ وقد كان جذيمة قتل أبا الزبا ملكة الجزيرة ، فبعثت إليه ليتزوّج بها خدعة وسألته القدوم عليها ، فأجابها إلي ذلك وخرج فى ألف فارس وخلّف باقى جنوده مع ابن اُخته وقد كان قصير أشار عليه بأن لا يتوجّه إليها فلم يقبل ، فلمّا قرب الجزيرة استقبلته جنود الزبا بالعدّة ولم يرَ منهم إكراماً له ، فأشار عليه قصير بالرجوع وقال : من شأن النساء الغدر ، فلم يقبل ، فلمّا دخل عليها قتلته . فعندها قال قصير : لا يُطاع لقصير أمر . فصار مثلا لكلّ ناصح عصي (بحار الأنوار : ٣٣ / ٣٢٢) . ٢٤٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
إنّ قضيّة التحكيم فى معركة صفّين تُعدّ واحدة من أكثر الوقائع الباعثة علي الأسف والأسي فى عهد حكومة الإمام علىّ ¼ ; حيث جاءت هذه الحادثة المريرة فى وقت شارَفَ فيه جيش الإمام علي إحراز النصر النهائى ، فحالَ قبول التحكيم دون تحقيق ذلك الانتصار الساحق ، وليس هذا فحسب ، بل إنّه أفضي أيضاً إلي وقوع خلافات فى جيشه ¼ وانهماكه فى صراعات مع كوكبة واسعة من خيرة مقاتليه . ولغرض تسليط الأضواء علي هذا الموضوع لابدّ أوّلاً من مناقشة عدّة اُمور : ١ ـ سبب قبول التحكيم السؤال الأوّل الذى يتبادر إلي الأذهان هو : لماذا وافق الإمام علي فكرة التحكيم ؟ فهل إنّه كان فى شكّ من أمره ومواقفه ؟ بل ما معني التحكيم بين الحقّ والباطل ؟أ وَلم تكن الحكمة والسياسة تقضيان أن يقاوم الإمام ضغوط رهْط من جيشه ، ولا ينصاع لفكرة التحكيم ؟ ٢٤٦ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
وفى معرض الإجابة عن هذه التساؤلات نقول : بلي ، إنّ مقتضي الحكمة والسياسة ألاّ يقبل الإمام بالتحكيم ، إلاّ أنّه ¼ ـ كما تفيد الوثائق التاريخيّة القطعيّة ـ لم يقبل التحكيم بإرادته وإنّما فُرض عليه فرضاً ، ولم تكن مقاومته أمام ذلك الرأى الساذج تُجديه نفعاً ، بل كانت تؤدّى إلي وقوع معركة النهروان فى صفّين ، وسيضطرّ الإمام إلي محاربة قسم كبير من جيشه فى ذات الميدان الذى كان يقاتل فيه جيش الشام . عندما أدرك معاوية بأنّه لا طاقة له علي الصمود أمام جيش الإمام ، وأنّ الحرب لو استمرت لكان الانتصار الحاسم حليف الإمام ، لجأ ـ بما لديه من معرفة بفريق واسع من جيش الإمام ، وبناءً علي اقتراح من عمرو بن العاص ـ إلي حيلتين شيطانيّتين خطيرتين : الاُولي هدفها إيقاف القتال مؤقّتاً ، بينما ترمى الثانية إلي تمزيق أو إضعاف جيش الإمام . وقد آتت كلتا الحيلتين اُكلهما بمعاضدة العناصر المتغلغلة فى جيش الإمام . كانت الحيلة الاُولي رفع القرآن علي الرماح ، ودعوة الإمام إلي تحكيم القرآن ، حتي أوقف القتال ، أمّا الحيلة الثانية فكانت قضيّة التحكيم التى تمّ حبكها علي نحو أكثر تعقيداً ، ممّا أدّي فى خاتمة المطاف إلي وقوف قطاع من خيرة جيشه فى وجهه . وهذا هو السبب الذى دفع الإمام لاحقاً إلي مقاتلة أنصاره فى معركة النهروان . ولم يكن أمامه مناص فى معركة صفّين سوي الانصياع لضغوطهم وقبول التحكيم . وهناك قول مشهور للإمام فى وصف حالته أثناء قبول التحكيم : "لقد كنت أمسِ أميراً ، فأصبحت اليوم مأموراً ! وكنتُ أمس ناهياً ، فأصبحت ٢٤٧ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
اليوم منهيّاً !" . وهو يعبّر بكلّ وضوح عن هذا الواقع المرير . ٢ ـ لماذا أبو موسي ؟ تفيد بعض الوثائق التاريخيّة أنّ أبا موسي الأشعرى كان رجلا منافقاً ; فقد نُسب إلي حذيفة وعمّار بن ياسر القول بذلك(١) . وهذا الادّعاء حتّي لو افترضناه غير صحيح ، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّه كان رجلاً ساذجاً ومغفّلاً وكان مناهضاً لسياسة الإمام فى التصدّى الحاسم لمثيرى الفتنة الداخليّة . وموقفه هذا هو الذى جعله يثبّط الناس عن أمير المؤمنين عند قدومه البصرة ، ويحثّهم علي لزوم بيوتهم ، وفى نهاية الأمر أرغمه مالك الأشتر علي مغادرة قصر الإمارة . وهنا يتبادر إلي الأذهان هذا السؤال وهو : لماذا عيّن الإمام شخصاً ساذجاً له كهذا ، مندوباً عنه فى أمر التحكيم ؟ أ لم يعلم بما ستكون عليه نتيجة التحكيم فيما لو دخل أبو موسي فيه ؟ والجواب هو : بلي ، إنّ الإمام كان يعلم بالنتيجة ; فقد ذكر عبد الله بن أبى رافع كاتب الإمام علىّ ¼ بأنّ أبا موسي عندما أراد المسير إلي التحكيم ، قال أمير المؤمنين ¼ : "كأنّى به وقد خُدِع !" ، غير أنّ الضغوط التى أرغمت الإمام علي قبول التحكيم هى نفسها التى أرغمته علي إرسال أبى موسي ممثّلاً عنه . ومع أنّ الإمام أمير المؤمنين ¼ حاول أن يبعث عبد الله بن عبّاس أو مالكاً الأشتر حكماً ، إلاّ أنّ محاولاته لم تُجْد نفعاً ! فقال ¼ : "إنّكم عصيتمونى فى أوّل الأمر ; فلا تعصونى الآن ! إنّى لا أري أن ٢٤٨ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
اُولّى أبا موسي" . فقال الأشعث وزيد بن الحصين الطائى ومسعر بن فدكى : لا نرضي إلاّ به ; فإنّه ما كان يحذّرنا منه وقعنا فيه ! فقال علىّ ¼ : "فإنّه ليس لى به ثقة ; قد فارقنى وخذّل الناس عنّى ، ثمّ هرب منّى حتّي آنسته بعد شهر . . ." . ولم يستطع الإمام أن يثنيهم عن رأيهم ، فقال لهم فى نهاية الأمر : "فاصنعوا ما أردتم !" . ٣ ـ موضوع التحكيم لنتطلّع الآن فى موضوع الحَكَميّة ، وما الذى يجب أن يحكم فيه الحكمان ؟ لا يلاحظ فى وثيقة التحكيم ما يشير إلي موضوع التحكيم ، ولا واجبات وصلاحيّات الحكَمَين ، وإنّما اشتملت علي واجب عامّ للحكَمَين وهو "أن ينزل الحَكَمان عند حكم القرآن ، وما لم يجداه مسمّيً فى الكتاب ردّاه إلي سنّة رسول الله" . لم يرد فى نصّ الوثيقة ما يشير إلي موضوع التحكيم قطّ ، أو أنّه يُعني بالنظر فى أمر قتَلة عثمان ; كما أشار البعض إلي "أنّ الذى يُستشفّ من كتب وكلمات معاوية أنّ ما فُوّض إلي الحَكَمين هو النظر فى أمر قتلة عثمان ، وهل كانوا محقّين فى عملهم أم لا ؟"(١) . أ وَهل كان موضوع التحكيم واضحاً بحيث لم تكن هناك ضرورة لإدراجه فى ٢٤٩ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
نصّ الوثيقة ؟ أم يحتمل أنّ موضوع التحكيم كان موجوداً فى الوثيقة ، إلاّ أنّه حُذف أو حُرِّف لاحقاً ؟ الذى يبدو أنّ تحريف نصّ الوثيقة كان أمراً مستبعداً ، وكذلك لو كان موضوع التحكيم يختصّ بقتلة عثمان لاُشير إليه فى نصّ الوثيقة . وما جاء فى كلام الإمام أو فى رسائله إلي معاوية لا يكشف عن أنّ مسألة قتلة عثمان كان أحد مواضيع التحكيم . ويظهر أنّ موضوع التحكيم يختصّ بحلّ اختلافات الجانبين ، ولا توجد حاجة لتعيينه ; فقد يكون الاختلاف تارة حول مسائل الزواج ، كما جاء فى الآية (٣٥) من سورة النساء ، أو مسائل سياسيّة ، كما وقع فى معركة صفّين ، أو مسائل اُخري . وفى كلّ الحالات يجب علي الحكمين البتّ فى جميع المسائل المختلف عليها بين الفريقين المتنازعين ، وتوفير أجواء المصالحة بينهما . ومعني هذا الكلام عدم تخصيص موضوع الحكَميّة فى معركة صفّين بمسألة قتلة عثمان ، وإنّما كان يشمل جميع الاُمور المتنازع عليها بين علىّ ¼ ومعاوية . وهذا هو السبب الذى جعل الوثيقة خالية من ذكر أىّ موضوع خاصّ ، إلاّ أنّ هذا المعني لم يكن يشمل تعيين الخليفة ، وإنّما كان واجب الحكمين البتّ فى تنازع جيش الكوفة والشام ووضع حدّ لحالة الحرب وسفك الدماء . والحقيقة هى أنّ ما اُعلن بوصفه رأياً نهائيّاً علي أثر الخديعة التى حاكها عمرو بن العاص ، جاء خارج موضوع التحكيم وفوق الصلاحيّات المفوّضة إلي الحَكَمين . والآن نُجيل النظر فى أسباب انخداع جيش الإمام علىّ ¼ ; ولماذا لم يدركوا ٢٥٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
أو لم يريدوا أن يدركوا بأنّ رفع المصاحف علي الرماح لم يكن إلاّ مكيدة أراد بها الشاميّون إيقاف القتال ؟ ولماذا لم يُصغوا لكلام إمامهم ، وأرغموه علي قبول التحكيم ؟ ينبغى الإجابة عن هذا السؤال بالقول : إنّه وإن كان ثمّة أفراد فى جيش الإمام كانوا طوع أمره ، وأرادوا أن تستمرّ المعركة حتّي انتصار جيش الكوفة ، إلاّ أنّ الوثائق التاريخيّة تُثبت أنّ الأكثريّة العظمي من جيش الإمام كانت قد سئمت الحرب أوّلاً ، وكانوا يعلمون أنّهم حتي لو انتصروا فلن يحصلوا علي أيّة غنائم ـ مثلما حدث فى معركة الجمل ـ ثانياً ; ومن هنا فهم كانوا يفتقدون الدوافع المحفزة علي مواصلة القتال . وعندما عرض عدىّ بن حاتم علي الإمام ¼ مواصلة الحرب قائلاً : يا أمير المؤمنين ، ألا نقوم حتي نموت ؟ قال علىّ ¼ : "ادنُهْ" ، فدنا حتّي وضع اُذنه عند أنفه ، فقال : "ويحك ! إنّ عامّة من معى يعصينى ، ومعاوية فيمن يُطيعه ولا يعصيه" . نعم ، فقد كان قرّاء الكوفة ـ الذين كان لهم دور أساسى فى جيش الإمام ـ من جملة هذه الشِّرْذِمة ، ونظراً لمكانتهم بين أهل الكوفة ، فقد أصبح لهم الدور الأكبر فى صياغة هذا المشهد الأليم ، وكان جهلهم وغرورهم بمثابة الغشاء الذى حال بينهم وبين إدراك الخدعة التى لجأ إليها الشاميّون برفع المصاحف علي الرماح لغرض إيقاف الحرب والحيلولة دون هزيمتهم المتوقّعة ، وقد أدّي التطرّف الدينى(١) ـ المقرون بالجهل والحماقة ـ بهؤلاء العبّاد الجهلة إلي إرغام إمامهم علي قبول التحكيم . (١) راجع : وقعة النهروان / دراسة حول المارقين وجذور انحرافهم . ٢٥١ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
وممّا دعم الموقف الأحمق للقرّاء فى تلك الأثناء وساهم فى نجاح مكيدة معاوية لإيقاف الحرب وبثّ الفرقة فى جيش الإمام ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ هو موقف اُولئك الذين كانوا يتعاملون مع الإمام تعاملاً منافقاً ، ومن كانوا يمنّون أنفسهم بوعود معاوية ، وعلي رأسهم الأشعث بن قيس . فالأشعث بن قيس من قبيلة كندة التى كانت تقطن جنوب الجزيرة العربيّة ، وقد وفد علي الرسول ½ مع جماعة من قومه فى السنة العاشرة للهجرة ، وأسلم ، ثمّ ارتدّ بعد وفاة الرسول ½ ، فبعث أبو بكر جيشاً لقتاله ، واُسر واقتيد مكبّلاً بالأغلال إلي المدينة ، فعفا عنه أبو بكر وزوّجه اُخته ! ! وبعد مقتل عثمان بايع عليّاً ¼ ، بيد أنّه لم يكن يتعامل معه بإخلاص ; فمواقفه إزاء الإمام وخاصّة فيما يتعلّق بالتحكيم ، وبثّ الفرقة بين صفوف جيش الإمام ، تشير إلي أنّه تحوّل إلي واحد من العناصر المندسّة فى جيش الإمام لصالح معاوية . إلاّ أنّ الإمام علىّ ¼ لم يكن قادراً علي البتّ فى أمره ; بسبب مكانته الاجتماعيّة وضخامة قبيلته التى كان لها دور مؤثّر فى جيش الكوفة . ٥ ـ الحكمة من عدم اغتنام الفرصة بعد توبة الخوارج وتوقّفت المعركة علي أثر المكيدة التى ابتكرها عمرو بن العاص . ولكن ما لبث قرّاء الكوفة أن انتبهوا إلي أنّهم قد انطلت عليهم الخدعة ، وأنّهم قد أخطؤوا فى حمل الإمام علي قبول التحكيم . فجاؤوا إليه وأعربوا عن خطأ موقفهم ، وتوبتهم ممّا كان منهم ، وأنّه هو الآخر قد أخطأ فى قبول رأيهم ، ويجب أن يتوب أيضاً ! واعتبروا الوثيقة التى صيغت علي أساس المكيدة فاقدة لأيّة قيمة ، ولابدّ من نقضها واستئناف الحرب . إلاّ أنّ الإمام رفض قبول هذه الاقتراحات ، وانتهي ذلك الرفض إلي انشقاق القُرّاء عن الإمام ووقوع معركة النهروان . ٢٥٢ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
والسؤال الأساسى الأخير فيما يخصّ أمر التحكيم هو : لماذا رفض الإمام اقتراح القرّاء بنقض الوثيقة ومعاودة القتال ؟ أ لم يكن يعلم بما سيؤول إليه رفض تلك المقترحات ؟ وما هى الحكمة الكامنة وراء عدم اغتنام الإمام لتلك الفرصة الذهبيّة لإنهاء فتنة القاسطين ، وتوقّى وقوع فتنة المارقين ؟ وجواب هذا السؤال : هو أنّ استجابة الإمام لتلك المقترحات تنطوى علي ثلاثة أخطاء سياسيّة ودينيّة كبري لم يكن الإمام علي استعداد لاقترافها ، وهى : أ ـ الاعتراف بخطأ القيادة كان الطلب الأوّل للخوارج أن يعترف بأنّه قد أخطأ فيما يخصّ القبول بأمر التحكيم ، غير أنّ الإمام لم يكن علي استعداد للإعلان عن ارتكابه لأىّ خطأ ; وذلك لأنّ القبول بالتحكيم لحلّ الاختلافات لا يُعدّ تصرّفاً خاطئاً ، بل هو أمر محبّذ يؤيّده القرآن . والمؤاخذة الوحيدة فى هذا السياق هى أنّ التحكيم فى هذه الواقعة جاء خلافاً للحكمة والسياسة التى أعلنها الإمام صراحة ، لكنّهم هم الذين استنكروا منه ذلك الموقف وأملوا عليه وعلي جيش الكوفة الرضوخ للتحكيم . وفضلاً عن ذلك ، فإنّ الإمام كان يميل إلي الاستقالة علي نحو يُرضى الخوارج ، غير أنّ الأشعث لم يقبل وأصرّ علي أن يعترف الإمام بالخطأ علي نحو يسىء إلي مكانته بوصفه قائداً . ب ـ نقض العهد ولو افترضنا أنّ الإمام قد اعترف بخطأ ; فإنّ الخوارج كان لديهم طلب آخر ; وهو نقض الوثيقة بين جيش الشام والكوفة . بينما كان الإمام يري أنّ التمسّك ٢٥٣ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
بالمواثيق يعدّ واحداً من المبادئ الدوليّة فى الإسلام ، ولا ينبغى أن ينقض المواثيق تحت أيّة ذريعة كانت . ومن هنا فقد كتب فى عهده إلي مالك الأشتر : "و إن عقدتَ بينك وبين عدوّك عُقدة أو ألبستَه منك ذمّة ، فحُطْ عهدك بالوفاء ، وارْعَ ذمّتك بالأمانة ، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ; فإنّه ليس من فرائض الله شيءٌ الناسُ أشدُّ عليه اجتماعاً ، مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استَوبَلوا من عواقب الغدر ; فلا تغدرنَّ بذمّتك ، ولا تَخِيسَنّ بعهدك ، ولا تَخْتِلنّ عدوّك ; فإنّه لا يجترئ علي الله إلاّ جاهل شقىّ . وقد جعل الله عهده وذمّته أمناً أفضاه بين العباد برحمته ، وحريماً يسكنون إلي مَنَعته ، ويستفيضون إلي جواره ; فلا إدغالَ ولا مدالسة ولا خداع فيه"(١) . فإذا كان الإمام علىّ ¼ ينقض هذا المبدأ الإسلامى الأساسى ، فما عسانا أن نتوقّع من غيره ! ج ـ خطورة تسلّط الجهلة المتنسّكين إنّ خطر تسلّط الجهلة المتنسّكين ـ فى منظار الامام ¼ ـ لا يقلّ عن خطر العلماء الفاسقين ; فالاعتراف بخطأ ، ونقض العهد فى أمر التحكيم ، كان يعنى انصياع علىّ ¼ لتسلّط الجهلة المتنسّكين ـ المصابين بمرض العجب وحبّ الدنيا والتطرّف الدينى لدي من اشتُهروا باسم "القرّاء" ـ علي نفسه وعلي الاُمّة الإسلاميّة ، وأنّه قد فوّض إليهم القرارات الأساسيّة فى الحرب والسلام ، ومن بعدهما فى جميع الاُمور المهمّة والحسّاسة . وهذا ليس بالأمر الذى يمكن أن ٢٥٤ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام علىّ فى أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الرابع عشر : خيمة التحكيم / بحث حول التحكيم
يتقبّله أو يستسيغه قائد الاُمّة الإسلاميّة . وهذا ما جعل الإمام يقاوم طلباتهم بكلّ قوّة ، ويقول : "أنا فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجترئ عليها أحدٌ غيرى" . |
||||||||||||||||