الصفحة الرئيسية

المكتبة المختصة

فهرس المجلد السابع

 

 

١٤٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد

٩ / ١

إنّ أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت

٢٨٦٩ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ من خطبة له  ¼ فى ذمّ العاصين من أصحابه ـ : أحمد الله علي ما قضي من أمر ، وقدّر من فعل ، وعلي ابتلائى بكم أيّتها الفرقة التى إذا أمرتُ لم تُطِع ، وإذا دعوتُ لم تُجِب . إن اُمهلتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم ، وإن اجتمع الناس علي إمام طعنتم ، وإن اُجئتم إلي مُشاقّة نكصتم .

لا أبا لغيركم ! ما تنتظرون بنصركم والجهاد علي حقّكم ؟ الموت أو الذلّ لكم ؟ فو الله لئن جاء يومى ـ وليأتينّى ـ ليفرّقنّ بينى وبينكم وأنا لصحبتكم قال ، وبكم غير كثير .

لله أنتم ! أ ما دين يجمعكم ! ولا حميّة تشحذكم ! أ وَليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطَّغام فيتّبعونه علي غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم ـ وأنتم

 ١٤٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني

تريكة الإسلام ، وبقيّة الناس ـ إلي المعونة أو طائفة من العطاء ، فتَفَرّقون عنّى وتختلفون علىَّ ؟ !

إنّه لا يخرج إليكم من أمرى رضيً فترضونه ، ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإنّ أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت ! قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوَّغتكم ما مججتم ، لو كان الأعمي يلحظ ، أو النائم يستيقظ ! وأقرِب بقوم ـ من الجهل بالله ـ قائدهم معاوية ! ومؤدّبهم ابن النابغة !(١)

٩ / ٢

اللهمّ مللتهم وملّونى

٢٨٧٠ ـ الغارات عن أبى صالح الحنفى : رأيت عليّاً  ¼ يخطب وقد وضع المصحف علي رأسه حتي رأيت الورق يتقعقع علي رأسه .

قال : فقال : اللهمّ قد منعونى ما فيه فأعطنى ما فيه ، اللهمّ قد أبغضتهم وأبغضونى ، ومللتهم وملّونى ، وحملونى علي غير خلقى وطبيعتى وأخلاق لم تكن تُعرَف لى ، اللهمّ فأبدلنى بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بى شرّاً منّى ، اللهمّ مُثّ(٢) قلوبهم كما يُماثّ الملح فى الماء(٣) .

٢٨٧١ ـ الغارات عن ابن أبى رافع : رأيت عليّاً  ¼ قد ازدحموا عليه حتي أدمَوا


(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٠ ; تاريخ الطبرى : ٥ / ١٠٧ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٤١٣ كلاهما نحوه إلي "تختلفون عليَّ" .
(٢) ماث : ذاب (مجمع البحرين : ٣ / ١٧٣٤) .
(٣) الغارات : ٢ / ٤٥٨ ; أنساب الأشراف : ٣ / ١٥٦ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٥٣٤ كلاهما نحوه وراجع الفتوح : ٤ / ٢٣٧ .

 ١٤٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني

رجله . فقال : اللهمّ قد كرهتهم وكرهونى ، فأرِحنى منهم وأرِحهم منّى(١) .

٢٨٧٢ ـ تاريخ الإسلام عن محمّد ابن الحنفيّة : كان أبى يريد الشام ، فجعل يعقد لواءه ثمّ يحلف لا يحلّه حتي يسير ، فيأبي عليه الناس ، وينتشر عليه رأيهم ويجبنون ، فيحلّه ويُكفّر عن يمينه ، فعل ذلك أربع مرات ، وكنت أري حالهم فأري ما لا يسرّنى . فكلّمت المِسْوَر بن مَخْرَمة يومئذ ، وقلت : أ لا تكلّمه أين يسير بقوم لا والله ما أري عندهم طائلا ؟ قال : يا أبا القاسم ، يسير لأمر(٢) قد حُمّ(٣) ، قد كلَّمته فرأيته يأبي إلاّ المسير .

قال ابن الحنفيّة : فلمّا رأي منهم ما رأي قال : اللهمّ إنّى قد مللتهم وقد ملّونى ، وأبغضتهم وأبغضونى ، فأبدلنى خيراً منهم ، وأبدلهم شرّاً منّى(٤) .

٢٨٧٣ ـ الإمام علىّ  ¼ ـ فى خطبته  ¼ عند وصول خبر الأنبار إليه ـ : أمَ والله لوددت أنّ ربّى قد أخرجنى من بين أظهركم إلي رضوانه ، وإنّ المنيّة لترصدنى ، فما يمنع أشقاها أن يخضبها ؟ ـ وترك يده علي رأسه ولحيته ـ عهد عهده إلىّ النبىّ الاُمّىّ ، وقد خاب من افتري ، ونجا من اتّقي وصدّق بالحسني(٥) .

٢٨٧٤ ـ عنه  ¼ : يا أهل الكوفة ! خذوا اُهبتكم لجهاد عدوّكم معاوية وأشياعه . قالوا : يا أمير المؤمنين ، أمهلنا يذهب عنّا القرّ .

فقال : أمَ والله الذى فلق الحبّة وبرأ النسمة ، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس


(١) الغارات : ٢ / ٤٥٩ ; أنساب الأشراف : ٣ / ٢٥٠ وزاد فى آخره "فما بات إلاّ تلك الليلة" .
(٢) فى المصدر : "الأمر" ، والصحيح ما أثبتناه كما فى الطبقات الكبري .
(٣) حُمّ هذا الأمر : قُضِى (لسان العرب : ١٢ / ١٥١) .
(٤) تاريخ الإسلام للذهبى : ٣ / ٦٠٦ ، الطبقات الكبري : ٥ / ٩٣ .
(٥) الإرشاد : ١ / ٢٨٠ ، الاحتجاج : ١ / ٤١٣ / ٨٩ .

 ١٤٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني

بأنّهم أولي بالحقّ منكم ، ولكن لطاعتهم معاوية ومعصيتكم لى . والله لقد أصبحت الاُمم كلّها تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أنا أخاف ظلم رعيّتى ، لقد استعملت منكم رجالاً فخانوا وغدروا ، ولقد جمع بعضهم ما ائتمنته عليه من فىء المسلمين فحمله إلي معاوية ، وآخر حمله إلي منزله تهاوناً بالقرآن ، وجرأة علي الرحمن ، حتي لو أنّنى ائتمنت أحدكم علي علاقة سوط لخاننى ، ولقد أعييتمونى !

ثمّ رفع يده إلي السماء فقال : اللهمّ إنّى قد سئمت الحياة بين ظهرانى هؤلاء القوم ، وتبرّمت الأمل . فأتِح لى صاحبى حتي أستريح منهم ويستريحوا منّى ، ولن يُفلحوا بعدى(١) .

٢٨٧٥ ـ نهج البلاغة : من خطبة له  ¼ وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية علي البلاد ، وقدم عليه عاملاه علي اليمن ، وهما عبيد الله بن عبّاس وسعيد بن نمران لمّا غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة ، فقام  ¼ علي المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ، ومخالفتهم له فى الرأى فقال : ما هى إلاّ الكوفة ، أقبضها وأبسطها ، إن لم تكونى إلاّ أنتِ تهبّ أعاصيركِ فقبّحكِ الله !

وتمثّل بقول الشاعر :

لعمرُ أبيك الخير يا عمرو إنّنى علي وَضَر(٢) من ذا الإناء قليلُ

ثمّ قال  ¼ : اُنبئت بُسراً قد اطّلع اليمن ، وإنّى والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيُدالون(٣) منكم باجتماعهم علي باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم


(١) الإرشاد : ١ / ٢٧٧ .
(٢) الوَضَر : وسخ الدَسَم واللبن أو غسالة السقاء والقصعة ونحوهما (القاموس المحيط : ٢ / ١٦٠) .
(٣) من الإدالة : الغَلَبة (النهاية : ٢ / ١٤١) .

 ١٤٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني

إمامكم فى الحقّ ، وطاعتهم إمامهم فى الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلي صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم فى بلادهم وفسادكم .

فلو ائتمنت أحدكم علي قَعْب(١) لخشيت أن يذهب بعلاقته .

اللهمّ إنّى قد مللتهم وملّونى ، وسئمتهم وسئمونى ، فأبدِلنى بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بى شرّاً منّى ، اللهمّ مُثّ قلوبهم كما يُماثّ الملح فى الماء ، أما والله لوددت أنّ لى بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم .

هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميمِ

ثمّ نزل  ¼ من المنبر(٢) .

٢٨٧٦ ـ البداية والنهاية عن زهير بن الأرقم : خطبنا علىّ يوم جمعة ، فقال : نبّئت أنّ بسراً قد طلع اليمن ، وإنّى والله لأحسب أنّ هؤلاء القوم سيظهرون عليكم ، وما يظهرون عليكم إلاّ بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم ، وخيانتكم وأمانتهم ، وإفسادكم فى أرضكم وإصلاحهم ، قد بعثت فلاناً فخان وغدر ، وبعثت فلاناً فخان وغدر ، وبعث المال إلي معاوية ، لو ائتمنت أحدكم علي قدح لأخذ علاقته ، اللهمّ سئمتهم وسئمونى ، وكرهتهم وكرهونى ، اللهمّ فأرحهم منّى وأرحنى منهم .

قال : فما صلّي الجمعة الاُخري حتي قُتل رضى الله عنه وأرضاه(٣) .

راجع : القسم الثامن / إخبار الإمام باستشهاده / ما ينتظر أشقاها ؟ !


(١) القَعْبُ : القَدَح الصخمُ ، الغلِيظُ ، الجافى (لسان العرب : ١ / ٦٨٣) .
(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٢٥ ، الغارات : ٢ / ٦٣٥ نحوه إلي "فى الماء" .
(٣) البداية والنهاية : ٧ / ٣٢٦ ، تاريخ دمشق : ٤٢ / ٥٣٥ نحوه .


إرجاعات 
٢٠٥ - المجلد السابع / القسم الثامن : استشهاد الإمام عليّ / الفصل الثاني : إخبار الإمام باستشهاده / ما ينتظر أشقاها ؟

 ١٥٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني

 ١٥١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام

٢٨٧٧ ـ نهج البلاغة : رُوى عن نَوْف البكالى قال : خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علىّ  ¼ بالكوفة وهو قائم علي حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ، وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف ، وفى رجليه نعلان من ليف ، وكأنّ جبينه ثفنة بعير . فقال  ¼ :

الحمد الله الذى إليه مصائر الخلق ، وعواقب الأمر . نحمَده علي عظيم إحسانه ونيّر برهانه ، ونوامى فضله وامتنانه ، حمداً يكون لحقّه قضاءً ، ولشكره أداءً ، وإلي ثوابه مقرّباً ، ولحسن مزيده موجباً . ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطول ، مذعن له بالعمل والقول . ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً ، وأناب إليه مؤمناً ، وخنع له مذعناً ، وأخلص له موحّداً ، وعظّمه ممجّداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً .

لم يُولَد سبحانه فيكون فى العزّ مشارَكاً ، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً . ولم يتقدّمه وقت ولا زمان . ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقَن والقضاء المبرَم .

 ١٥٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام

فمن شواهد خلقه خلق السموات موطّدات بلا عَمَد ، قائمات بلا سَنَد . دعاهن فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطِئات . ولولا إقرارهنّ له بالربوبية وإذعانهنّ بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكته ، ولا مَصعَداً للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه . جعل نجومها أعلاماً يستدلّ بها الحيران فى مختلف فِجاج(١) الأقطار . لم يمنع ضوء نورها ادلهمامّ سجف الليل المظلم . ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع فى السموات من تلألؤ نور القمر .

فسبحان من لا يخفي عليه سواد غَسَق داج ولا ليل ساج فى بقاع الأرَضين المتطأطئات ، ولا فى يَفاع السُّفْع(٢) المتجاورات . وما يتجلجل به الرعد فى اُفق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها ، ومسحب الذرة ومجرّها ، وما يكفى البعوضة من قوتها ، وما تحمل الاُنثي فى بطنها .

الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسى أو عرش ، أو سماء أو أرض أو جانّ أو إنس ، لا يُدرَك بوَهْم ، ولا يُقدَّر بفهم . ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ، ولا يَنْظر بعين ، ولا يُحدّ بأين . ولا يُوصَف بالأزواج ، ولا يُخلَق بعلاج . ولا يُدرَك بالحواسّ . ولا يقاس بالناس . الذى كلّم موسي تكليماً ، وأراه من آياته عظيماً . بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات .

بل إن كنت صادقاً أيّها المتكلّف لوصف ربّك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقرّبين فى حُجُرات القُدُس مُرْجَحِنّين(٣) ، متولّهة عقولهم أن يحدّوا


(١) الفِجَاج : جمع فجّ ; وهو الطريق الواسع (النهاية : ٣ / ٤١٢) .
(٢) اليَفاع : المرتفع من كلّ شىء . والسُّفعة : نوع من السواد ليس بالكثير (النهاية : ٥ / ٢٩٩ وج٢ / ٣٧٤) والمراد بها الجبال .
(٣) ارجَحنَّ الشيءُ : إذا مالَ من ثِقلَه وتحرَّك (النهاية : ٢ / ١٩٨) .

 ١٥٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام

أحسن الخالقين . فإنّما يُدرَك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضى إذا بلغ أمد حدّه بالفناء ; فلا إله إلاّ هو ، أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور .

اُوصيكم عبادَ الله بتقوي الله الذى ألبسكم الرِّياش(١) وأسبغ عليكم المعاش . ولو أنّ أحداً يجد إلي البقاء سُلّماً ، أو إلي دفع الموت سبيلاً ، لكان ذلك سليمان بن داود  ¼ الذى سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة ، فلمّا استوفي طعمته ، واستكمل مدّته ، رمتْهُ قِسِىّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطّلة ، وورثها قوم آخرون ، وإنّ لكم فى القرون السالفة لَعبرةً ! أين العمالقة وأبناء العمالقة ! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين ، وأطفؤوا سنن المرسلين ، وأحيَوا سنن الجبّارين ! وأين الذين ساروا بالجيوش وهَزَموا بالاُلوف . وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن .

ومنها : قد لبس للحكمة جنّتها ، وأخذها بجميع أدَبها من الإقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتفرّغ لها ; فهى عند نفسه ضالّته التى يطلبها ، وحاجته التى يسأل عنها ; فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، وضرب بعسيب(٢) ذَنَبه ، وألصق الأرضِ بِجِرانِه(٣) . بقيّة من بقايا حجّته ، خليفة من خلائف أنبيائه .

ثمّ قال  ¼ : أيّها الناس ! إنّى قد بثثت لكم المواعظ التى وعظ الأنبياء بها اُممهم ، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلي مَن بعدهم ، وأدّبتكم بسوطى فلم تستقيموا . وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا(٤) . لله أنتم ! أ تتوقّعون إماماً غيرى يطأ بكم


(١) الرِّياش : ما ظَهر من اللِّباس (النهاية : ٢ / ٢٨٨) .
(٢) عسيب الذنَب : مَنبِتُه من الجِلدِ والعظم (لسان العرب : ١ / ٥٩٩) .
(٣) الجِران ، مقدّم عنق البعير من المذبح إلي المنحر ، والبعير أقلّ ما يكون نفعه عند بروكه . وإلصاق جِرانه بالأرض كناية عن الضعف .
(٤) استَوسَقَ : استجمع وانضمّ . واستوسق عليه أمرهم : أى اجتَمَعُوا علي طاعَتِه (النهاية : ٥ / ١٨٥) .

 ١٥٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام

الطريق ، ويُرشِدكم السبيل ؟ ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً ، وأقبل منها ما كان مدبراً ، وأزمع(١) التَّرحال عبادَ الله الأخيار ، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقي بكثير من الآخرة لا يفني .

ما ضرَّ إخواننا الذين سُفِكت دماؤهم وهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء ؟ يُسيغون الغُصَص ويشربون الرَّنْق(٢) . قد ـ والله ـ لقُوا الله فوفّاهم اُجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم .

أين إخوانى الذين ركبوا الطريق ومضَوا علي الحقّ ؟ أين عمّار ؟ وأين ابن التَّيِّهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة ، واُبرد برؤوسهم إلي الفَجَرة .

قال : ثمّ ضرب بيده علي لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثمّ قال  ¼ : أوِّهْ علي إخوانى الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيَوا السُّنَّة وأماتوا البدعة . دُعُوا للجهاد فأجابوا ، ووثِقوا بالقائد فاتّبعوه .

ثمّ نادي بأعلي صوته : الجهادَ الجهادَ عباد الله ! ألا وإنّى معسكر فى يومى هذا ; فمن أراد الرواحَ إلي الله فليخرج !

قال نَوْف : وعقد للحسين  ¼ فى عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد فى عشرة آلاف ، ولأبى أيّوب الأنصارى فى عشرة آلاف ، ولغيرهم علي أعداد اُخر وهو يريد الرجعة إلي صفّين ، فما دارت الجمعة حتي ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله ، فتراجعت العساكر ، فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان(٣) .


(١) أزمع : عدا وخفّ (لسان العرب : ٨ / ١٤٣) .
(٢) ماٌ رَنْق : كَدِرٌ (لسان العرب : ١٠ / ١٢٧) .
(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٢ ، بحار الأنوار : ٤ / ٣١٣ / ٤٠ .

 ١٥٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل

عرفنا فى القسم الخامس أنّ الإمام أمير المؤمنين  ¼ حظى بتأييد شعبى واسع ، ووصل إلي الخلافة عبر انتخابات حرّة ، حتي بلغ من إقبال الناس علي بيعته وفرحهم بها أنّه قال فى وصفها : "أقْبَلتم إلىّ إقبال العوذ المطافيل علي أولادها"(١).

كما قرأنا فى هذا الفصل أنّ الجماهير راحت تبتعد عن الإمام تدريجيّاً ولمّا تمضِ مدّة قصيرة علي حكمه ، حيث فقد حماية وتأييد أغلبهم ; ففى الأيّام الاُولي ـ من عهد الإمام السياسىّ ـ نقض بعض الناس البيعة فخرجوا مع ثلّة من السبّاقين إلي بيعة الإمام ليثيروا حرب الجمل . علي خطٍّ آخر بادر جمع من الشخصيّات المعروفة ذات التأثير الشعبى البارز للالتحاق بمعاوية ، كما انفصل آخرون عن صفّ الإمام وقرّروا اتّخاذ موقف الحياد .

هكذا راح يتضاءل التأييد الشعبى لحكم الإمام يوماً بعد آخر ، بحيث لم يفقد


(١) راجع : القسم الخامس / بيعة النور / إقبال الناس علي البيعة .

 ١٥٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل

الحكم العلوى ذلك التأييد الجماهيرى العارم الذى برز فى الأيّام الاُولي للبيعة فحسب ، بل انقلب التأييد إلي معارضة! حتي آلَ الأمر فى نهاية المطاف إلي أن يعيش الإمام الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً وهو يشكو مرارة غربته ، وعصيان أصحابه ، وعدم طاعتهم .

إشكاليّة الموضوع:

تكمن إشكاليّة الموضوع فى الأسئلة الأساسيّة التالية :

ـ ما هى الأسباب وراء ابتعاد أكثريّة الناس عن الإمام على  ¼ ؟

ـ لماذا لم يستطع الإمام أن يحافظ علي تأييد أغلبيّة الجمهور لحكمه؟

ـ لماذا حلّت الفرقة بين الجماهير خلال حكم الإمام ، ولم يستطع إيجاد وحدة الكلمة بين صفوف الجماهير التى بايعته؟

ـ لماذا صار الإمام أواخر حياته يبثّ شكواه علي الدوام من عدم حماية الناس لحركته الإصلاحيّة ، وهو يقول : "هيهات أن أطلع بكم سرار العدل" ، ويقول : "اُريد اُداوى بكم وأنتم دائى" ،

ويقول : "مُنيت بمن لا يطيع" ،

ويقول : "لا غناء فى كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم!" ،

ويقول : "لو كان لى بعدد أهل بدر" ،

ويقول : "وددت أنّى أبيع عشرة منكم برجل من أهل الشام!" .

وبكلمة مختصرة : ما هو سبب إدبار عامّة الناس عن الحكم العلوى بعد ذلك الإقبال منقطع النظير الذى حظى به الإمام يوم البيعة؟

 ١٥٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل

ـ أليس فى انفضاض الناس عن الإمام وبقائه وحيداً ما يدلّ علي عدم إمكانيّة ممارسة الحكم عمليّاً وفق اُصول المنهج السياسى العلوى ، وأنّه لا مكان للمدينة العلويّة الفاضلة إلاّ فى دنيا الخيال؟

قبل أن نلجأ للإجابة علي هذه الأسئلة وبيان أسباب بقاء الإمام وحيداً ، من الضرورى الإشارة إلي نقطتين :

أ : دور الخواصّ فى التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة

لقد كان للخواصّ علي مرّ التأريخ ـ ولا يزال ـ الدور الأكبر فى التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التى يشهدها أىّ مجتمع(١) ، فالنخب هى التى تأخذ موقع الجمهور فى العادة وتقرّر بدلاً منه ، علي حين ليس للجمهور ـ فى الأغلب ـ إلاّ اتّباع تلك النخب والانقياد لها . وقد تُرتّب النخبُ المشهد ـ أحياناً ـ بصيغة بحيث تتوهّم الجماهير أنّها صاحبة القرار!

ففى عصر كصدر الإسلام كان لرؤساء القبائل الدور المحورى فى التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة . وفى عصر آخر صار ذلك التأثير إلي النخب الفكريّة وقادة الأحزاب . أما فى العصر الحاضر فإنّ الذى يتحكّم بالجمهور ويوجّهه ويصوغ قراراته هم كبار المشرفين علي الشبكات الخبريّة ، وأجهزة الاتّصال المختلفة ، والقنوات والنظم الإعلاميّة ، وأصحاب الجرائد ، والصحفيّون .

ب : دور أهل الكوفة فى حكم الإمام

يحتلّ العراق فى الجغرافيّة السياسيّة لعصر صدر الإسلام موقع الجسر الذى يربط شرق العالم الإسلامى بغربه ، كما يعدّ مصدراً لتزويد السلطة المركزيّة بما


(١) راجع كتاب "ميزان الحكمة" : الفساد / باب ٣٢٠٢ دور فساد الخاصة فى فساد العامة .

 ١٥٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل

تحتاج إليه من جند وقوّات عسكريّة . وفى العراق تحظي الكوفة بموقع خاصّ ، وحساسيّة كبري .

لقد مُصِّرت الكوفة عام ١٧ هـ ; لتكون مقرّاً للجند ، حيث تقارَنَ تمصير هذه المدينة مع إيجاد معسكرات كبري للجند .

بهذا يتّضح أنّ الكوفة هى قاعدة عسكريّة ، ومن ثمّ فإنّ من يسكنها لم يكن يفكّر بأكثر من القتال والبعوث وفتح البلدان والحصول علي الغنائم وغير ذلك ممّا له صلة بهذه الدائرة .

لقد كان من سكن الكوفة بعيداً عن المدينة المنوّرة التى تحتضن أكثريّة الصحابة ، كما أنّ تردّد الصحابة علي هذا المصر كان قليلاً أيضاً ، إذ سار عمر بسياسة تقضى أن لا يتوزّع الصحابة فى الأمصار بل يبقون فى المدينة من حوله(١) . علي هذا الأساس لم يحظَ الكوفيّون بالمعرفة الدينيّة اللازمة ، وظلّ حظّهم ضئيلاً من تعاليم الشريعة والعلوم الدينيّة .

لقد تحدّث عمر صراحةً إلي من رغب من الصحابة قصدَ الكوفة ، ونهاهم عن تعليم الحديث ; لئلاّ يضرّوا اُنس هؤلاء بالقرآن(٢) .

هذا وقد برزت فى الكوفة طبقة عُرفت بـ "القرّاء" ، ألّفت فيما بعد البذور التأسيسيّة لتيّار الخوارج .

ثم نقطة أساسيّة اُخري تتمثّل بالنسيج القبائلى الموجود فى الكوفة وهيمنة الطباع القبليّة ، وثقافة القبيلة وموازينها علي مجتمع الكوفة ، ففى إطار نسيج ثقافىّ كهذا تكون الكلمة الفصل لرئيس القبيلة ، أما البقيّة فهم تبع له ، من دون أن


(١) المستدرك علي الصحيحين : ١ / ١٩٣ / ٣٧٤ .
(٢) كنزل العمّال : ١ / ٢٩٢ / ٢٩٤٧٩ .

 ١٥٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل

تكون لهم حرّية الاختيار .

بضمّ هاتين المقدّمتين لبعضهما نخلص إلي هذه النتيجة : عندما نقول : "إنّ الناس انفضّوا عن الإمام على  ¼ وتركوه وحيداً" فما نقصده بذلك هو تخلّى الخواصّ والنخب ورؤساء قبائل الاُمّة الإسلاميّة عنه ، بالخصوص أهل العراق ، وبخاصّة أهل الكوفة .

وفيما يلى نعرض دراسة أسباب هذه الظاهرة ، وكيف بقى الإمام وحيداً ، من خلال ما ورد علي لسان الإمام أمير المؤمنين  ¼ .

غربة الإمام علي لسانه

ذكرنا قبل ذلك أنّ الإمام علياً  ¼ استطاع أن يعكس فى أيّام حكمه القصير أبهي صورة للحكم القائم علي أساس القيم الإنسانيّة . فالنهج العلوى فى الحكم لم يكن يستقطب إليه المؤمنين بالقيم الإسلاميّة فحسب ، بل كان ـ ولا يزال ـ يجذب إلي دائرة نفوذه حتي أولئك الذين لا يدينون بهذه القيم من بنى الإنسان .

لذلك كلّه لا يمكن أن يكون سبب انفضاض الناس عن الإمام كامناً بخطأ منهجه فى الحكم ، بل ثم لذلك أدلّة اُخري .

لقد بيّن الإمام نفسه أسباب إدبار الجمهور عن حكمه بعد أن كانوا أقبلوا عليه ، وكشف بالتفصيل دوافع إحجام المجتمع عن برنامجه الإصلاحى ، كما وضع يده علي الجذر الذى تنتهى إليه الاختلافات التى عصفت بالمجتمع ، والاضطرابات التى برزت أيّام حكمه .

وفيما يلى نقدّم أجوبة الإمام علي هذه النقاط :

 ١٦٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل

 ١٦١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تضادّ الإرادات

( ١ )

يبرز السبب الأوّل فى ابتعاد الناس عن الإمام بذلك الاختلاف الأساسى الذى ظهر بين الرؤي ، والتضادّ المبدئى الذى حصل بين دوافع القوم وأهدافهم ; فلم يكن دافع أغلب الذين ثاروا علي عثمان ـ لا سيما بعض قادة الحركة مثل طلحة والزبير ـ هو إعادة المجتمع إلي سيرة النبىّ وسنّته ، واستئناف القيم الإسلاميّة الأصيلة ، بل كان الباعث علي ذلك هو ضجر هؤلاء من الاستئثار القبلى والحزبى الذى مارسه بنو اُميّة وفى طليعتهم عثمان . وبذلك لم يكن هدف هؤلاء من قتل عثمان ومبايعة الإمام على  ¼ يتخطّي هذه النقطة ، حيث لبثوا بانتظار حلّ الإمام لهذه المشكلة .

أمّا الإمام ، فقد كان له فى قبول الحكم هدف وباعث آخر ، فقد كان يهدف من وراء الاستجابة أن يعيد المجتمع إلي سيرة النبىّ  ½ وسنّته ، ويبادر إلي إحياء القيم الإسلاميّة ، ويطلق حركة إصلاحيّة عميقة وواسعة فى المجتمع والدولة تطال جميع المرافق الإداريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة .

وخلاصة الكلام أنّ مطامح الجمهور كانت شخصيّة ، وما يريده الإمام كان

 ١٦٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تضادّ الإرادات

إلهيّاً . فبينما كانت الناس تدور حول منافعها الشخصيّة ، كان الإمام يسعي إلي استئناف القيم الإسلاميّة وتطبيقها . وهذا ما أشار إليه بقوله  ¼ : "و ليس أمرى وأمركم واحداً ; إنّى أريدكم لله ، وأنتم تريدوننى لأنفسكم" .

فى أجواء كهذه ، عندما لمس الناس أنّ الإمام لا يتواءم وإيّاهم فى الهدف ، راحوا يتخلّون عن مساندته . ثمّ بمرور الزمان ، وكلّما اتّضحت دوافع الإمام فى العمل أكثر راح تأييد الناس يتضاءل ، وتتّسع الفجوة بينهم وبين الإمام .

 ١٦٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

( ٢ )

لقد كان لرؤساء القبائل فى العهد العلوى الدور الأبرز فى اتّخاذ القرار ، والتأثير علي أغلبيّة الجمهور . ولم تؤتِ جهود الإمام ثمارها المرجوّة علي صعيد الارتقاء بهؤلاء فكريّاً ، من خلال تصحيح نظرتهم إلي الحقّ ، بحيث يعرفون الحقّ بمعيار الحقّ ، لا بمعيار الرجال الذين يَكنّون لهم الاحترام(١) .

لقد صارت هذه الأجواء ـ التى تقف حائلاً صلباً دون تحقّق الإصلاحات الأساسيّة ـ تلقى فى نفس الإمام الألم والمضاضة .

وممّا جاء عن الإمام فى تحليل هذا الفضاء الاجتماعى الذى يبعث علي الملالة ، قوله  ¼ : "الناس ثلاثة : فعالم ربّانى ، ومتعلّم علي سبيل نجاة ، وهمج رعاع ; أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلي ركن وثيق"(٢) .


(١) راجع : القسم الخامس / السياسة الثقافيّة / الالتزام بالحقّ فى معرفة الرجال .
(٢) نهج البلاغة : الحكمة ١٤٧ .


إرجاعات 
١٦٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام علي / الفصل الرابع : السياسة الثقافيّة / الالتزام بالحقّ في معرفة الرجال

 ١٦٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

يقسّم هذا النص العلوى الناسَ فى انتخاب طريق الحياة إلي ثلاثة أقسام ، هى :

القسم الأوّل : العلماء الذين عرفوا طريق الحياة الصحيح ، حيث يطلق الإمام علي هؤلاء وصف "العالم الربّانى" .

القسم الثانى : هم ذلك الفريق من الناس الذى يسعي لمعرفة الطريق الصحيح ، ويتحرّك باتّجاه معرفة الحقّ ، وهؤلاء فى الوصف العلوى "متعلّمون علي سبيل نجاة" .

أمّا القسم الثالث فلا هو بالذى يعرف الطريق الصحيح للحياة ، ولا هو يبذل سعيه فى سبيل معرفته ، بل يتمثّل معياره فى اتّخاذ القرار واختيار النهج الذى يسلكه بالتقليد الأعمي للخواصّ ، واتّباع الشخصيّات دون بصيرة ، وهؤلاء هم "الهمج الرعاع" .

إنّ معني "الهمج" هو الذباب الصغير الذى يحطّ علي وجه الغنم أو الحمير ، و"الرعاع" بمعني الأحمق والتافه الذى لا قيمة له . فشبّه التحليل العلوى أولئك الذين لا يعرفون طريق الحياة الصحيح ، ولا يسمحون لأنفسهم بالتفكير به ، بل غاية حظّهم اتّباع الآخرين اتّباعاً أعمي ، شبّههم بالذباب ; إذ هم يحيطون بجاهل أكبر منهم يستمدّون منه ، وهو يغذوهم!

إنّ أمثال هؤلاء لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وعقيديّة متينة ، وهم يتّبعون الغير من دون تفحّص لكونه حقّاً أو باطلاً ، بل يتّبعونه لمحض كونه رئيس قبيلة ، أو قائد حزب ، أو شخصيّة تحظي بالاحترام بالنسبة إليهم ، فهم كالذباب تماماً ; كلّما تحرّكت الريح من جانب تحرّك معها .

 ١٦٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

والذى يبعث علي ألم الإمام وتوجّعه أنّ أغلب من يعاصره من الناس كان من القسم الثالث . فقد كان علىٌّ يعيش وسط جمهور ليس من أهل المعرفة والتشخيص ، ولا هو ممن يتحرّي المعرفة ويتحرّك فى مسار البحث والتحقيق . بيد أن الأمضّ علي الإمام فى ذلك كلّه أنّه  ¼ قلّما كان يعثر علي من يباثّه همومه ، ويتحدّث إليه بمثل هذه المصائب الاجتماعيّة .

أجل ، لم يكن مع علىّ من يستطيع أن يُفصح له بحقيقة من يعيش معهم ، وعلامَ يمارس حكمه . وعندما أراد مرّة أن يُفصح بخبيئة نفسه لكميل بن زياد ـ وهو من خواصّه وممّن يطيق سماع تحليله المتوجّع للوضع القائم ـ تراه أخذ بيده ، وصار به إلي الصحراء ، وبالحزن الممزوج بالألم أشار إليه أنّه لا يستطيع أن يتحدّث بهذا الكلام لكلّ أحد ; لعدم قدرة الجميع علي تحمّله ، وأنّه كلما حظى الإنسان بقاعدة فكريّة أكبر واُفق معنوى أوسع ، كان ذا قيمة أكثر ، ثمّ بعد ذلك حدّثه بسرّ انفضاض الناس عن نهجه ، وانكفائهم عنه ، وتنكّبهم عن برنامجه الإصلاحى ، حيث ذكر له أنّ المشكلة الأساسيّة فى ذلك تعود إلي جهل الناس ، واتّباعهم الأعمي للخواصّ ممن هو خائن أو جاهل .

صراحة أكثر فى بيان الانحراف

تناول الإمام فى حديث خاصّ مشكلاته مع الناس بصراحة أكثر ، ففى هذا الحديث ـ الذى أدلي به الإمام إلي عائلته وعدد من خواصّه ـ أوضح أين تكمن جذور الفتنة ، ولماذا ابتلى المجتمع الإسلامى بالفرقة والاختلاف علي عهده ، ولماذا لم يستطِع تنفيذ برنامجه لإصلاح المجتمع وإعادته إلي سيرة النبى  ½ وسنّته ، وأخيراً لماذا لم ينهض الجمهور لتأييد سياسته والدفاع عنها .

لقد بدأ أمير المؤمنين  ¼ كلامه ـ فى المجلس المذكور ـ بالحديث النبوى

 ١٦٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

التالى : "ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خُلّتان : اتّباع الهوي ، وطول الأمل" ،

ثم أوضح أنّ الفتن السياسيّة التى دفعت المجتمع الإسلامى إلي الفرقة والاختلاف ، وأدّت به إلي الانقسام والتوزّع إلي ولاءات وخطوط مختلفة ، إنّما تكمن جذورها فى المفاسد الأخلاقيّة ، والأثرة ، وضروب البدع والأهواء . وفى هذا يفيد النصّ العلوى : "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبع ، وأحكام تُبتدع يخالف فيها حكم الله ، يتولّي فيها رجالٌ رجالاً" .

وهكذا تتبدّل الأهواء والأنانيات إلي بدع ضدّ الدين ، لكنّها متلبّسة بدثار الدين . ثم تنشأ فى هذا الاتّجاه البُؤر المتعصّبة ، والتجمّعات العمياء ، وتتبدّل الفتنة الأخلاقيّة إلي فتنة ثقافيّة ، ثمّ إلي فتنة سياسيّة واجتماعيّة ، حيث يسعي أصحاب الفتنة إلي تسويغ مقاصدهم من خلال استغلال نصاعة الحق .

يقول  ¼ : "ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلص لم يخفَ علي ذى حجي ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث" .

ثمّ يواصل أمير المؤمنين استعراضه الموقف . فبعد مرور جيل تستحكم البدعة ، وترسخ مواقعها بدلاً من السنّة بحيث صار يستعصى عمليّاً معرفة السنّة مجدّداً . وفى هذا المضمار يستعين الإمام بحديث من السنّة النبويّة ـ حيث كان رسول الله  ½ قد تنبّأ بشيوع مثل هذه الأجواء وسط المجتمع الإسلامى ـ وهو يقول : "إنّى سمعت رسول الله يقول : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، يجرى الناس عليها ، ويتّخذونها سنّة ، فإذا غُيِّر منها شىء قيل : قد غُيّرت السنّة" .

فى فضاء ثقافى مثل هذا تتعذّر الإصلاحات الجذريّة ، وتستعصى عمليّاً عمليّة العودة إلي السنّة النبويّة .

 ١٦٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

بعد بيان هذه المقدمة انعطف الإمام صوب جوهر القضيّة ، وراح يعدّد صراحة عدداً من البدع التى شاعت فى المجتمع الإسلامى ممّا ورثه من السابقين عليه ، ثم أكّد بألم أن ليس فى وسعه أن يفعل شيئاً فى هذا المجال ; لأنّ مواجهة هذه الانحرافات الثقافيّة تنتهى بتفرّق الجند عنه وبقائه وحيداً ، فقال  ¼ : "و لو حملتُ الناس علي تركها وحوّلتها إلي مواضعها وإلي ما كانت فى عهد رسول  ½ لتفرّق عنّى جندى ، حتي أبقي وحدى ، أو قليل من شيعتى"(١) .

إتمام الحجّة علي الخواصّ والعوامّ

إنّ ما ذكره الإمام مجملاً إلي كميل بن زياد ـ فى الصحراء ـ من خطر خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام ، وما كان قد أشار إليه بهذا الشأن فى مجلس خاصّ جمع فيه عدّة من المقرّبين والأتباع المخلصين ، عاد لاستعراضه تفصيلاً أمام جمهور الناس فى خطبة طويلة ألقاها فى الأشهر الأخيرة من حكمه ، حيث أتمّ بذلك الحجّة علي الخواصّ والعوامّ معاً .

لقد استعرض الإمام فى كلامه هذا ـ الذى حمل عنوان "الخطبة القاصعة"(٢) والتى أدلي بها بعد معركة النهروان كما يتّضح من متنها ـ نقاطاً أساسيّة علي غاية قصوي من الأهميّة ترتبط بمعرفة المجتمع المعاصر له ، وعلل انكسار النهضات


(١) راجع : القسم الخامس / الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الإصلاحات .
(٢) قال ابن أبى الحديد: يجوز أن تسمّي هذه الخطبة "القاصعة" من قولهم: قصعت الناقة بجرّتها، وهو أن تردّها إلي جوفها، أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها، فلما كانت الزواجر والمواعظ فى هذه الخطبة مردّدة من أوّلها إلي آخرها، شبّهها بالناقة التى تقصع الجرّة. ويجوز أن تسمّي "القاصعة" لأنها كالقاتلة لإبليس وأتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة، إذا هشمتها وقتلتها. ويجوز أن تسمّي "القاصعة" لأن المستمع لها المعتبر بها يذهب كبره ونخوته ، فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أى أذهبه وسكّنه (شرح نهج البلاغة، ١٣ : ١٢٨).

 ١٦٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

الدينيّة قبل الإسلام ، ثم ما يتصل بالتنبؤ بمستقبل المسلمين ومآل الإسلام .

تحذير للخواصّ

فى هذا الخطاب وبعد أن عرّج الإمام علي المصير الذى آل إليه إبليس بعد ستّة آلاف سنة من العبادة ، انعطف إلي النخب التى لها فى خدمة الإسلام سابقة مشرقة ، وراح يحذّرها من أن تؤول إلي المصير نفسه ، وهو يقول : "فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوَّ الله أن يُعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه!" .

ولكى لا تُبتلي الاُمة بهذا المصير يتحتّم عليها أن تكفّ عن العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، وعن التكبّر ، فقال  ¼ : "فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، فإنّما تلك الحميّة تكون فى المسلم من خطرات الشيطان ، ونخواته ، ونزعاته ، ونفثاته . واعتمدوا وضع التذلّل علي رؤوسكم ، وإلقاء التعزّز تحت أقدامكم ، وخلع التكبّر من أعناقكم" .

تحذير للعوام

وفى إدامة خطابه راح الإمام يركّز بكثافة علي جماهير الناس ، وهو يحذّرها من السادة والكبراء ، فلو أنّ اُولئك لم ينثنوا عن علوّهم وتكبّرهم فلا ينبغى للجمهور أن يتّبعهم ، ويكون أداة يستغلّها الكبراء فى تحقيق أهدافهم اللامشروعة .

ثم ألفتَ نظر الجماهير إلي أن جميع الفتن وضروب الفساد تنبع من تلكم الرؤوس فقال : "ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبّروا عن حَسَبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم . . . ; فإنّهم قواعد العصبيّة ، ودعائم أركان الفتنة . . . وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتخذهم إبليس مطايا ضلال ،

 ١٦٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

وجنداً بهم يصول علي الناس" .

وبعد أن انتهي الإمام من بيان عدد من المقدّمات الضروريّة فى هذا المجال ، انعطف إلي بحث أخلاقى سياسى مهمّ ، وهو يتحدث عن الامتحانات الإلهيّة الصعبة ودورها فى تربية الإنسانيّة ، فقد أكّد أنّ فلسفة ما يلاقيه الإنسان من ضروب المحن والمصائب وما يعانيه من مشاقّ الحياة ، هى عين حكمة الصلاة والصوم والزكاة ، حيث أنّها تهدف أيضاً إلي بناء الإنسان معنويّاً ، وتزكيته من الرذائل الخلقيّة ، بالأخصّ الأثرة والكبر والغرور .

ثم دعا الناس أن يعتبروا بمصير النهضات الدينيّة التى سبقت الإسلام ، وما آلت إليه من انكسار إثر الفرقة والاختلاف ، فحذّرهم أن لا يجرّ كِبرُ الخواصّ وعلوّهم واتّباع العوامّ الحكومةَ الإسلاميّة إلي مصير مماثل لما انتهت إليه النهضات السابقة .

وعند هذه النقطة راح الإمام يدقّ أجراس الخطر بصراحة ، وهو يتمّ الحجة علي الخواصّ والعوامّ معاً ، بقوله لهم : "ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم ، بأحكام الجاهليّة . . . واعلموا أنّكم صِرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ; ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه . . . ألا وإنّكم قد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتُّم أحكامه"(١) .


(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢ .

 ١٧٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام

 ١٧١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع

( ٣ )

تكمن إحدي أهمّ أسباب ابتعاد الخواصّ عن الإمام والتفاف العوام حوله بسياسة العدالة الاقتصاديّة .

لطالما حضّ المقرّبون إلي الإمام أن يغضّ الطرف عن هذا النهج ، ليستحوذ علي ولاء رؤساء القبائل ، ويستقطب إليه نفوذ الشخصيّات البارزة من خلال منحهم مزايا ماديّة خاصّة . بيدَ أنّ الإمام كان يري أنّ هذا العرض يتنافي مع اُصول الحكم العلوى ، ويتعارض مع مرتكزاته ، ومن ثمّ فإنّ العمل به معناه أن ينفض الإمام أمير المؤمنين  ¼ يديه عن أهداف الحكم الإسلامى ، ويتخلّي عن غاياته . لذلك لم يُبدِ استعداداً لقبوله .

فيما يلى أمثلة لهذه العروض مقرونة بجواب الإمام عليها :

١ ـ جاء فى كتاب الغارات : شكا علىّ  ¼ إلي الأشتر فرار الناس إلي معاوية ، فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ، والرأى واحد ، وقد اختلفوا بعد ، وتعادوا ، وضعفت النيّة ، وقلّ العدل ، وأنت تأخذهم بالعدل ، وتعمل فيهم بالحقّ ، وتنصف الوضيع من الشريف ، وليس

 ١٧٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع

للشريف عندك فضل منزلة علي الوضيع ، فضجّت طائفة ممّن معك علي الحقّ إذ عمّوا به ، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه ، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغني والشرف ، فتاقت أنفس الناس إلي الدنيا ، وقلّ من الناس من ليس للدنيا بصاحب ، وأكثرهم من يجتوى الحقّ ، ويستمرى الباطل ، ويؤثر الدنيا . فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمِل إليك أعناق الناس ، وتصف نصيحتهم ، وتستخلص ودّهم . صنع الله لك يا أمير المؤمنين ، وكبتَ عدوّك ، وفضّ جمعهم ، وأوهن كيدهم ، وشتّت اُمورهم ، إنّه بما يعملون خبير .

فأجابه على  ¼ ، فحمد الله وأثني عليه ، وقال : أمّا ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل ، فإنّ الله يقول : ³ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَـلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ  ²  (١) وأنا من أن أكون مقصّراً فيما ذكرت أخوف .

وأمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك ، فقد علم الله أنّهم لم يفارقونا من جور ، ولم يُدعوا إذ فارقونا إلي عدل ، ولم يلتمسوا إلاّ دنياً زائلة عنهم كأن قد فارقوها ، وليُسألنّ يوم القيامة : أ للدنيا أرادوا أم لله عملوا؟

وأمّا ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال ، فإنّا لا يسعنا أن نؤتى أمرأً من الفىء أكثر من حقّه ، وقد قال الله وقوله الحقّ : ³ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ  ²  (٢) .

وبعث محمّداً  ½ وحده فكثّره بعد القلّة ، وأعزّ فئته بعد الذلّة ، وإن يرد الله أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه ، ويسهّل لنا حزنه(٣) . وأنا قابل من رأيك ما كان لله


(١) فصّلت : ٤٦ .
(٢) البقرة : ٢٤٩ .
(٣) الحَزْن : المكان الغليظ الخشن ، والحُزونة : الخشونة (النهاية : ١/٣٨٠) .

 ١٧٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع

رضيً ، وأنت من آمن أصحابى ، وأوثقهم فى نفسى ، وأنصحهم وأرآهم عندى(١) .

٢ ـ وفى الكتاب نفسه روي عن ربيعة وعمارة ما نصّه : إنّ طائفة من أصحاب على  ¼ مشوا إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش علي الموالى والعجم ، ومن تخاف خلافه من الناس وفراره . قال : وإنّما قالوا له ذلك للذى كان معاوية يصنع من أتاه .

فقال لهم على  ¼ : أ تأمرونى أن أطلب النصر بالجور؟! والله لا أفعل ما طلعت شمس ، وما لاح فى السماء نجم . والله ، لو كان ما لهم لى لواسيت بينهم ، فكيف وإنّما هى أموالهم؟!(٢) .

٣ ـ بعث سهل بن حنيف ـ والى الإمام علي المدينة ـ رسالة إليه ، يخبره فيها أنّ جمعاً من أهل المدينة التحق بمعاوية . فكتب الإمام فى جوابه :

"أمّا بعد ، فقد بلغنى أنّ رجالاً ممّن قبلك يتسلّلون إلي معاوية ، فلا تأسف علي ما يفوتك من عددهم ، ويذهب عنك من مددهم ، فكفي لهم غيّاً ولك منهم شافياً فرارهم من الهدي والحقّ ، وإيضاعهم إلي العمي والجهل ، وإنّما هُم أهل دنيا مقبلون عليها ، ومهطعون إليها ، وقد عرفوا العدل ورأوه ، وسمعوه ووعوه ، وعلموا أنّ الناس عندنا فى الحقّ اُسوة ، فهربوا إلي الأثَرة ، فبعداً لهم وسحقاً!!

إنّهم ـ والله ـ لم ينفروا من جور ، ولم يلحقوا بعدل ، وإنّا لنطمع فى هذا الأمر أن يذلّل الله لنا صعبه ، ويسهّل لنا حزنه ، إن شاء الله . والسلام"(٣) .


(١) الغارات : ١ / ٧١ ; شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٩٧ عن فضيل بن الجعد .
(٢) الغارات : ١ / ٧٤ ـ ٧٥ ; الأمالى للطوسى : ١٩٤ / ٣٣١ .
(٣) نهج البلاغة : الكتاب ٧٠ ; أنساب الأشراف : ٢ / ٣٨٦ وراجع تاريخ اليعقوبى : ٢ / ٢٠٣ .

 ١٧٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع

 ١٧٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

( ٤ )

المدرسة الاُمويّة تري أنّ الهدف يوجّه الوسيلة ، بحيث يستطيع السياسى أن يستفيد من الأدوات اللامشروعة فى سياساته وبرامجه وأوامره . ومن ثمّ فإنّ القائد ليس له أن يضلّل الجمهور بلغة التطميع فحسب ، بل له أيضاً أن يفرض نفسه عليه عبرَ استخدام لغة التهديد والتوسّل بالقوّة .

ولقد استطاع معاوية من خلال توظيف هذه السياسة أن يحافظ علي التفاف الناس حوله . وربما كان يستطيع أن يحافظ علي المصالح الوطنيّة للشام من خلال هذا النهج .

بيد أن الأمر يختلف فى المدرسة العلويّة التى لا تُجيز توظيف الأدوات غير المشروعة فى تنفيذ السياسات المطلوبة ; وعندئذ لا يستطيع القائد أن يتوسّل بلغة التطميع لتنفيذ الحكم ، كما لا يستطيع أن يستخدم لغة التهديد مع الناس .

وعلي هذا الأساس لم يكن الإمام  ¼ علي استعداد أن يجبر الناس علي طاعته بالقوّة ; فعندما أجبره الجُند فى حرب صفّين علي إيقاف القتال والإذعان إلي التحكيم ، قال : "ألا إنّى كنت أمير المؤمنين ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت

 ١٧٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

ناهياً ، فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لى أن أحملكم علي ما تكرهون"(١) .

علي هذا الضوء لا يستطيع الحكم العلوى تحقيق مراميه الإصلاحيّة إلاّ علي أساس الاختيار الشعبى الحرّ لبرامج الإمام بهذا الشأن ، وإلاّ فالإمام لا يري نفسه مخوّلاً باستخدام منطق القوّة والتوسّل بالسيف لإجبار الناس علي طاعته ، فالجمهور سوف ينتخب الطريق الذى يريده هو .

وبعبارة اُخري : إنّ إحدي أجوبة الإمام علي هذا التساؤل : لماذا ترك الناسُ الإمامَ وحيداً؟ هو : إنّنى لستُ علي استعداد أن اُجبر هؤلاء علي الطاعة بمنطق السيف ; فهذا الاُسلوب وإن كان يحلّ مشكلة الحكم مؤقّتاً ، إلاّ أنّ هذا الحكم لن يغدو بعدئذ حكماً علويّاً!

لقد تكرّر هذا المعني فى كلام الإمام ، ففى خطاب لأهل الكوفة ، قال بعد أن بثّ شكواه منهم : "يا أهل الكوفة ! أ ترونى لا أعلم ما يصلحكم؟! بلي ، ولكنّى أكره أن اُصلحكم بفساد نفسى" ،

وكما قال مرّة اُخري : "و لقد علمت أنّ الذى يصلحكم هو السيف ، وما كنت متحرّياً صلاحكم بفساد نفسى ، ولكن سيُسلَّط عليكم بعدى سلطان صعب" .

يوجّه الإمام فى هذا الكلام خطابه إلي اُولئك الذين أساؤوا استخدام أجواء الحرّيّة فى ظلال حكمه ، وصاروا يتمرّدون علي طاعته ; بأنّنى أستطيع كبقيّة السياسيّين المحترفين أن أضطرّكم إلي إطاعتى ، وبمقدورى أن أقوِّم أودَكم ببساطة من خلال القوّة وعبر منطق السيف ; بيدَ أنّنى أربأ بنفسى أن اُقدم علي


(١) راجع : القسم السادس / وقعة صفّين / توقّف الحرب / أصحاب الجباه السود يحاصرون الإمام .


إرجاعات 
١٩٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الحادي عشر : توقّف الحرب / الإمام في حصار أصحاب الجباه السُّود

 ١٧٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

ذلك ; لأنّ إصلاح أمركم بالسيف ومنطق القوّة لا يكون إلاّ بالتضحية بقيمى الأخلاقيّة ، وهذا الثمن يتنافي مع فلسفة حكمى . لكن اعلموا بأنّ المستقبل يُخبئ لكم فى أحشائه آتياً عظيماً! فبسلوككم هذا إنّما توطّئون لأنفسكم نازلة قوم لا يحكمونكم إلاّ بالسيف ، ولا يتحدّثون إليكم إلاّ بمنطق القوّة ، ولا يعرفون بكم الشفقة!

لقد خاطب الإمام أولئك بقوله  ¼ : "لا يصلح لكم يا أهل العراق إلاّ من أخزاكم وأخزاه الله!"(١) .

تحقّق نبوءة الإمام

هكذا مضي علىّ  ¼ مظلوماً من بين الناس ; وبتعبيره : "إن كانت الرعايا قبلى لتشكو حيف رعاتها ، وإنّنى اليوم لأشكو حيف رعيّتى"(٢) .

لقد أوضح للاُمّة أنّ هضم الرعيّة لحقوق الوالى العادل لا يقلّ فى تبعاته الخطرة علي المجتمع عن عمل الوالى الظالم ، وهو يقول : "و إذا غلبت الرعيّة واليها ، أو أجحف الوالى برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال فى الدين ، وتركت محاجّ السنن ، فعُمِل بالهوي ، وعُطِّلت الأحكام ، وكثُرت علل النفوس ، فلا يُستوحشُ لعظيم حقٍّ عُطِّل ، ولا لعظيم باطل فُعل ، فهنالك تَذلُّ الأبرار ، وتَعزُّ الأشرار ، وتعظمُ تبعات الله سبحانه عند العباد"(٣) .


(١) ربيع الأبرار : ٤ / ٢٥٠ .
(٢) نهج البلاغة : الحكمة ٢٦١ . راجع : القسم العاشر / الخصائص السياسيّة والاجتماعيّة / المظلوميّة بعد النبىّ .
(٣) نهج البلاغة : الخطبة ٢١٦ .


إرجاعات 
٤٠٨ - المجلد التاسع / القسم العاشر : خصائص الإمام عليّ / الفصل الرابع : الخصائص السياسيّة والاجتماعيّة / المظلوميّة بعد النبيّ

 ١٧٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

لم تلبث الأمّة بعد استشهاد الإمام إلاّ أربعة وثلاثين عاماً حتّي تحقّقت نبوءته فيها . ففى عهد خلافة عبد الملك بن مروان خرجت علي الحكومة المركزيّة من جهة الأهواز جماعة من الخوارج يطلق عليها الأزارقة ، ولم تكن ثَمَّ منطقة يمكن أن يُبعث منها جند لمواجهة هؤلاء غير الكوفة ، لكنّ أهل الكوفة لم يذعنوا لذلك ، ولم يستجيبوا لرغبة الحكم ، ولم يعبؤوا به .

بادر عبد الملك إلي عقد مجلس ضمَّ الخواصّ والمقرّبين لمعالجة المشكلة وتدبّر الحلّ ، فاستنهضهم ضمن خطاب حماسى ، قائلاً : "فمن ينتدب لهم منكم بسيف قاطع ، وسنان لامع!" ، فخيّم الصمت علي الجميع ، ولم يَنبِس أحدهم ، إلاّ الحجّاج بن يوسف ـ الذى كان قد انتهي لتَوّه من مهمّة فى مكّة قضي فيها علي حركة عبد الله بن الزبير ـ فنهض من مكانه وأبدي استعداده للمهمّة . بيدَ أنّ عبد الملك لم يرضَ ، وطلب منه الجلوس .

وفى إطار حديثه عن كيفيّة إرسال الجند إلي الأهواز توجّه عبد الملك مجدّداً إلي القوم طالباً من الحضور أن يذكروا له أكفأ الرجال أميراً علي العراق ، ومن يكون قائداً للجيش الذى سيقود المعركة مع الأزارقة ، وهو يقول : ويلكم! مَن للعراق؟ فصمتوا ، وقام الحجّاج ثانية ، وقال : أنا لها .

الطريف فى الأمر أنّ عبد الملك التفت هذه المرّة إلي الحجّاج مستوضحاً عن الوسيلة التى يلجأ إليها فى دفع الناس لطاعته ، حيث سأله نصّاً : إنّ لكلّ أمير آلة وقلائد ، فما آلتك وقلائدك؟

أوضح الحجّاج لعبد الملك أنّه سيلجأ إلي القوّة واستعمال السيف لإجبار الناس علي الطاعة ، وأنّه لن يوفِّر جهداً فى استغلال سياسة التهديد والترغيب

 ١٧٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

وتوظيفها بأقصي مداها حتي يقضى علي جميع المناوئين ، معبِّراً عن هذا النهج بقوله : "فمن نازعنى قصمته ، ومن دنا منّى أكرمته ، ومن نأي عنّى طلبته ، ومن ثبت لى طاعنته ، ومن ولّي عنّى لحقته ، ومن أدركته قتلته . . . إنّ آلتى : ازرع بدرهمك مَن يواليك ، واحصد بسيفك مَن يعاديك" .

وافق عبد الملك علي هذا النهج ، وكتب للحجّاج عهده علي العراقين أعنى الكوفة والبصرة سنة (٧٤) للهجرة .

أمّا الحجّاج فكان أوّل ما نطق به فى أوّل لقاء جمعه مع أهل الكوفة ، قوله لهم : "إنّى لأري رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، وإنّى لصاحبها ، وكأنّى أنظر إلي الدماء ، وإنّها لترقرق بين العمائم واللحي . . . واعلموا أنّى لا أعِد إلاّ وفيت ، ولا أقول إلاّ أمضيت ، ولا أدنو إلاّ فهمت ، ولا أبعد إلاّ سمعت ، فإيّاكم وهذه الهنات والجماعات والبطالات ، وقال وقيل وماذا يقول ، وأمر فلان إلي ماذا يؤول . وما أنتم يا أهل العراق ويا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! وإنّما أنتم أهل قرية ³ كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَـئـِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ  ²  (١) . . . ; ألا إنّ سيفى سيروي من دمائكم ، ويفرى من جلودكم ، فمن شاء فليحقن دمه"(٢) .


(١) النحل : ١١٢ .
(٢) الفتوح : ٧ / ٨ ـ ١٠ . كما قال المسعودى : "مات الحجّاج فى سنة خمس وتسعين ، وهو ابن أربع وخمسين سنة بواسط العراق ، وكان تأمّره علي الناس عشرين سنة ، وأحصى من قتله صبراً سوي من قتل فى عساكره وحروبه فوجد مائة وعشرين ألفاً ، ومات وفى حبسه خمسون ألف رجل ، وثلاثون ألف امرأة ، منهنّ ستّة عشر ألفاً مجرّدة . وكان يحبس النساء والرجال فى موضع واحد ، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس فى الصيف ولا من المطر والبرد فى الشتاء ، وكان له غير ذلك من العذاب ما أتينا علي وصفه فى الكتاب الأوسط . وذكر أنّه ركب يوماً يريد الجمعة ، فسمع ضجّة ، فقال : ما هذا؟ فقيل له : المحبوسون يضجّون ويشكون ما هم فيه من البلاء ، فالتفت إلي ناحيتهم وقال : ³ اخْسَـئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ  ²  فيقال : إنّه مات فى تلك الجمعة ، ولم يركب بعد تلك الركبة" (مروج الذهب : ٣ / ١٧٥) .

 ١٨٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

لقد أدرك الناس من خلال القسوة التى أبداها الحجّاج منذ اليوم الأوّل لعهده أنّه جادّ فى تنفيذ سياسته ، حازم فى العمل بما يقول . وحيث كان ذاك فقد أمر فى اليوم الثانى مناديه أن يطوف فى سكك الكوفة وطرقها ، وهو يقرأ علي الناس : "ألا إنّنا قد أجّلنا من كان من أصحاب المهلّب ثلاثاً ، فمن أصبناه بعد ذلك فعقوبته ضرب عنقه" .

لكى يضمن الحجّاج تنفيذ أمره دعا حاجبه زياد بن عروة وصاحب شرطته ; وأمرهما أن يطوفا فى سكك المدينة وطرقها مع عدد من الجند ; يشرفان علي خروج الناس إلي القتال ، ومن أبي أو تأخّر عن النفير ضربت عنقه .

هكذا التحق بالمهلّب بن أبى صفرة قائد الجيش الذى خرج لحرب الأزارقة جميع من كان معه بادئ الأمر ، وعادوا إليه بعد أن كانوا تركوه وحيداً ، دون أن يتخلّف أحد(١) .

لقد استطاع عبد الملك بن مروان إسكات جميع المعارضين والقضاء علي الخارجين عليه من خلال الاتكاء إلي سياسة البطش والإرهاب هذه ، وإجرائها فى جميع أمصار العالم الإسلامى ، حتي بلغ من أمره أنّه خرج إلي مكّة حاجّاً سنة (٧٥) وهو مطمئنّ البال . قال اليعقوبى بهذا الشأن : "و لما استقامت الاُمور لعبد الملك ، وصلحت البلدان ، ولم تبق ناحية تحتاج إلي صلاحها والاهتمام بها ،


(١) الفتوح : ٧ / ١٣ .

 ١٨١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

خرج حاجّاً سنة ٧٥"(١) .

أجل ، هذه هى الإصلاحات التى يكون ثمنها فساد المُصلح . والإمام أمير المؤمنين  ¼ لم يكن علي استعداد أن يصلح المجتمع بهذه الطريقة ، فعلىّ لا يستطيع أن يميل إلي نهج يحلّ مشكلة الحكم من خلال التضحية بالقيم الإنسانيّة . ولو حصل ذلك لن تكون عندئذ ثمّ حاجة إلي بعث الأنبياء وإلي القادة الإلهيّين ، ومن ثمّ ليس هناك حاجة إلي قيادة علىّ  ¼ بالأساس ، بل لن يكون للحكم العلوى من معني ، إنّما يغدو شعاراً بلا مفهوم ; لأنّ فى وسع الجميع ممارسة الحكم بهذه الطريقة ، كما تَمَّ ذلك فعلاً ، حيث مارسوا الحكم قروناً باسم الإسلام .

وأمّا الحكم العلوى فإنّ الأصالة فيه للقيم ، وعلي هذا لم يكن الإمام على  ¼ علي استعداد للتضحية بالقيم الإنسانيّة والإسلاميّة مهما كان الثمن . وإنّ الحكم الذى يجعل القيم فداءً لمصالح الحكم والحاكمين هو حكم اُموى ، وليس علويّاً ولا إسلاميّاً وإن تواري خلف اسم على والإسلام!

بديهىّ لم يعد لسياسة القوّة ولغة السيف وقعٌ ولا تأثير يذكر فى العالم المعاصر . فقد راحت الأدوات العسكريّة تفقد فاعليتها بالتدريج ، واكتشف الحكّام والساسة وسائل جديدة لممارسة السلطة علي أساس النهج الاُموى ; فالوسائل صارت أكثر تعقيداً ممّا كانت عليه فى الماضى ، وأفدح خطراً فى هتك القيم الإنسانيّة ووأدها ، ومن بين ذلك برز برنامج "الإصلاح الاقتصادى" الذى يضحّى بالعدالة الاجتماعيّة ، ويأتى تطبيقه علي أساس تدمير الطبقات الضعيفة فى الهرم الاجتماعى والقضاء عليها .


(١) تاريخ اليعقوبى : ٢ / ٢٧٣ .

 ١٨٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام

 ١٨٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة

( ٥ )

يمثِّل ما ذكرناه حتي الآن العوامل الأساسيّة لتخاذل الناس وبقاء الإمام وحده آخر أيّام حكمه . وهناك مجموعة اُخري من العوامل هى وإن لم تكن بمستوي هذه تأثيراً ، إلاّ أنّه لا يمكن الإغضاء عن الدور الذى ساهمت به فى إبعاد الجماهير عن الإمام .

سنطلق علي المجموعة الثانية وصف العوامل الجانبيّة التى اصطفّت إلي جوار العوامل الأساسيّة ، وراحت تخلق المشكلات لحكم الإمام ; وهى :

أ : شُبهة قتال أهل القبلة

انطلقت المواجهة فى جميع الحروب التى سبقت العهد العلوى مع الكفّار ، بحيث لم يكن بمقدور أحد أن يثير شبهة فى هذا المجال .

أمّا الحروب التى اندلعت فى ظلّ حكم الإمام ، وتحرّكت فى مسار إصلاح المجتمع الإسلامى ومن أجل إعادته إلي ظلال سيرة النبى  ½ وسنّته ، فقد وقعت مع أهل القبلة . لقد انطلقت هذه الحروب فى مواجهة اُناس يدّعون الانتماء إلي

 ١٨٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة

الإسلام أيضاً ، بل لبعضهم سوابق مشرقة فى خدمة هذا الدين . من هنا كان النبىّ  ½ قد أطلق فى تنبّؤاته علي هذه الحروب صفة القتال علي أساس تأويل القرآن(١) .

أجل ، لقد هيّأت حروب أهل القبلة التى اشتعلت فى أيّام حكم الإمام الأرضيّةَ المناسبة لإيجاد الشبهة ، وانفصال الناس عن الإمام ، ومنابذتهم له .

وعلي هذا الأساس اختارت شخصيّات بارزة موقفها منذ البدء فى أن لا تكون إلي جوار على  ¼ فى هذه الحروب . ولمّا استوضح الإمام من هؤلاء بواعث موقفهم هذا ، أجاب سعد بن أبى وقّاص : "إنّى أكره الخروج فى هذه الحرب لئلاّ اُصيب مؤمناً ، فإن أعطيتنى سيفاً يعرف المؤمن من الكافر قاتلتُ معك" .

وقال له اُسامة : "أنت أعزّ الخلق علىّ ، ولكنّى عاهدت الله أن لا اُقاتل أهل لا إله إلاّ الله"(٢) .

وقال عبد الله بن عمر : "لست أعرف فى هذة الحرب شيئاً ، أسألك ألاّ تحملنى علي ما لا أعرف"(٣) .


(١) راجع : القسم السادس / نظرة عامّة / أهداف الإمام فى قتال البغاة .
(٢) الجمل : ٩٥ . وكان أسامة قد أهوي برمحه فى عهد رسول الله  ½ إلي رجل فى الحرب من المشركين ، فخافه الرجل فقال : لا إله إلاّ الله فشجره بالرمح فقتله ، فبلغ النبى  ½ خبره ، فقال : يا أسامة أ قتلت رجلاً يشهد ألاّ إله إلاّ الله؟ فقال : يا رسول إنّما قالها تعوّذاً ، فقال  ½ له : ألا شققت عن قلبه؟ فزعم أسامة أنّ النبى  ½ أمره أن يقاتل بالسيف من قاتل من المشركين ، فإذا قوتل به المسلمون ضرب بسيفه الحجر فكسره .
(٣) راجع : القسم الخامس / بيعة النور / من تخلّف عن بيعته .


إرجاعات 
٢٩٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / الفصل الأوّل : نظرة عامّة / أسماء مسعّري الحرب / الخوارج
٨٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام علي / الفصل الأوّل : بيعة النور / من تخلّف عن بيعته

 ١٨٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة

لقد التقي استعداد الناس ذهنيّاً بشبهة عدم استساغة قتال أهل القبلة ، مع تلك الشبهات التى أثارها المناوئون لمنهج الإصلاح العلوى ، بالأخصّ معاوية فى حربه الدعائيّة الشعواء ضدّ الإمام(١) ; التقي هذا بذاك ، وصارا سبباً فى عرقلة حركة التعبئة العامّة وتهديدها بأخطار جدّيّة ، بحيث لم يجد الإمام مناصّاً من أن يلج الميدان بنفسه أغلب الأحيان ، وينهض شخصيّاً بإرشاد الناس وتوجيههم .

خاطبهم  ¼ فى البدء : "و قد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة ، ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقِفوا عندما تُنهون عنه ، ولا تعجلوا فى أمر حتّي تبيّنوا ; فإنّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيراً"(٢) .

مع أنّ الإمام لم يألُ جهداً فى أن يستفيد من أىّ فرصة تسنح لتوجيه الناس وإرشادهم ، إلاّ أنّه كان عسيراً علي كثيرين أن يهضموا أنّ علياً  ¼ ينطق بالحقّ ، وأنّ طلحة والزبير وعائشة ـ فى الوقت ذاته ـ سادرون فى الغىّ(٣) .

ب : القتال بلا غنيمة

من العوامل السلبيّة التى أثّرت فى الجماهير غيابُ الغنيمة ; فمع تدنّى مستوي الوعى الثقافى للقاعدة الشعبيّة العريضة صار لغياب الغنائم الحربيّة الكبري أثر فى تخريب الحالة النفسيّة للقوّات المقاتلة ، ودفعها إلي الملالة


(١) راجع : القسم السادس / وقعة صفّين / حرب الدعاية .
(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٧٣ .
(٣) راجع : القسم السادس / وقعة الجمل / تأهّب الإمام لمواجهة الناكثين / التباس الأمر علي من لا بصيرة له .


إرجاعات 
٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة
١٤٢ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الاُولى : وقعة الجمل / الفصل الرابع : تأهّب الإمام لمواجهة الناكثين / كتاب الإمام إلى والي البصرة

 ١٨٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة

والإحباط والتعب من الحرب ، ومن ثمّ عدم طاعة الإمام والانقياد له ، يفوق ما كان لشبهة قتال أهل القبلة .

لقد اعتاد المقاتلون الحصول علي غنائم وافرة فى العهود التى سبقت عهد الإمام ، من خلال حروب الكفّار ، وبالأخصّ حروب فارس والروم . أمّا الآن فقد راح الإمام  ¼ يدعوهم منذ أوائل أيّام حكمه ـ ولأوّل مرّة ـ إلي حرب لا غنيمة من ورائها ، أو أن يكون نصيبهم منها ضئيلاً لا قيمة له . وهذا ما لم يألفه الناس قبل ذلك ، ومن ثمّ لم يكونوا علي استعداد لقبوله كما يبدو .

لقد كان اقتران الحرب بالغنيمة أمراً ذا مغزي للجمهور الذى يعيش فى ذلك العصر . وعندما ننظر إلي القاعدة الشعبيّة التى رافقت الإمام  ¼ فى حروبه وشهرت السيف معه ضدّ أصحاب الفتنة ، نجدها فى الغالب غير متحلّية بالبصيرة ، ولا ملتمسة منار الحقّ ، بحيث يكون الحقّ هو هدفها فى إشهار السيف ، ورضا الله هو الغاية القصوي التى تتمنّاها من القتال ، بل كان الجمّ الغفير من هؤلاء يفكّر بمنافعه الشخصيّة قبل أن يفكّر بالحقّ ومصلحة الدين .

فمن بين الاعتراضات التى طالما كرّرها جند الإمام فى حربى الجمل والنهروان ، هو : لماذا لا يسلبون نساء القوم ويتّخذونهنّ سبايا واُسارى؟ ولماذا لا توزّع عليهم أموالهم؟

قال ابن أبى الحديد بهذا الصدد : "اتّفقت الرواة كلّها علي أنّه  ¼ قبض ما وجد فى عسكر الجمل ; من سلاح ودابّة ومملوك ومتاع وعروض ، فقسّمه بين أصحابه ، وأنّهم قالوا له : اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقاً ، فقال : لا . فقالوا : فكيف تحلّ لنا دماءهم وتحرِّم علينا سبيهم؟!"(١) .


(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٥٠ . راجع : القسم السادس / وقعة الجمل / بعد الظفر / غنائم الحرب .


إرجاعات 
٢٦٦ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الاُولى : وقعة الجمل / الفصل العاشر : بعد الظفر / غنائم الحرب

 ١٨٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة

لقد تلاقحت عوامل الملالة والتعب والإحباط التى عاشها الجند بعد سنتين من ممارسة القتال بدون غنائم وعوائد مادّيّة ، مع التبعات السلبيّة لشبهة عدم شرعيّة قتال أهل القبلة ; حتي إذا ضُمّت هذه إلي تلك ، ثمّ التقت الحصيلة مع العناصر الأساسيّة للتخاذل ، صار من الطبيعى أن تجرّ الحالة إلي عدم انقياد هؤلاء وعصيانهم ، بحيث راح الإمام يواجه مشكلة حقيقيّة جادّة فى استنفار القوّات وتعبئتها أواخر عهد حكمه .

ج : فقد الأخلّة وخلّص الأعوان

تتمثّل إحدي العوامل الاُخر التى ساهمت فى غربة الإمام وبقائه وحيداً أواخر عهده فى الحكم بغياب أبرز الخلاّن ، وفقدان الشخصيّات الكبيرة التى كان لكلّ منها أثره المباشر فى توجيه جيشه . لقد كان هؤلاء لساناً ناطقاً ، تُلهب كلماتهم النفوس ، وتثبّت القلوب فى الأزمات ، وتثير خطبهم الحماس فى سوح القتال ، ولهم تأثير بليغ علي الناس .

هذه هى سوح القتال ومضامير الحياة وقد خلت من عمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وهاشم بن عتبة ، كما لم يعُد فيها أثر يذكر لمحمّد بن أبى بكر ، وعبد الله بن بديل ، وزيد بن صوحان ، حتي يُلهبوا بكلماتهم المضيئة حماسَ الناس ، ويُثيروا فيهم العزائم .

وها هو الإمام يومئ إلي تلك الأطواد الشامخة بالبصيرة ، المتوهِّجة بالنور ، وسط ساحة عنود يمتنع فيها الأصحاب ، وينأون عن نصرته بهذه الذريعة وتلك ، ويتحدّث عن رهبان الليل ، وليوث الوغي إذا حمى الوطيس ، والسابقين فى مضمار الإيمان والعمل ، فيقول : "أين القوم الذين دُعوا إلي الإسلام فقبلوه ، وقرؤوا القرآن فأحكموه ، وهِيجُوا إلي الجهاد فولِهُوا ولَهَ اللِّقاح إلي أولادها ،

 ١٨٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة

وسلبُوا السيوف أغمادَها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وصفّاً صفّاً . بعض هلك ، وبعض نجا . لا يُبشَّرون بالأحياء ، ولا يُعزَّون عن الموتي . مُرْهُ(١) العيون من البكاء ، خُمص البطون من الصيام ، ذُبل الشفاه من الدعاء ، صُفر الألوان من السهر ، علي وجوههم غَبرة الخاشعين ، أولئك إخوانى الذاهبون ، فحقَّ لنا أن نظمأ إليهم ، ونعضَّ الأيدى علي فراقهم"(٢) .

وقد عاد الإمام إلي ذكر اُولئك الأخلاّء فى آخر خطبة ألقاها ، قبل عدّة أيّام من اغتياله ، فقال : "أين إخوانى الذين ركبوا الطريق ، ومضوا علي الحقّ ! أين عمّار ! وأين ابن التَّيِّهان ! وأين ذو الشهادتين ! وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة ، واُبرِدَ برؤوسهم إلي الفجرة!"(٣) .

علي خط آخر كان الخوارج جزءاً من جند الإمام ومقاتلى جيشه ، ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا بعد صفّين إلي موقع مناهض للإمام ، فكان مآلهم أن قتلوا فى النهروان ، أو صاروا أحلاس بيوتهم . وبذلك غابت عن صفوف العسكر أيضاً هذه القوّة القتاليّة الوثّابة ، فصار الإمام علىّ  ¼ وحيداً فريداً غريباً .


(١) هو جمع الأمْره ، وقد مرِهت عينُه تمْرَه مَرهاً ، والمَرَهُ : مرض فى العين لترك الكحل (النهاية : ٤/٣٢١ و٣٢٢) .
(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٢١ .
(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٢ .