الصفحة 234

ولكن من الواضح: أنه (عليه السلام) إنما قايسهم بالعجلية، وفضلهم عليهم، واعتبرهم كالمرجئة. ولم يقايسهم بفقهاء وعلماء سائر الفرق الإسلامية، فضلاً عن أن يقايسهم بالشيعة الأبرار رضوان الله تعالى عليهم..

فهم بالنسبة للعجلية من الزيدية لديهم فقه وعلم. إذن فمقدار ما عندهم إنما يعرف إذا قيس إلى ما عند العجلية، الذين يظهر من الإمام أنهم كانوا أجهل الخلق وأبعدهم عن العلم، ولذلك قال: «ما رأيت أجهل منهم». حتى إن «الخوارج» والمرجئة يعدون من العلماء إذا ما قسناهم بالعجلية الذين بلغوا الغاية في الأمية والجهل..

ثم إنهم مالبثوا أن انكمشوا على أنفسهم من جديد، وانحسروا عن مناطق الثقافة والعلم، ليعيشوا في حواشي البلاد الإسلامية، في مناطق نائية، ولتعود إليهم أعرابيتهم. وأصبحوا لصوصاً سلابين، كما أخبر أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).

تقييم إجمالي:

ولكن المهم في الأمر: هو أن تلك الفتاوى الصحيحة التي كانت عندهم مهما كانت قليلة، فإنها إنما كانت مجرد حالات جزئية أدركوها بالنقل، أو بالسليقة والفطرة الساذجة، منفصلة تماماً عن كل ما سواها، فلم يكونوا يملكون تصوراً عاماً، ولا نظرة شمولية، من شأنها أن تعطيهم القدرة على استيعاب المعارف المختلفة، وتوجيهها وجهة صحيحة في مجال الاستفادة منها والاستنتاج، وإدراك أبعاد الموضوع، وما يرتبط به..

وذلك هو بعض ما يرمي إليه أمير المؤمنين (عليه السلام)، حينما طلب من ابن عباس أن لا يخاصمهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمال ذو وجوه.


الصفحة 235

ابن حجية مخدوع، أم ماكر؟!

وعلى أساس ما قدمناه يظهر لنا جلياً: أن لا مجال لقبول المبالغات في إغداق الألقاب على «الخوارج» إلى درجة اعتبارهم من الفقهاء، والقراء، كما هو الحال بالنسبة ليزيد بن حجية الذي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد ولاه الري، ودستبى؛ فسرق أموالهما، ولحق بمعاوية..

ثم كتب لأحد بني عمه رسالة جاء فيها: «.. والثالثة: أن قراءكم، وفقهاءكم، وفرسانكم خالفوكم، فعدوتم عليهم فقتلتموهم»(1).

فإن هذا الكلام غير مقبول، وهو دليل جهل ابن حجية، أو دليل سعيه لتضخيم الأمور، مضادة منه لعلي (عليه السلام)، ثم تبرير خيانته لدينه وامامه، بهذه الطريقة التي تعتمد التزوير للحقائق، والتضليل للناس.

وخلاصة القول:

1ـ إن هذا الكلام يدخل في سياق الكيد الإعلامي ضد علي (عليه السلام) وشيعته من قبل رجل خائن لأمانة الله، ورسوله، والمسلمين. قد التحق بعدو ولي الله، ويريد أن يتزلف إليه.

2ـ إن هذا الرجل ـ أعني يزيد بن حجية ـ لم يكن هو نفسه من أهل العلم والفقه، ليؤخذ بقوله في معرفة درجات الآخرين في هذه المجالات، فإن حاول شيئاً من ذلك، فإنما يقيس الآخرين على نفسه، ويقارن علمهم ـ أو ما توهم أنه علمهم ـ بجهله.

3ـ ولو أردنا أن نغض الطرف عن ذلك، ونعتبره مخدوعاً بمظاهر هؤلاء القوم، فنقول:

____________

(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ـ ج2 ـ ص263 عن الموفقيات.


الصفحة 236
إن من الواضح: أنهم لم يكونوا هم الفرسان المرموقون الأشداء في جيش علي (عليه السلام)، وقد ظهر ضعفهم وخورهم في حرب النهروان إلى درجة مزرية، وممعنة بالخزي والهوان.

4ـ كما أنهم لم يكونوا الفقهاء في دين الله، بل كانوا على درجة من الغباء، إذ كانوا يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم، وهو عليهم كما قدمناه.

من فقه «الخوارج»!!

وكنموذج نشير إلى درجة فقاهتهم، وعلمهم بالشريعة نذكر ما يلي:

يقال: إن نجدة أسقط حد الخمر(1).

وقالت النكارية: إن الله لم يأمر بالنوافل. وأنه يجوز شرب الخمر على التقية(2).

والنكارية هم فرقة من الإباضية كما هو معلوم.

«وقد شهر نافع بقوله في البراءة، والاستعراض، واستحلال الأمانة، وقتل الأطفال»(3).

كما أن الأزارقة: قد حرموا قتل النصارى واليهود، وأباحوا قتل المسلمين(4).

____________

(1) الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص76 و77.

(2) الإباضية عقيدة ومذهباً ص54 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص363.

(3) راجع: مقالات الإسلاميين ـ ج1 ـ ص169 والكامل في الأدب ـ ج3 ـ ص1040 والمصنف المجهول ـ ص78 والخوارج في العصر الأموي ـ ص224 عمن تقدم.

(4) الفصل لابن حزم ج4 ص189 والخوارج في العصر الأموي ص226 عنه.


الصفحة 237
وذكر البعض: «أن الإباضية يجيزون شهادة غير الإباضي، ومناكحته، والتوارث منهم، وتحريم دمائهم»(1).

وكان الأزارقة: يستحلون أمانة غيرهم من الناس لكونهم مشركين؛ فأنكر عليهم ابن إباض، وصاحب الصفرية ذلك.

وقالا: إن الأمانة مؤداة للبر والفاجر على السواء(2).

وأنكرت النفائية خطبة الجمعة، وقالوا: «إنها بدعة. وأنكروا على الإمام استعمال العمال والسعاة لجباية الحقوق الشرعية، ومطالب بيت مال المسلمين من الرعايا»(3).

وفرقة الحسينية من الإباضية: «أباحوا الزنى، وأخذ الأموال لمن أكره على ذلك، يتقي بها، ويغرم بعد ذلك.

كما أنهم فرقوا بين الأسماء والأحكام، فسموا اليهود منافقين، وسموا المتأولين مشركين، وأجازوا السبي، وأحلوا النكاح منهم. وهم عندهم مشركون»(4).

والسكاكية من الإباضية يقولون: صلاة الجماعة بدعة. والأذان للصلاة عندهم بدعة، فإذا سمعوه، قالوا: نهق الحمار(5).

____________

(1) الإباضية ص78و83 عن الفرق بين الفرق ص103 وراجع: الملل والنحل ج1 ص134.

(2) مقالات الإسلاميين ج1 ص174 والخوارج في العصر الأموي ص225و226 عنه وعن المصنف المجهول ص84.

(3) الإباضية ص58.

(4) الإباضية ص62.

(5) الإباضية عقيدة ومذهباً ص65 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص275.


الصفحة 238
وذكروا: أن الأزارقة يوجبون على الحائض الصلاة والصيام في حيضها. وأنكره بعضهم(1).

أما البدعية فإنهم يزعمون: «أن الصلاة صلاتان؛ بالغداة ركعتان، وبالعشي ركعتان لا غير»(2).

وأبطلوا رجم المحصن، وأوجبوا قطع يد السارق من الإبط(3).

والميمونية يجيزون نكاح بناتهم(4).

وكان الربيع بن حبيب يقول بحلية المتعة(5).

وأما الميمونية، فإنهم يجيزون نكاح بنات الابن، وبنات البنات، وبنات بني الأخوة، وبنات بنات الأخوات.

قالوا: لأن الله عز وجل قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم)(6).

وقال بعض البيهشية: السكر من شراب حلال، لا يؤاخذ صاحبه(7).

____________

(1) الفصل لابن حزم ج4 ص189 والخوارج في العصر الأموي ص226 عنه، والنص والاجتهاد ص99 والعتب الجميل ص53 عن كتاب: نقد عين الميزان لمحمد بهجت البيطار.

(2) البدء والتاريخ ج5 ص138 والعتب الجميل ص53 عن كتاب: نقد عين الميزان للبيطار.

(3) النص والاجتهاد ص99.

(4) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص57 والإباضية عقيدة ومذهباً ص39.

(5) العقود الفضية ص156.

(6) البدء والتاريخ ج5 ص138. وراجع: الخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص62و134، ومقالات الإسلاميين ج1 ص166 عن الكرابيسي والعتب الجميل ص53 عن نقد عين الميزان للبيطار، ودائرة المعارف الإسلامية ج8 ص475 والأنوار النعمانية ج2 ص248 واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص56 والإباضية ص36 عن الملل والنحل ج1 ص128 عن العجاردة وص129 عن الميمونية..

(7) الأنوار النعمانية ج2 ص246.


الصفحة 239
وعن الأخنسية تجويز نكاح المسلمات من مشركي قومهم(1).

علم علي (عليه السلام) بنظر الإباضية:

وإذا كانت هذه هي بعض النماذج من فقه هؤلاء القوم.. فإن ما يثير عجبنا هو أنهم كغيرهم يعترفون بتقدم علي (عليه السلام) في العلم والفقه، مع أن «الخوارج» هم ألد أعدائه (عليه السلام). ونكتفي هنا بما قاله الحارثي الإباضي عنه (عليه السلام): «كان علي آية في غزارة العلم، واستنباطه للأحكام، وحله للمشكلات. وكان عمر بن الخطاب يرجع إليه في القضايا المشكلة»(2).

السنة النبوية والإجماع:

كما أن فرقة السكاكية المتفرعة عن الإباضية قد أنكرت الإجماع كدليل على الحكم الشرعي. بل لقد أنكروا السنة النبوية، وزعموا: أن الدين كله مستخرج من القرآن(3).

وقال البعض: «كان من بينهم من يقول: بأن القرآن وحده هو المصدر المعترف به»(4).

____________

(1) الأنوار النعمانية ج2 ص249 والخوارج عقيدة وفكراً وفلسفة ص65..

(2) العقود الفضية ص42.

(3) الإباضية عقيدة ومذهباً ص65 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص275..

(4) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476.


الصفحة 240

«الخوارج» والرواية:

ولأجل ما تقدم، فإن «الخوارج» لم يكن لهم حظ في نقل السنة النبوية الشريفة.

قال الشيخ المفيد (رحمه الله) تعالى: «إن الخوارج ليسوا من أهل النقل والرواية، ولا يعرفون حفظ الآثار، ولا الاعتماد على الأخبار؛ لإكفارهم الأمة جميعاً، واتهام كل فريق منهم فيما يروونه، واعتمادهم لذلك على ظاهر القرآن، وإنكارهم ما خرج عنه القرآن، من جميع الفرائض والأحكام إلخ..»(1).

الاجتهاد:

وبالنسبة للاجتهاد فقد: «شهر ابن الأزرق بملاحقاته لابن عباس، وعرض مسائله الفقهية عليه»(2).

ومهما يكن من أمر: فإن «الأزارقة لا تعتبر الاجتهاد أصلاً في الأحكام، حتى إنه عند الأزارقة: أن ما لا ينص عليه من الأحكام ليس بواجب القيام به، كحدّ من يقذف الرجال.

وأما النجدات: فاهتموا بالاجتهاد أعظم الاهتمام. حتى إنه عندهم من اجتهد في شيء، وأخطأ فيه فهو معذور. بل جعلوا نصف الدين يعرف عن طريق الاجتهاد»(3).

____________

(1) الجمل ص38.

(2) الخوارج في العصر الأموي ص221 عن الاتقان ج1 ص149 و165.

(3) الخوارج عقيدة وفكراً، وفلسفة ص75.


الصفحة 241
هكذا صور لنا هذا المؤلف نظرة النجدات إلى موضوع الاجتهاد، لكن الأشعري لا يظهر هذا المستوى من الحماس.

حيث إنه يكتفي بالقول: إن النجدات أجازوا الاجتهاد في بعض الأحكام الشرعية(1).

ونفهم من عبارته هذه: أن غيرهم من «الخوارج» ما كانوا يجيزون الاجتهاد، فلا غرابة في ندرة وجود فقهاء مشهورين يشار إليهم بالبنان فيهم، أو في وجود فقهاء تذكر لهم أقوال في سياق تعداد أقوال من يعتد بقوله.

ولعل سبب نسبة القول بجواز الاجتهاد إلى النجدات هو أنهم ينقلون عن نجدة الحروري قوله: «من استحل محرماً من طريق الاجتهاد فهو معذور، حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلاً لذلك بجهالة، فهو معذور ومؤمن»(2).

عملهم بالقياس:

وقد وصف الشهرستاني: المحكمة الأولى بأنهم كانوا أشد الناس قولاً في القياس(3).

وقد أنكر البعض ذلك على اعتبار: أنهم لم يقبلوا احتجاج علي (عليه السلام) عليهم بالقياس في مسألة التحكيم بأمر الله بالتحكيم في الخلاف بين الرجل وزوجته، وزعموا: أن الله لم يأمر بالتحكيم في الحرب(4).

____________

(1) مقالات الإسلاميين ج1 ص206 والخوارج في العصر الأموي ص204.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4 ص134.

(3) الملل والنحل ج1 ص116 وحول قولهم بالقياس راجع: العقود الفضية ص166.

(4) الخوارج في العصر الاموي ص204 عن الكامل في التاريخ ج3 ص327.


الصفحة 242
ونقول:

إن قولهم هذا لا يدفع قول الشهرستاني، فإنه يزعم أنهم كانوا يستعملون القياس في مسائلهم الفقهية الكثيرة. وموقفهم من التحكيم في الحرب، ورفضهم قياسه على التحكيم بين الرجل وزوجته، يمكن أن يقال: إنه من أخطائهم الظاهرة لسببين:

أحدهما: إن ما احتج به علي (عليه السلام) عليهم ليس من قبيل القياسات الظنية التي يلتزم بها «الخوارج»، بل هو من قبيل تطبيق الحكم الكلي على موضوعاته، والاستدلال بالنص العام على موردٍ هو من مصاديقه.

الثاني: إنهم حتى إذا كانوا قد اعتبروا ذلك من قبيل القياس الظني، كانوا يعملون به في سائر المسائل الفقهية، فإن عدم قبولهم به يكون بسبب قلة تدبرهم وهو أحد التناقضات التي وقعوا فيها وما أكثرها.

الثالث: إننا نقول: إن «الخوارج» الأولين الذين خرجوا على علي (عليه السلام) لم يكونوا من الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام، ولا كانوا أصحاب اجتهاد، فضلاً عن أن يكون لديهم منطلقات وأسس اجتهادية والتفات إلى أن هذا من القياس، أو ليس منه، بل كانت مواقفهم منطلقة من نزوات، وارتجالات لا تستند إلى دليل معقول، ومقبول..

ومهما يكن من أمر،:فإن التنصيص على أن السكاكية، وهم فرقة من الإباضية ـ قد أنكروا القياس(1)، يشير إلى أنهم بقولهم هذا قد خالفوا أهل نحلتهم. وبذلك يتأيد قول الشهرستاني. وهو يتحدث عن اطلاع، ومعاينة وهو أصح من اجتهاد غيره الظني.

____________

(1) الإباضية عقيدة ومذهباً ص65 عن الإباضية بين الفرق الإسلامية ص275.


الصفحة 243


الفصل الخامس
أدب الخوارج





الصفحة 244

الصفحة 245

شعراء «الخوارج»:

لقد عرف من «الخوارج» خطباء وشعراء، ولا سيما في الصدر الأول، حيث إن أكثر قوادهم كانوا من البدو، من جند الكوفة والبصرة(1)، وكان الإنسان البدوي يمتاز بالفصاحة في منطقه، ويمتلك قدرات تعبيرية يمتاز بها عن غيره من سائر الناس.

الأرجاز في شعر «الخوارج»:

وحيث إنهم قد اتخذوا طريق العنف، والحرب وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية، فإن الرجز في الحرب يصبح ضرورة لهم، لأجل تشجيع الجبان، ومكابدة الحرب والطعان. ولأجل ذلك فإن غالب ما قالوه من الشعر قد جاء في وصف الحرب، وفي التشجيع على خوض غمارها، مادام أن حياتهم كانت تتخذ الطابع الحربي في غالب مقاطعها، وتميز شعرهم بكثرة الأرجاز فيه(2).

وهذا هو الطابع الذي يطبع أدب أهل البادية بشكل عام..

ولاسيما حين يواجه فرسانهم الأقران في ساحات الحرب والنزال.

____________

(1) دائرة المعارف الإسلامية ج8 ص476 وراجع: الخوارج في العصر الأموي ص296.

(2) الخوارج في العصر الأموي ص292.


الصفحة 246

شعراؤهم من العرب والموالي:

ورغم كثرة من نطق بالشعر فيهم، وكونهم من القبائل والفرق المختلفة؛ فإننا نلاحظ: أنهم لا يهاجمون الفرق الخارجية الأخرى، ولا كانوا يذكرون عقائد وخصائص فرقهم هم أنفسهم. بل إن شعرهم يكاد يكون لوناً واحداً.

وقد كان الذين قالوا شعراً من «الخوارج» ينتمون إلى قبائل عربية مختلفة باستثناء قريش(1).

وذكروا: أن لهم شعراء من الموالي أيضاً، مثل حبيب بن خدرة، الذي كان من موالي بني هلال(2).

وعمرو بن الحسن الإباضي، وهو من موالي الكوفة(3).

وعمرو بن الحصين، أحد موالي بني تميم(4).

وزياد بن الأعسم، الذي قيل: إنه من بني عبد القيس، أو من مواليهم(5).

ولكننا بدورنا: لا نجد لدى هؤلاء ما يستحق أن يجعل أياً منهم جديراً بأن يصنف أو يكون في عداد الشعراء، فإن وجود بعض المقطوعات لهم هو أمر عادي جداً في المجتمع العربي، الذي يكثر فيه أمثال هؤلاء.

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص250.

(2) البيان والتبيين ج3 ص261.

(3) معجم الشعراء للمرزباني ص229.

(4) الأغاني ج20 ص102.

(5) عن أنساب الأشراف ج7 ص118.


الصفحة 247
نعم يمكن أن يعد عمران بن حطان من شعرائهم، رغم تجاهل الأدباء له، ولعله لأنهم لم يروا في شعره ما يستحق أن يجعله يصنف في عداد الشعراء أيضاً.

كيف يرى المؤلفون أدب «الخوارج»:

وقد أفاض الكتاب والمؤلفون في تسطير الآراء التي يقترب بعضها من الحقيقة، بينما يهاجر بعضها عنها مغاضباً لها، ليستقر في أعماق الخيال والأوهام، غير آسف على شيء؛ لأنه آثر أن يعتصم بصوامع المجهول، وينعم بزيف الغي والجهالة إلى غير رجعة..

ونحن نذكر هنا: بعضاً من ذلك، مما ظهر فيه الخلط بين الحق والباطل، والمزج بين الواقع والخيال، فنقول:

1ـ قد وصف البعض شعر «الخوارج» بقوله: «.. إنه شعر ثورة جامحة. محوره الأنا، ونحن. وإطاره المذهب الخارجي. وغايته فراديس السماء»(1).

ونحن لا نوافقه على قوله: «شعر ثورة جامحة» ونقول: بل هو شعر البدوي، الذي يعتمد على سيفه ورمحه لنيل ما يطمح إليه، حقاً كان أو باطلاً. ولا يعتمد على المنطق، والبرهان.. ولا ينطلق من دواعي الضمير والوجدان، ولا تقيده الروادع الدينية والإيمانية.. فلا يمكن أن نعتبر هذا السلوك الطبعي المتأصل في الأعراب الغارقين في بحار الجهل والهوى.. أنه ثورة، أو أنه إحساس وجداني نبيل.

ونرفض أيضاً: أن تكون غاية ذلك الشعر هو فراديس السماء.. فإن

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص292.


الصفحة 248
الله لم يطلع هذا القائل على غيبه، ليقرأ في قلوب أولئك الشعراء غاياتهم ونواياهم..

وإذا كان الشعر مبنياً على التبجح، والادعاء، والمبالغة..

ثم إذا كان «الخوارج» ـ كما ظهر من فصول هذا الكتاب بالنصوص والأرقام ـ طلاب دنيا، ورواد حكم، يبحثون عن ذلك بكل خف، ويسعون له بكل حافر وظلف.

وإذا كانوا أيضاً لا يتورعون عن ارتكاب أي شيء في سبيل ذلك، حتى الكذب على رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) وآله، فكانوا إذا أحبوا شيئاً صيروه حديثاً..

فهل يمكن بعد هذا استكشاف نواياهم، وغاياتهم من شعرهم الذي ينشدونه في مواقع المواجهة؟! حيث يهيمن الغرور، وتستيقظ العنجهيات.

أضف إلى ذلك: أن أهم ما يجذب الناس إلى «الخوارج» هو إدعاؤهم أنهم ملتزمون لخط الشريعة، ومتصلبون في الدين. فلماذا لا يستخدمون هذا الأمر في إعلامهم من أجل ذلك أيضاً.. بهدف إثارة الحماس لدى السذج والبسطاء من الذين لم يطلعوا على حقيقة نوايا قادتهم وزعمائهم؟!

2ـ ثم إن ثمة نصاً آخراً، يقول: «يمكن القول: إن الشعر عند شعراء الفرق الخارجية ـ بشكل عام ـ كان إما تسجيلاً لأعمال حربية، أو رثاء لقتلاهم ـ ترغيباً أو ترهيباً»(1).

____________

(1) المصدر السابق ص252.


الصفحة 249
«ولعل الظاهرة العامة الأخرى، التي تطغى على شعر «الخوارج»: أنه جاء في أكثره يخاطب المشاعر، والوجدان، دون أن يعمد إلى مخاطبة العقل والمنطق؛ لإعطاء الحجة المقبولة، والبرهان العقلي لما ينادون به، فكان عملهم أشبه ما يكون بعمل الصحافيين، الذين يعمدون إلى إلهاب عواطف الناس، واستثارة حماس جماهير العوام، بالكلمات المؤثرة، والشعارات المثيرة.

ولا ننسى مدى فعالية هذا الأسلوب على جماعة «الخوارج» الذين كانوا بأكثريتهم الساحقة، من الأعراب، والقراء المتدينين»(1).

وهذا الكلام: وإن كان في أكثره معقولاً ومقبولاً، لكن لنا تعقيب على العبارة الأخيرة، فإن تدينهم، لم يكن قائماً على أسس فكرية، وقناعات حقيقية، وإنما هي ظواهر ومظاهر ألفوها، ووجدوا فيها سبيلاً إلى الحصول على بعض ما عجزوا عن الحصول عليه بالأساليب الأخرى؛ وقد أخبر النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): أنهم يقرأون القرآن، ولا يجاوز تراقيهم. وأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. وقد دلت ممارساتهم على ما نقول فلا حاجة إلى الإعادة.

مبالغات لا مبرر لها:

ثم إن بعض الكتاب: قد زعم.. أن للخوارج أدباً له طابع مميز، وخصائص معينة، تنسجم مع واقع الحياة، ومع المفاهيم التي كانوا يعيشونها، فقد كانت لديهم نفوس بدوية، تملك سرعة الخاطر، والقدرة على البيان، بأوجز عبارة وأقوى لفظ، إلى جانب ذلك تحمس،

____________

(1) المصدر السابق ص286.


الصفحة 250
وصراحة، وعاطفة، وليس في أدبهم أثر للخمر والمجون، وإنما فيه القوة والصلابة، والجمال، والقتال، وهو أدب لساني، لا أدب مكتوب، بل هو خطب وشعر، وبديهة واحتجاج(1).

وقالوا أيضاً: «هذه الصفات، أعني الشدة في الدين والإخلاص للعقيدة، والشجاعة النادرة، يضاف إليها العربية الخالصة هي التي جعلت للخوارج أدباً خاصاً يمتاز بالقوة، شعراً ونثراً، تخيّر للفظ، وقوة في السبك، وفصاحة في الأسلوب»(2).

ونقول: إن هذا الوصف المتنوع لشعرهم مفرط في المبالغة، ولا يعبر عن الحقيقة.. وهو ظاهر الخلل، بيِّن الزيف والخطل.

فلاحظ ما يلي:

1ـ قوله: إن لأدب «الخوارج» طابعاً مميزاً، وخصائص معينة.. ليس بذي قيمة، لأن «الخوارج» إذا كانوا أعراباً جفاةً، يطغى عليهم الجهل، والهوى، والبداوة، فإن شعرهم سوف يكون حتماً شعر الأعراب الجفاة، الذي يفقد الطراوة، ولا يملك صوراً خلابة، ولا خيالاً رائعاً ومثيراً.

2ـ إننا لم نجد في شعر «الخوارج» ذلك الجمال الذي ادعاه، بل هو شعر تقريري يقتصر على ألفاظ عادية ومتداولة. ولا يقدم أية صورة شاعرية، تحمل شيئاً من الإبداع والجمال اللافت..

3ـ لا نجد للخوارج احتجاجاً قوياً ولا مؤثراً، ولاسيما في مقابل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه الأخيار والأبرار. بل كانت احتجاجات غيرهم هي التي تؤثر فيهم، فيتراجعون عن مواقفهم بالمئات والألوف..

____________

(1) راجع: ضحى الإسلام ج3 ص344 و345.

(2) فجر الإسلام ص264.


الصفحة 251
وأما حين يواجهون الأمويين فإنهم لا يحتاجون امتلاك قدرة احتجاجية خاصة، بل يكفي ذكر وسرد مثالب بني أمية، التي يمكن أن يقوم بها أضعف الناس فيستطيل بها على أبرع الناس في الاحتجاج..

4ـ وأما الخطب.. فإن سرد مخازي بني أمية يكفي أضعف الناس عن أي خطاب، لكننا نجد في المقابل أن أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا هم مضرب المثل في ذلك، حيث يضرب المثل بصعصعة بن صوحان في ذلك، فقيل: «أخطب من صعصعة بن صوحان إذا تكلمت الخوارج».

أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ردهم بكلامه الحلو في غير موطن حسبما اعترفوا به هم أنفسهم كما تقدم.

5ـ أما بعض العبارات المتميزة التي تنسب لبعض زعمائهم.. فيجدها الباحث المتتبع في ثنايا كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهي إما مسروقة منه (عليه السلام)، منحولة لغيره.. وإما أن «الخوارج» أنفسهم كانوا يحفظونها عنه، وقد استفادوا منها في خطبهم، فأعطتها قوةً ورونقاً..

وما أكثر الغارات على كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وخطبه، وفضائله وكراماته كما لا يخفى على الباحث الأديب، والمتتبع اللبيب..

6ـ وأما بالنسبة للصراحة، فإن من بيده السيف قادر على أن يتكلم بما يشاء.. ولكن حين يقع السيف من يده، فإنك تجده يستعمل التقية في القول وفي الفعل بإغراق شديد. وبإمعان بالغ، كما كان الحال بالنسبة للخوارج.

7ـ وأما الإخلاص للعقيدة، فقد ذكرنا الكثير مما يدل على أن أمر الدنيا كان هو الأهم عندهم، والأولى بنظرهم.


الصفحة 252
8ـ وعن شجاعتهم النادرة ذكرنا أيضاً، ما يكذب الشائعات التي أعطتهم صورة الشجعان الأتقياء، والبررة الأوفياء..

9ـ ويضحك الثكلى حديثه عن: «تخير للفظ، وقوة في السبك». فإننا لم نجد في شعرهم إلا عفوية البدوي الجاهل، الذي يبتدر الكلام بما تيسر له من ألفاظٍ يلتقطها مما يجده في طريقه، وهو على عجلة من أمره..

وحسبنا ما ذكرناه: فإننا لا نريد أن نفسح المجال للذين يحاولون أن يتبرعوا بأوسمة الاتهامات الجاهزة، ليخلعوا علينا حللاً منها موشّاةً بالتعصب لتعصب المذهبي تارة، أو الاتهام بالانطلاق من أفكار عنصرية أخرى، أو ما إلى ذلك..

دعاوى أخرى حول أدب «الخوارج»!!

يقول البعض: «إذا كان شعر الخوارج ونثرهم، يمثلان أصدق تمثيل حياتهم الحربية، وأحاسيسهم الوجدانية، وعواطفهم الدينية، وآمالهم العريضة؛ فإن هذه الآثار الأدبية قد فشلت فشلاً تاماً في إعطاء صورة واضحة للفكر الخارجي، أو للعقائد الخارجية السياسية منها والدينية، هذا إذا استثنينا ما يستخلص من مزاعمهم: نحن الإسلام، والإسلام نحن».

ولعل هذه الظاهرة تخالف ما عهدناه عند معاصريهم من الفرق الإسلامية الأخرى؛ فإن الشعر الشيعي، يسجل لنا بوضوح مبادئ الشيعة، وعقائدهم، على اختلاف نظرياتهم.

وكذلك الحال عند المرجئة: «فإن لثابت قطنة قصيدة أودعها مختلف آراء هذه الفرقة وعقائدها..»(1) انتهى.

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص253/254.


الصفحة 253
ونقول: من أين للخوارج الفكر العقائدي والسياسي، الذي يمكن التعبير عنه في الأدب والشعر، وهم إنما كانوا في بادئ أمرهم أصحاب أطماع، وسفاحين، ثم انتهى أمرهم إلى أن أصبحوا لصوصاً سلابين.

وإن كان لدى بعضهم حب للوصول إلى الحق، فإن جهود هؤلاء لم تنته إلى نتيجة ظاهرة، فإنهم بعد أن اتبعوا غير سبيل الصالحين، بتخليهم عن إمامهم، ثم محاربتهم له، واصرارهم على البراءة منه، وتكفيره، قد تاهوا في خضم الشبهات، ثم وقعوا في فخ أصحاب الطموح والأطماع، حركتهم ـ كما بدأت ـ حركة عدوانية طامعة في الحصول على شيء من حطام الدنيا..

وقد بقوا غارقين في مشاكلهم مع الآخرين، يهيمن عليهم الجهل، والأعرابية، ويسيرهم الهوى؛ فلم يكن لديهم علماء يهذبون لهم أفكارهم، ويحددون لهم مذاهبهم، ويهتمون بإعطائها صفة معقولة ومنسجمة، إلا بعد أن مضت المئات من السنين، وقد كان ذلك في مستويات بدائية ضحلة، وغير ناضجة..

فمحاولة مقايستهم بالشيعة وحتى بالمرجئة تصبح محاولة فاشلة، ليس لها ما يبررها.

ويقول البعض: «.. ولعل ما يلفت النظر بشأن شعراء الفرق الخارجية، أن شعر كل جماعة منهم جاء متناسباً مع حجم الأعمال العسكرية، التي قامت بها كل منها؛ فالأزارقة كثر شعرهم الحربي؛ تسجيلاً لبطولاتهم، وانتصاراتهم الحربية؛ لان وجودهم كان سلسلة متصلة من المعارك المتواصلة.

والصفرية قل شعرهم الحربي، لأن اكثرهم مال إلى القعود.


الصفحة 254
ولكن يبدو أن الرواة قد حالوا بيننا وبين ما قيل في تصوير انتصارات شبيب الحروري الأسطورية.

أما النجدية: فإن الخلافات المبكرة في صفوف زعمائهم حالت بينهم وبين الأعمال الحربية العظيمة المستمرة، فقل شعرهم بذلك.

والإباضية: لم نسمع لهم شعراً إلا بعد أن قاموا بمحاولاتهم الجدّية للاستيلاء على بلاد الحجاز، واليمن، وما دونهما»(1).

خلاصة الرأي في أدب «الخوارج»:

ونقول:

إن ما يقال عن وجود حياة أدبية ذات قيمة لدى «الخوارج» لا يمكن قبوله على إطلاقه، فإن غاية ما يمكن أن يقال هنا هو: إنه قد ظهرت منهم في حروبهم أو في غيرها بعض المقطوعات، النثرية والشعرية، التي جاء أكثرها حماسياً، ولكن لم يكن فيها الكثير من الجمال والإبداع، بحيث يهتم بتدوينها هواة الشعر والأدب، وجامعوه في كتبهم ومصادرهم.

ولأجل ذلك نلاحظ: أن أبا الفرج والمسعودي لم يوردا إلا النزر اليسير من أخبارهم الأدبية، كما أن ابن قتيبة لم يأت على ذكرهم في كتابة الشعر والشعراء، إلا بشأن سرقات الطرماح من الشعراء الآخرين، بينما ابن سلام لا يرى احداً منهم يستحق التصنيف في طبقاته(2).

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص252.

(2) الخوارج في العصر الأموي ص253/254.


الصفحة 255
وإذا كانت الكتب التاريخية، وهي تسجل لنا تاريخ «الخوارج» قد أوردت ما أنشأوه في مواقفهم المختلفة، فإن ذلك قد جاء رعاية لأمانة النقل، وحفاظاً على تناسق الأحداث.. لا لأنها كانت تمتاز بجمال لافت، استحقت لأجله التسجيل.

وقد حاول البعض: إرجاع عدم وجود رواية لمقطوعات أدبية بكثرة لهم، في ما بأيدينا من كتب الأدب وغيرها إلى تعمد الرواة، والمؤرخين تجاهل ذلك. وهو الأمر الذي نشأ عنه ضياع نتاجهم الأدبي، فلم يصلنا إلا القليل من شعرهم(1).

وقد رأوا: أن هذا التعمد يرجع ـ كلاً أو بعضاً ـ إلى الأسباب التالية:

1ـ إن اللعنات التي انصبت على «الخوارج»، عامة قد انعكست على آثارهم الأدبية، فاضطهدهم الرواة والمؤرخون، وأهملوا إنتاجهم وتركوه نهباً للضياع(2).

2ـ إن بعض المؤرخين قد يكون قد أهمل شعر «الخوارج» كرهاً لهم.

3ـ أو تجنباً لإثارة خصوم «الخوارج» عليهم.

4ـ إن «الخوارج» لم يتخذوا الشعر حرفة للتكسب، فلم يحرصوا على روايته وإثباته.

5ـ إن سيطرة القرآن ووجدانهم عليهم قد حال بينهم وبين الاهتمام الزائد بفنّ الشعر.

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص253/254.

(2) القاضي النعمان في كتابه: الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص406 نقلنا ذلك عنه بواسطة كتاب: الخوارج في العصر الأموي ص253/254..


الصفحة 256
6ـ إن موت العديد من الشعراء في الحروب المتواصلة كان سبباً لضياع أكثر شعرهم، لأن أبرز شعرائهم كانوا هم فرسانهم الذين قتلوا(1).

ونقول:

إن نفس ذلك الشخص الذي ذكر ما تقدم قد أجاب على النقاط الثلاث الأولى. فلا حاجة إلى الحديث عتها.

وأما بقية النقاط فنحن نشير فيما يرتبط بها إلى المناقشات التالية:

1ـ «إن آخرين منهم [أي من الرواة والمؤرخين] أبدوا اهتماماً زائداً بشعرهم. وأخبارهم أيضاً؛ فلم يتحرجوا من نقل أخبار بطولاتهم الحربية، وشجاعتهم النادرة؛ فهذا ما نلحظه في كامل المبرد، وتاريخ الطبري، وأنساب البلاذري، وغيرها من المصادر القديمة.

2ـ يضاف إلى ذلك: أن جمع الأدب وتسجيله، قد تم في فترة زمنية لم يكن فيها للخوارج شأن خطير، ولا شوكة ظاهرة. وفي وقتلم يجد فيه بعض المؤرخين حرجاً في إثبات روايات أبي عبيدة، معمر بن المثنى، الخارجي، اليهودي الأصل(2).

فلا يصح بعد هذا أن يعمم الحكم؛ فيقال: إن أخبار «الخوارج» قد طمست، وإن أشعارهم قد دفنت.

3ـ فالرواة الذين نقلوا إلينا أعنف افتراء على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في مديح عمران بن حطان لابن ملجم، لا يتحرجون في نقل ما هو أخف حدّةً، وأقل عنفاً»(3).

____________

(1) الخوارج في العصر الأموي ص254 فما بعدها.

(2) أحال هذا القائل هنا على كتاب: وفيات الأعيان ج4 ص227.

(3) الخوارج في العصر الأموي ص254.


الصفحة 257
4ـ وأما دعوى: أنهم لم يحرصوا على إثبات شعرهم، لكونهم لم يتخذوه للتكسب.

فهي غير وجيهة؛ إذ قد رأينا أن المؤرخين قد أثبتوا جميع أنواع الشعر، ورووه، بل إن رواية الشعر الذي يقال: إنه لغير التكسب أدعى، وأولى بالإثبات، سواء بالنسبة لصاحب الشعر، أو بالنسبة لغيره ممن تصدى من الناس للرواية وللكتابة.

5ـ وحول سيطرة القرآن على وجدان «الخوارج»، حتى صرفهم ذلك عن الاهتمام الزائد بفن الشعر، نقول: إن هذا الكلام يستبطن إنكار أن يكون للخوارج أدب وشعر من الأساس..

أضف إلى ذلك: أنها دعوى يكذبها ما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصف «الخوارج»، من أنهم يقرؤون القرآن، ولا يجاوز تراقيهم(1).

فإن معنى ذلك هو أنه لا سيطرة للقرآن على وجدانهم، فلا تأثير له إذن على موقفهم من الأدب والشعر، لا سلباً ولا إيجاباً..

6ـ ثم إن ما ذكر أخيراً من أن شعراءهم إنما كانوا فرسانهم، وقد قتلوا في الحروب؛ فذلك هو سبب عدم نقل شعرهم إلينا..

لا يصح أيضاً، إذ أن الشعر إنما يرويه الآخرون عنهم، ممن سمعه منهم. وقد عاش هؤلاء الفرسان: الشعراء (حسب الفرض) إلى حين قتلوا ـ عاشوا ـ بين المئات والألوف من الناس، فلماذا يختفي شعرهم فقط، ولا يختفي شعر الكثيرين من الفرسان، الذين أكلتهم الحروب، وقد خلدها عنهم الرواة والمؤرخون.

____________

(1) تقدمت مصادر هذه الرواية في أوائل الكتاب، فراجع.


الصفحة 258
إلا أن يكون المقصود بالشعر الذي لم ينقل هو تلك الأرجاز التي تأتي على البديهة في ساحة الحرب والنزال، وهي جهد ضئيل، لا يكاد يصل إلى درجة أن يصبح حياة أدبية لطائفة واسعة الانتشار في طول البلاد الإسلامية وعرضها.

صعصعة.. و«الخوارج»!!

ولابد من التذكير هنا بحقيقة أن كل خطب «الخوارج»، وكل أراجيزهم الحماسية، لم تستطع أن تصمد أمام المنطق القوي، والبليغ، والحازم الذي كان يواجههم به اصحاب أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، ولاسيما صعصعة بن صوحان العبدي، الرجل الفذ، الذي جمع إلى بلاغة المنطق، صواب القول، وسطوع الحجة، فبهرهم بذلك، وأعجزهم عن مجاراته، حتى أصبحت مواقفه معهم مثلاً سائراً في الناس.

يقول الجاحظ: «إن أشيم بن شقيق، بن ثور، قال لعبد الله بن زياد، بن ظبيان: ما كنت تقول لربك ـ وقد حملت رأس مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان؟!

قال: أسكت، فأنت يوم القيامة أخطب من صعصعة بن صوحان، إذا تكلمت الخوارج»(1).

وقد بلغ من تأثير خطب صعصعة: أنه وعظهم مرةً، فرجع منهم خمس مئة، فدخلوا في جملة علي وجماعته(2).

____________


الصفحة 259
بل يذكر طه حسين: أن صعصعة وعظهم؛ فرجع منهم ألفان(1) ولعل ذلك كان في مناسبة أخرى له معهم.

وقال البلاذري: «.. فبعث إليهم عليٌّ، ابن عباس، وصعصعة، فوعظهم صعصعة وحاجهم ابن عباس، فرجع منهم ألفان»(2).

من خطب ومواقف صعصعة مع «الخوارج»:

وقد ذكر المفيد: ((رحمه الله)) أحد مواقف صعصعة مع «الخوارج»، وهو يدل على ثبات قدم صعصعة في مجال الخطابة والوعظ، وعلى قوة عارضته، ثم على ثباته في عقيدته، وثاقب فكره، ووعيه.

يقول النص المحكي عنه: لما بعث علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) صعصعة إلى «الخوارج» قالوا له: أرأيت لو كان علي معنا في موضعنا، أتكون معه؟!

قال: نعم.

قالوا: فأنت إذاً مقلد علياً دينك!! إرجع فلا دين لك.

فقال لهم صعصعة: ألا أقلد من قلد الله فأحسن التقليد؛ فاضطلع بأمر الله صديقاً لم يزل؟! أو لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا اشتدت الحرب قدمه في لهواتها؛ فيطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بحدّه، مكدوداً في ذات الله، عنه يعبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون؛ فأنى تصرفون؟ وأين تذهبون؟ وإلى من ترغبون؟ وعمّن

____________

(1) البيان والتبيين ج1 ص326/327 وذكر المعتزلي هذا النص في شرحه للنهج ج3 ص398، لكنه لم يذكر الخوارج، ونص عبارته هكذا: [إن تركت أحتج، كنت أخطب من صعصعة بن صوحان].

(2) أنساب الأشراف [بتحقيق المحمودي] ج2 ص354.