الصفحة 159

فقال معاوية: أصبت.

ورفعوها فرجع القراء عن القتال.

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: إنها خديعة عمرو العاصليسوا من رجال القرآن.

فلم يقبلوا وقالوا: لا بد أن ترد الأشتر وإلا قتلناك أو سلمناكإليهم.

فانفذ يطلب الأشتر فقال: قد أشرفت على الفتح وليس وقتطلبي.

فعرفه اختلال أصحابه وأنه إن لم يرجع قتلوه (1) أو سلموه إلىمعاوية فرجع وعنف القراء (2) وضرب وجه دوابهم فلم يرجعوا فوضعتالحرب أوزارها.

فقال علي - عليه السلام - لماذا (3) رفعتم المصاحف؟

فقالوا: للدعاء إلى العمل بمضمونها وأن نقيم حكما وتقيموا حكماينظران في هذا الأمر ويقران الحق مقره.

فعرفهم أمير المؤمنين - عليه السلام - ما اشتمل طلبهم منالخداع فلم يسمعوا وألزموه بالتحكيم. فعين معاوية عمرو بن العاصوعين أمير المؤمنين - عليه السلام - عبد الله بن العباس فلم يوافقوا قال:

فأبو الأسود. فأبوا واختاروا أبا موسى الأشعري.

فقال: أبو موسى مستضعف وهواه مع غيرنا.

____________

1 - ج و أ: (لم ترجع قتلوني أو سلموني) بدل: (لم يرجع قتلوه أو سلموه).

2 - هنا زيادة في المصدر. وهي: وسبهم.

3 - ج و أ: ماذا.

ش، د و م: بماذا.


الصفحة 160
فقالوا: لا بد منه. وحكموه فخدع عمرو بن العاص أبا موسىوحمله على خلع أمير المؤمنين وأنه يخلع معاوية وأمره بالتقدم (1) حيث هوأكبر سنا ففعل أبو موسى ذلك ثم قال: يا عمرو قم فافعل كذلك.

فقام (2) وأقرها في معاوية فشتمه أبو موسى وتلاعنا.

وفي هذه الحرب قتل أبو اليقظان عمار بن ياسر. وقد قال النبي- صلى الله عليه وآله -: عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية. قتلهأبو عاديه المزني طعنه برمح فسقط واحتز (3) رأسه ابن جوني السكسكيوكان لعمار يومئذ أربع وتسعون سنة.

قال أبو سعيد الخدري: كنا نعمر المسجد فنحمل لبنه وعمارلبنتين لبنتين (4) فرآه النبي - صلى الله عليه وآله - فجعل ينفض الترابعن رأس عمار ويقول: يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟

قال: إني أريد الأجر من الله - تعالى -.

فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويحك تقتلك الفئة الباغيةتدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار.

____________

1 - م: (أمر بالتقديم) بدل (أمره بالتقدم).

2 - ج: فأقام.

3 - ش ود: فاجتز.

4 - ش ود: اثنين اثنتين.


الصفحة 161
قال علقمة والأسود: أتينا أبا أيوب الأنصاري فقلنا: يا أباأيوب إن الله أكرمك بنبيه إذ أوحى إلى راحلته فنزلت على بابكفكان رسول - صلى الله عليه وآله (2) - ضيفا لك فضيلة فضلك اللهبها أخبرنا عن مخرجك مع علي - عليه السلام -.

قال: فإني أقسم لكما أنه كان رسول الله - صلى الله عليهوآله - في هذا البيت الذي أنتما فيه وليس في البيت غير رسول اللهوعلي جالس عن يمينه وأنا عن يساره وأنس قائم بين يديه إذ تحركالباب [ فقال - عليه السلام -: انظر من بالباب] (3).

فخرج أنس قال: هذا عمار بن ياسر.

فقال: افتح لعمار الطيب المطيب.

ففتح أنس لعمار (4) ودخل عمار فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله -. فرحب به وقال: إنه سيكون من بعدي في أمتي هناتحتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وقد تبرأ (5)بعضهم من بعض. فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بنأبي طالب. فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي

____________

1 - أ: أدنى.

2 - هكذا في م. وفي سائر النسخ هنا زيادة. وهي: في هذا البيت.

3 - ليس في ش ود.

4 - من م.

5 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: حتى يبرأ.


الصفحة 162
علي وخل عن الناس. إن عليا لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى (1).

يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله (2).

وأما الخوارج فإنهم مرقوا من الدين مرق السهام. فإنه لما عاد أميرالمؤمنين - عليه السلام - من صفين وإقامة الحكمين إلى الكوفة أقام ينتظرانقضاء المدة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى المقاتلة. فانعزل أربعة آلاففارس من أصحابه وهم العباد وخرجوا الكوفة وخالفوا عليا - عليهالسلام - وقالوا: لا حكم إلا لله ولا طاعة لمن عصى الله. وانحاز إليهم نيفعن ثمانية آلاف وساروا إلى أن نزلوا بحروراء وأمروا عليهم عبد الله بنالكواء. فأرسل علي - عليه السلام - إليهم عبد الله بن عباس يردهم عنمعصيتهم فلم يرجعوا. فركب علي - عليه السلام - [ ومضى إليهمفركب ابن الكواء في جماعة منهم.

فقال له علي - عليه السلام - ] (3) يا بن الكواء ابرز إلي من

____________

1 - م: ريب.

2 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2 / 206 و 4 / 13 وما بعدهما + تذكرة الخواص / 80.

3 - ليس في م. وفيه: (فقال) بدلا منه.


الصفحة 163
أصحابك لأكلمك.

فقال: وأنا آمن من سيفك؟

قال: نعم.

فخرج في عشرة من أصحابه.

فقال له علي - عليه السلام - ألم أقل لكم: إن أهل الشاميخدعونكم برفع المصاحف وأمر الحكمين وأن الحرب قد عضتهمفذروني (1) أناجزهم فأبيتم. ألم أرد أن أنصب ابن عمي حكما وقلت: إنه لا ينخدعفأبيتم إلا أبا موسى وقلتم: رضينا به حكما فأجبتكم (2) كارها ولو وجدتفي ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم. وشرطت على الحكمين بحضوركمأن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته والسنة الجامعة وأنهما لم يفعلافلا طاعة لهما علي؟

قال ابن الكواء: صدقت فلم لا ترجع إلى حرب القوم؟

قال: حتى تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.

قال ابن الكواء [ والعشرة الذين معه ] (3): وأنت مجمع على ذلك؟

قال: نعم ولا يسعني غيره.

فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلى أصحاب علي راجعين عندين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله [ ولا طاعة لمنعصاه] (4) وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهيرالبجلي المعروف بذي الثدية وعسكروا بالنهروان. فسار إليهم أمير المؤمنين- عليه السلام - حتى بقي على فرسخين منهم فكاتبهم فلم يقبلوا.

____________

1 - ش: قد رأوني.

2 - م: فأجبتم.

3 - 4 - ليس في م.


الصفحة 164
فأرسل إليهم ابن عباس وقال: سلهم ما الذي نقموا وأناردفك (1) فلا تخف منهم.

قالوا: نقمنا أشياء.

فقال علي - عليه السلام -: أيها الناس أنا علي بن طالبما تلك الأشياء؟

قالوا: أولا إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة فأبحتنا (2) الأموال دونالنساء والذرية.

فقال - عليه السلام -: بدؤونا بالقتال فلما ظفرتم اقتسمتمسلب من قاتلكم والنساء لم يقاتلن والذرية ولدوا على الفطرة ولم ينكثواولا ذنب لهم. وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله - من علىالمشركين فلا تعجبوا لو مننت على المسلمين.

قالوا: ونقمنا يوم صفين كونك محوت اسمك (3) من إمرة المؤمنين.

فقال: اقتديت برسول الله - صلى الله عليه وآله - حين صالحسهيل بن عمرو ولم يرض حتى محا رسالة النبي - صلى الله عليه وآله -.

قالوا: ونقمنا قولك للحكمين: انظروا كتاب الله فإن كنت أفضلمن معاوية فأثبتاني في الخلافة وهذا شك؟

فقال - عليه السلام -: إنه ليس بشك بل نصفه كما قال- تعالى -: (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (4). ولو قال: عليكم لميرضوا.

____________

1 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: رفدك.

2 - م: فانتخبنا.

3 - م: نفسك.

4 - آل عمران / 60.


الصفحة 165
قالوا: ونقمنا أنك حكمت حكما في حق هو لك.

قال: أسوة (1) برسول الله حيث حكم سعد بن معاذ في بني قريظةولو شاء لم يفعل فهل بقي شئ (2)؟

فسكتوا فصاح جماعة من كل ناحية: التوبة التوبة.

واستأمن (3) إليه ثمانية آلاف وبقي على حربه أربعة آلاف.

وتقدم عبد الله وهب وذو الثدية وقالوا: ما نريد بقتالك إلاوجه الله والدار الآخرة.

[ فقال - عليه السلام -: ] (4) (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا).

ثم التحم القتال. فحمل الأخفش الطائي وكان شهد صفين معأمير المؤمنين - عليه السلام - وشق الصفوف يطلب عليا - عليه السلام -فبدره علي - عليه السلام - فقتله. فحمل ذو الثدية ليقتل عليا - عليهالسلام - فسبقه علي - عليه السلام - وضربه ففلق البيضة ورأسه[ فحمله فرسه ] (5) فألقاه في آخر المعركة في جرف داليه على شط النهروان.

وخرج مالك بن الوضاح ابن عم ذي الثدية وحمل على علي - عليهالسلام - فقتله علي - عليه السلام -. وتقدم عبد الله بن وهب الراسبيفصاح يا ابن أبي طالب والله لا نبرح من هذه المعركة أو تأتي علي أنفسناأو نأتي على نفسك فابرز إلى وابرز إليك وذر الناس جانبا. فلما سمععلي - عليه السلام - [ تبسم و ] (6) قال: قاتله الله ما

____________

1 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: ولي أسوة.

2 - ش ود: شك.

3 - ش: استأمر.

4 - ليس في م.

5 - 6 - ليس في م.


الصفحة 166
أقل حياءه! أما إنه ليعلم أني حليف السيف وخدين الرمح ولكنه قد يئس من الحياةو (1) إنه ليطمع طمعا كاذبا.

ثم حمل على علي - عليه السلام - فقتله علي - عليه السلام -.

ولم تبق إلا ساعة حتى قتلوا عن أجمعهم (2) إلا تسعة أنفس رجلان هرباإلى سجستان وبها نسلهما ورجلان [ هربا إلى كرمان ورجلان ] (3) صارا (4)إلى عمان وبها نسلهما [ ورجلان صارا اليمن وبها نسلهما ] (5) وهمالأباضية (6) ورجلان صارا إلى البوازيج (7) وصار آخر إلى تل موزن (8).

وقتل من أصحاب علي - عليه السلام - تسعة عدد من سلم منالخوارج وكان - عليه السلام - قال: نقتلهم ولا يقتل منا عشرة ولايسلم منهم عشرة. ثم مع كثرة حروبه - عليه السلام - وشدة بلائه فيالجهاد ودخوله في صفوف المشركين لم يصبه جرح شانه ولا عابه - صلى الله عليه وآله - ولم يول ظهره قط ولا انهزم ولا تزحزح مكانه ولاهاب أحدا من أقرانه (9).

المبحث الثالث: في سبقه إلى التصديق:

قال الفقيه ابن المغازلي

____________

1 - ج: أو.

2 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: بأجمعهم.

3 - من م.

4 - م: هربا.

5 - ليس في م.

6 - أ: الإباحية.

7 - ج: البوازيح.

أ: البوارنج.

ش، د و م: التواريخ.

8 - هكذا ضبط في معجم البلدان، وفي ج و أ: (مورن). وفي ش، د و م: (موزون).

9 - شرح النهج للمعتزلي 2 / 206 وما بعدها + تذكرة الخواص / 95 + تاريخ الطبري 4 / 62.


الصفحة 167
الشافعي في مناقبه (1) عن ابن عباس في قوله - تعالى -: (والسابقونالسابقون) (2) الأولون (3) قال: سبق يوشع بن نون إلى موسى وسبقصاحب (آل ياسين) (4) إلى عيسى وسبق علي (بن أبي طالب) إلى محمدبن عبد الله - صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين -.

ومن كتاب مسند أحمد بن حنبل (5) عن عبد الله بن عباس قال:

سمعت علي بن أبي طالب - عليه السلام - يقول: أنا عبد الله وأخو رسولهوأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري (6) إلا كاذب مفتر ولقد صليت قبلالناس بسبع سنين.

____________

1 - مناقب ابن المغازلي / 320، ح 365.

2 - الواقعة / 10.

3 - من ش ود.

4 - المصدر. يس.

5 - بل في مناقب أحمد بن حنبل / 17.

6 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: بعدي.


الصفحة 168
ومن مسند أحمد (1): عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين الذيقال: (يا قوم اتبعوا المرسلين) (2). وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال:

____________

1 - نفس المصدر / 39. وفيه: ابن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى.

2 - يس / 20.


الصفحة 169
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) وعلي بن أبي طالب وهوأفضلهم.

وعن الرضا - عليه السلام (2) - قال: قال رسول الله - صلى اللهعليه وآله -: يا علي (3) ليس في القيامة راكب غيرنا ونحن أربعة.

[ فقام إليه رجل من الأنصار فقال: فداك أبي وأمي أنت ومن؟

قال: ] (4) أنا علي البراق (5) وأخي صالح على ناقة الله التي

____________

1 - غافر / 28.

2 - مناقب الخوارزمي / 209.

3 و 4 - من المصدر.

5 - المصدر: دابة الله تعالى البراق.


الصفحة 170
عقرت وعمي حمزة على ناقتي العضباء وأخي علي بن أبي طالب - عليهالسلام - على ناقة من نوق الجنة وبيده لواء الحمد [ بين يدي العرشيقول: ] (1) لا إله إلا الله محمد رسول الله.

____________

1 - ليس في المصدر. وفيه: (ينادي) بدلا منه.


الصفحة 171
قال: فيقول الآدميون: ما هذا إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أوحامل عرش [ رب العالمين.

قال: ] (1) فيجيبهم ملك من بطنان العرش: معاشر الآدميين ما هذاملك مقرب ولا نبي مرسل ولا حامل العرش (2) [ بل هذا الصديق

____________

1 - ليس في المصدر.

2 - المصدر: عرش هذا.


الصفحة 172
الأكبر ] (1) علي بن أبي طالب - صلى الله عليه وآله -

المبحث (2) الرابع: في حمل براءة إلى مكة:

كان النبي - صلى اللهعليه وآله وسلم - بعث أبا بكر ببراءة إلى مكة: إلا يحج بعد العام مشركويطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ومن كان بينهوبين رسول الله - صلى الله عليه وآله - مدة فأجله مدته والله برئمن المشركين ورسوله

____________

1 - ليس في المصدر.

2 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: البحث.


الصفحة 173
فسار بها ثلاثة أيام فنزل جبريل - عليه السلام - وقال: إن اللهيقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك.

فاستدعى رسول الله - صلى الله عليه وآله - عليا - عليه السلام -وقال له: اركب ناقتي العضباء (1) والحق أبا بكر فخذ براءة من يده وامضبها إلى مكة فانبذ عهد المشركين إليهم وخير أبا بكر بين أن يسير مع ركابكأو يرجع.

فركب أمير المؤمنين - عليه السلام - ناقة رسول الله - صلى اللهعليه وآله - العضباء (2) وسار حتى لحق أبا بكر. فلما رآه جزع من لحوقهواستقبله وقال: فيما جئت يا أبا الحسن؟ أسائر أنت معي أو لغير ذلك؟

____________

1 و 2 - أ: الغضباء.


الصفحة 174
فقال له أمير المؤمنين - عليه السلام - إن رسول الله - صلى اللهعليه وآله - أمرني أن ألحقك وأقبض منك الآيات من براءة وأنبذ بها عهدالمشركين إليهم وأمرني أن أخيرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه.

فقال: بل أرجع إليه.

وعاد إلى النبي - صلى الله عليه وآله - فلما دخل عليه قال: يارسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه إلي فلما توجهت إليهرددتني عنه أنزل في القرآن؟

فقال النبي - صلى الله عليه وآله - لا ولكن الأمين هبط إلي

الصفحة 175
عن الله - عز وجل - بأنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك وعلي منيولا يؤدي عني إلا علي (1).

حدث الزبير بن بكار بن الزبير بن العوام (2) وكان من بني أميةعن ابن عباس قال: إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سككالمدينة إذ قال لي: يا ابن عباس ما أظن صاحبك إلا مظلوما.

قلت: فاردد ظلامته.

فانتزع يده من يدي ومضي وهو يهمهم ساعة ثم وقف فلحقتهفقال: يا بن عباس ما أظنهم منعها منه إلا لأن استصغروه.

فقلت والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من

____________

1 - الإرشاد، للمفيد / 37 + تذكرة الخواص / 42 وأنظر الفضائل الخمس ينقلها عن مصادر مختلفة.

2 - ليس في م.


الصفحة 176
صاحبك.

قال: فأعرض عني.

المبحث الخامس: جمعه بين الفضائل المتضادات:

لا خلاف بينالناس أن أمير المؤمنين - عليه السلام - كان أزهد أهل زمانه طلق الدنياثلاثا وكان يصوم النهار ويقوم الليل ويفطر على جريش الشعير من غيرأدام وختمه لئلا يأدمه الحسنان بسمن أو زيت. ومن يكون بهذه الحال يكونضعيف القوة في أغلب الأحوال وأمير المؤمنين - عليه السلام - كان أشدالناس قوه فإنه قلع باب خيبر وقد عجز عنها سبعون نفرا من المسلمينودحا بها أذرعا كثيرة ثم أعادها إلى مكانها بعد أن وضعها جسرا علىالخندق. وكان أكثر وقته في الحروب يباشر قتل النفوس ومن هذه حالتهيكون شديد القلب (1) عبوس الوجه وأمير المؤمنين - عليه السلام - كانرحيما رقيق القلب حسن الخلق ولهذا نسبه المنافقون إلى الدعابة لشرفأخلاقه - صلى الله عليه وآله -.

____________

1 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: القسوة.


الصفحة 177

الصفحة 178

الصفحة 179

المبحث السادس: في نبذ يسيرة من كلامه:

كان - عليه السلام -سيد الفصحاء وإمام البلغاء حتى قيل في كلامه: إنه فوق كلام المخلوقودون كلام الخالق ومنه تعلم الخطباء.

قال - عليه السلام - خذوا رحمكم الله من ممركم لمقركم ولاتهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه (1) أسراركم واخرجوا من الدنياقلوبكم قبل (2) أن تخرج منها أبدانكم فللآخرة خلقتم وفي الدنيا حبستم (3).

إن المرء إذا هلك قالت الملائكة: ما قدم؟ وقال الناس: ما خلف؟ فللهإياكم (4) قدموا بعضا يكن لكم (5) ولا تخلفوا (6) كلا فيكون عليكم (7)

____________

1 - المصدر: (يعلم) بدل: (لا تخفى عليه).

2 - المصدر. من قبل.

3 - المصدر: ففيها اختبرتم ولغيرها خلقتم.

4 - المصدر: قال الناس: ما ترك؟ وقالت الملائكة: ما قدم لله آباؤكم؟ 5 - المصدر: لكم قرضا.

6 - ج و أ: لا تواخروا.

7 - نهج البلاغة / 320، ط 203.


الصفحة 180
فإنما مثل الدنيا مثل السم يأكله من لا يعرفه.

وقال - عليه السلام -: أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفنالنجاة وضعوا تيجان المفاخرة ونكبوا (1) عن طريق المنافرة أفلح (2) مننهض بجناح أو استسلم فأراح (3). ماء آجن ولقمة يغص بها آكلها. ومجتنيالثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه. فإن أقل يقولوا: حرص علىالملك. وإن اسكت يقولوا: جزع من الموت! هيهات بعد اللتيا واللتي!

والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه لكن اندمجت علىمكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة (4).

وقال - عليه السلام - لا حياة إلا بالدين ولا موت إلا بجحوداليقين. فاشربوا العذب الفرات ينبهكم من يوم السبات (5) وإياكموالسمائم المهلكات.

وقال - عليه السلام -وقد سمع رجلا يذم الدنيا: إن الدنيا دارصدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها. مسجدأنبياء (6) الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه. اكتسبوا فيهاالرحمة وربحوا فيها الجنة. فمن ذا يذمها وقد آذنت ببنيها ونادت بفراقها

____________

1 - المصدر: عرجوا.

2 - ش ود: يفلح.

3 - ش ود: فاستراح.

4 - نفس المصدر / 52، ط 5.

5 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: نومة الشتات.

6 - المصدر: أحباء.


الصفحة 181
ونعت نفسها وأهلها (1) فشوقت (2) بسرورها إلى السرور وببلائها إلىالبلاء؟! تخويفا وتحذيرا وترغيبا وترهيبا. فيا أيها الذام للدنيا والمعتلبتغريرها (3) متى غرتك أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمهاتك تحتالثرى؟ كم عللت بكفيك ومرضت بيديك! تبتغي لهم الشفاءوتستوصف لهم الأطباء وتلتمس لهم الدواء لم تنفعهم بطلبتك ولم تشفهمبشفاعتك مثلت لك الدنيا بهم مصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤكولا تغني عنك أحباؤك (4).

وقال - عليه السلام -: لا يرجون أحد إلا ربه ولا يخافن إلاذنبه ولا يستحين العالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم (5) والصبرمن الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له (6).

كل قول ليس فيه (7) ذكر فلغو وكل صمت ليس فيه فكر فسهووكل نظر فيه اعتبار فلهو.

ليس من ابتاع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها (8).

حسن الأدب ينوب الحسب.

____________

1 - من المصدر و م.

2 - المصدر: وشوقتهم.

3 - المصدر: (والمغتر بغرورها) بدل: (والمعتل بتغريرها).

4 - نفس المصدر / 492، ح 131، لكن في نهج البلاغة ضبط صبحي الصالح تقديم وتأخير فيالعبارات.

5 - المصدر: (لا أعلم) بدل: (الله أعلم).

6 - نفس المصدر، ح 82.

7 - المصدر: لله فيه.

8 - نفس المصدر، ح 133.


الصفحة 182
الزاهد (1) في الدنيا كلما ازدادت له (2) تحليا ازداد (3) عنها توليا.

المودة أشبك الأنساب والعلم أشرف الأحساب.

من أحب المكارم اجتنب المحارم.

غاية الجود أن تعطي من نفسك المجهود.

جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه.

تمام العفاف الرضا بالكفاف.

احتمل زلة وليك لوقت وثبة عدوك (4).

حسن الاعتراف يهدم الاقتراف.

شر الزاد إلى المعاد احتقاب ظلم العباد.

الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك. فإن كان لك فلا تبطر وإنكان عليك فاصبر (5).

لو عرف الأجل قصر الأمل. رب عزيز أذله خلقه وذليل أعزهخلقه.

قيمة كل امرئ ما يحسن.

الناس أبناء ما يحسنون (6).

من شاور ذوي الألباب دل على الصواب (7).

من قنع باليسير استغنى عن الكثير ومن يستغن بالكثير افتقر إلى

____________

1 - م: الزاهدون.

2 - م: لهم.

3 - م: ازدادوا.

4 - مستدرك نهج البلاغة 1 / 59، باختلاف في الألفاظ، ب.

5 - نهج البلاغة / 546، ح 396.

6 - م: يحبون باختلاف بسيط.

7 - مستدرك نهج البلاغة 7 / 276، باختلاف بسيط.


الصفحة 183
الحقير.

تذل الأمور للمقادير حتى يكون الحتف في التدبير (1).

المؤمن من نفسه (2) في تعب والناس منه في راحة (3).

أفضل العبادة الصبر والصمت وانتظار الفرج.

الحلم وزير المؤمن والعلم خليله والرفق أخوه والبر والده والصبرأمير جنوده.

ثلاثة من كنوز الجنة: كتمان الصدقة وكتمان المصيبة وكتمانالمرض.

احتج إلى من شئت تكن أسيره واستغن عمن شئت تكن نظيرهوأفضل على من شئت تكن أميره.

لا غنى مع فجور ولا راحة لحسود ولا مودة لملول.

الجود من كرم الطبيعة والمن مفسدة للصنيعة وترك التعاهدللصديق داعية القطيعة.

أربعة لا ترد لهم دعوة: الإمام العادل لرعيته والوالد البار بولدهوالولد البار بوالده والمظلوم (4) يقول الله - عز وجل -: وعزتي وجلاليلأنتصرن لك ولو بعد حين.

ضاحك معترف بذنبه أفضل من باك مدل على ربه.

من أمل إنسانا هابه ومن قصر عن معرفة شئ عابه.

أعجب ما في الإنسان قلبه وله مواد الحكمة وأضدادها. فإنسنح له الرجاء أذله الطمع وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص وإن ملكه

____________

1 - نهج البلاغة، ح 16.

2 - المصدر و م: نفسه منه.

3 - نفس المصدر، ط 193.

4 - المظلوم على ظالمه.


الصفحة 184
الياس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن أسعف (1)بالرضا نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحذر وإن اتسع له الأمناستولت عليه العزة (2) وإن جددت نعمه أخذته العزة وإن أصابتهمصيبة فضحه الجزع وإن أفاد مالا أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغلهالبلاء وإن أجهده الجوع (3) قعد به الضعف وإن أفرط به الشبع كظتهالبطنة. فكل تقصير به مضر وكل إفراط مفسد (4).

المعروف عصمه من البوار والرفق تنقيه من العثار.

وقال - عليه السلام - لكميل بن زياد (5): يا كميل إن هذهالقلوب أوعية فخيرها أوعاها. احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالمرباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كلريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.

يا كميل: محبه العالم دين يدان به وبه يكسب العالم الطاعة لربهفي حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته.

يا كميل بن زياد: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرسالمال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالانفاق والعلم حاكم والمال محكومعليه.

يا كميل: مات خزان الأموال وهم أحياء. والعلماء باقون ما بقي

____________

1 - المصدر: أسعده.

م: استعقب.

2 - المصدر: (الأمر استلبته الغرة) بدل: (الأمن استولت عليه العزة).

3 - ج: (الجزع) وفي هامشه: (الجوع).

4 - نهج البلاغة، ح 108.

5 - في م زيادة هنا وهي: وقد أخذ بيده.


الصفحة 185
الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة هاه هاه (1) إن ههنالعلما جما - وأشار بيده الشريفة إلى صدره المكرم - لو أصبت له حملة! بلىأصبت لقنا غير مأمون عليه يستعمل آلة الدين للدنيا ويستظهر بحجج اللهعلى أولياءه وبنعمه على عباده (2) أو منقادا (3) لحملة الحق (4) لا بصيرةله في أحنائه (5) يقدح الشك في قلبه بأول عارض شبهة. إلا لا ذا ولاذاك! أو منهوما (6) باللذات سلس القياد للشهوات أو مغرما بالجمعوالادخار (7) ليسا من رعاة الدين أقرب شئ (8) شبها بهما الأنعام (9)السائمة! كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى! لا يخلي الله الأرضمن حجة له على خلقه أما ظاهر مشهور (10) أو خائف مغمور (11) لئلا تبطلحجج الله وبيناته. وأين أولئك؟ أولئك والله (12) الأقلون عدداوالأعظمون قدرا. بهم يحفظ الله حججه حتى يودعوها (13) نظراءهم

____________

1 - م: آه، آه.

2 - هكذا في م. وفي ج: (لقائه). وفي سائر النسخ: (آثامه).

3 - هكذا في ج. وفي سائر النسخ: وينقاد.

4 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: (للحكمة) بدل (لحملة الحق).

5 - هكذا في ج. وفي س م: (إحسانه). وفي أ: (إخفائه). وفي ش ود: (إحيائه).

6 - هكذا في المصدر. وفي النسخ: (فمنهوما) بدل: (أو منهوما).

7 - هكذا في المصدر. وفي لنسخ: الاذخار.

8 - من م.

9 - هكذا في ج. وفي سائر النسخ: بالإنعام.

10 - هكذا في م. وفي ج: (ظاهرا مغلوبا). وفي سائر النسخ: (مغلوب) بدل: (ظاهر مشهور). 11 - ج: خائفا مغمورا.

12 - من م.

13 - هكذا في ج، وفي سائر النسخ: يودعها.


الصفحة 186
ويزرعوها (1) في قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقائق الإيمان (2)فاستأذنوا (3) روح اليقين واستسهلوا ما استوعره المترفون وآنسوا بمااستوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة (4) بالمحلالأعلى. أولئك أمناء الله في أرضه وحججه على عباده.

ثم تنفس الصعداء وقال: آه آه واشوقاه إلى رؤيتهم. ونزع يدهمن يدي وقال: انصرف إذا شئت (5).

وقال - عليه السلام -: ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم.

[ إن الخير كله فيمن عرف قدره ] (6) وكفى بالمرء جهلا إلا يعرفقدره (7).

وإن أبغض الخلائق إلى الله - تعالى - رجلان: رجل وكله الله إلىنفسه فهو (8) جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة [ ودعاءضلالة ] (9) فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله مضل لمناقتدى به [ في حياته وبعد وفاته ] (10) حمال خطايا غيره رهن بخطيئته.

____________

1 - هكذا في ج. وفي م: (يزرعوا) وفي سائر النسخ: (يزرعها).

2 - المصدر: (حقيقة البصيرة) بدل: (حقائق الإيمان).

3 - ج: فاستلانوا.

المصدر: وباشروا.

4 - ش ود: مطبقة.

م: مطبعة.

5 - نهج البلاغة صبحي صالح، حكمة 147.

6 - ليس في المصدر.

7 - نفس المصدر، خطبة 16.

8 و 9 - من م والمصدر.

10 - ليس في ش، د و ج.


الصفحة 187
ورجل (1) قمش جهلا موضع (3) في جهال [ الامه عاد فياغباش ] (3) الفتنة عم عن الهدى (4) قد سماه أشباه الناس عالما وليس بهبكر (5) فاستكثر [ من جمع ما ] (6) قل (7) منه خير مما كثر حتى إذا ارتوىمن آجن واستكثر (8) من غير طائل جلس بين الناس (9) قاضيا ضامنالتخليص ما التبس على غيره. وإن نزلت به إحدى المبهمات (10) هيأ لها حشوارثا (11) من رأيه ثم قطع عليه فهو من لبس الشبهات في مثل نسجالعنكبوت ولا يدري أصاب أم أخطأ ولا يرى (12) إن من وراء ما بلغمنه (13) مذهبا لغيره (14). إن قاس شيئا بشئ لم يكذب رأيه وإن أظلم عليهأمر اكتتم به لما يعلم من جهل (15) نفسه (16) كي لا يقال: إنه لا يعلم. ثم

____________

1 - هكذا في م. وفي سائر النسخ: (قد) بدل: (ورجل).

2 - ليس في ش ود.

3 - من المصدر و م. وهذه الفقرة في سائر النسخ مشوش جدا.

4 - المصدر و م: (بما في عقد الهدنة و) بدل: (عن الهدى).

5 - أ، ش ود: تكبر.

6 - من المصدر، وفي ج، ش، د و أ: (بهما) وليس في م.

7 - م: بأقل.

8 - أ: أكثر.

9 - م: اكتنز.

9 - هكذا في أ. وفي سائر النسخ: للناس.

10 - ج و أ: الشبهات.

11 - هكذا في ج و م. وفي سائر النسخ: رؤيا.

12 - م: لا يدري.

13 و 14 و 15 - من م.

16 - هكذا في المصدر. وهنا في النسخ زيادة وهي: من الجهل.