الصفحة 34

لا تقوى لمتعنت:

ومن الواضح: أن التعنت والإصرار على الباطل يشهد على عدم التقوى، وعدم مراقبة الله سبحانه، وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وهو أعرف الناس بهم ـ أن أحد زعمائهم وهو ابن الكواء ـ قد أراد التعنت حين صار يسأله عن بعض المسائل(1).

وهذا العناد واللجاج قد تجلى بصورة واضحة في إصرارهم على قتال أهل الإيمان، حتى بعد أن أقيمت الحجة عليهم، ولم يعد لهم أي عذر.. فكان مصيرهم القتل والبوار. ولا تزال هذه الخصوصية البغيضة تتجلى فيهم على مر الأيام.

شرب الخمر:

والغريب في الأمر: أنهم يذكرون: أن ابن ملجم لعنه الله تعالى قد شرب النبيذ ليلة قتله علياً (عليه السلام)(2) وابن ملجم هو من رموز «الخوارج» وهو الذي مدحه الشاعر الخارجي عمران بن حطان بقوله:


يا ضربة من تقي ما أراد بهاإلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

وتقدم أن أحد كبار زعمائهم، وهو عبيدة بن هلال كان من أعرف الناس بالخمر، وحالاتها.. وظاهر الحديث انه يجيب سائله عن خبرة.

لبس الحرير:

ثم إنهم يذكرون أيضاً أن قطاماً الخارجية قد شدت الحرير على

____________

(1) تهذيب تاريخ دمشق ج7 ص302 وراجع: فرائد السمطين ج1 ص394.

(2) الفتوح لابن أعثم ج4 ص139.


الصفحة 35
صدر ابن ملجم، وعلى صدور الذين شاركوه في قتل وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)(1). ولا ريب في حرمة لبس الحرير على الرجال في فقه الشريعة الإسلامية الغرّاء..

العمل بالتقية:

والمعروف من مذهب «الخوارج» لزوم الجهر بالحق، ورفض التقية، لكننا نجد أحد نساكهم وهو خالد بن عباد يعمل بالتقية(2).

وسيأتي أن عمران بن حطان الخارجي كان يعمل بالتقية أيضاً.

ونصح أبو بلال مرداس امرأة من «الخوارج» يقال لها البلجاء بأن تعمل بالتقية، فقال: «إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية، فاستتري»(3).

الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله):

ونلاحظ أيضاً: أنهم كانوا يستخدمون الوضع والتزوير من أجل تأييد مواقفهم، واتجاهاتهم، فقد رووا: أن شيخاً منهم ـ بعد أن تاب ورجع عن مقالتهم ـ يقول محذراً: «.. إن هذه الأحاديث دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم؛ فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً..»(4).

____________

(1) الإرشاد للمفيد ص17 ومصادر أخرى ستأتي.

(2) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص87.

(3) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص82.

(4) لسان الميزان ج1 ص10و11 والكفاية للخطيب ص123 وآفة أصحاب الحديث ص71و72 واللآلي المصنوعة ج2 ص468 وبحوث في تاريخ السنة المشرفة ص29 عن الأولين، وعن: السنة ومكانتها في التشريع، للسباعي ص97 وعن: الموضوعات لابن الجوزي ص38 راجع: العتب الجميل ص122.


الصفحة 36
وفي نص آخر: «انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه؛ فإنا كنا إذا تراءينا رأياً جعلنا له حديثاً»(1).

وقال الأعمش: «جالست إياس بن معاوية؛ فحدثني بحديث.

فقلت: من يذكر هذا؟!

فضرب لي رجلاً من الحرورية.

فقلت: إلي تضرب هذا المثل؟ تريد أن أكنس الطريق بثوبي؛ فلا أدع بعرة، ولا خنفساء إلا حملتها؟!»(2).

وقال الجوزجاني: عن «الخوارج»، الذين تحركوا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله): «نبذ الناس حديثهم اتهاماً لهم»(3).

والغريب في الأمر هنا: أن البعض يحاول القيام بعملية تزوير أكثر شناعة وقباحة من هذا. وذلك عندما ادعى:

أن ذلك إنما هو في الأحاديث المراسيل، والمقاطيع من الروايات، فقد قال: «هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمراسيل، إذ بدعة «الخوارج» كانت في صدر الإسلام، والصحابة متوافرون، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمراً جعلوه حديثاً، وأشاعوه؛ فربما سمعه الرجل السني؛ فحدث به، ولم يذكر من حدث به، تحسيناً للظن به، فيحمله عنه غيره، ويجيء الذي يحتج بالمقاطيع

____________

(1) اللآلي المصنوعة ج2 ص468. والغريب في الأمر: أن نفس هذا النص مروي عن حماد بن سلمة عن شيخ من الرافضة فراجع: لسان الميزان ج1 ص11.

(2) بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص29 عن كتاب: المحدث الفاصل، للرامهرمزي ج1 ص12.

(3) أحوال الرجال ص34.


الصفحة 37
فيحتج به، ويكون أصله ما ذكرت الخ»(1).

ولا ندري ما وجه حمله لذلك على المقاطيع والمراسيل؟! إلا أنه يريد أن يصوب رواية أصحاب الصحاح عن «الخوارج»، حتى ليروي البخاري ـ وهو أصح كتاب بعد القرآن عندهم ـ عن عمران بن حطان(2)، مادح عبد الرحمن بن ملجم، قاتل سيد الوصيين علي أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) حيث يقول:


يا ضربة من تقي ما أراد بهاإلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً..


ولكنه يهاجم الرواية عن الرافضة بصورة عجيبة، حتى لو كان الراوي صدوقاً. ثم يذكر أقاويل علمائه بالمنع من قبول رواية الرافضة مطلقاً، فراجع كلامه(3).

وبعدما تقدم فإننا نعرف عدم صحة قول أبي داود: «ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج»(4).

ممارسات لا إنسانية:

وقد أرسل قطري بن فجاءة «الخوارج» الذين جاؤوا من كرمان وفارس، مع صالح بن مخراق وسعد الطلائع لحرب عبد العزيز، أخي المهلب، فهزموه، «وسبوا النساء يومئذٍ، وأخذوا أسرى لا تحصى، فقذفوهم في غار، بعد أن شدوهم وثاقاً، ثم سدوا عليهم بابه، حتى ماتوا فيه»(5).

____________

(1) لسان الميزان ج1 ص11.

(2) راجع: العتب الجميل.

(3) راجع: لسان الميزان ج1 ص10 وراجع: ميزان الاعتدال ج1 ص27/28.

(4) ميزان الاعتدال، ج2 ص236 والعتب الجميل ص121 عن مقدمة فتح الباري.

(5) الكامل في الأدب ج3 ص355 وشرح النهج للمعتزلي ج4 ص174 الخوارج في

=>


الصفحة 38
وقال المسعودي عن صاحب الزنج: «.. ظهر من فعله، ما دل على تصديق ما رمي به، أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج، لأن أفعاله في قتل النساء، والأطفال، وغيرهم من الشيخ الفاني وغيره ممن لا يستحق القتل يشهد بذلك عليه»(1).

ويكفي أن نذكر: أن حرب النهروان إنما نشأت عن إفسادهم في الأرض، وقتلهم عبد الله بن خباب، وبقرهم بطن زوجته التي كانت حاملاً، وقتلوا نسوةً ورجالاً آخرين كما تقدم.

وقد قال عمر بن عبد العزيز لشوذب الخارجي: «.. فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي، حين خرج من البصرة، هو وأصحابه، يريدون أصحابكم في الكوفة؛ فمروا بعبد الله بن خباب، فقتلوه، وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة، فقتلوا الرجال، وأخذوا الأموال، وغلوا الأطفال في المراجل. وتأولوا قول الله: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً)(2) ثم قدموا على أصحابهم من أهل الكوفة الخ.»(3).

ونستطيع أن نعرف: مدى قسوتهم، وإمعانهم في ارتكاب الجرائم، التي يندى لها جبين كل إنسان ألماً وخجلاً، مما سجله التاريخ لنا من مذاهب وآراء اعتقادية لهم، حيث إنها غريبة عن الفطرة، وعن العقل، وعن الإنسانية، وهي تعبير صادق عن عميق حقدهم، وبالغ همجيتهم

____________

<=

العصر الأموي ص54 عن الكامل.

(1) مروج الذهب ج4 ص108. وبهج الصباغة ج7 ص166 عنه.

(2) سورة نوح / 27.

(3) جامع بيان العلم ج2 ص129 ومروج الذهب ج3 ص191 وبهج الصباغة ج7 ص113 عنه وعن العقد الفريد.


الصفحة 39
ووحشيتهم، وبعدهم كل البعد عن أي من المعايير الإنسانية، والفضائل الأخلاقية..

الحقد الدفين هو الدافع:

ولم تكن مواقفهم وممارساتهم القاسية تلك بدافع ديني، يوجبه الالتزام بتعاليم شرعية بنظرهم.. وإلا لما كان ثمة مبرر لغلي الأطفال في المراجل، ولا لفرارهم في الحروب، والتماسهم الأمان من هذا، وذاك، ولا للتخلي عن كل شيء في قبال منصب يتاح لهم، ولا لغير ذلك مما ذكرناه في هذا الكتاب، فإن التدين ـ لو كان ـ فلابد أن يترك أثره في جميع تلك الحالات والظروف، والمواقف..

وإنما كانت هذه الممارسات القاسية واللاإنسانية ضد خصومهم بدافع التنفيس عن حقد دفين، يعتلج في صدورهم، وتشب ناره في أفئدتهم.

وقد عبر الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذا المعنى بوضوح تام في جوابه لمن رأى: أن كونهم شكاكاً لا يلائم دعوتهم خصومهم إلى البراز.

فأجابه (صلوات الله وسلامه عليه) بقوله: «ذلك مما يجدون في أنفسهم»(1).

كما أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد وصفهم في ضمن كلام له بأنهم عصابة «طمح بها النزق»(2).

____________

(1) تهذيب الأحكام للطوسي ج6 ص145 وبهج الصباغة ج7 ص168 عنه والوسائل ج11 ص60.

(2) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص62.


الصفحة 40
وأما أسباب الحقد، فلا تنحصر في أمر المال، بل هو حقد الفاجر على التقي، والجاهل اللئيم على العالم الكريم والحليم الجليل، والخبيث على الطيب، والمجرم على البريء وما إلى ذلك.

صعصعة يصف أحد زعمائهم:

ويكفي أن نذكر: أن صعصعة بن صوحان يصف أحد زعمائهم وهو ـ المنذر بن الجارود ـ بقوله: «إنه نظار في عطفيه، تفال في شراكيه، تعجبه حمرة برديه».

وقد قال صعصعة ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام)(1).

فمن تكون صفاته هي هذه كيف يمكن أن يعطى أوسمة التقوى والورع، والعبادة؟ هذا.

عمال ليزيد:

وقد بلغ بهم حب الدنيا حداً جعل المنذر بن الجارود يتولى الهند من قبل عبيدالله بن زياد، وذلك في إمرة يزيد، فمات هناك سنة 61هـ.

تركهم لحدود الله:

وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما جاؤوه برأس عبد الله بن وهب الراسبي: «قد كان أخو راسب حافظاً لكتاب الله، تاركاً لحدود الله»(2).

____________

(1) البيان والتبيين ج3 ص112 وج1 ص99 والحيوان ج5 ص588.

(2) مروج الذهب ج3 ص47.


الصفحة 41

التطبيق الانتقائي للأحكام والتساهل فيها:

وقد اخذ اتباع شبيب عليه أموراً: منها: أنه كان يستثني قومه من أن يطبق عليهم ما يأمرهم به دين الخوارج، وأموراً أخرى(1).

ولاموه كذلك على أنه كان يقبل الاعتراف تقيّةً، وعلى أنه كان يطلق الأسرى بمجرد قولهم: لا حكم إلا لله، أو يردد عليهم هذا القول ليخلصهم(2).

لا يعاقب شارب الخمر لنكايته في العدو:

كما أنه لم يعاقب رجلاً في جيشه كان يشرب الخمر، بحجة أنه كان شديد النكاية على العدو(3).

محاباة وتساهل والكيل بمكيالين:

ومما يشير إلى تساهلهم مع بعضهم البعض: أن قطري بن الفجاءة ـ كما يقول البعض ـ كان:

«لا يؤمن بالقعود عن الشراية والجهاد، وإذا ما تخلف أحد أتباعه عن هذا الواجب المقدس، سرعان ما يلاحقه، ويدفعه إلى ذلك دفعاً، فحينما قعد أبو خالد القناني بعث إليه بقصيدة يقرعه فيها، ويحثه على النفير، ويؤكد له: أن لا عذر لقاعد، ولا هداية له.

كما بعث قصيدة أخرى لسميرة بن الجعد، يعاتبه فيها على ركونه

____________

(1) راجع: الخوارج والشيعة ص98.

(2) الخوارج والشيعة ص98 وأشار إلى تاريخ الأمم والملوك ج2 ص967.

(3) الخوارج والشيعة ص73 وراجع: العبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص147.


الصفحة 42
لحياة الاستقرار، وقبوله أن يصبح سميراً للحجاج، في حين أن رسالة الخارجي هي أن يتمنطق بالسلاح، ويجالد الفرسان، ويصبر على شدائد الأمور، بعد أن يذكره بالسلف الصالح، ويلفت نظره إلى مصيره المحتوم، وأنه سيبعث إلى حساب عسير … إلى أن قال: فحمل سلاحه ولحق بقطري، دون أن ينذر الحجاج بذلك الخ»(1).

وقال في موضع آخر: «.. ونجد: أن قطري بن الفجاءة، يعاتب سميرة بن الجعد، الذي صار نديماً للحجاج، وغرته مباهج القصر ـ يعاتبه ـ عتاباً لطيفاً، لا قسوة فيه، ولا يكفره، كما يفعل بغيره، بل يصرح بعدم كفره، ولكنه يكون قاسياً جداً إذا هجا غير الخوارج، ويكفرهم»(2).

ومعنى ذلك هو أن القضية بالنسبة إليهم ليست قضية دين، والتزام بأحكام الشرع بقدر ما هي هوى النفس، وطموحات يريدون تحقيق ما أمكنهم منها..

ومهما يكن من أمر: فإن كونهم متكلِّفين في دينهم، يظهرون منه خلاف ما يبطنون. وكون دينهم تبعاً لأهوائهم، هو الظاهر من مجمل مواقفهم وممارساتهم. ويبدو أن ذلك كان واضحاً ومعروفاً منذ أوائل

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص261/262.

(2) المصدر السابق ص279/280 وراجع: مروج الذهب ج3 ص136/137.


الصفحة 43
ظهورهم، كما صرح به أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في أكثر من مورد ومناسبة، حسبما اتضح. كما أن الفزر بن مهزم العبدى يقول:


وشدوا وثاقي ثم الجوا خصومتيإلى قطري ذي الجبين المغلق
وحاججتهم في دينهم وحججتهموما دينهم غير الهوى والتخلق(1)

____________

(1) الكامل في الأدب ـ ج3 ص337 وراجع: شرح النهج للمعتزلي ج4 ص161.


الصفحة 44

الصفحة 45


الباب السادس
الخوارج طلاب ملك ودنيا





الصفحة 46

الصفحة 47


الفصل الأول
الخوارج في العهد الأموي





الصفحة 48

الصفحة 49

في العهد الأموي:

بعد وفاة وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبعد خروج الأمر من يد ولده الحسن المجتبى (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان بصورة كاملة، أخذ «الخوارج» على عاتقهم مهمة قتال الأمويين بكل عنف وقسوة..

وقد كانت أهم حركاتهم وأخطرها، وأشدها ضراوة هي تلك التي كانت في عهد بني أمية بالذات.. أما بعد ذلك فقد خبا وهجهم، وتقاصر مدهم، وذبلت زهرتهم، كما سنرى.

بين عهدين:

ولا شك في أن «الخوارج» هم الفرقة المارقة، التي أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ظهورها..

ولا توجد أية فرصة لتأويل الأحاديث الواردة في حقهم، إذ أن الأمر قد حسم منذ بداية ظهورهم، بسبب الإخبارات الغيبية التي أعلنها أمير المؤمنين (عليه السلام) في الناس، وظهر صدقها بصورة لا تقبل أي تأويل أو احتمال. خصوصاً فيما يرتبط بحديث ذي الثدية. وكونه منهم وفيما بينهم، كما أكدته الأحداث بصورة قاطعة..


الصفحة 50
ولعله لولا هذا وذاك. لما استطاع الكثيرون أن يكتشفوا حقيقتهم، ولما أمكن أن ينقادوا حتى لأمير المؤمنين (عليه السلام) في حربهم. أو أن يتوفر لهم التصديق بضلالهم، والتسليم بمروقهم من الدين.

لكن الأمر بعد عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) قد خرج عن هذا الإطار، فإن أمر الأمويين كان كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.

والشعارات الدينية التي كان «الخوارج» يطلقونها، ووعودهم بإشاعة العدل، وإعلانهم لرفض الظلم، كان من شأنها أن تنعش الآمال لدى الكثيرين، بالتخلص من الظلم المر، ومن الإذلال والقهر، الذي كان يمارس ضدهم في ظل الحكم الأموي.

ويشير إلى ذلك ما روي من أن عبد الله بن أبي أوفى حينما علم بقتل الأزارقة لوالد سعيد بن جهمان لعنهم، وأخبر سعيداً بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنهم كلاب النار.

قال سعيد: قلت: الأزارقة وحدهم، أم «الخوارج» كلها؟

قال: بل «الخوارج» كلها.

قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس، ويفعل بهم.

قال: فتناول يدي إلخ(1).

سَبي «الخوارج»:

ورغم أن الأمويين كانوا ملتزمين بسنة عمر في ما يرتبط بالتأكيد على العرق العربي، ومنع السبي للعرب، فإنهم قد خالفوا سنة عمر في

____________

(1) مسند أحمد ج4 ص382 ومجمع الزوائد ج6 ص232 وج5 باب كيفية النصح للأئمة في الخلافة، عن الطبراني، وأحمد. ورجال أحمد ثقات.


الصفحة 51
ذلك مع «الخوارج»، فسبوا نساءهم وذراريهم، واسترقوهم، ووطأوا نساءهم بملك اليمين. ولم يفعل ذلك بهم علي (عليه السلام)، ولم يكن ذلك هو حكم الله سبحانه فيهم. قالوا: «كانوا يسبون ذراري «الخوارج» من العرب وغيرهم، لما قتل قريب وزحاف الخارجيان سبى زياد ذراريهما، فأعطى شقيق بن ثور السدوسي إحدى بناتهما، وأعطى عباد بن حصين الأخرى. وسبيت بنت لعبيدة بن هلال اليشكري، وبنت لقطري بن الفجاءة المازني، فصارت هذه إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك، واسمها أم سلمة، فوطأها بملك اليمين على رأيهم. فولدت له المؤمل، ومحمداً، وإبراهيم، وأحمد، وحصيناً بن عباس بن الوليد بن عبد الملك، وسبي واصل بن عمرو القنا، واسترق. وسبي سعيد الصغير الحروري واسترق الخ..»(1).

جاء الآن ما لاشك فيه:

أما بالنسبة للخوارج أنفسهم، فإن الأمور كانت واضحة جداً لهم، فإنه إذا كان لديهم شك في القتال ضد أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث إن مواقفه الرائدة، وجهاده الفذ في سبيل الله، وفضائله الظاهرة، وكراماته الباهرة، وأقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه ـ قد طبقت الآفاق. فإنهم لا يمكن أن يشكوا في قتال بني أمية. وهم القائلون حينما تولى معاوية الحكم: «قد جاء الآن ما لاشك فيه» كما تقدم.

وقد قال صخر بن عروة: «إني كرهت قتال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، لسابقته، وقرابته. فأما الآن، فلا يسعني إلا الخروج».

____________

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص241و242.


الصفحة 52

نقاط ضعف «الخوارج»:

ولكن الملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا هي: أن ما يظهر منهم من شدة وقسوة كثيراً ما يكون من أجل الحصول على شيء من حطام الدنيا، فكانوا يقاتلون على القدح يؤخذ منهم، أو على السوط، الأمر الذي من شأنه أن يظهر حقيقة طموحاتهم، وأنها طموحات إلى أمور دنيوية.

ثم هي طموحات إلى أمور تافهة وحقيرة.

أضف إلى ذلك: أن بعض الأساليب الشنيعة التي كانوا يمارسونها ضد خصومهم كانت تنفر الناس منهم، وتجعلهم معزولين في محيطهم الخاص، فلم يكن لهم هيمنة على عواطف الناس، ولا على مشاعرهم.

وكان التأييد الذي ينالونه سرعان ما يتلاشى، ويذهب أدراج الرياح، وليتحول إلى تأييد التقية والخوف، الأمر الذي كانت له آثار سلبية على مسار الحرب مع الأمويين.

وعلينا أن لا ننسى كثرة انقساماتهم، وكون تعاليمهم فيها الكثير من القسوة والعنف. ولاسيما فيما يرتبط بآرائهم وتعاملهم مع غيرهم، أو مع مرتكب الذنب منهم، أو من الآخرين.. مع شدة مراعاتهم لأهل الأديان الأخرى.

هذا إلى جانب تأثير الإغراءات التي كان الأمويون يلوحون بها لزعماء القبائل ولغيرهم من طلاب اللبانات، مع وجود الكثير من القسوة والاضطهاد، والحرمان من كثير من الملذات إلى جانب «الخوارج».


الصفحة 53
فكل ما تقدم وسواه قد ضيع على «الخوارج» فرصاً كثيرة وكبيرة في مواجهتهم لخصومهم من بني أمية وبني العباس، وإن كان الزخم القوي والعارم، كان يغطي أحياناً الكثير من حالات النقص الناجم عما ألمحنا إليه.

«الخوارج» ينهكون الحكم الأموي:

وإن الآثار السيئة التي تركتها حروب «الخوارج» على الحكم الأموي قد جعلت أبا مسلم الخراساني يتابع انتصاراته على عاملهم نصر بن سيار، في حين لم يكن مروان الجعدي [الحمار] قادراً على مدّ يد العون له، بسبب انشغاله بحرب «الخوارج» (1). وقد تمكن أبو مسلم بالتالي من القضاء على الحكم الأموي قضاءً مبرماً ونهائياً.

ومن الملامح لصورة ما جرى نذكر هنا: أن الأزارقة: «بايعوا نافع بن الأزرق، وسموه: أمير المؤمنين، وانضم إليهم خوارج عمان، واليمامة، فصاروا أكثر من عشرين ألفاً، واستولوا على الأهواز، وما وراءها من أرض فارس وكرمان، وجبوا خراجها. وعامل البصرة يومئذٍ عبد الله بن الحارث الخزاعي، من قبل عبد الله بن الزبير»(2).

والضحاك بن قيس أيضاً: «بايعه ماءة وعشرون ألف مقاتل على مذهب الصفرية، وملك الكوفة وغيرها، وبايعه بالخلافة وسلّم عليه بها جماعة من قريش»(3). وقتل سنة 128هـ.

____________

(1) البداية والنهاية ج10 ص5.

(2) الفرق بين الفرق ص85، والملل والنحل ج1 ص118/119، وفجر الإسلام ص257/258.

(3) جمهرة أنساب العرب ص322 والخوارج والشيعة ص103 وتاريخ الطبري ج6 ص16 وراجع الكامل لابن الأثير ج5 ص335 ـ 337 وغيرها. والعيون والحدائق ص159.


الصفحة 54
أما نجدة الحروري فقد: «أقام خمس سنين، وعماله بالبحرين، واليمامة، وعمان، وهجر، وطوائف من أرض العرض»(1).

ويقول البلاذري، عن عبد الله بن الزبير: «أتته الخوارج؛ فظللهم [كذا](2)، وعاب قولهم، حتى فارقه نافع بن الأزرق الحنفي، وبنو ماحوز؛ فانصرفوا عنه، وغلبوا على اليمامة ونواحيها إلى حضرموت، وعامة أرض اليمن»(3).

وعند المعتزلي: «واستولى نجدة على اليمامة، وعظم أمره حتى ملك اليمن، والطائف، وعمان، والبحرين، ووادي تميم، وعامر»(4).

وقال فلهوزن: «وتكاد جميع ثورات الخوارج التي نسمع بها في العصر الأموي المتأخر أن تكون قد خرجت من الموصل، ومن آل بكر»(5).

ولا ريب في أن سياسة الحكم الأموي تجاه الناس، قد ساهمت في إقبالهم على الانخراط في صفوف الدعوات المناهضة له، ومواجهته بالحرب(6).

وكان «الخوارج» هم الفئة المبادرة في هذا الاتجاه. فكان الناس يستجيبون لدعواتهم، ويقاتلون تحت لوائهم. حتى ليبلغ عدد جيوش «الخوارج» في بعض المعارك مئة وعشرين ألفاً، كما هو معلوم..

____________

(1) تاريخ اليعقوبي ج2 ص272/273.

(2) لعل الصحيح: ضللهم أي حكم عليهم بالضلال.

(3) أنساب الأشراف ج4 ص28.

(4) شرح النهج للمعتزلي ج4 ص133.

(5) الخوارج والشيعة ص101.

(6) الخوارج والشيعة ص94.


الصفحة 55
ولا مجال هنا لتفصيل حروبهم وحركاتهم العسكرية ضد الأمويين ولاسيما حروبهم مع المهلب بن أبي صفرة، فإن ذلك يحتاج إلى توفر تام، وتأليف مستقل.

ولكنها كانت حروباً مرتجلة، وغير قادرة على إسقاط الحكم الأموي، وإرساء قواعد حكم جديد لأكثر من سبب وسبب، كما ربما يتضح في فصول هذا الكتاب.

غير أن مما لاشك فيه هو ان هذه الحروب قد أنهكت الحكم الأموي وأثارت أمامه الكثير من المشكلات، وواجهته بالعديد من العقبات الحقيقية التي ألحقت الأذى به، وعجلت عليه..

أهل الكتاب يستعملون نفوذهم:

وقد أدرك أحبار أهل الكتاب ممن أظهر الإسلام منهم خطورة ما يواجهه الحكم الأموي، فبادروا منذ اللحظات الأولى إلى مدّ يد العون له، وتأييده، وإضعاف شوكة «الخوارج» باستخدام ما يزعمونه لأنفسهم من هيمنة علمية وثقافية، فنجد كعب الأحبار يقول: «للشهيد نور، ولمن قاتل الحرورية عشرة أنوار. وكان يقول: لجهنم سبعة أبواب. ثلاثة منها للحرورية. قال: ولقد خرجوا في زمن داود النبي»(1).

ومن الواضح: أن كعب الأحبار لم يكن ليؤيد علياً (عليه السلام) في حربه لهم، لأنه لم يكن من محبيه ولا من مؤيديه. فهو إنما يتحدث بذلك تأييداً لمعاوية وتقوية له.

____________

(1) المصنف للصنعاني ج10 ص155.


الصفحة 56

الأمويون، واسم علي (عليه السلام):

كما أن الملهب بن أبي صفرة، الذي كان يقاتلهم في العهد الزبيري الأموي قد التجأ إلى رفع شعارات طالما جهد الأمويون والزبيريون معاً على طمسها، والقضاء عليها، حيث نراه يحاول الاستفادة من اسم، وعظمة، وشخصية، وموقف رجل يعتقد الحكم الأموي والزبيري أيضاً: أن أساس بقائه واستمراره يقوم على محو اسم تلك الشخصية، وطمس كل فضائلها وكراماتها، ومحاربة كل ما يرتبط بها.. ألا وهي شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام).

فها نحن نرى المهلب يخطب أصحابه محرضاً لهم على قتال «الخوارج»، فيقول: «.. يا أيها الناس، قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج...

إلى أن قال: فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن ابي طالب (صلوات الله عليه)..»(1).

كما أن المهلب هذا قد قال يوماً لأصحابه: «إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات؛ فإن يكن ذلك، فاجعلوا شعاركم: حم، لا ينصرون؛ فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يامر بها..

ويروى: أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب (عليه السلام)..»(2).

____________

(1) الكامل للمبرد ج3 ص315 وشرح النهج ج4 ص148.

(2) شرح النهج للمعتزلي ج4 ص153

الصفحة 57
وروى ابن دريد: أن شعار أصحاب علي (عليه السلام) يوم الجمل، كان: «حم، لا ينصرون»(1).

وقد روي: أنه قيل لعبيد الله بن زياد، بعد موت يزيد، وأفول نجمه: ندمت على ما كان منك، من قتلك الخوارج، من أهل البصرة بالظنة والتوهم؟

فقال: «.. وأما قتلي من قتلت من الخوارج؛ فقد قتلهم قبلي من هو خير مني علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)»(2).

فتراه يحتج لصواب فعله، بفعل العدو الألد له ولكل أسياده، ومن كانوا يجهدون لطمس كل فضيلة له، وتشويه سمعته، ومحو آثاره، ألا وهو أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).

«الخوارج».. وقريش.. وخزاعة..:

وملاحظة هامة، لابد منها هنا، هي:

أن عبد المطلب كان قد عقد مع خزاعة حلفاً، بقي النبي (صلى الله عليه وآله) يعمل على الوفاء به. كما أن خزاعة قد كانت عيبة نصح لرسول الله (صلى الله عليه وآله)..

وبسبب نقض قريش لصلح الحديبية، بالاعتداء على خزاعة، كان فتح مكة، فبقيت قريش تحقد على خزاعة بسبب ذلك كله أشد الحقد..

وقد قال معاوية: «إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني، فضلاً عن رجالها فعلت»(3). وقد استمر هذا الحقد عشرات السنين، ففي سنة 130

____________

(1) الاشتقاق ص145.

(2) الأخبار الطوال ص284و285.

(3) صفين للمنقري ص247.


الصفحة 58
هجرية حين هاجم أبو حمزة الحروري بلاد الحجاز: «اتهمت قريش خزاعة أن يكونوا داهنوا عليهم الحرورية..»(1).

وعلى حد تعبير أبي الفرج حول مهاجمة أبي حمزة لجمع الناس في قديد: «زعم بعض الناس: أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم، وأدخلوهم عليهم، فقلتوهم. وكانت المقتلة على قريش، وهم كانوا أكثر الناس، وبهم كانت الشوكة الخ»(2).

وفي نص آخر: إن أبا حمزة حينما واقع أهل المدينة بقديد، وقتل وأسر منهم الكثيرين: «كان إذا رأى رجلاً من قريش قتله، وإذا رأى رجلاً من الأنصار أطلقه»(3).

ويذكرون أيضاً أن عتبان بن وصيلة يخاطب عبد الملك، فيقول:


فإنك إلاّ ترض بكر بن وائليكن لك يوم بالعراق عصيب
فلا ضير إن كانت قريش عدىً لنايصيبون منا مرة، ونصيب

كما أن شاعراً آخر منهم يفتخر بتحقيق النصر على قريش، فيقول:


ألم تر أن الله أنزل نصرهوصلّت قريش خلف بكر بن وائل

ولعل ذلك يرجع إلى: أن «الخوارج» اليمانية القحطانية قد قويت شوكتهم، ولأن الأنصار محبّي علي (عليه السلام)، وأنصاره كانوا يمانية قحطانية أيضاً مثلهم. أما قريش فكانت عدنانية.

____________

(1) تاريخ اليعقوبي ج2 ص339 وتاريخ الأمم والملوك ج6 ص58 والكامل لابن الأثير ج5 ص389 والأغاني [ط ساسي] ج20 ص100.

(2) الأغاني ـ ط ساسي ج20 ص100 والعقود الفضية ص201.

(3) شرح النهج للمعتزلي ج5 ص113 والأغاني ج20 ص102 والعيون والحدائق ص169.


الصفحة 59
هذا بالإضافة إلى أنهم: كانوا ينفسون على قريش نفوذها وشوكتها، وما لها من اعتبار، ثم ما استأثرت به لنفسها من امتيازات سياسية، واجتماعية، واقتصادية بصورة عامة.

ولأن الأمويين كانوا من قريش ـ نعم ولأجل ذلك كله ـ صب أبو حمزة جام غضبه على قريش حينما خرجت لحربه..

ومن جهة ثانية نلاحظ: أن اليمانية في مصر كانوا على خلاف يمانية المدينة، حيث يقال: «إن يمانية مصر كانوا يمالئون معاوية، وعمرو بن العاص، فبلغ ذلك علياً (عليه السلام) الخ..»(1).

وربما يكون سبب ذلك هو: أن أنصار الرسول قد سمعوا من الرسول ما قاله في علي (عليه السلام)، كما أنهم قد عاشوا مع علي وعرفوه، ورأوا كراماته وفضائله عن كثب.. فأحبوه، وأيدوه، وكانوا معه في سلمه وحربه، بخلاف يمانية مصر.

وهكذا كان الحال بالنسبة لربيعة اليمن فإنها هي وقبائل بني تميم كانت تنفس على قريش الخلافة والسلطان ـ كما سنرى ـ مع أن قبائل ربيعة كانت إلى جانب علي (عليه السلام) في حرب صفين، وقد أثنى عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا يدل على أن الذين كانوا موضع الثناء من أجل الولاء هم من عدا سكان الجزيرة، وبعض اليمن ومن ربيعة.

في العهد العباسي:

ولم يكن نصيب العباسيين من «الخوارج» بأقل من نصيب أسلافهم الأمويين، حيث حاربهم «الخوارج» في عدد من المناطق.

____________

(1) تاريخ اليعقوبي ج2 ص194.