١٤٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد
٩ / ١ إنّ أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت ٢٨٦٩ ـ الإمام علىّ ¼ ـ من خطبة له ¼ فى ذمّ العاصين من أصحابه ـ : أحمد الله علي ما قضي من أمر ، وقدّر من فعل ، وعلي ابتلائى بكم أيّتها الفرقة التى إذا أمرتُ لم تُطِع ، وإذا دعوتُ لم تُجِب . إن اُمهلتم خضتم ، وإن حوربتم خرتم ، وإن اجتمع الناس علي إمام طعنتم ، وإن اُجئتم إلي مُشاقّة نكصتم . لا أبا لغيركم ! ما تنتظرون بنصركم والجهاد علي حقّكم ؟ الموت أو الذلّ لكم ؟ فو الله لئن جاء يومى ـ وليأتينّى ـ ليفرّقنّ بينى وبينكم وأنا لصحبتكم قال ، وبكم غير كثير . لله أنتم ! أ ما دين يجمعكم ! ولا حميّة تشحذكم ! أ وَليس عجباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطَّغام فيتّبعونه علي غير معونة ولا عطاء ، وأنا أدعوكم ـ وأنتم ١٤٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني
تريكة الإسلام ، وبقيّة الناس ـ إلي المعونة أو طائفة من العطاء ، فتَفَرّقون عنّى وتختلفون علىَّ ؟ ! إنّه لا يخرج إليكم من أمرى رضيً فترضونه ، ولا سخط فتجتمعون عليه ، وإنّ أحبّ ما أنا لاق إلىّ الموت ! قد دارستكم الكتاب ، وفاتحتكم الحجاج ، وعرّفتكم ما أنكرتم ، وسوَّغتكم ما مججتم ، لو كان الأعمي يلحظ ، أو النائم يستيقظ ! وأقرِب بقوم ـ من الجهل بالله ـ قائدهم معاوية ! ومؤدّبهم ابن النابغة !(١) ٩ / ٢ ٢٨٧٠ ـ الغارات عن أبى صالح الحنفى : رأيت عليّاً ¼ يخطب وقد وضع المصحف علي رأسه حتي رأيت الورق يتقعقع علي رأسه . قال : فقال : اللهمّ قد منعونى ما فيه فأعطنى ما فيه ، اللهمّ قد أبغضتهم وأبغضونى ، ومللتهم وملّونى ، وحملونى علي غير خلقى وطبيعتى وأخلاق لم تكن تُعرَف لى ، اللهمّ فأبدلنى بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بى شرّاً منّى ، اللهمّ مُثّ(٢) قلوبهم كما يُماثّ الملح فى الماء(٣) . ٢٨٧١ ـ الغارات عن ابن أبى رافع : رأيت عليّاً ¼ قد ازدحموا عليه حتي أدمَوا (١) نهج البلاغة : الخطبة ١٨٠ ; تاريخ الطبرى : ٥ / ١٠٧ ، الكامل فى التاريخ : ٢ / ٤١٣ كلاهما نحوه إلي "تختلفون عليَّ" . ١٤٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني
رجله . فقال : اللهمّ قد كرهتهم وكرهونى ، فأرِحنى منهم وأرِحهم منّى(١) . ٢٨٧٢ ـ تاريخ الإسلام عن محمّد ابن الحنفيّة : كان أبى يريد الشام ، فجعل يعقد لواءه ثمّ يحلف لا يحلّه حتي يسير ، فيأبي عليه الناس ، وينتشر عليه رأيهم ويجبنون ، فيحلّه ويُكفّر عن يمينه ، فعل ذلك أربع مرات ، وكنت أري حالهم فأري ما لا يسرّنى . فكلّمت المِسْوَر بن مَخْرَمة يومئذ ، وقلت : أ لا تكلّمه أين يسير بقوم لا والله ما أري عندهم طائلا ؟ قال : يا أبا القاسم ، يسير لأمر(٢) قد حُمّ(٣) ، قد كلَّمته فرأيته يأبي إلاّ المسير . قال ابن الحنفيّة : فلمّا رأي منهم ما رأي قال : اللهمّ إنّى قد مللتهم وقد ملّونى ، وأبغضتهم وأبغضونى ، فأبدلنى خيراً منهم ، وأبدلهم شرّاً منّى(٤) . ٢٨٧٣ ـ الإمام علىّ ¼ ـ فى خطبته ¼ عند وصول خبر الأنبار إليه ـ : أمَ والله لوددت أنّ ربّى قد أخرجنى من بين أظهركم إلي رضوانه ، وإنّ المنيّة لترصدنى ، فما يمنع أشقاها أن يخضبها ؟ ـ وترك يده علي رأسه ولحيته ـ عهد عهده إلىّ النبىّ الاُمّىّ ، وقد خاب من افتري ، ونجا من اتّقي وصدّق بالحسني(٥) . ٢٨٧٤ ـ عنه ¼ : يا أهل الكوفة ! خذوا اُهبتكم لجهاد عدوّكم معاوية وأشياعه . قالوا : يا أمير المؤمنين ، أمهلنا يذهب عنّا القرّ . فقال : أمَ والله الذى فلق الحبّة وبرأ النسمة ، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ، ليس (١) الغارات : ٢ / ٤٥٩ ; أنساب الأشراف : ٣ / ٢٥٠ وزاد فى آخره "فما بات إلاّ تلك الليلة" . ١٤٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني
بأنّهم أولي بالحقّ منكم ، ولكن لطاعتهم معاوية ومعصيتكم لى . والله لقد أصبحت الاُمم كلّها تخاف ظلم رعاتها ، وأصبحت أنا أخاف ظلم رعيّتى ، لقد استعملت منكم رجالاً فخانوا وغدروا ، ولقد جمع بعضهم ما ائتمنته عليه من فىء المسلمين فحمله إلي معاوية ، وآخر حمله إلي منزله تهاوناً بالقرآن ، وجرأة علي الرحمن ، حتي لو أنّنى ائتمنت أحدكم علي علاقة سوط لخاننى ، ولقد أعييتمونى ! ثمّ رفع يده إلي السماء فقال : اللهمّ إنّى قد سئمت الحياة بين ظهرانى هؤلاء القوم ، وتبرّمت الأمل . فأتِح لى صاحبى حتي أستريح منهم ويستريحوا منّى ، ولن يُفلحوا بعدى(١) . ٢٨٧٥ ـ نهج البلاغة : من خطبة له ¼ وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية علي البلاد ، وقدم عليه عاملاه علي اليمن ، وهما عبيد الله بن عبّاس وسعيد بن نمران لمّا غلب عليهما بسر بن أبى أرطاة ، فقام ¼ علي المنبر ضجراً بتثاقل أصحابه عن الجهاد ، ومخالفتهم له فى الرأى فقال : ما هى إلاّ الكوفة ، أقبضها وأبسطها ، إن لم تكونى إلاّ أنتِ تهبّ أعاصيركِ فقبّحكِ الله ! وتمثّل بقول الشاعر :
ثمّ قال ¼ : اُنبئت بُسراً قد اطّلع اليمن ، وإنّى والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيُدالون(٣) منكم باجتماعهم علي باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم (١) الإرشاد : ١ / ٢٧٧ . ١٤٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني
إمامكم فى الحقّ ، وطاعتهم إمامهم فى الباطل ، وبأدائهم الأمانة إلي صاحبهم وخيانتكم ، وبصلاحهم فى بلادهم وفسادكم . فلو ائتمنت أحدكم علي قَعْب(١) لخشيت أن يذهب بعلاقته . اللهمّ إنّى قد مللتهم وملّونى ، وسئمتهم وسئمونى ، فأبدِلنى بهم خيراً منهم ، وأبدلهم بى شرّاً منّى ، اللهمّ مُثّ قلوبهم كما يُماثّ الملح فى الماء ، أما والله لوددت أنّ لى بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم .
ثمّ نزل ¼ من المنبر(٢) . ٢٨٧٦ ـ البداية والنهاية عن زهير بن الأرقم : خطبنا علىّ يوم جمعة ، فقال : نبّئت أنّ بسراً قد طلع اليمن ، وإنّى والله لأحسب أنّ هؤلاء القوم سيظهرون عليكم ، وما يظهرون عليكم إلاّ بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم ، وخيانتكم وأمانتهم ، وإفسادكم فى أرضكم وإصلاحهم ، قد بعثت فلاناً فخان وغدر ، وبعثت فلاناً فخان وغدر ، وبعث المال إلي معاوية ، لو ائتمنت أحدكم علي قدح لأخذ علاقته ، اللهمّ سئمتهم وسئمونى ، وكرهتهم وكرهونى ، اللهمّ فأرحهم منّى وأرحنى منهم . قال : فما صلّي الجمعة الاُخري حتي قُتل رضى الله عنه وأرضاه(٣) . (١) القَعْبُ : القَدَح الصخمُ ، الغلِيظُ ، الجافى (لسان العرب : ١ / ٦٨٣) . إرجاعات
٢٠٥ - المجلد السابع / القسم الثامن : استشهاد الإمام عليّ / الفصل الثاني : إخبار الإمام باستشهاده / ما ينتظر أشقاها ؟
١٥٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل التاسع : تمنّى الاستشهاد / اللهمّ مللتهم وملّوني
١٥١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام
٢٨٧٧ ـ نهج البلاغة : رُوى عن نَوْف البكالى قال : خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علىّ ¼ بالكوفة وهو قائم علي حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى ، وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف ، وفى رجليه نعلان من ليف ، وكأنّ جبينه ثفنة بعير . فقال ¼ : الحمد الله الذى إليه مصائر الخلق ، وعواقب الأمر . نحمَده علي عظيم إحسانه ونيّر برهانه ، ونوامى فضله وامتنانه ، حمداً يكون لحقّه قضاءً ، ولشكره أداءً ، وإلي ثوابه مقرّباً ، ولحسن مزيده موجباً . ونستعين به استعانة راج لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطول ، مذعن له بالعمل والقول . ونؤمن به إيمان من رجاه موقناً ، وأناب إليه مؤمناً ، وخنع له مذعناً ، وأخلص له موحّداً ، وعظّمه ممجّداً ، ولاذ به راغباً مجتهداً . لم يُولَد سبحانه فيكون فى العزّ مشارَكاً ، ولم يلد فيكون موروثاً هالكاً . ولم يتقدّمه وقت ولا زمان . ولم يتعاوره زيادة ولا نقصان ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقَن والقضاء المبرَم . ١٥٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام
فمن شواهد خلقه خلق السموات موطّدات بلا عَمَد ، قائمات بلا سَنَد . دعاهن فأجبن طائعات مذعنات ، غير متلكّئات ولا مبطِئات . ولولا إقرارهنّ له بالربوبية وإذعانهنّ بالطواعية لما جعلهن موضعاً لعرشه ، ولا مسكناً لملائكته ، ولا مَصعَداً للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه . جعل نجومها أعلاماً يستدلّ بها الحيران فى مختلف فِجاج(١) الأقطار . لم يمنع ضوء نورها ادلهمامّ سجف الليل المظلم . ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع فى السموات من تلألؤ نور القمر . فسبحان من لا يخفي عليه سواد غَسَق داج ولا ليل ساج فى بقاع الأرَضين المتطأطئات ، ولا فى يَفاع السُّفْع(٢) المتجاورات . وما يتجلجل به الرعد فى اُفق السماء ، وما تلاشت عنه بروق الغمام ، وما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء وانهطال السماء ، ويعلم مسقط القطرة ومقرّها ، ومسحب الذرة ومجرّها ، وما يكفى البعوضة من قوتها ، وما تحمل الاُنثي فى بطنها . الحمد لله الكائن قبل أن يكون كرسى أو عرش ، أو سماء أو أرض أو جانّ أو إنس ، لا يُدرَك بوَهْم ، ولا يُقدَّر بفهم . ولا يشغله سائل ، ولا ينقصه نائل ، ولا يَنْظر بعين ، ولا يُحدّ بأين . ولا يُوصَف بالأزواج ، ولا يُخلَق بعلاج . ولا يُدرَك بالحواسّ . ولا يقاس بالناس . الذى كلّم موسي تكليماً ، وأراه من آياته عظيماً . بلا جوارح ولا أدوات ، ولا نطق ولا لهوات . بل إن كنت صادقاً أيّها المتكلّف لوصف ربّك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقرّبين فى حُجُرات القُدُس مُرْجَحِنّين(٣) ، متولّهة عقولهم أن يحدّوا (١) الفِجَاج : جمع فجّ ; وهو الطريق الواسع (النهاية : ٣ / ٤١٢) . ١٥٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام
أحسن الخالقين . فإنّما يُدرَك بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ، ومن ينقضى إذا بلغ أمد حدّه بالفناء ; فلا إله إلاّ هو ، أضاء بنوره كلّ ظلام ، وأظلم بظلمته كلّ نور . اُوصيكم عبادَ الله بتقوي الله الذى ألبسكم الرِّياش(١) وأسبغ عليكم المعاش . ولو أنّ أحداً يجد إلي البقاء سُلّماً ، أو إلي دفع الموت سبيلاً ، لكان ذلك سليمان بن داود ¼ الذى سخّر له ملك الجنّ والإنس مع النبوّة وعظيم الزلفة ، فلمّا استوفي طعمته ، واستكمل مدّته ، رمتْهُ قِسِىّ الفناء بنبال الموت ، وأصبحت الديار منه خالية ، والمساكن معطّلة ، وورثها قوم آخرون ، وإنّ لكم فى القرون السالفة لَعبرةً ! أين العمالقة وأبناء العمالقة ! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة ! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين ، وأطفؤوا سنن المرسلين ، وأحيَوا سنن الجبّارين ! وأين الذين ساروا بالجيوش وهَزَموا بالاُلوف . وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن . ومنها : قد لبس للحكمة جنّتها ، وأخذها بجميع أدَبها من الإقبال عليها ، والمعرفة بها ، والتفرّغ لها ; فهى عند نفسه ضالّته التى يطلبها ، وحاجته التى يسأل عنها ; فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، وضرب بعسيب(٢) ذَنَبه ، وألصق الأرضِ بِجِرانِه(٣) . بقيّة من بقايا حجّته ، خليفة من خلائف أنبيائه . ثمّ قال ¼ : أيّها الناس ! إنّى قد بثثت لكم المواعظ التى وعظ الأنبياء بها اُممهم ، وأدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلي مَن بعدهم ، وأدّبتكم بسوطى فلم تستقيموا . وحدوتكم بالزواجر فلم تستوسقوا(٤) . لله أنتم ! أ تتوقّعون إماماً غيرى يطأ بكم (١) الرِّياش : ما ظَهر من اللِّباس (النهاية : ٢ / ٢٨٨) . ١٥٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام
الطريق ، ويُرشِدكم السبيل ؟ ألا إنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً ، وأقبل منها ما كان مدبراً ، وأزمع(١) التَّرحال عبادَ الله الأخيار ، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقي بكثير من الآخرة لا يفني . ما ضرَّ إخواننا الذين سُفِكت دماؤهم وهم بصفّين ألاّ يكونوا اليوم أحياء ؟ يُسيغون الغُصَص ويشربون الرَّنْق(٢) . قد ـ والله ـ لقُوا الله فوفّاهم اُجورهم ، وأحلّهم دار الأمن بعد خوفهم . أين إخوانى الذين ركبوا الطريق ومضَوا علي الحقّ ؟ أين عمّار ؟ وأين ابن التَّيِّهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة ، واُبرد برؤوسهم إلي الفَجَرة . قال : ثمّ ضرب بيده علي لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثمّ قال ¼ : أوِّهْ علي إخوانى الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيَوا السُّنَّة وأماتوا البدعة . دُعُوا للجهاد فأجابوا ، ووثِقوا بالقائد فاتّبعوه . ثمّ نادي بأعلي صوته : الجهادَ الجهادَ عباد الله ! ألا وإنّى معسكر فى يومى هذا ; فمن أراد الرواحَ إلي الله فليخرج ! قال نَوْف : وعقد للحسين ¼ فى عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد فى عشرة آلاف ، ولأبى أيّوب الأنصارى فى عشرة آلاف ، ولغيرهم علي أعداد اُخر وهو يريد الرجعة إلي صفّين ، فما دارت الجمعة حتي ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله ، فتراجعت العساكر ، فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان(٣) . (١) أزمع : عدا وخفّ (لسان العرب : ٨ / ١٤٣) . ١٥٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل
عرفنا فى القسم الخامس أنّ الإمام أمير المؤمنين ¼ حظى بتأييد شعبى واسع ، ووصل إلي الخلافة عبر انتخابات حرّة ، حتي بلغ من إقبال الناس علي بيعته وفرحهم بها أنّه قال فى وصفها : "أقْبَلتم إلىّ إقبال العوذ المطافيل علي أولادها"(١). كما قرأنا فى هذا الفصل أنّ الجماهير راحت تبتعد عن الإمام تدريجيّاً ولمّا تمضِ مدّة قصيرة علي حكمه ، حيث فقد حماية وتأييد أغلبهم ; ففى الأيّام الاُولي ـ من عهد الإمام السياسىّ ـ نقض بعض الناس البيعة فخرجوا مع ثلّة من السبّاقين إلي بيعة الإمام ليثيروا حرب الجمل . علي خطٍّ آخر بادر جمع من الشخصيّات المعروفة ذات التأثير الشعبى البارز للالتحاق بمعاوية ، كما انفصل آخرون عن صفّ الإمام وقرّروا اتّخاذ موقف الحياد . هكذا راح يتضاءل التأييد الشعبى لحكم الإمام يوماً بعد آخر ، بحيث لم يفقد (١) راجع : القسم الخامس / بيعة النور / إقبال الناس علي البيعة . ١٥٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل
الحكم العلوى ذلك التأييد الجماهيرى العارم الذى برز فى الأيّام الاُولي للبيعة فحسب ، بل انقلب التأييد إلي معارضة! حتي آلَ الأمر فى نهاية المطاف إلي أن يعيش الإمام الأشهر الأخيرة من حياته وحيداً وهو يشكو مرارة غربته ، وعصيان أصحابه ، وعدم طاعتهم . إشكاليّة الموضوع: تكمن إشكاليّة الموضوع فى الأسئلة الأساسيّة التالية : ـ ما هى الأسباب وراء ابتعاد أكثريّة الناس عن الإمام على ¼ ؟ ـ لماذا لم يستطع الإمام أن يحافظ علي تأييد أغلبيّة الجمهور لحكمه؟ ـ لماذا حلّت الفرقة بين الجماهير خلال حكم الإمام ، ولم يستطع إيجاد وحدة الكلمة بين صفوف الجماهير التى بايعته؟ ـ لماذا صار الإمام أواخر حياته يبثّ شكواه علي الدوام من عدم حماية الناس لحركته الإصلاحيّة ، وهو يقول : "هيهات أن أطلع بكم سرار العدل" ، ويقول : "اُريد اُداوى بكم وأنتم دائى" ، ويقول : "مُنيت بمن لا يطيع" ، ويقول : "لا غناء فى كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم!" ، ويقول : "لو كان لى بعدد أهل بدر" ، ويقول : "وددت أنّى أبيع عشرة منكم برجل من أهل الشام!" . وبكلمة مختصرة : ما هو سبب إدبار عامّة الناس عن الحكم العلوى بعد ذلك الإقبال منقطع النظير الذى حظى به الإمام يوم البيعة؟ ١٥٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل
ـ أليس فى انفضاض الناس عن الإمام وبقائه وحيداً ما يدلّ علي عدم إمكانيّة ممارسة الحكم عمليّاً وفق اُصول المنهج السياسى العلوى ، وأنّه لا مكان للمدينة العلويّة الفاضلة إلاّ فى دنيا الخيال؟ قبل أن نلجأ للإجابة علي هذه الأسئلة وبيان أسباب بقاء الإمام وحيداً ، من الضرورى الإشارة إلي نقطتين : أ : دور الخواصّ فى التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة لقد كان للخواصّ علي مرّ التأريخ ـ ولا يزال ـ الدور الأكبر فى التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التى يشهدها أىّ مجتمع(١) ، فالنخب هى التى تأخذ موقع الجمهور فى العادة وتقرّر بدلاً منه ، علي حين ليس للجمهور ـ فى الأغلب ـ إلاّ اتّباع تلك النخب والانقياد لها . وقد تُرتّب النخبُ المشهد ـ أحياناً ـ بصيغة بحيث تتوهّم الجماهير أنّها صاحبة القرار! ففى عصر كصدر الإسلام كان لرؤساء القبائل الدور المحورى فى التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة . وفى عصر آخر صار ذلك التأثير إلي النخب الفكريّة وقادة الأحزاب . أما فى العصر الحاضر فإنّ الذى يتحكّم بالجمهور ويوجّهه ويصوغ قراراته هم كبار المشرفين علي الشبكات الخبريّة ، وأجهزة الاتّصال المختلفة ، والقنوات والنظم الإعلاميّة ، وأصحاب الجرائد ، والصحفيّون . ب : دور أهل الكوفة فى حكم الإمام يحتلّ العراق فى الجغرافيّة السياسيّة لعصر صدر الإسلام موقع الجسر الذى يربط شرق العالم الإسلامى بغربه ، كما يعدّ مصدراً لتزويد السلطة المركزيّة بما (١) راجع كتاب "ميزان الحكمة" : الفساد / باب ٣٢٠٢ دور فساد الخاصة فى فساد العامة . ١٥٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل
تحتاج إليه من جند وقوّات عسكريّة . وفى العراق تحظي الكوفة بموقع خاصّ ، وحساسيّة كبري . لقد مُصِّرت الكوفة عام ١٧ هـ ; لتكون مقرّاً للجند ، حيث تقارَنَ تمصير هذه المدينة مع إيجاد معسكرات كبري للجند . بهذا يتّضح أنّ الكوفة هى قاعدة عسكريّة ، ومن ثمّ فإنّ من يسكنها لم يكن يفكّر بأكثر من القتال والبعوث وفتح البلدان والحصول علي الغنائم وغير ذلك ممّا له صلة بهذه الدائرة . لقد كان من سكن الكوفة بعيداً عن المدينة المنوّرة التى تحتضن أكثريّة الصحابة ، كما أنّ تردّد الصحابة علي هذا المصر كان قليلاً أيضاً ، إذ سار عمر بسياسة تقضى أن لا يتوزّع الصحابة فى الأمصار بل يبقون فى المدينة من حوله(١) . علي هذا الأساس لم يحظَ الكوفيّون بالمعرفة الدينيّة اللازمة ، وظلّ حظّهم ضئيلاً من تعاليم الشريعة والعلوم الدينيّة . لقد تحدّث عمر صراحةً إلي من رغب من الصحابة قصدَ الكوفة ، ونهاهم عن تعليم الحديث ; لئلاّ يضرّوا اُنس هؤلاء بالقرآن(٢) . هذا وقد برزت فى الكوفة طبقة عُرفت بـ "القرّاء" ، ألّفت فيما بعد البذور التأسيسيّة لتيّار الخوارج . ثم نقطة أساسيّة اُخري تتمثّل بالنسيج القبائلى الموجود فى الكوفة وهيمنة الطباع القبليّة ، وثقافة القبيلة وموازينها علي مجتمع الكوفة ، ففى إطار نسيج ثقافىّ كهذا تكون الكلمة الفصل لرئيس القبيلة ، أما البقيّة فهم تبع له ، من دون أن (١) المستدرك علي الصحيحين : ١ / ١٩٣ / ٣٧٤ . ١٥٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل
تكون لهم حرّية الاختيار . بضمّ هاتين المقدّمتين لبعضهما نخلص إلي هذه النتيجة : عندما نقول : "إنّ الناس انفضّوا عن الإمام على ¼ وتركوه وحيداً" فما نقصده بذلك هو تخلّى الخواصّ والنخب ورؤساء قبائل الاُمّة الإسلاميّة عنه ، بالخصوص أهل العراق ، وبخاصّة أهل الكوفة . وفيما يلى نعرض دراسة أسباب هذه الظاهرة ، وكيف بقى الإمام وحيداً ، من خلال ما ورد علي لسان الإمام أمير المؤمنين ¼ . غربة الإمام علي لسانه ذكرنا قبل ذلك أنّ الإمام علياً ¼ استطاع أن يعكس فى أيّام حكمه القصير أبهي صورة للحكم القائم علي أساس القيم الإنسانيّة . فالنهج العلوى فى الحكم لم يكن يستقطب إليه المؤمنين بالقيم الإسلاميّة فحسب ، بل كان ـ ولا يزال ـ يجذب إلي دائرة نفوذه حتي أولئك الذين لا يدينون بهذه القيم من بنى الإنسان . لذلك كلّه لا يمكن أن يكون سبب انفضاض الناس عن الإمام كامناً بخطأ منهجه فى الحكم ، بل ثم لذلك أدلّة اُخري . لقد بيّن الإمام نفسه أسباب إدبار الجمهور عن حكمه بعد أن كانوا أقبلوا عليه ، وكشف بالتفصيل دوافع إحجام المجتمع عن برنامجه الإصلاحى ، كما وضع يده علي الجذر الذى تنتهى إليه الاختلافات التى عصفت بالمجتمع ، والاضطرابات التى برزت أيّام حكمه . وفيما يلى نقدّم أجوبة الإمام علي هذه النقاط : ١٦٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل
١٦١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تضادّ الإرادات
( ١ ) يبرز السبب الأوّل فى ابتعاد الناس عن الإمام بذلك الاختلاف الأساسى الذى ظهر بين الرؤي ، والتضادّ المبدئى الذى حصل بين دوافع القوم وأهدافهم ; فلم يكن دافع أغلب الذين ثاروا علي عثمان ـ لا سيما بعض قادة الحركة مثل طلحة والزبير ـ هو إعادة المجتمع إلي سيرة النبىّ وسنّته ، واستئناف القيم الإسلاميّة الأصيلة ، بل كان الباعث علي ذلك هو ضجر هؤلاء من الاستئثار القبلى والحزبى الذى مارسه بنو اُميّة وفى طليعتهم عثمان . وبذلك لم يكن هدف هؤلاء من قتل عثمان ومبايعة الإمام على ¼ يتخطّي هذه النقطة ، حيث لبثوا بانتظار حلّ الإمام لهذه المشكلة . أمّا الإمام ، فقد كان له فى قبول الحكم هدف وباعث آخر ، فقد كان يهدف من وراء الاستجابة أن يعيد المجتمع إلي سيرة النبىّ ½ وسنّته ، ويبادر إلي إحياء القيم الإسلاميّة ، ويطلق حركة إصلاحيّة عميقة وواسعة فى المجتمع والدولة تطال جميع المرافق الإداريّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقضائيّة . وخلاصة الكلام أنّ مطامح الجمهور كانت شخصيّة ، وما يريده الإمام كان ١٦٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تضادّ الإرادات
إلهيّاً . فبينما كانت الناس تدور حول منافعها الشخصيّة ، كان الإمام يسعي إلي استئناف القيم الإسلاميّة وتطبيقها . وهذا ما أشار إليه بقوله ¼ : "و ليس أمرى وأمركم واحداً ; إنّى أريدكم لله ، وأنتم تريدوننى لأنفسكم" . فى أجواء كهذه ، عندما لمس الناس أنّ الإمام لا يتواءم وإيّاهم فى الهدف ، راحوا يتخلّون عن مساندته . ثمّ بمرور الزمان ، وكلّما اتّضحت دوافع الإمام فى العمل أكثر راح تأييد الناس يتضاءل ، وتتّسع الفجوة بينهم وبين الإمام . ١٦٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
( ٢ ) لقد كان لرؤساء القبائل فى العهد العلوى الدور الأبرز فى اتّخاذ القرار ، والتأثير علي أغلبيّة الجمهور . ولم تؤتِ جهود الإمام ثمارها المرجوّة علي صعيد الارتقاء بهؤلاء فكريّاً ، من خلال تصحيح نظرتهم إلي الحقّ ، بحيث يعرفون الحقّ بمعيار الحقّ ، لا بمعيار الرجال الذين يَكنّون لهم الاحترام(١) . لقد صارت هذه الأجواء ـ التى تقف حائلاً صلباً دون تحقّق الإصلاحات الأساسيّة ـ تلقى فى نفس الإمام الألم والمضاضة . وممّا جاء عن الإمام فى تحليل هذا الفضاء الاجتماعى الذى يبعث علي الملالة ، قوله ¼ : "الناس ثلاثة : فعالم ربّانى ، ومتعلّم علي سبيل نجاة ، وهمج رعاع ; أتباع كلّ ناعق ، يميلون مع كلّ ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلي ركن وثيق"(٢) . (١) راجع : القسم الخامس / السياسة الثقافيّة / الالتزام بالحقّ فى معرفة الرجال . إرجاعات
١٦٦ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام علي / الفصل الرابع : السياسة الثقافيّة / الالتزام بالحقّ في معرفة الرجال
١٦٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
يقسّم هذا النص العلوى الناسَ فى انتخاب طريق الحياة إلي ثلاثة أقسام ، هى : القسم الأوّل : العلماء الذين عرفوا طريق الحياة الصحيح ، حيث يطلق الإمام علي هؤلاء وصف "العالم الربّانى" . القسم الثانى : هم ذلك الفريق من الناس الذى يسعي لمعرفة الطريق الصحيح ، ويتحرّك باتّجاه معرفة الحقّ ، وهؤلاء فى الوصف العلوى "متعلّمون علي سبيل نجاة" . أمّا القسم الثالث فلا هو بالذى يعرف الطريق الصحيح للحياة ، ولا هو يبذل سعيه فى سبيل معرفته ، بل يتمثّل معياره فى اتّخاذ القرار واختيار النهج الذى يسلكه بالتقليد الأعمي للخواصّ ، واتّباع الشخصيّات دون بصيرة ، وهؤلاء هم "الهمج الرعاع" . إنّ معني "الهمج" هو الذباب الصغير الذى يحطّ علي وجه الغنم أو الحمير ، و"الرعاع" بمعني الأحمق والتافه الذى لا قيمة له . فشبّه التحليل العلوى أولئك الذين لا يعرفون طريق الحياة الصحيح ، ولا يسمحون لأنفسهم بالتفكير به ، بل غاية حظّهم اتّباع الآخرين اتّباعاً أعمي ، شبّههم بالذباب ; إذ هم يحيطون بجاهل أكبر منهم يستمدّون منه ، وهو يغذوهم! إنّ أمثال هؤلاء لا يتمتّعون بقاعدة فكريّة وعقيديّة متينة ، وهم يتّبعون الغير من دون تفحّص لكونه حقّاً أو باطلاً ، بل يتّبعونه لمحض كونه رئيس قبيلة ، أو قائد حزب ، أو شخصيّة تحظي بالاحترام بالنسبة إليهم ، فهم كالذباب تماماً ; كلّما تحرّكت الريح من جانب تحرّك معها . ١٦٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
والذى يبعث علي ألم الإمام وتوجّعه أنّ أغلب من يعاصره من الناس كان من القسم الثالث . فقد كان علىٌّ يعيش وسط جمهور ليس من أهل المعرفة والتشخيص ، ولا هو ممن يتحرّي المعرفة ويتحرّك فى مسار البحث والتحقيق . بيد أن الأمضّ علي الإمام فى ذلك كلّه أنّه ¼ قلّما كان يعثر علي من يباثّه همومه ، ويتحدّث إليه بمثل هذه المصائب الاجتماعيّة . أجل ، لم يكن مع علىّ من يستطيع أن يُفصح له بحقيقة من يعيش معهم ، وعلامَ يمارس حكمه . وعندما أراد مرّة أن يُفصح بخبيئة نفسه لكميل بن زياد ـ وهو من خواصّه وممّن يطيق سماع تحليله المتوجّع للوضع القائم ـ تراه أخذ بيده ، وصار به إلي الصحراء ، وبالحزن الممزوج بالألم أشار إليه أنّه لا يستطيع أن يتحدّث بهذا الكلام لكلّ أحد ; لعدم قدرة الجميع علي تحمّله ، وأنّه كلما حظى الإنسان بقاعدة فكريّة أكبر واُفق معنوى أوسع ، كان ذا قيمة أكثر ، ثمّ بعد ذلك حدّثه بسرّ انفضاض الناس عن نهجه ، وانكفائهم عنه ، وتنكّبهم عن برنامجه الإصلاحى ، حيث ذكر له أنّ المشكلة الأساسيّة فى ذلك تعود إلي جهل الناس ، واتّباعهم الأعمي للخواصّ ممن هو خائن أو جاهل . صراحة أكثر فى بيان الانحراف تناول الإمام فى حديث خاصّ مشكلاته مع الناس بصراحة أكثر ، ففى هذا الحديث ـ الذى أدلي به الإمام إلي عائلته وعدد من خواصّه ـ أوضح أين تكمن جذور الفتنة ، ولماذا ابتلى المجتمع الإسلامى بالفرقة والاختلاف علي عهده ، ولماذا لم يستطِع تنفيذ برنامجه لإصلاح المجتمع وإعادته إلي سيرة النبى ½ وسنّته ، وأخيراً لماذا لم ينهض الجمهور لتأييد سياسته والدفاع عنها . لقد بدأ أمير المؤمنين ¼ كلامه ـ فى المجلس المذكور ـ بالحديث النبوى ١٦٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
التالى : "ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خُلّتان : اتّباع الهوي ، وطول الأمل" ، ثم أوضح أنّ الفتن السياسيّة التى دفعت المجتمع الإسلامى إلي الفرقة والاختلاف ، وأدّت به إلي الانقسام والتوزّع إلي ولاءات وخطوط مختلفة ، إنّما تكمن جذورها فى المفاسد الأخلاقيّة ، والأثرة ، وضروب البدع والأهواء . وفى هذا يفيد النصّ العلوى : "إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تُتّبع ، وأحكام تُبتدع يخالف فيها حكم الله ، يتولّي فيها رجالٌ رجالاً" . وهكذا تتبدّل الأهواء والأنانيات إلي بدع ضدّ الدين ، لكنّها متلبّسة بدثار الدين . ثم تنشأ فى هذا الاتّجاه البُؤر المتعصّبة ، والتجمّعات العمياء ، وتتبدّل الفتنة الأخلاقيّة إلي فتنة ثقافيّة ، ثمّ إلي فتنة سياسيّة واجتماعيّة ، حيث يسعي أصحاب الفتنة إلي تسويغ مقاصدهم من خلال استغلال نصاعة الحق . يقول ¼ : "ألا إنّ الحقّ لو خلص لم يكن اختلاف ، ولو أنّ الباطل خلص لم يخفَ علي ذى حجي ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث" . ثمّ يواصل أمير المؤمنين استعراضه الموقف . فبعد مرور جيل تستحكم البدعة ، وترسخ مواقعها بدلاً من السنّة بحيث صار يستعصى عمليّاً معرفة السنّة مجدّداً . وفى هذا المضمار يستعين الإمام بحديث من السنّة النبويّة ـ حيث كان رسول الله ½ قد تنبّأ بشيوع مثل هذه الأجواء وسط المجتمع الإسلامى ـ وهو يقول : "إنّى سمعت رسول الله يقول : كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، يجرى الناس عليها ، ويتّخذونها سنّة ، فإذا غُيِّر منها شىء قيل : قد غُيّرت السنّة" . فى فضاء ثقافى مثل هذا تتعذّر الإصلاحات الجذريّة ، وتستعصى عمليّاً عمليّة العودة إلي السنّة النبويّة . ١٦٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
بعد بيان هذه المقدمة انعطف الإمام صوب جوهر القضيّة ، وراح يعدّد صراحة عدداً من البدع التى شاعت فى المجتمع الإسلامى ممّا ورثه من السابقين عليه ، ثم أكّد بألم أن ليس فى وسعه أن يفعل شيئاً فى هذا المجال ; لأنّ مواجهة هذه الانحرافات الثقافيّة تنتهى بتفرّق الجند عنه وبقائه وحيداً ، فقال ¼ : "و لو حملتُ الناس علي تركها وحوّلتها إلي مواضعها وإلي ما كانت فى عهد رسول ½ لتفرّق عنّى جندى ، حتي أبقي وحدى ، أو قليل من شيعتى"(١) . إتمام الحجّة علي الخواصّ والعوامّ إنّ ما ذكره الإمام مجملاً إلي كميل بن زياد ـ فى الصحراء ـ من خطر خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام ، وما كان قد أشار إليه بهذا الشأن فى مجلس خاصّ جمع فيه عدّة من المقرّبين والأتباع المخلصين ، عاد لاستعراضه تفصيلاً أمام جمهور الناس فى خطبة طويلة ألقاها فى الأشهر الأخيرة من حكمه ، حيث أتمّ بذلك الحجّة علي الخواصّ والعوامّ معاً . لقد استعرض الإمام فى كلامه هذا ـ الذى حمل عنوان "الخطبة القاصعة"(٢) والتى أدلي بها بعد معركة النهروان كما يتّضح من متنها ـ نقاطاً أساسيّة علي غاية قصوي من الأهميّة ترتبط بمعرفة المجتمع المعاصر له ، وعلل انكسار النهضات (١) راجع : القسم الخامس / الإصلاحات العلويّة / تعذّر بعض الإصلاحات . ١٦٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
الدينيّة قبل الإسلام ، ثم ما يتصل بالتنبؤ بمستقبل المسلمين ومآل الإسلام . تحذير للخواصّ فى هذا الخطاب وبعد أن عرّج الإمام علي المصير الذى آل إليه إبليس بعد ستّة آلاف سنة من العبادة ، انعطف إلي النخب التى لها فى خدمة الإسلام سابقة مشرقة ، وراح يحذّرها من أن تؤول إلي المصير نفسه ، وهو يقول : "فاحذروا ـ عباد الله ـ عدوَّ الله أن يُعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه!" . ولكى لا تُبتلي الاُمة بهذا المصير يتحتّم عليها أن تكفّ عن العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، وعن التكبّر ، فقال ¼ : "فأطفئوا ما كمن فى قلوبكم من نيران العصبيّة ، وأحقاد الجاهليّة ، فإنّما تلك الحميّة تكون فى المسلم من خطرات الشيطان ، ونخواته ، ونزعاته ، ونفثاته . واعتمدوا وضع التذلّل علي رؤوسكم ، وإلقاء التعزّز تحت أقدامكم ، وخلع التكبّر من أعناقكم" . تحذير للعوام وفى إدامة خطابه راح الإمام يركّز بكثافة علي جماهير الناس ، وهو يحذّرها من السادة والكبراء ، فلو أنّ اُولئك لم ينثنوا عن علوّهم وتكبّرهم فلا ينبغى للجمهور أن يتّبعهم ، ويكون أداة يستغلّها الكبراء فى تحقيق أهدافهم اللامشروعة . ثم ألفتَ نظر الجماهير إلي أن جميع الفتن وضروب الفساد تنبع من تلكم الرؤوس فقال : "ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبّروا عن حَسَبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم . . . ; فإنّهم قواعد العصبيّة ، ودعائم أركان الفتنة . . . وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتخذهم إبليس مطايا ضلال ، ١٦٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
وجنداً بهم يصول علي الناس" . وبعد أن انتهي الإمام من بيان عدد من المقدّمات الضروريّة فى هذا المجال ، انعطف إلي بحث أخلاقى سياسى مهمّ ، وهو يتحدث عن الامتحانات الإلهيّة الصعبة ودورها فى تربية الإنسانيّة ، فقد أكّد أنّ فلسفة ما يلاقيه الإنسان من ضروب المحن والمصائب وما يعانيه من مشاقّ الحياة ، هى عين حكمة الصلاة والصوم والزكاة ، حيث أنّها تهدف أيضاً إلي بناء الإنسان معنويّاً ، وتزكيته من الرذائل الخلقيّة ، بالأخصّ الأثرة والكبر والغرور . ثم دعا الناس أن يعتبروا بمصير النهضات الدينيّة التى سبقت الإسلام ، وما آلت إليه من انكسار إثر الفرقة والاختلاف ، فحذّرهم أن لا يجرّ كِبرُ الخواصّ وعلوّهم واتّباع العوامّ الحكومةَ الإسلاميّة إلي مصير مماثل لما انتهت إليه النهضات السابقة . وعند هذه النقطة راح الإمام يدقّ أجراس الخطر بصراحة ، وهو يتمّ الحجة علي الخواصّ والعوامّ معاً ، بقوله لهم : "ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم ، بأحكام الجاهليّة . . . واعلموا أنّكم صِرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ; ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه . . . ألا وإنّكم قد قطعتم قيد الإسلام ، وعطّلتم حدوده ، وأمتُّم أحكامه"(١) . ١٧٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / خيانة الخواصّ وتبعيّة العوام
١٧١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع
( ٣ ) تكمن إحدي أهمّ أسباب ابتعاد الخواصّ عن الإمام والتفاف العوام حوله بسياسة العدالة الاقتصاديّة . لطالما حضّ المقرّبون إلي الإمام أن يغضّ الطرف عن هذا النهج ، ليستحوذ علي ولاء رؤساء القبائل ، ويستقطب إليه نفوذ الشخصيّات البارزة من خلال منحهم مزايا ماديّة خاصّة . بيدَ أنّ الإمام كان يري أنّ هذا العرض يتنافي مع اُصول الحكم العلوى ، ويتعارض مع مرتكزاته ، ومن ثمّ فإنّ العمل به معناه أن ينفض الإمام أمير المؤمنين ¼ يديه عن أهداف الحكم الإسلامى ، ويتخلّي عن غاياته . لذلك لم يُبدِ استعداداً لقبوله . فيما يلى أمثلة لهذه العروض مقرونة بجواب الإمام عليها : ١ ـ جاء فى كتاب الغارات : شكا علىّ ¼ إلي الأشتر فرار الناس إلي معاوية ، فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة وأهل الكوفة ، والرأى واحد ، وقد اختلفوا بعد ، وتعادوا ، وضعفت النيّة ، وقلّ العدل ، وأنت تأخذهم بالعدل ، وتعمل فيهم بالحقّ ، وتنصف الوضيع من الشريف ، وليس ١٧٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع
للشريف عندك فضل منزلة علي الوضيع ، فضجّت طائفة ممّن معك علي الحقّ إذ عمّوا به ، واغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه ، وصارت صنائع معاوية عند أهل الغني والشرف ، فتاقت أنفس الناس إلي الدنيا ، وقلّ من الناس من ليس للدنيا بصاحب ، وأكثرهم من يجتوى الحقّ ، ويستمرى الباطل ، ويؤثر الدنيا . فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمِل إليك أعناق الناس ، وتصف نصيحتهم ، وتستخلص ودّهم . صنع الله لك يا أمير المؤمنين ، وكبتَ عدوّك ، وفضّ جمعهم ، وأوهن كيدهم ، وشتّت اُمورهم ، إنّه بما يعملون خبير . فأجابه على ¼ ، فحمد الله وأثني عليه ، وقال : أمّا ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل ، فإنّ الله يقول : ³ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَـلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ² (١) وأنا من أن أكون مقصّراً فيما ذكرت أخوف . وأمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك ، فقد علم الله أنّهم لم يفارقونا من جور ، ولم يُدعوا إذ فارقونا إلي عدل ، ولم يلتمسوا إلاّ دنياً زائلة عنهم كأن قد فارقوها ، وليُسألنّ يوم القيامة : أ للدنيا أرادوا أم لله عملوا؟ وأمّا ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال ، فإنّا لا يسعنا أن نؤتى أمرأً من الفىء أكثر من حقّه ، وقد قال الله وقوله الحقّ : ³ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ² (٢) . وبعث محمّداً ½ وحده فكثّره بعد القلّة ، وأعزّ فئته بعد الذلّة ، وإن يرد الله أن يولّينا هذا الأمر يذلّل لنا صعبه ، ويسهّل لنا حزنه(٣) . وأنا قابل من رأيك ما كان لله (١) فصّلت : ٤٦ . ١٧٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع
رضيً ، وأنت من آمن أصحابى ، وأوثقهم فى نفسى ، وأنصحهم وأرآهم عندى(١) . ٢ ـ وفى الكتاب نفسه روي عن ربيعة وعمارة ما نصّه : إنّ طائفة من أصحاب على ¼ مشوا إليه فقالوا : يا أمير المؤمنين ، أعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش علي الموالى والعجم ، ومن تخاف خلافه من الناس وفراره . قال : وإنّما قالوا له ذلك للذى كان معاوية يصنع من أتاه . فقال لهم على ¼ : أ تأمرونى أن أطلب النصر بالجور؟! والله لا أفعل ما طلعت شمس ، وما لاح فى السماء نجم . والله ، لو كان ما لهم لى لواسيت بينهم ، فكيف وإنّما هى أموالهم؟!(٢) . ٣ ـ بعث سهل بن حنيف ـ والى الإمام علي المدينة ـ رسالة إليه ، يخبره فيها أنّ جمعاً من أهل المدينة التحق بمعاوية . فكتب الإمام فى جوابه : "أمّا بعد ، فقد بلغنى أنّ رجالاً ممّن قبلك يتسلّلون إلي معاوية ، فلا تأسف علي ما يفوتك من عددهم ، ويذهب عنك من مددهم ، فكفي لهم غيّاً ولك منهم شافياً فرارهم من الهدي والحقّ ، وإيضاعهم إلي العمي والجهل ، وإنّما هُم أهل دنيا مقبلون عليها ، ومهطعون إليها ، وقد عرفوا العدل ورأوه ، وسمعوه ووعوه ، وعلموا أنّ الناس عندنا فى الحقّ اُسوة ، فهربوا إلي الأثَرة ، فبعداً لهم وسحقاً!! إنّهم ـ والله ـ لم ينفروا من جور ، ولم يلحقوا بعدل ، وإنّا لنطمع فى هذا الأمر أن يذلّل الله لنا صعبه ، ويسهّل لنا حزنه ، إن شاء الله . والسلام"(٣) . (١) الغارات : ١ / ٧١ ; شرح نهج البلاغة : ٢ / ١٩٧ عن فضيل بن الجعد . ١٧٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العدالة فى التوزيع
١٧٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
( ٤ ) المدرسة الاُمويّة تري أنّ الهدف يوجّه الوسيلة ، بحيث يستطيع السياسى أن يستفيد من الأدوات اللامشروعة فى سياساته وبرامجه وأوامره . ومن ثمّ فإنّ القائد ليس له أن يضلّل الجمهور بلغة التطميع فحسب ، بل له أيضاً أن يفرض نفسه عليه عبرَ استخدام لغة التهديد والتوسّل بالقوّة . ولقد استطاع معاوية من خلال توظيف هذه السياسة أن يحافظ علي التفاف الناس حوله . وربما كان يستطيع أن يحافظ علي المصالح الوطنيّة للشام من خلال هذا النهج . بيد أن الأمر يختلف فى المدرسة العلويّة التى لا تُجيز توظيف الأدوات غير المشروعة فى تنفيذ السياسات المطلوبة ; وعندئذ لا يستطيع القائد أن يتوسّل بلغة التطميع لتنفيذ الحكم ، كما لا يستطيع أن يستخدم لغة التهديد مع الناس . وعلي هذا الأساس لم يكن الإمام ¼ علي استعداد أن يجبر الناس علي طاعته بالقوّة ; فعندما أجبره الجُند فى حرب صفّين علي إيقاف القتال والإذعان إلي التحكيم ، قال : "ألا إنّى كنت أمير المؤمنين ، فأصبحت اليوم مأموراً ، وكنت ١٧٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
ناهياً ، فأصبحت منهيّاً ، وقد أحببتم البقاء وليس لى أن أحملكم علي ما تكرهون"(١) . علي هذا الضوء لا يستطيع الحكم العلوى تحقيق مراميه الإصلاحيّة إلاّ علي أساس الاختيار الشعبى الحرّ لبرامج الإمام بهذا الشأن ، وإلاّ فالإمام لا يري نفسه مخوّلاً باستخدام منطق القوّة والتوسّل بالسيف لإجبار الناس علي طاعته ، فالجمهور سوف ينتخب الطريق الذى يريده هو . وبعبارة اُخري : إنّ إحدي أجوبة الإمام علي هذا التساؤل : لماذا ترك الناسُ الإمامَ وحيداً؟ هو : إنّنى لستُ علي استعداد أن اُجبر هؤلاء علي الطاعة بمنطق السيف ; فهذا الاُسلوب وإن كان يحلّ مشكلة الحكم مؤقّتاً ، إلاّ أنّ هذا الحكم لن يغدو بعدئذ حكماً علويّاً! لقد تكرّر هذا المعني فى كلام الإمام ، ففى خطاب لأهل الكوفة ، قال بعد أن بثّ شكواه منهم : "يا أهل الكوفة ! أ ترونى لا أعلم ما يصلحكم؟! بلي ، ولكنّى أكره أن اُصلحكم بفساد نفسى" ، وكما قال مرّة اُخري : "و لقد علمت أنّ الذى يصلحكم هو السيف ، وما كنت متحرّياً صلاحكم بفساد نفسى ، ولكن سيُسلَّط عليكم بعدى سلطان صعب" . يوجّه الإمام فى هذا الكلام خطابه إلي اُولئك الذين أساؤوا استخدام أجواء الحرّيّة فى ظلال حكمه ، وصاروا يتمرّدون علي طاعته ; بأنّنى أستطيع كبقيّة السياسيّين المحترفين أن أضطرّكم إلي إطاعتى ، وبمقدورى أن أقوِّم أودَكم ببساطة من خلال القوّة وعبر منطق السيف ; بيدَ أنّنى أربأ بنفسى أن اُقدم علي (١) راجع : القسم السادس / وقعة صفّين / توقّف الحرب / أصحاب الجباه السود يحاصرون الإمام . إرجاعات
١٩٠ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الثانية : وقعة صفّين / الفصل الحادي عشر : توقّف الحرب / الإمام في حصار أصحاب الجباه السُّود
١٧٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
ذلك ; لأنّ إصلاح أمركم بالسيف ومنطق القوّة لا يكون إلاّ بالتضحية بقيمى الأخلاقيّة ، وهذا الثمن يتنافي مع فلسفة حكمى . لكن اعلموا بأنّ المستقبل يُخبئ لكم فى أحشائه آتياً عظيماً! فبسلوككم هذا إنّما توطّئون لأنفسكم نازلة قوم لا يحكمونكم إلاّ بالسيف ، ولا يتحدّثون إليكم إلاّ بمنطق القوّة ، ولا يعرفون بكم الشفقة! لقد خاطب الإمام أولئك بقوله ¼ : "لا يصلح لكم يا أهل العراق إلاّ من أخزاكم وأخزاه الله!"(١) . تحقّق نبوءة الإمام هكذا مضي علىّ ¼ مظلوماً من بين الناس ; وبتعبيره : "إن كانت الرعايا قبلى لتشكو حيف رعاتها ، وإنّنى اليوم لأشكو حيف رعيّتى"(٢) . لقد أوضح للاُمّة أنّ هضم الرعيّة لحقوق الوالى العادل لا يقلّ فى تبعاته الخطرة علي المجتمع عن عمل الوالى الظالم ، وهو يقول : "و إذا غلبت الرعيّة واليها ، أو أجحف الوالى برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور ، وكثر الإدغال فى الدين ، وتركت محاجّ السنن ، فعُمِل بالهوي ، وعُطِّلت الأحكام ، وكثُرت علل النفوس ، فلا يُستوحشُ لعظيم حقٍّ عُطِّل ، ولا لعظيم باطل فُعل ، فهنالك تَذلُّ الأبرار ، وتَعزُّ الأشرار ، وتعظمُ تبعات الله سبحانه عند العباد"(٣) . (١) ربيع الأبرار : ٤ / ٢٥٠ . إرجاعات
٤٠٨ - المجلد التاسع / القسم العاشر : خصائص الإمام عليّ / الفصل الرابع : الخصائص السياسيّة والاجتماعيّة / المظلوميّة بعد النبيّ
١٧٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
لم تلبث الأمّة بعد استشهاد الإمام إلاّ أربعة وثلاثين عاماً حتّي تحقّقت نبوءته فيها . ففى عهد خلافة عبد الملك بن مروان خرجت علي الحكومة المركزيّة من جهة الأهواز جماعة من الخوارج يطلق عليها الأزارقة ، ولم تكن ثَمَّ منطقة يمكن أن يُبعث منها جند لمواجهة هؤلاء غير الكوفة ، لكنّ أهل الكوفة لم يذعنوا لذلك ، ولم يستجيبوا لرغبة الحكم ، ولم يعبؤوا به . بادر عبد الملك إلي عقد مجلس ضمَّ الخواصّ والمقرّبين لمعالجة المشكلة وتدبّر الحلّ ، فاستنهضهم ضمن خطاب حماسى ، قائلاً : "فمن ينتدب لهم منكم بسيف قاطع ، وسنان لامع!" ، فخيّم الصمت علي الجميع ، ولم يَنبِس أحدهم ، إلاّ الحجّاج بن يوسف ـ الذى كان قد انتهي لتَوّه من مهمّة فى مكّة قضي فيها علي حركة عبد الله بن الزبير ـ فنهض من مكانه وأبدي استعداده للمهمّة . بيدَ أنّ عبد الملك لم يرضَ ، وطلب منه الجلوس . وفى إطار حديثه عن كيفيّة إرسال الجند إلي الأهواز توجّه عبد الملك مجدّداً إلي القوم طالباً من الحضور أن يذكروا له أكفأ الرجال أميراً علي العراق ، ومن يكون قائداً للجيش الذى سيقود المعركة مع الأزارقة ، وهو يقول : ويلكم! مَن للعراق؟ فصمتوا ، وقام الحجّاج ثانية ، وقال : أنا لها . الطريف فى الأمر أنّ عبد الملك التفت هذه المرّة إلي الحجّاج مستوضحاً عن الوسيلة التى يلجأ إليها فى دفع الناس لطاعته ، حيث سأله نصّاً : إنّ لكلّ أمير آلة وقلائد ، فما آلتك وقلائدك؟ أوضح الحجّاج لعبد الملك أنّه سيلجأ إلي القوّة واستعمال السيف لإجبار الناس علي الطاعة ، وأنّه لن يوفِّر جهداً فى استغلال سياسة التهديد والترغيب ١٧٩ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
وتوظيفها بأقصي مداها حتي يقضى علي جميع المناوئين ، معبِّراً عن هذا النهج بقوله : "فمن نازعنى قصمته ، ومن دنا منّى أكرمته ، ومن نأي عنّى طلبته ، ومن ثبت لى طاعنته ، ومن ولّي عنّى لحقته ، ومن أدركته قتلته . . . إنّ آلتى : ازرع بدرهمك مَن يواليك ، واحصد بسيفك مَن يعاديك" . وافق عبد الملك علي هذا النهج ، وكتب للحجّاج عهده علي العراقين أعنى الكوفة والبصرة سنة (٧٤) للهجرة . أمّا الحجّاج فكان أوّل ما نطق به فى أوّل لقاء جمعه مع أهل الكوفة ، قوله لهم : "إنّى لأري رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ، وإنّى لصاحبها ، وكأنّى أنظر إلي الدماء ، وإنّها لترقرق بين العمائم واللحي . . . واعلموا أنّى لا أعِد إلاّ وفيت ، ولا أقول إلاّ أمضيت ، ولا أدنو إلاّ فهمت ، ولا أبعد إلاّ سمعت ، فإيّاكم وهذه الهنات والجماعات والبطالات ، وقال وقيل وماذا يقول ، وأمر فلان إلي ماذا يؤول . وما أنتم يا أهل العراق ويا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! وإنّما أنتم أهل قرية ³ كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَـئـِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ² (١) . . . ; ألا إنّ سيفى سيروي من دمائكم ، ويفرى من جلودكم ، فمن شاء فليحقن دمه"(٢) . (١) النحل : ١١٢ . ١٨٠ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
لقد أدرك الناس من خلال القسوة التى أبداها الحجّاج منذ اليوم الأوّل لعهده أنّه جادّ فى تنفيذ سياسته ، حازم فى العمل بما يقول . وحيث كان ذاك فقد أمر فى اليوم الثانى مناديه أن يطوف فى سكك الكوفة وطرقها ، وهو يقرأ علي الناس : "ألا إنّنا قد أجّلنا من كان من أصحاب المهلّب ثلاثاً ، فمن أصبناه بعد ذلك فعقوبته ضرب عنقه" . لكى يضمن الحجّاج تنفيذ أمره دعا حاجبه زياد بن عروة وصاحب شرطته ; وأمرهما أن يطوفا فى سكك المدينة وطرقها مع عدد من الجند ; يشرفان علي خروج الناس إلي القتال ، ومن أبي أو تأخّر عن النفير ضربت عنقه . هكذا التحق بالمهلّب بن أبى صفرة قائد الجيش الذى خرج لحرب الأزارقة جميع من كان معه بادئ الأمر ، وعادوا إليه بعد أن كانوا تركوه وحيداً ، دون أن يتخلّف أحد(١) . لقد استطاع عبد الملك بن مروان إسكات جميع المعارضين والقضاء علي الخارجين عليه من خلال الاتكاء إلي سياسة البطش والإرهاب هذه ، وإجرائها فى جميع أمصار العالم الإسلامى ، حتي بلغ من أمره أنّه خرج إلي مكّة حاجّاً سنة (٧٥) وهو مطمئنّ البال . قال اليعقوبى بهذا الشأن : "و لما استقامت الاُمور لعبد الملك ، وصلحت البلدان ، ولم تبق ناحية تحتاج إلي صلاحها والاهتمام بها ، ١٨١ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
خرج حاجّاً سنة ٧٥"(١) . أجل ، هذه هى الإصلاحات التى يكون ثمنها فساد المُصلح . والإمام أمير المؤمنين ¼ لم يكن علي استعداد أن يصلح المجتمع بهذه الطريقة ، فعلىّ لا يستطيع أن يميل إلي نهج يحلّ مشكلة الحكم من خلال التضحية بالقيم الإنسانيّة . ولو حصل ذلك لن تكون عندئذ ثمّ حاجة إلي بعث الأنبياء وإلي القادة الإلهيّين ، ومن ثمّ ليس هناك حاجة إلي قيادة علىّ ¼ بالأساس ، بل لن يكون للحكم العلوى من معني ، إنّما يغدو شعاراً بلا مفهوم ; لأنّ فى وسع الجميع ممارسة الحكم بهذه الطريقة ، كما تَمَّ ذلك فعلاً ، حيث مارسوا الحكم قروناً باسم الإسلام . وأمّا الحكم العلوى فإنّ الأصالة فيه للقيم ، وعلي هذا لم يكن الإمام على ¼ علي استعداد للتضحية بالقيم الإنسانيّة والإسلاميّة مهما كان الثمن . وإنّ الحكم الذى يجعل القيم فداءً لمصالح الحكم والحاكمين هو حكم اُموى ، وليس علويّاً ولا إسلاميّاً وإن تواري خلف اسم على والإسلام! بديهىّ لم يعد لسياسة القوّة ولغة السيف وقعٌ ولا تأثير يذكر فى العالم المعاصر . فقد راحت الأدوات العسكريّة تفقد فاعليتها بالتدريج ، واكتشف الحكّام والساسة وسائل جديدة لممارسة السلطة علي أساس النهج الاُموى ; فالوسائل صارت أكثر تعقيداً ممّا كانت عليه فى الماضى ، وأفدح خطراً فى هتك القيم الإنسانيّة ووأدها ، ومن بين ذلك برز برنامج "الإصلاح الاقتصادى" الذى يضحّى بالعدالة الاجتماعيّة ، ويأتى تطبيقه علي أساس تدمير الطبقات الضعيفة فى الهرم الاجتماعى والقضاء عليها . ١٨٢ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / تجنّب القوّة فى إجراء الأحكام
١٨٣ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة
( ٥ ) يمثِّل ما ذكرناه حتي الآن العوامل الأساسيّة لتخاذل الناس وبقاء الإمام وحده آخر أيّام حكمه . وهناك مجموعة اُخري من العوامل هى وإن لم تكن بمستوي هذه تأثيراً ، إلاّ أنّه لا يمكن الإغضاء عن الدور الذى ساهمت به فى إبعاد الجماهير عن الإمام . سنطلق علي المجموعة الثانية وصف العوامل الجانبيّة التى اصطفّت إلي جوار العوامل الأساسيّة ، وراحت تخلق المشكلات لحكم الإمام ; وهى : أ : شُبهة قتال أهل القبلة انطلقت المواجهة فى جميع الحروب التى سبقت العهد العلوى مع الكفّار ، بحيث لم يكن بمقدور أحد أن يثير شبهة فى هذا المجال . أمّا الحروب التى اندلعت فى ظلّ حكم الإمام ، وتحرّكت فى مسار إصلاح المجتمع الإسلامى ومن أجل إعادته إلي ظلال سيرة النبى ½ وسنّته ، فقد وقعت مع أهل القبلة . لقد انطلقت هذه الحروب فى مواجهة اُناس يدّعون الانتماء إلي ١٨٤ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة
الإسلام أيضاً ، بل لبعضهم سوابق مشرقة فى خدمة هذا الدين . من هنا كان النبىّ ½ قد أطلق فى تنبّؤاته علي هذه الحروب صفة القتال علي أساس تأويل القرآن(١) . أجل ، لقد هيّأت حروب أهل القبلة التى اشتعلت فى أيّام حكم الإمام الأرضيّةَ المناسبة لإيجاد الشبهة ، وانفصال الناس عن الإمام ، ومنابذتهم له . وعلي هذا الأساس اختارت شخصيّات بارزة موقفها منذ البدء فى أن لا تكون إلي جوار على ¼ فى هذه الحروب . ولمّا استوضح الإمام من هؤلاء بواعث موقفهم هذا ، أجاب سعد بن أبى وقّاص : "إنّى أكره الخروج فى هذه الحرب لئلاّ اُصيب مؤمناً ، فإن أعطيتنى سيفاً يعرف المؤمن من الكافر قاتلتُ معك" . وقال له اُسامة : "أنت أعزّ الخلق علىّ ، ولكنّى عاهدت الله أن لا اُقاتل أهل لا إله إلاّ الله"(٢) . وقال عبد الله بن عمر : "لست أعرف فى هذة الحرب شيئاً ، أسألك ألاّ تحملنى علي ما لا أعرف"(٣) . (١) راجع : القسم السادس / نظرة عامّة / أهداف الإمام فى قتال البغاة . إرجاعات
٢٩٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الثالثة : وقعة النهروان / الفصل الأوّل : نظرة عامّة / أسماء مسعّري الحرب / الخوارج
٨٠ - المجلد الرابع / القسم الخامس : سياسة الإمام علي / الفصل الأوّل : بيعة النور / من تخلّف عن بيعته
١٨٥ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة
لقد التقي استعداد الناس ذهنيّاً بشبهة عدم استساغة قتال أهل القبلة ، مع تلك الشبهات التى أثارها المناوئون لمنهج الإصلاح العلوى ، بالأخصّ معاوية فى حربه الدعائيّة الشعواء ضدّ الإمام(١) ; التقي هذا بذاك ، وصارا سبباً فى عرقلة حركة التعبئة العامّة وتهديدها بأخطار جدّيّة ، بحيث لم يجد الإمام مناصّاً من أن يلج الميدان بنفسه أغلب الأحيان ، وينهض شخصيّاً بإرشاد الناس وتوجيههم . خاطبهم ¼ فى البدء : "و قد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة ، ولا يحمل هذا العلم إلاّ أهل البصر والصبر والعلم بمواضع الحقّ ، فامضوا لما تؤمرون به ، وقِفوا عندما تُنهون عنه ، ولا تعجلوا فى أمر حتّي تبيّنوا ; فإنّ لنا مع كلّ أمر تنكرونه غيراً"(٢) . مع أنّ الإمام لم يألُ جهداً فى أن يستفيد من أىّ فرصة تسنح لتوجيه الناس وإرشادهم ، إلاّ أنّه كان عسيراً علي كثيرين أن يهضموا أنّ علياً ¼ ينطق بالحقّ ، وأنّ طلحة والزبير وعائشة ـ فى الوقت ذاته ـ سادرون فى الغىّ(٣) . ب : القتال بلا غنيمة من العوامل السلبيّة التى أثّرت فى الجماهير غيابُ الغنيمة ; فمع تدنّى مستوي الوعى الثقافى للقاعدة الشعبيّة العريضة صار لغياب الغنائم الحربيّة الكبري أثر فى تخريب الحالة النفسيّة للقوّات المقاتلة ، ودفعها إلي الملالة (١) راجع : القسم السادس / وقعة صفّين / حرب الدعاية . إرجاعات
٥ - المجلد السادس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة
١٤٢ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الاُولى : وقعة الجمل / الفصل الرابع : تأهّب الإمام لمواجهة الناكثين / كتاب الإمام إلى والي البصرة
١٨٦ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة
والإحباط والتعب من الحرب ، ومن ثمّ عدم طاعة الإمام والانقياد له ، يفوق ما كان لشبهة قتال أهل القبلة . لقد اعتاد المقاتلون الحصول علي غنائم وافرة فى العهود التى سبقت عهد الإمام ، من خلال حروب الكفّار ، وبالأخصّ حروب فارس والروم . أمّا الآن فقد راح الإمام ¼ يدعوهم منذ أوائل أيّام حكمه ـ ولأوّل مرّة ـ إلي حرب لا غنيمة من ورائها ، أو أن يكون نصيبهم منها ضئيلاً لا قيمة له . وهذا ما لم يألفه الناس قبل ذلك ، ومن ثمّ لم يكونوا علي استعداد لقبوله كما يبدو . لقد كان اقتران الحرب بالغنيمة أمراً ذا مغزي للجمهور الذى يعيش فى ذلك العصر . وعندما ننظر إلي القاعدة الشعبيّة التى رافقت الإمام ¼ فى حروبه وشهرت السيف معه ضدّ أصحاب الفتنة ، نجدها فى الغالب غير متحلّية بالبصيرة ، ولا ملتمسة منار الحقّ ، بحيث يكون الحقّ هو هدفها فى إشهار السيف ، ورضا الله هو الغاية القصوي التى تتمنّاها من القتال ، بل كان الجمّ الغفير من هؤلاء يفكّر بمنافعه الشخصيّة قبل أن يفكّر بالحقّ ومصلحة الدين . فمن بين الاعتراضات التى طالما كرّرها جند الإمام فى حربى الجمل والنهروان ، هو : لماذا لا يسلبون نساء القوم ويتّخذونهنّ سبايا واُسارى؟ ولماذا لا توزّع عليهم أموالهم؟ قال ابن أبى الحديد بهذا الصدد : "اتّفقت الرواة كلّها علي أنّه ¼ قبض ما وجد فى عسكر الجمل ; من سلاح ودابّة ومملوك ومتاع وعروض ، فقسّمه بين أصحابه ، وأنّهم قالوا له : اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقاً ، فقال : لا . فقالوا : فكيف تحلّ لنا دماءهم وتحرِّم علينا سبيهم؟!"(١) . (١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٥٠ . راجع : القسم السادس / وقعة الجمل / بعد الظفر / غنائم الحرب . إرجاعات
٢٦٦ - المجلد الخامس / القسم السادس : حروب الإمام عليّ في أيّام الإمارة / الحرب الاُولى : وقعة الجمل / الفصل العاشر : بعد الظفر / غنائم الحرب
١٨٧ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة
لقد تلاقحت عوامل الملالة والتعب والإحباط التى عاشها الجند بعد سنتين من ممارسة القتال بدون غنائم وعوائد مادّيّة ، مع التبعات السلبيّة لشبهة عدم شرعيّة قتال أهل القبلة ; حتي إذا ضُمّت هذه إلي تلك ، ثمّ التقت الحصيلة مع العناصر الأساسيّة للتخاذل ، صار من الطبيعى أن تجرّ الحالة إلي عدم انقياد هؤلاء وعصيانهم ، بحيث راح الإمام يواجه مشكلة حقيقيّة جادّة فى استنفار القوّات وتعبئتها أواخر عهد حكمه . ج : فقد الأخلّة وخلّص الأعوان تتمثّل إحدي العوامل الاُخر التى ساهمت فى غربة الإمام وبقائه وحيداً أواخر عهده فى الحكم بغياب أبرز الخلاّن ، وفقدان الشخصيّات الكبيرة التى كان لكلّ منها أثره المباشر فى توجيه جيشه . لقد كان هؤلاء لساناً ناطقاً ، تُلهب كلماتهم النفوس ، وتثبّت القلوب فى الأزمات ، وتثير خطبهم الحماس فى سوح القتال ، ولهم تأثير بليغ علي الناس . هذه هى سوح القتال ومضامير الحياة وقد خلت من عمّار بن ياسر ، ومالك الأشتر ، وهاشم بن عتبة ، كما لم يعُد فيها أثر يذكر لمحمّد بن أبى بكر ، وعبد الله بن بديل ، وزيد بن صوحان ، حتي يُلهبوا بكلماتهم المضيئة حماسَ الناس ، ويُثيروا فيهم العزائم . وها هو الإمام يومئ إلي تلك الأطواد الشامخة بالبصيرة ، المتوهِّجة بالنور ، وسط ساحة عنود يمتنع فيها الأصحاب ، وينأون عن نصرته بهذه الذريعة وتلك ، ويتحدّث عن رهبان الليل ، وليوث الوغي إذا حمى الوطيس ، والسابقين فى مضمار الإيمان والعمل ، فيقول : "أين القوم الذين دُعوا إلي الإسلام فقبلوه ، وقرؤوا القرآن فأحكموه ، وهِيجُوا إلي الجهاد فولِهُوا ولَهَ اللِّقاح إلي أولادها ، ١٨٨ - المجلد السابع / القسم السابع : أيّام المحنة / الفصل العاشر : آخر خطبة خطبها الإمام / بحث فى جذور التخاذل / العوامل الجانبيّة
وسلبُوا السيوف أغمادَها ، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً ، وصفّاً صفّاً . بعض هلك ، وبعض نجا . لا يُبشَّرون بالأحياء ، ولا يُعزَّون عن الموتي . مُرْهُ(١) العيون من البكاء ، خُمص البطون من الصيام ، ذُبل الشفاه من الدعاء ، صُفر الألوان من السهر ، علي وجوههم غَبرة الخاشعين ، أولئك إخوانى الذاهبون ، فحقَّ لنا أن نظمأ إليهم ، ونعضَّ الأيدى علي فراقهم"(٢) . وقد عاد الإمام إلي ذكر اُولئك الأخلاّء فى آخر خطبة ألقاها ، قبل عدّة أيّام من اغتياله ، فقال : "أين إخوانى الذين ركبوا الطريق ، ومضوا علي الحقّ ! أين عمّار ! وأين ابن التَّيِّهان ! وأين ذو الشهادتين ! وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة ، واُبرِدَ برؤوسهم إلي الفجرة!"(٣) . علي خط آخر كان الخوارج جزءاً من جند الإمام ومقاتلى جيشه ، ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا بعد صفّين إلي موقع مناهض للإمام ، فكان مآلهم أن قتلوا فى النهروان ، أو صاروا أحلاس بيوتهم . وبذلك غابت عن صفوف العسكر أيضاً هذه القوّة القتاليّة الوثّابة ، فصار الإمام علىّ ¼ وحيداً فريداً غريباً . (١) هو جمع الأمْره ، وقد مرِهت عينُه تمْرَه مَرهاً ، والمَرَهُ : مرض فى العين لترك الكحل (النهاية : ٤/٣٢١ و٣٢٢) . |
||||