الباب الخامس
التظاهر بالتدين



الصفحة 7

الفصل الأول
الزهد والعبادة




الصفحة 8

الصفحة 9

زهد «الخوارج» وعبادتهم:

لقد عرف عن «الخوارج»: أنهم عباد وزهاد، همهم الدين، والآخرة، وليس لهم في الدنيا الزائلة مأرب ولا رغبة. وهذا هو ما يروج له «الخوارج» أنفسهم.

وعرف عنهم أيضاً أنهم قد وقذتهم العبادة، حتى أصبحت جباههم سوداء، وأصبحوا مضرب المثل في اجتهادهم في العبادة، وفي عزوفهم عن الدنيا، وتشددهم في الالتزام بالحكم الشرعي، هذا إلى جانب قراءتهم للقرآن، حتى عرفوا باسم القراء قبل ظهور الخلاف منهم على أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين.

كما أن مما عرف عنهم هو الصعقة عند قراءة القرآن، فقد سئل أنس عن قوم يصعقون عند القراءة فقال:

«ذلك فعل الخوارج(1)»(2).

ومعنى ذلك هو أن ما يعرف بين الصوفية من التظاهر بحالات الوجد والغشية، والصعق عند قراءة القرآن.. قد يكون موروثاً عن «الخوارج».

____________

(1) راجع: العقود الفضية للحارثي الإباضي، ص46و47.

(2) ربيع الأبرار، ج3 ص587.


الصفحة 10

هذا هو رأي الأمويين أيضاً:

واللافت للنظر هنا: أننا نجد: أن هذه هي نظرة الأمويين للخوارج، فإن مروان بن الحكم قد اعتبر أن «الخوارج» هم العلماء والزهاد، وذلك في كلام له مع الإمام الحسن (عليه السلام)(1).

وقال عمر بن عبد العزيز لبعض «الخوارج»: «.. إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا، أو متاع، ولكنكم أردتم الآخرة، فأخطأتم سبيلها»(2).

ماذا يقول المؤلفون:

ومهما يكن من أمر: فإن الكتاب والمؤلفين حين قرأوا ما ذكره المؤرخون عن حالات «الخوارج» وعبادتهم. وما إلى ذلك.. أخذوه منهم بعجره وبجره، ولم يخضعوه للبحث الدقيق والعميق، ليعرفوا مدى صحته، ولأجل ذلك نجد أنهم ما فتئوا يؤكدون على أن «الخوارج» هم الفئة المؤمنة الملتزمة، التي بقيت وفية لمبادئها، ولمثلها العليا(3).

وقالوا عنهم أيضاً: «إن الخوارج كانوا حزباً ثائراً، كما يدل عليه اسمهم، وحزباً ثائراً تقياً على الحقيقة. فهم لم يقوموا كعرب، ولكن

____________

(1) راجع: بهج الصباغة، ج5 ص266 وج3 ص232 وتذكرة الخواص ص207 وراجع: شرح النهج للمعتزلي ج1 ص114و115.

(2) فجر الإسلام ص263 والكامل في التاريخ ج5 ص46.

(3) قضايا في التاريخ الإسلامي، بحث الخوارج، ص66و72 و73و89 وفجر الإسلام ص64 شرح نهج البلاغة للمعتزلي، ج5 ص131و79و129و131 وتحليلي أز تاريخ إسلام ج1 ص332 وتاريخ الفرق الإسلامية، ص283 والخوارج والشيعة، ص36و42و59و39 وتاريخ الدولة العربية ص60و62.


الصفحة 11
كمسلمين، وسلكوا مسلك الأتقياء من المسلمين، وهم القراء».

«وقد وجهت التقوى في الدولة الإسلامية توجيهاً سياسياً، وكانت في أعلى درجاتها عند الخوارج؛ فإن الله تعالى طلب إلى المسلم عندما تعصى أوامره ألاّ يسكت على ذلك»(1).

وقالوا أيضاً: «كانوا حزباً ثورياً، يعتصم بالتقوى، لم ينشأوا عن عصبية العروبة، بل عن الإسلام»(2).

هذا التصور ليس جديداً:

وقد انخدع الناس بهذه المظاهر منذ بداية ظهورهم، حتى اضطر علي (عليه السلام) وأصحابه إلى مواجهة هذا الفهم الساذج للأمور، فقد ذكر «الخوارج» عند ابن عباس، فقال: «ليسوا بأشد اجتهاداً من اليهود والنصارى، وهم يصلون»(3) وفي نص آخر: يضلون(4).

على أنه يكفي في بيان زيف هذه الظاهرة، ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقهم من تنصيص على أن اجتهادهم في العبادة ما هو إلا زيف ومظاهر، لا حقيقة لها، ولا تعني أن ثمة عمقاً إيمانياً مستقراً في القلوب، بل هي مجرد حركات للخوارج، ليس وراءها سوى الخواء التام عن أية حالة إيمانية صادقة، فليس هناك إلا الجهل الذريع، والحماقة القاتلة.

____________

(1) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، ص170 للدكتور علي حسن عبد القادر.

(2) الإباضية عقيدة ومذهباً، ص31 عن الخوارج والشيعة ص41.

(3) المصنف للصنعاني ج10 ص153.

(4) راجع: الإباضية عقيدة ومذهباً ص38 والتنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص184.


الصفحة 12

الإصرار على تكذيب رسول الله (صلى الله عليه وآله):

ولا ندري ما هو السبب الحقيقي لهذا الإصرار على الزعم الذي ستأتي الشواهد الكثيرة على أنه لا واقع له..

وهو صدق تقواهم، وثبات قدمهم في الإيمان، والعمل الصالح..

مع أن الحديث المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يثبت أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وقد أكد التاريخ بصورة قاطعة وقوع الإخبارات الغيبية عن وجود ذي الثدية فيهم، وعن أنهم لا يعبرون النهر، وعن أنه لا يقتل من أصحاب علي عشرة ولا يفلت من أهل النهروان عشرة، وغير ذلك..

إن الوقائع هذه قد أثبتت بصورة قاطعة وحسية فضلاً عن تواتر نقلها، وفضلاً عن أن ناقلها هو المعصوم ـ نعم قد أثبتت أن حديث ـ النبي (صلى الله عليه وآله) في مروقهم من الدين، وسائر اوصافهم.. صحيح وثابت..

فما هذه المراوغات من هؤلاء الكتاب؟!.. وما هي دوافعهم لتكذيب هذا النقل القطعي الصادق؟!.

تبريرات لا تصح لتشدّد «الخوارج» في الدين:

إننا في حين نرى هؤلاء الكتاب يحاولون التأكيد على تقوى «الخوارج»، وعلى صلابتهم في أمر الدين..

فإنهم يحاولون إيجاد المخارج لما كان عليه «الخوارج» من جهل وسطحية، ويتلمسون المبررات للنهج الإجرامي الذي يصل بهم إلى حدود ليس ثمة أخطر منها على كل الواقع الديني والإيماني..

هذا النهج الذي تجلَّى في عقائدهم، وظهر في مواقفهم

الصفحة 13
وممارساتهم، ليجسِّد أبشع صورة للتخلف والجهل، والقسوة والغلظة، والبعد عن أي معنى إنساني أو إيماني.. كما سنوضحه فيما يأتي من فصول..

وقد كان عمدة ما علل هؤلاء المؤلفون حال الخوارج، وممارساتهم هو الجهل والسذاجة، والسطحية(1).

ولعل النص التالي: قد استنفد جهود هؤلاء في التبرير، يقول أبو زهرة: «إن الخوارج كان أكثرهم من عرب البادية، وقليل منهم كان من عرب القرى، وهؤلاء كانوا في فقر شديد قبيل الإسلام، ولما جاء الإسلام لم تزد حالهم المادية حسناً؛ لأنهم استمروا في باديتهم بلأوائها وشدتها، وصعوبة الحياة فيها. وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم، مع سذاجة في التفكير، وضيق في التصور، وبعد عن العلوم؛ فتكوّن من مجموع ذلك نفوس مؤمنة، متعصبة، لضيق نطاق العقول، ومتهورة؛ لأنها نابعة من الصحراء، وزاهدة؛ لأنها لم تجد؟».

إلى أن قال: «ولقد كانت هذه المعيشة التي يعيشونها في بيدائهم دافعة لهم على الخشونة، والقسوة، والعنف؛ إذ النفس صورة لما تألف. ولو أنهم عاشوا عيشة رافهة، فاكهة، في نعيم، أو في نوع منه؛ لخفف من عنفهم؛ وألان صلابتهم، ورطب شدتهم»(1).

وقد أضاف البعض هنا:

____________

(1) راجع: تاريخ المذاهب الإسلامية ص70و71 وراجع: تحليلي أز تاريخ إسلام ج1 ص132.


الصفحة 14
أن فقرهم، ورفاهية القبائل الأخرى قد زاد من حقدهم، بالإضافة إلى أن تمسكهم الشديد بالتقاليد، والطبائع البدوية، كالتعصب للقبيلة، والولاء لها، قد جعلهم يبغضون الحكومة السياسية، وتمردوا على نمط الحياة الاجتماعية، فثورتهم تمثل ثورة البدو على سيادة الدولة(1).

ثم عاد نفس هذا البعض ليقول في مورد آخر، ما يردّ ويتنافى مع هذا الذي ذكرناه، حين ادعى أنهم لم يرفضوا فكرة الخلافة، بل أرادوا إقامة دولة على أساس ديمقراطي، فهم جمهوريّو الإسلام، انطلاقاً من فهمهم لعدالة الإسلام.

ويدعي أيضاً: أن طبائع البداوة قد انمحت منهم باعتناقهم الإسلام، وهجرتهم من البادية، وإقامتهم في الأمصار، وانخراطهم في الجيش الإسلامي إلخ(2).

ثم إن هذا البعض أيضاً يقول: «ومن المؤرخين من ذهب إلى أن ظهور الخوارج يعبر عن رغبة القبائل العربية، من غير قريش في إقصائها عن التشبث بالخلافة، والاستئثار بالحكم. فالخوارج من هذه الناحية حزب سياسي، وحركتهم تمثل ثورة ديمقراطية، ضد الأرستقراطية الثيوقراطية الجديدة من كبار الصحابة، فهم لذلك جمهوريّو الإسلام، ودستوريو الإسلام»(3).

ونحن.. لا نستطيع أن نوافق أبا زهرة ولا هؤلاء على كثير مما

____________

(1) قضايا في التاريخ الإسلامي ص37و50و51 عن أبي زهرة، وعن عمر أبي النصر في كتاب: الخوارج في الإسلام ص18.

(2) المصدر نفسه ص73و74.

(3) نفس المصدر ص36.


الصفحة 15
ذكره وذكروه..

فأولاً: إنه قد ادّعى: أن الإسلام لم يستطع أن يغير شيئاً من حالتهم المادية. فبقوا على ما هم عليه من فقر وحاجة؛ فإن أكثر «الخوارج» كانوا عراقيين في بادئ الأمر، وقسم منهم من الموالي؛ وكانوا قد شاركوا في الحروب، ونالوا من الغنائم التي كانت كثيراًَ ما تحصل، كما نال غيرهم، وكانت بلادهم من البلاد الخصبة، التي يعتمد عليها في التموين للجيوش المحاربة، وقد اختار علي (عليه السلام) الكوفة عاصمة له لأمور منها هذا الأمر بالذات(1).

وقد اختلف حال الناس بعد ظهور الإسلام عن حالهم قبله حتى مع أمرائهم وحكامهم، الذين كانوا يحرمونهم من أبسط الحقوق، ويستأثرون بالامتيازات لأنفسهم.

بل تقدم أن بعض أمراء «الخوارج» كان يشتري السيف بعشرين ألف درهم.

فهل يصح القول بعد هذا: أنهم كانوا يعانون من الحاجة الملحة؛ والفقر المدقع؟!! إذ أنهم لو كانوا كما يدعى لهم ويدعونه، لأنفسهم أهل تقوى ودين، فسوف ينيلون فقراءهم نصيباً من هذه الدنيا التي كانت بين أيديهم.

ثانياً: لقد كانت الفرصة متاحة لهم للاستفادة من العلوم الإسلامية، وقد كان بين ظهرانيهم باب مدينة العلم مدة طويلة، يفقههم في الدين، ويوقفهم على حدود الحلال والحرام، وقد ركز فيهم راية الإيمان. كما

____________

(1) راجع: مقالاً لنا بعنوان: استراتيجية الكوفة في خلافة الإمام علي (عليه السلام) في كتابنا: دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام.


الصفحة 16
عرفنا فيما تقدم..

إذن.. فإن أي تقصير في مجال الحصول على العلوم والمعارف، إنما يقع على عاتقهم، ويأتي من ناحيتهم، وليس لهم أي عذر في ذلك.

ولكن الحقيقة هي أنهم قد عرفوا كل شيء، لكن الشيطان قد زين لهم أعمالهم كما توضحه هذه الدراسة..

ثالثاً: أما قوله: إن الإسلام قد أصاب شغاف قلوبهم، وكذا قول غيره: إنهم كانوا عباداً مؤمنين، ملتزمين بحرفية الحكم الشرعي، أوفياء لمبادئهم، ولمثلهم العليا.

فهو أيضاً لا يصح؛ فقد عرفنا: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ فيما روي عنه ـ قد وصفهم بأنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم.

وقد وصفهم أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بكثير من الأوصاف الناطقة بإنحرافهم عن الصراط السوي، وبأنهم يريدون الدنيا وقد غلب عليهم المراء، واتبعوا أهواءهم. وغير ذلك..

أضف إلى ذلك: أن تاريخهم حافل بالأحداث والتصريحات والمواقف، والممارسات التي تدل على أن الكثيرين منهم، إن لم نقل أكثرهم ـ إذا استثنينا بعض المخدوعين، والسذج والبسطاء ـ حتى على مستوى القيادات فيهم لم يكونوا على هذه الصفة. وإن تلك العبادة، وهاتيكم الشعارات ما كانت إلا أمراً صورياً ظاهرياً، لا يعبر عن واقعٍ حيٍ وأصيل في هذا المجال..

وستأتي طائفة من هذه النصوص في ضمن ما يأتي من مطالب..


الصفحة 17
وأما ما ذكره ذلك البعض كإضافات على كلام أبي زهرة، فهو أوضح فساداً، وأبعد عن الصواب، وعن الموضوعية، لأمور عديدة نقتصر منها على ما يلي:

أولاً: إن الوقائع التاريخية تثبت: أن «الخوارج» لم يكونوا ديمقراطيين أبداً، ولم يكونوا يحترمون رأي الأكثرية منهم، بل كانوا يحكمون بالكفر ويتحكمون بجبرية قاسية حتى ببعضهم البعض، فيسقطون أمراءهم لأتفه الكلمات أو التصرفات. أو ينقسمون على أنفسهم، فيكون لكل فرقة منهم أمير، ولم نجد منهم أي احترام لآراء غيرهم، بل كانوا يكفرون ويقتلون كل من خالفهم في الرأي والاعتقاد من المسلمين.. ولكنهم لا يجرؤون على المساس بغير المسلمين.. فأين هي الجمهورية الإسلامية والديمقراطية فيهم..

ثانياً: إن دعوى أن طبائع البداوة قد انمحت باعتناقهم للإسلام، وهجرتهم من البادية إلى الأمصار.. أغرب وأعجب، فإن من بديهيات التاريخ: أن أشد الناس إغراقاً في البداوة في طبائعهم، هم «الخوارج»، وقد بقي ذلك فيهم إلى عصور متأخرة بصورة ظاهرة، ولافتة، وإن بقاياهم لم يزل هذا حالهم إلى يومنا هذا.. رغم أنهم قد غيروا وبدلوا، أو تستروا على كثير من اعتقاداتهم، ليمكنهم البقاء..

ثالثاً: إن الحديث عن رغبة القبائل العربية في إقصاء قريش عن الخلافة غير دقيق، فإن «الخوارج» كانوا خليطاً غير متجانس، وكان فيهم العربي، وغير العربي.. ولم يكن تأمير أمرائهم نتيجة قرار اتخذته القبائل العربية بإقصاء قريش عن الخلافة.

وإلا.. فإن العرب الذين حاربوا «الخوارج» مع علي (عليه السلام)، والذين

الصفحة 18
حاربوا «الخوارج» على مدى التاريخ كانوا أكثر عدداً وأعظم نفوذاً، وهم الرؤساء وأهل الرأي.. وإنما كان «الخوارج» مجرد شراذم ورعاع من الناس، لا يجمعهم إلا الطمع والجهل، كما سنرى..

رابعاً: لم نعرف ماذا يقصد بوصفه للخوارج بأنهم دستوريو الإسلام، فأي دستور كانوا يسعون لتطبيقه والالتزام به.

فهل هو دستور الإسلام؟! فإن هذا الدستور يقضي عليهم بلزوم التزامهم بقول إمامهم المنصوب من قبل الله، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)..

أم هو دستور العرف الإنساني؟ وهذا الدستور أيضاً يقضي عليهم بلزوم الوفاء بالعهود والعقود، واحترامها.. واحترام كلمة العالم الرشيد.. واحترام العهد الذي أعطوه، فلا ينكثون البيعة، ولا يطلبون نقض عهد أبرمه إمامهم وسيدهم وقائدهم..

خامساً: إن ظهور «الخوارج» ـ وإن كان طمعاً في الدنيا، وقد لبَّسوا هذه الأطماع لباس الدين.. ولكن التعليل الذي ذكره لا يمكن قبوله، إذ أنه لو صح لوجب أن يوجد هؤلاء «الخوارج» في كل عصر ومصر، مادام أن البداوة موجودة في جميع العصور وفي مختلف المناطق، وفي مقابلها حياة الرفاهية والترف، وغير ذلك من أمور وحالات، بقيت مغمورة في ضمير هذا الكاتب، ولم ير ضرورة للإفصاح عنها..

سادساً: أضف إلى ذلك: أن غيرهم من أهل قبائلهم ومن سائر القبائل لم يكونوا من حيث الترف والنعيم والبداوة، وغير ذلك أفضل حالاً من «الخوارج»، ولعل كثيرين من هؤلاء كانوا أفضل حالاً من أولئك.


الصفحة 19
كانوا أفضل حالاً من أولئك. فلماذا لم يصيروا مثلهم، ولم ينضموا إليهم؟!

سابعاً: وأخيراً، إن ما ظهر من «الخوارج» من افاعيل، ومن اعتقادات لا يقرها عقل ولا شرع، ولا وجدان، لا علاقة له بهذا الترف، ولا بتلك البداوة، ولا بذلك التمرد المزعوم، ولا يصح تعليله به، كما هو معلوم..

وذلك لأننا لم نجدهم يصدرون أي حكم ضد المترفين بما هم مترفون، بل كانت أحكامهم، عامة لا استثناء فيها.

كما أنهم في ممارساتهم لم يرحموا فقيراً لفقره، بل مارسوا كل قسوتهم ضد هؤلاء الفقراء والمسحوقين في الغالب، ولم يشفع لهم فقرهم أو ضعفهم، ولم يخفف من حدة تصرفاتهم تجاههم.. وإن بقرهم لبطون الحبالى خير شاهد ودليل على ذلك.

العجب هو الداء الدوي:

والذي يبدو هو أن عجب «الخوارج» بأنفسهم، وبعبادتهم، قد أسهم في اندفاعهم نحو اتخاذ مواقفهم الرعناء تلك، ودفعهم إلى الإمعان في الانحراف.. وإلى الإغراق فيه.

هذا بالإضافة: إلى أن إعجاب الناس بهم أيضاً قد يكون له تأثير في تشجيعهم على تجاوز حدود الشرع، وخروجهم على أحكام الدين..

فعن أنس قال: ذكر لي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ـ ولم أسمعه منه ـ: إن فيكم قوماً يعبدون ويدأبون، حتى يعجب بهم الناس، وتعجبهم نفوسهم، يمرقون

الصفحة 20
من الدين مروق السهم من الرمية(1).

وواضح: أنه إذا كانت عبادة الإنسان بعيدة عن الوعي، وعن التأمل، والفكر، فإنها تكون مجرد طقوس يؤديها الإنسان، ولا يحس بها، ولا يتفاعل معها إلا من خلال ما يبذله من جهد جسدي، من دون أن يشعر بعظمة الله سبحانه، أو أن يستشعر لذيذ القربى منه، أو يشرف بروحه على آفاق جلاله، ويتلمس بمشاعره وأحاسيسه معاني كمالاته السامية..

ومن يكون كذلك فسوف يرى: أن هذا الجهد الجسدي له قيمته، وخطره، في ميزانه المادي، فيرى نفسه أنه أعطى وقدم ما لم يقدمه وما لم يعطه غيره، وتصير له بذلك المنة ليس فقط على الآخرين ويتعالى عليهم وإنما على رب العالمين، ويبتلى بالعجب بالنفس، وذلك هو الهلاك بعينه.

الوصف الدقيق:

وواضح: أن «الخوارج» كانوا برهة من الزمن مع أمير المؤمنين، وقد عانى منهم الكثير، وصبر عليهم، حتى اعلنوا بالخروج عليه، فحاربهم وقتلهم في النهروان إلا الشريد، وحاربهم بعد ذلك أيضاً.

فهو (عليه السلام) أعرف الناس بهم، وإذا راجعنا أقواله فيهم، فإننا نجده (عليه السلام) لا يعترف لهم بالعبادة ولا بالزهد، بل هو يذكر لتحركاتهم دوافع دنيوية وشيطانية، الأمر الذي يشير إلى أن مواقفهم لم تكن دينية إلهية، وإنما كان لأهوائهم ومصالحهم الشخصية، ومفاهيمهم

____________

(1) مسند أحمد ج3 ص183 وراجع: المصنف للصنعاني ج10 ص154 وكنز العمال ج11 ص177و310 عن أحمد، وعبد الرزاق ومجمع الزوائد ج6 ص229 وراجع: مستدرك الحاكم ج2 ص147 وتلخصيه للذهبي بهامشه والبداية والنهاية ج7/297.


الصفحة 21
الجاهلية، وللنزعات الشيطانية، والعصبيات القبلية، دور كبير في إثارتهم، وفي اتخاذهم الكثير من المواقف الرعناء.

وكانوا يتخيلون كلهم أو كثير منهم: أن ذلك من الدين، ومن الحق الذي يسعون إليه، ويعملون في سبيل الوصول إليه؛ فهم مصداق ظاهر للأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، كما قرره علي أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، في كلام له عنهم(1).

ومهما يكن من أمر: فإن أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي كان أعرف بهم من كل أحد، ركب، ومر بهم وهم صرعى، فقال: «لقد صرعكم من غركم.

قيل: ومن غرَّهم؟

قال: الشيطان. وأنفس السوء»(2).

وفي نص آخر: «غرّهم الشيطان، وأنفس بالسوء أمّارة، غرتهم بالأماني، وزينت لهم

____________

(1) الكامل في الأدب ج3 ص188 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص278، والفتوح لابن أعثم ج4 ص127 وكشف الغمة ج1 ص266 والثقات لابن حبان ج2 ص296 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص186/187 عن تفسير القشيري، وعن الإبانة للعكبري، والبحار ط قديم ج8 ص550و553و552و555و571 عن الغارات، والعمدة، وتفسير الثعلبي، وتهذيب تاريخ دمشق ج7 ص307 وتفسير البرهان ج2 ص295. والدر المنثور ج4 ص253 عن عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وفرائد السمطين ج1 ص395.

(2) مروج الذهب ج2 ص407 ـ وراجع: تذكرة الخواص ص105.


الصفحة 22
المعاصي، ونبأتهم بأنهم ظاهرون»(1).

وقال (عليه السلام) مخاطباً لهم بالنهروان: «أيتها العصابة، التي أخرجتها اللجاجة، وصدّها عن الحق الهوى، فأصبحت في لبسٍ وخطأ»(2).

وفي نص آخر، أنه قال لهم: «يا قوم، إنه قد غلب عليكم اللجاج والمراء، واتبعتم أهواءكم، فطمح بكم تزيين الشيطان لكم الخ»(3).

وحسب نص آخر: «أيتها العصابة التي أخرجها المراء واللجاج عن الحق، وطمح بها الهوى إلى الباطل»(4).

وعند الطبري: «أيتها العصابة التي أخرجها عداوة المراء، واللجاجة، وصدها عن الحق الهوى، وطمح بها النزق، وأصبحت في اللبس، والخطب العظيم»(5).

وفي نص آخر لم يذكر قوله: «وطمح بها النزق الخ..». لكنه قال: «إن أنفسكم الأمارة سولت لكم فراقي لهذه الحكومة التي أنتم ابتدأتموها، وسألتموها وأنا لها كاره. وأنبأتكم أن القوم إنما فعلوها مكيدة، فأبيتم علي إباء المخالفين، وعندتم علي عناد العاصين الخ»(6).

ولعل في اختلاف هذه النصوص، ولا سيما هذا النص الأخير مع ما

____________

(1) البداية والنهاية ج7 ص289، وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص66 والكامل في التاريخ ج3 ص348 والبحار ط قديم ج8 ص556 ونهج البلاغة قسم الحكم رقم 329 حسب ترقيم المعتزلي وبشرح عبده ج3 ص230.

(2) الأخبار الطوال ص207/208 راجع الموفقيات ص325.

(3) أنساب الأشراف، بتحقيق المحمودي ج2 ص371.

(4) تذكرة الخواص ص100.

(5) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص62 والكامل في التاريخ ج3 ص343.

(6) نور الأبصار للشبلنجي ص102 والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص92.


الصفحة 23
سبقه ما يثير احتمال تعدد الواقعة، فدعا ذلك إلى التركيز على خصوصيات مختلفة تتناسب مع الحالات المختلفة.

ونلاحظ: أنه (عليه السلام) قد قرر في كلماته تلك:

ألف: أن «الخوارج» كانوا يتوقعون الظفر في حربهم له (عليه السلام).

ب: أنه كانت لديهم أماني قد غرتهم.

ج: إن أنفسهم الأمارة وأمانيهم قد زينت لهم المعاصي.

د: أن الشيطان زين لهم وغرهم، فأوردهم موارد الهلكة.

هـ: أنهم قد التبست عليهم الأمور، ووقعوا في الخطأ، حينما لم يعرفوا الحق.

و: أن الهوى قد صدهم عن الحق.

ز: إنهم كانوا قد غلب عليهم اللجاج والمراء.

ح: إن النزق قد طمح بهم.

ط: ان النزق دعاهم إلى الخلاف والعناد.

ي: إنهم إنما يقاتلون من أجل الدنيا، كما سيأتي في كلامه (عليه السلام) مع زرعة بن البرج.

وستأتي كلمات أخرى له (عليه السلام)، فيها إشارات أخرى إلى دوافعهم، وحالاتهم.

ثم إن مما يدل على ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن الشيطان قد زين لهم المعاصي، ما كانوا يرتكبونه في حق الأبرياء من جرائم، وموبقات، ومآثم. وذلك في أول ظهورهم، وحتى قبل معركة النهروان الشهيرة، وقبل أن يضعوا لأنفسهم منهجاً عقائدياً يبيحون فيه لأنفسهم

الصفحة 24
ارتكاب تلك الموبقات والمآثم.

أضف إلى ذلك: أن حربهم لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) لم تكن مبررة عندهم بالقدر الكافي، فلم يكن لديهم في ذلك برهان، ولا كانوا واثقين من صواب موقفهم، بل كانوا مجرد شكاك؛ فمضوا على شكهم حتى قتل أكثرهم، وقتل بسببهم أو على أيديهم كثيرون آخرون، وقد تحدثنا عن شكهم هذا في موضع آخر من هذا الكتاب.

ونحن هنا بهدف توفير الوقت، وادخار الجهد سوف نقتصر على نماذج قليلة من مخالفاتهم، ومواقفهم اللاإنسانية، وأفعالهم التي تخالف اعتقاداتهم وأقوالهم، وهي التالية:

القتال على الأموال:

إن من يراجع تاريخ الوقائع والأحداث لا يساوره شك في أن قتالهم لم يكن جهاداً في سبيل الله، بل كان على الأموال، ومن أجل الدنيا بصورة عامة، فقد قال سيد الوصيين علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، لزرعة بن البرج، في احتجاجه على أهل النهروان: «لو كنت محقاً كان في الموت على الحق تعزية عن الدنيا، إن الشيطان قد استهواكم، فاتقوا الله عز وجل؛ إنه لا خير في دنيا تقاتلون عليها»(1).

ويقول النص التاريخي أيضاً: «.. وجعلت الخوارج تقاتل على القدح يؤخذ منها، والسوط، والعلف، والحشيش أشد قتال»(2).

____________

(1) تاريخ الأمم والملوك، ج4 ص53 وبهج الصباغة، ج7 ص164.

(2) الكامل في الأدب، ج3 ص397 والعقد الفريد، ج1 ص223 وفيه كانت الخوارج تقاتل إلخ.. وشرح النهج للمعتزلي، ج4 ص208 راجع: فجر الإسلام، ص264.


الصفحة 25
وقد قلنا حين الحديث عن تركيبة «الخوارج» أن معقلاً الذي أرسله علي (عليه السلام) لقتال الخريت الخارجي قد قال لأصحابه عن الخوارج: إنهم علوج كسروا الخراج، ولصوص الخ..(1).

ويؤيد ذلك أيضاً: نصوص تاريخية أخرى(2).

ويقول المعتزلي: «وقد خرج بعد هذين جماعة من خوارج كرمان، وجماعة أخرى من أهل عمان، لا نباهة لهم. وقد ذكرهم أبو إسحاق الصابي، في كتاب «الناجي» وكلهم بمعزل عن طرائق سلفهم، وإنما وكدهم، وقصدهم إلى إخافة السبيل، والفساد في الأرض، واكتساب الأموال من غير حلها»(3).

هذا، وقد سأل الحسن البصري رجل من «الخوارج»، فقال: ما تقول في «الخوارج»؟

فقال: هم أصحاب دنيا.

قال: من أين قلت، وأحدهم يمشي في الرمح حتى ينكسر فيه، ويخرج من أهله وولده؟!

قال الحسن: حدثني عن السلطان، أيمنعك من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج والعمرة؟

قال: لا.

قال: فأراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها.

قال إسحاق: فحدثت بهذا الحديث الغاضري ـ ظريفاً كان بالمدينة

____________

(1) الغارات، ج1 هامش ص353.

(2) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص93 والكامل في التاريخ ج3 ص367.

(3) شرح النهج للمعتزلي ج5 ص76.


الصفحة 26
ـ فقال:

صدق الحسن، ولو أن أحدهم صام حتى ينعقد، وسجد حتى ينخر جبينه، واتخذ عسقلان مراغةً، ما منعه السلطان؛ فإذا جاء يطلب ديناراً أو درهماً لُقيَ بالسيوف الحداد، والأدراع الشداد(1).

ولنا تحفظ على أسلوب الحسن البصري الظاهر في أنه يرضى بحكومة أي كان ـ حتى يزيد أو الوليد، إذا كان لا يمنع الناس من الصلاة والصوم ونحو ذلك.. فإن هذا المنطق مرفوض في الإسلام. ولهذا البحث مجال آخر.

غير أن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أن «الخوارج» كانوا طلاب دنيا، ويبحثون عن الدينار والدرهم.

وقد قال الأشتر للذين خدعتهم مكيدة رفع المصاحف، من الذين كانوا يتظاهرون بالعبادة والصلاة، ثم صاروا فيما بعد خوارج: «كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت ألا فقبحاً يا أشباه النيب الجلالة»(2).

وإذا قرأنا قصة المستورد أيضاً فإننا نجد فيها دلالة ظاهرة على أن زهد «الخوارج» لم يكن حقيقياً، بل كان مصطنعاً، فلتراجع تلك القصة في مصادرها(3).

لم يعطه المال، فأعلن الحرب:

ومما يدل على مدى تأثير الأطماع فيهم: أننا نجد الفارس

____________

(1) البصائر والذخائر ج1 ص154.

(2) شرح النهج للمعتزلي ج2 ص219 وراجع: صفين ص491 والمعيار والموازنة ص164.

(3) وراجع: الخوارج والشيعة ص55.


الصفحة 27
المشهور: شبيب بن يزيد الشيباني الخارجي كان: «في ابتداء أمره قصد الشام، ونزل على روح بن زنباغ، وقال له: سل أمير المؤمنين أن يفرض لي في أهل الشرف، فإن لي في بني شيبان تبعاً كثيراً.

فسأل روح بن زنباغ عبد الملك بن مروان في ذلك، فقال: هذا رجل لا أعرفه، وأخشى أن يكون حرورياً.

فذكر روح لشبيب: أن عبد الملك ذكر أنه لا يعرفه. فقال: سيعرفني بعد هذا.

ورجع إلى بني شيبان، وجمع من الخوارج الصالحية مقدار ألف رجل، واستولى بهم على ما بين كسكر والمدائن».

ثم يذكر المؤرخون: كيف أنه هزم للحجاج عشرين جيشاً في مدة سنتين، وغير ذلك من أمور(1).

يريد المال ليعصي به الله:

وقد كان الطرماح خارجياً هو الذي يقول:


امخترمي ريب المنون ولم أنلمن المال ما أعصي به وأطيع(2)

خبرتهم بالخمر وبالعواهر:

وحين سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال الخارجي عن الخمر، وعن العواهر نجد عبيدة يجيبه بما يدل على أنه من أعرف الناس في ذلك.

فقد قال له: «أي الخمر أطيب؟ خمر السهل، أم خمر الجبل؟

____________

(1) راجع: الفرق بين الفرق ص111 والفتوح لابن أعثم ج7 ص84و85.

(2) الأغاني ج10 ص160.


الصفحة 28
قال: ويحك، أمثلي يسأل عن هذا؟

قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب.

قال: أما إذا أبيت، فإن خمر الجبل أقوى، وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس.

قال: فأي الزواني أفره؟ أزواني رامهرمز، أم زواني أرّجان؟!

قال: ويحك، إن مثلي لا يسأل عن هذا.

قال: لابد من الجواب، أو تغدر.

قال: أما إذا أبيت، فزواني رامهرمز أرق أبشاراً، وزواني أرّجان أحسن أبداناً الخ…»(1).

____________

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص170 عن الأغاني ط دار الكتب المصرية ج6 ص149.


الصفحة 29


الفصل الثاني
معاصي ومآثم





الصفحة 30

الصفحة 31

بداية:

وحين نرى أن «الخوارج» حتى على مستوى زعاماتهم، وأمرائهم، وقادتهم يقترفون كبائر الذنوب ويرتكبون المآثم، ويسعون وراء الشهوات، فإن ذلك يكون دليلاً ملموساً على ضعف حالة التقوى عندهم، أو انعدامها من الأساس.

تماماً كما يكون سعيهم للحكم، وممالأتهم للحكام، وممارساتهم اللاإنسانية في هذا الاتجاه دليلاً على ذلك أيضاً..

هذا عدا عن إصرارهم على الباطل بعد ظهور بطلانه لهم، وإلزامهم الحجة الدامغة فيه. فإنه هو الآخر يدل دلالة ظاهرة على أنه لا حقيقة لما يدعونه من عبادة وزهادة، وصلة بالله سبحانه بل هي كما أكدته النصوص النبوية الشريفة مجرد أمور شكلية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، حيث إنهم كانوا قد مرقوا من الدين مروق السهم من الرمية.

وسنذكر فيما يلي أمثلة متنوعة تشير إلى طبيعة صلتهم بالله سبحانه، فإلى ما يلي من مطالب.

دعارة «الخوارج»:

قد تقدم: أن عبيدة بن هلال وهو أحد زعمائهم الكبار كان من

الصفحة 32
أعرف الناس بعواهر البلاد، وبميزاتهن.

وسيأتي حين الحديث عن تركيبة الخوارج: أنهم كانوا ما بين حداد، وصباغ، وداعر..

واللافت: أن أكابرهم وقادتهم كانوا لا يتورعون عن ارتكاب أعظم الفواحش، حتى الزنى بالمحصنات..

فقد ورد: أن عبيدة بن هلال اليشكري اتهم بامرأة حداد كان يدخل عليها بلا إذن.

فدبّر هو وقطري بن الفجاءة الحيلة للخلاص من الورطة ونجحا في ذلك(1).

فما معنى ان يدخل زعيمهم على امرأة محصنة بلا إذن.. حتى يتهم بالدعارة. فأين ورعه وتقواه؟ وأين هي عبادته وزهادته..

وزعيمهم الآخر لا يقيم الحد على مرتكب هذا الذنب العظيم.. بل هو يشاركه في الجريمة حين يدبر له الحيلة لتخليصه من المأزق..

والعامة الذين وقفوا على هذا الأمر، لم يقطعوا علاقتهم به، ولا أضر ما عرفوه عنه في ولائهم واستمرارهم في الانقياد له. ثم هم بعد هذا، وذاك، وذلك يدَّعون لأنفسهم التقوى، والعبادة. والصلاح، فاعجب بعد هذا ما بدالك!! فما عشت أراك الدهر عجبا.

الدعارة بمرسوم. والغيرة معدومة:

يقول ابن بطوطة: «ونساؤهم يكثرون الفساد، ولا غيرة عندهم، ولا إنكار لذلك»(2).

____________

(1) راجع: الكامل في الأدب ج3 ص391 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص203.

(2) رحلة ابن بطوطة ج1 ص172، والنص والاجتهاد ص99 عنه.


الصفحة 33
وقال: «كنت يوماً عند هذا السلطان أبي محمد بن نبهان، فأتته امرأة صغيرة السن، حسنة الصورة، بادية الوجه؛ فوقفت بين يديه وقالت له: يا ابا محمد، طغى الشيطان في رأسي.

فقال لها: إذهبي واطردي الشيطان.

فقالت له: لا أستطيع وأنا في جوارك يا أبا محمد.

فقال لها: إذهبي، فافعلي ما شئت.

فذكر لي ـ لما انصرفت عنه ـ أن هذه ومن فعل مثل فعلها تكون في جوار السلطان، وتذهب للفساد، ولا يقدر أبوها، ولا ذو قرابتها أن يغيروا عليها، وإن قتلوها قتلوا بها، لأنها في جوار السلطان»(1).

ترك الصلاة:

وقد أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عنهم ـ وهو الصادق المصدق ـ أنهم «يتركون الصلاة من وراء ظهورهم. وجعل يديه وراء ظهره»(2).

«الخوارج» فساق مراق:

وجاء في خطبة لأمير المؤمنين قبل خروجه إلى النهروان: «وبعد.. فقد علمتم ما كان من هؤلاء القوم من الإقدام والجرأة على سفك الدماء وهم قوم فساق، مراق، عماة، جفاة، يريدون فراقي وشقاقي، وفيهم من قد عضه بالأمس السلاح، ووجد ألم الجراح الخ..»(3).

____________

(1) رحلة ابن بطوطة ص173 والنص والاجتهاد ص99 عنه.

(2) كنز العمال ج11 ص301 عن ابن جرير.

(3) الفتوح لابن أعثم ج4 ص100.