٣٩٥ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان
٩ / ١ ٣٩٤٣ ـ شرح نهج البلاغة : إنّه ¼ كان أولي بالأمر وأحقّ ، لا علي وجه النصّ بل ٣٩٦ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / ابن أبى الحَديد
علي وجه الأفضليّة ; فإنّه أفضل البشر بعد رسول الله ½ ، وأحقّ بالخلافة من جميع المسلمين(١) . ٣٩٤٤ ـ شرح نهج البلاغة : ما أقول فى رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل ، ولم يمكنهم جحد مناقبه ، ولا كتمان فضائله ، فقد علمت أنّه استولي بنو اُميّة علي سلطان الإسلام فى شرق الأرض وغربها ، واجتهدوا بكلّ حيلة فى إطفاء نوره والتحريض عليه ، ووضع المعايب والمثالب له ، ولعنوه علي جميع المنابر ، وتوعّدوا مادحيه ، بل حبسوهم وقتلوهم ، ومنعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة ، أو يرفع له ذكراً ، حتي حظروا أن يسمّى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّاً ، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عَرْفه ، وكلّما كتم تضوّع نشره ، وكالشمس لا تستر بالراح ، وكضوء النهار إن حُجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة . وما أقول فى رجل تعزي إليه كلّ فضيلة ، وتنتهى إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلّى حلبتها ، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ ، وله اقتفي ، وعلي مثاله احتذي(٢) . ٣٩٤٥ ـ شرح نهج البلاغة ـ فى ذيل الخطبة الثانية ـ : إن قيل : ما معني قوله ¼ : "لا يقاس بآل محمّد من هذه الاُمّة أحد ، ولا يسوّي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً" ؟ قيل : لا شبهة أنّ المنعم أعلي وأشرف من المنعَم عليه ، ولا ريب أنّ محمّداً ½ (١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٤٠ . ٣٩٧ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / ابن أبى الحَديد
وأهله الأدنَين من بنى هاشم ـ لا سيّما عليّاً ¼ ـ أنعموا علي الخلق كافّة بنعمة لا يقدّر قدرها ; وهى الدعاء إلي الإسلام والهداية إليه ، فمحمّد ½ وإن كان هدي الخلق بالدعوة التى قام بها بلسانه ويده ، ونصرة الله تعالي له بملائكته وتأييده ، وهو السيّد المتبوع ، والمصطفي المنتجب الواجب الطاعة ، إلاّ أنّ لعلىّ ¼ من الهداية أيضاً ـ وإن كان ثانياً لأوّل ، ومصلّياً علي إثر سابق ـ ما لا يجحد ، ولو لم يكن إلاّ جهاده بالسيف أوّلاً وثانياً ، وما كان بين الجهادين من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلي ما لم تكن له فاهمة ولا متصوّرة ، لكفي فى وجوب حقّه ، وسبوغ نعمته ¼ . فإن قيل : لا ريب فى أنّ كلامه هذا تعريض بمن تقدّم عليه ، فأىّ نعمة له عليهم ؟ قيل : نعمتان : الاُولي منهما : الجهاد عنهم وهم قاعدون ; فإنّ من أنصف علم أنّه لولا سيف علىّ ¼ لاصطلم المشركون ، من أشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمت آثاره فى بدر ، واُحد ، والخندق ، وخيبر ، وحنين ، وأنّ الشرك فيها فَغَر فاه(١) ، فلولا أن سدّه بسيفه لالتهم المسلمين كافّة . والثانية : علومه التى لولاها لحكم بغير الصواب فى كثير من الأحكام ، وقد اعترف عمر له بذلك ، والخبر مشهور : "لولا علىّ لهلك عمر" . . . . واعلم أنّ عليّاً ¼ كان يدّعى التقدّم علي الكلّ ، والشرف علي الكلّ ، والنعمة علي الكلّ ، بابن عمّه ½ ، وبنفسه ، وبأبيه أبى طالب ; فإنّ من قرأ علوم السير ٣٩٨ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الإسكافي
عرف أنّ الإسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئاً مذكوراً(١) . ٩ / ٢ ٣٩٤٦ ـ شرح نهج البلاغة : قال شيخنا أبو جعفر : . . . قد علمنا ضرورةً من دين الرسول ½ تعظيمه لعلىّ ¼ تعظيماً دينيّاً لأجل جهاده ونصرته ، فالطاعن فيه طاعن فى رسول الله ½ (٣) . ٣٩٤٧ ـ شرح نهج البلاغة : قال أبو جعفر : قد تعلمون أنّ بعض الملوك ربّما أحدثوا قولاً أو ديناً لهوي ، فيحملون الناس علي ذلك ، حتي لا يعرفوا غيره ، كنحو ما أخذ الناسَ الحجّاجُ بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود واُبىّ بن كعب ، وتوعّد علي ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بنى اُميّة وطغاة مروان (١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٤٠ . ٣٩٩ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الإسكافي
بولد علىّ ¼ وشيعته ، وإنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة ، فما مات الحجّاج حتي اجتمع أهل العراق علي قراءة عثمان ، ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها ; لإمساك الآباء عنها ، وكفّ المعلّمين عن تعليمها حتي لو قرأت عليهم قراءة عبد الله واُبىّ ما عرفوها ، ولظنّوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان ; لإلف العادة وطول الجهالة ; لأنّه إذا استولت علي الرعيّة الغلبة ، وطالت عليهم أيّام التسلّط ، وشاعت فيهم المخافة ، وشملتهم التقيّة ، اتّفقوا علي التخاذل والتساكت ، فلا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم وتنقص من ضمائرهم ، وتنقض من مرائرهم ، حتي تصير البدعة التى أحدثوها غامرة للسنّة التى كان يعرفونها . ولقد كان الحجّاج ومن ولاّه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بنى اُميّة علي إخفاء محاسن علىّ ¼ وفضائله وفضائل ولده وشيعته ، وإسقاط أقدارهم ، أحرص منهم علي إسقاط قراءة عبد الله واُبىّ ; لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم ، وفساد أمرهم ، وانكشاف حالهم ، وفى اشتهار فضل علىّ ¼ وولده وإظهار محاسنهم بوارُهم ، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم ، فحرصوا واجتهدوا فى إخفاء فضائله ، وحملوا الناس علي كتمانها وسترها ، وأبي الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلاّ استنارة وإشراقاً ، وحبّهم إلاّ شغفاً وشدّة ، وذكرهم إلاّ انتشاراً وكثرة ، وحجّتهم إلاّ وضوحاً وقوّة ، وفضلهم إلاّ ظهوراً ، وشأنهم إلاّ علوّاً ، وأقدارهم إلاّ إعظاماً ، حتي أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء ، وبإماتتهم ذكرهم أحياء ، وما أرادوا به وبهم من الشرّ تحوّل خيراً ، فانتهي إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدّمه السابقون ، ولا ساواه فيه القاصدون ، ولا يلحقه الطالبون ، ولولا أنّها كانت كالقبلة المنصوبة فى الشهرة ، وكالسنن المحفوظة فى الكثرة ، لم يصل إلينا منها فى دهرنا حرف ٤٠٠ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الإسكافي
واحد ، إذا كان الأمر كما وصفناه(١) . ٣٩٤٨ ـ شرح نهج البلاغة : قال أبو جعفر : وقد روى أنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتي يروى أنّ هذه الآية نزلت فى علىّ بن أبى طالب : ³ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ± وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ² (٢) ، وأنّ الآية الثانية نزلت فى ابن مُلجم ، وهى قوله تعالي : ³ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ² (٣) فلم يقبل ، فبذل له مائتى ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف فقبل ، وروي ذلك . قال : وقد صحّ أنّ بنى اُميّة منعوا من إظهار فضائل علىّ ¼ ، وعاقبوا علي ذلك الراوى له ; حتي إنّ الرجل إذا روي عنه حديثاً لا يتعلّق بفضله بل بشرايع الدِّين لا يتجاسر علي ذكر اسمه ; فيقول : عن أبى زينب . وروي عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : وددت أن اُترك فاُحدِّث بفضائل علىّ بن أبى طالب ¼ يوماً إلي الليل ; وأنّ عنقى هذه ضربت بالسيف . قال : فالأحاديث الواردة فى فضله لو لم تكن فى الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلي غاية بعيدة ، لا نقطع نقلها للخوف والتقيّة من بنى مروان مع طول المدّة ، وشدّة العداوة ، ولولا أنّ لله تعالي فى هذا الرجل سرّاً يعلمه من يعلمه لم يروَ فى فضله حديث ، ولا عرفت له منقبة ; أ لا تري أنّ رئيس قرية لو سخط علي واحد (١) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢٢٣ . ٤٠١ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الحَسَني
من أهلها ، ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ، ونسى اسمه ، وصار وهو موجود معدوماً ، وهو حىٌّ ميتاً(١) . ٩ / ٣ ٣٩٤٩ ـ شرح نهج البلاغة : كان [أبو جعفر] يقول : انظروا إلي أخلاقهما [رسول الله ½ وعلىّ ¼ ] وخصائصهما ، هذا شجاع وهذا شجاع ، وهذا فصيح وهذا فصيح ، وهذا سخىّ جواد وهذا سخىّ جواد ، وهذا عالم بالشرائع والاُمور الإلهيّة وهذا عالم بالفقه والشريعة والاُمور الإلهيّة الدقيقة الغامضة ، وهذا زاهد فى الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها وهذا زاهد فى الدنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها ، وهذا مذيب نفسه فى الصلاة والعبادة وهذا مثله ، وهذا غير محبّب إليه شىء من الاُمور العاجلة إلاّ النساء وهذا مثله ، وهذا ابن عبد المطّلب بن هاشم ، وهذا فى قُعْدده(٣) ، وأبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بنى عبد المطّلب ، وربّى محمّدٌ ½ فى حِجْر والد هذا وهذا أبو طالب ، فكان جارياً عنده مجري أحد أولاده . ثمّ لمّا شبّ ½ وكبر استخلصه من بنى أبى طالب وهو غلام ، فربّا[هُ](٤) فى حجره مكافأةً لصنيع أبى طالب به ، فامتزج الخلقان ، وتماثلت السجيّتان ، وإذا كان القرين مقتدياً بالقرين ، فما ظنّك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل ؟ فواجب (١) شرح نهج البلاغة : ٤ / ٧٣ . ٤٠٢ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الحَسَني
أن تكون أخلاق محمّد ½ كأخلاق أبى طالب ، وتكون أخلاق علىّ ¼ كأخلاق أبى طالب أبيه ، ومحمّد ¼ مربّيه ، وأن يكون الكلّ شيمة واحدة ، وسوساً(١) واحداً ، وطينة مشتركة ، ونفساً غير منقسمة ولا متجزّئة ، وأن لا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل ، لولا أنّ الله تعالي اختصّ محمّداً ½ برسالته ، واصطفاه لوحيه ، لما يعلمه من مصالح البريّة فى ذلك ، ومن أنّ اللطف به أكمل ، والنفع بمكانه أتمّ وأعمّ . فامتاز رسول الله ½ بذلك عمّن سواه ، وبقى ما عدا الرسالة علي أمر الاتّحاد ، وإلي هذا المعني أشار ½ بقوله : "أخصمك بالنبوّة ; فلا نبوّة بعدى ، وتخصم الناس بسبع" وقال له أيضاً : "أنت منّى بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى" فأبان نفسه منه بالنبوّة ، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركاً بينهما(٢) . ٣٩٥٠ ـ شرح نهج البلاغة ـ فى ذكر كلام أبى جعفر الحسنى فى الأسباب التى أوجبت محبّة الناس لعلىّ ¼ ـ : كان أبو جعفر لا يجحد الفاضل فضله ، والحديث شجون . قلت له [أبى جعفر] مرّة : ما سبب حبّ الناس لعلىّ بن أبى طالب ¼ ، وعشقهم له ، وتهالكهم فى هواه ؟ ودعنى فى الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ، وغير ذلك من الخصائص التى رزقه الله سبحانه الكثير الطيّب منها . فضحك وقال لى : كم تجمع جراميزك(٣) علىَّ ! (١) السُّوْس : الأصل والطبع والخُلُق والسَّجيّة (لسان العرب : ٦ / ١٠٨) . ٤٠٣ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الحَسَني
ثمّ قال : هاهنا مقدّمة ينبغى أن تُعلم ; وهى أنّ أكثر الناس موتورون من الدنيا ، أمّا المستحقّون فلا ريب فى أنّ أكثرهم محرومون ، نحو عالم يري أنّه لا حظّ له فى الدنيا ، ويري جاهلاً غيره مرزوقاً وموسّعاً عليه . وشجاع قد أبلي فى الحرب ، وانتفع بموضعه ، ليس له عطاء يكفيه ويقوم بضروراته ، ويري غيره وهو جبان فشل ، يفرق من ظلّه ، مالكاً لقطر عظيم من الدنيا ، وقطعة وافرة من المال والرزق . وعاقل سديد التدبير صحيح العقل ، قد قدر عليه رزقه ، وهو يري غيره أحمق مائقاً تدرّ عليه الخيرات ، وتتحلّب عليه أخلاف الرزق . وذى دين قويم ، وعبادة حسنة ، وإخلاص وتوحيد ، وهو محروم ضيّق الرزق ويري غيره يهوديّاً أو نصرانيّاً أو زنديقاً كثير المال حسن الحال . حتي إنّ هذه الطبقات المستحقّة يحتاجون فى أكثر الوقت إلي الطبقات التى لا استحقاق لها ، وتدعوهم الضرورة إلي الذلّ لهم ، والخضوع بين أيديهم ، إمّا لدفع ضرر ، أو لاستجلاب نفع . ودون هذه الطبقات من ذوى الاستحقاق أيضاً ما نشاهده عياناً من نجّار حاذق ، أو بنّاء عالم ، أو نقّاش بارع ، أو مصوّر لطيف ، علي غاية ما يكون من ضيق رزقهم ، وقعود الوقت بهم ، وقلّة الحيلة لهم ، ويري غيرهم ممّن ليس يجرى مجراهم ، ولا يلحق طبقتهم مرزوقاً مرغوباً فيه ، كثير المكسب ، طيّب العيش ، واسع الرزق . فهذا حال ذوى الاستحقاق والاستعداد . وأمّا الذين ليسوا من أهل الفضائل ، كحشو العامّة ; فإنّهم أيضاً لا يخلون من الحقد علي الدنيا والذمّ لها ، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم ٤٠٤ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو جَعفر الحَسَني
وجيرانهم ، ولا يري أحد منهم قانعاً بعيشه ، ولا راضياً بحاله ، بل يستزيد ويطلب حالاً فوق حاله . قال : فإذا عرفت هذه المقدّمة ، فمعلوم أنّ عليّاً ¼ كان مستحقّاً محروماً ، بل هو أمير المستحقّين المحرومين ، وسيّدهم وكبيرهم ، ومعلوم أنّ الذين ينالهم الضيم ، وتلحقهم المذلّة والهضيمة ، يتعصّب بعضهم لبعض ، ويكونون إلباً ويداً واحدة علي المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا ، ونالوا مآربهم منها ، لاشتراكهم فى الأمر الذى آلمهم وساءهم ، وعَضَّهم ومضّهم ، واشتراكهم فى الأنفة والحميّة والغضب والمنافسة لمن علا عليهم وقهرهم ، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه . فإذا كان هؤلاء ـ أعنى المحرومين ـ متساوين فى المنزلة والمرتبة ، وتعصّب بعضهم لبعض ، فما ظنّك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف ، جامع للفضائل محتو علي الخصائص والمناقب ، وهو مع ذلك محروم محدود ، وقد جرّعته الدنيا علاقمها ، وعلّته عللاً بعد نَهَل من صابها وصبرها ، ولقى منها برحاً بارحاً ، وجهداً جهيداً ، وعلا عليه من هو دونه ، وحكم فيه وفى بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة والسلطان فى حسابه ، ولا دائراً فى خلده ، ولا خاطراً بباله ، ولا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له ولا يراه له . ثمّ كان فى آخر الأمر أن قُتل هذا الرجل الجليل فى محرابه ، وقُتل بنوه بعده ، وسبى حريمه ونساؤه ، وتتبّع أهله وبنو عمّه بالقتل والطرد والتشريد والسجون ، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم ، وانتفاع الخلق بهم . فهل يمكن ألاّ يتعصّب البشر كلّهم مع هذا الشخص ؟ ! وهل تستطيع القلوب ألاّ تحبّه وتهواه ، وتذوب فيه وتفني فى عشقه ، انتصاراً له ، وحميّةً من أجله ، وأنفة ممّا ناله ، وامتعاضاً ممّا جري عليه ؟ ! وهذا أمر مركوز فى الطبائع ، ٤٠٥ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو عَلىٍّ ابن سينا
ومخلوق فى الغرائز ، كما يشاهد الناس علي الجرف إنساناً قد وقع فى الماء العميق ، وهو لا يحسن السباحة ; فإنّهم بالطبع البشرى يرقّون عليه رقّة شديدة ، وقد يلقى قوم منهم أنفسهم فى الماء نحوه ، يطلبون تخليصه ،لا يتوقّعون علي ذلك مجازاة منه بمال أو شكر ، ولا ثواباً فى الآخرة ، فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة ، ولكنّها رقّة بشرية ، وكأنّ الواحد منهم يتخيّل فى نفسه أنّه ذلك الغريق ، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق ، كذلك يطلب تخليص من هو فى تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسيّة . وكذلك لو أنّ ملكاً ظلم أهل بلد من بلاده ظلماً عنيفاً ، لكان أهل ذلك البلد يتعصّب بعضهم لبعض فى الانتصار من ذلك الملك ، والاستعداء عليه ، فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر ، جليل الشأن ، قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إيّاهم ، وأخذ أمواله وضياعه ، وقتل أولاده وأهله ، كان لياذهم به ، وانضواؤهم إليه ، واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم ; لأنّ الطبيعة البشرية تدعو إلي ذلك علي سبيل الإيجاب الاضطرارى ، ولا يستطيع الإنسان منه امتناعاً . وهذا محصول قول النقيب أبى جعفر ، قد حكيته والألفاظ لى والمعني له ; لأنّى لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها ، إلاّ أنّ هذا هو كان معني قوله وفحواه(١) . ٩ / ٤ ٣٩٥١ ـ (٣) معراج نامه : قال أشرف البشر وأعزّ الأنبياء وخاتم الرسل لمركز دائرة (١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٢٣ . ٤٠٦ - المجلد الثامن / القسم التاسع : الآراء حول شخصيّة الإمام علىّ / الفصل التاسع : علىّ عن لسان الأعيان / أبو عَلىٍّ ابن سينا
الحكمة وفلك الحقائق ، وخزانة العقول أمير المؤمنين على ¼ : "يا علىّ ، إذا رأيت الناس مقرّبون إلي خالقهم بأنواع البرّ تقرّب إليه بأنواع العقل تسبقهم"(١) . ولا يستقيم هذا الخطاب لأحد إلاّ لعظيم كهذا ، الذى محلّه بين الناس نظير المعقولات بين المحسوسات ; فقال له : يا علىّ ، أتعب نفسك فى تحصيل المعقولات كما أنّ الناس يُتعبون أنفسهم فى كثرة العبادات ; كى تسبق الجميع . ولمّا كان إدراكه للحقائق ببصيرة العقل استوت عنده المحسوسات والمعقولات وكانت عنده بمنزلة سواء ، ولهذا قال ¼ : "لو كُشف الغطاء ما ازددت يقينا" . ولا ثروة أعظم من إدراك المعقولات ; فإدراك المعقولات هو الجنّة بتمام نعيمها بزنجبيلها وسلسبيلها . وأمّا الجحيم بقيودها وعذابها فهو متابعة متعلّقات الأجسام وشؤونها ، وهذه المتابعة هَوَت بالناس فى جحيم الهوي ، وأسرتهم بقيد الخيال ومرارة الوهم(٢) . (١) لم نعثر علي هذا النصّ بعينه وإنّما عثرنا علي نصوص مقاربة له ، منها ما ورد فى حلية الأولياء : ١ / ١٨ : "يا علىّ إذا تقرّب الناس إلي خالقهم فى أبواب البرّ فتقرّب بأنواع العقل ، تسبقهم بالدرجات والزلفي عند الناس فى الدنيا وعند الله فى الآخرة" وفى مشكاة الأنوار : ٤٣٩ / ١٤٧٦ : "يا علىّ إذا تقرّب العباد إلي خالقهم بالبرّ فتقرّب إليه بالعقل تسبقهم ، إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس علي قدر عقولهم" . |