المناقب - الموفق الخوارزمي - ص 5 :

علي إمام المتقين في الكتاب والسنة

اللهم لك الحمد والثناء ، ولك المجد والبهاء ، والصلاة على سيد رسلك ، وعلى الأصفياء من عترة نبيك ، محمد وآله الطاهرين : الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرا " .

أما بعد ، لقد كانت دعوة الرسول الأعظم ، دعوة عالمية ، ورسالته رسالة خاتمة خالدة ، وقد اختص بهذه الخصيصة من بين الرسل ، ولئن كانت دعوة بعضهم عامة عالمية ، ولكن لم تكن دعوة أحد منهم دعوة خالدة خاتمة ، تعم الأجيال والإعصار إلى يوم القيامة وإنما اختص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بهذه الخصيصة ، فهو خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع .

كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله في بدء البعثة ، تدور بين أهله وعشيرته غالبا " وكان لا ينذر ولا يبشر بشكل عام إلا أقرباه متمثلا " لامره سبحانه " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " ( 1 ) .

ولما نزل قوله " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ " ( 2 ) قام بالدعوة العالمية ، ونادى الناس باتباع شريعته ، وبدأت الدعوة تخطو خطوات ، تجذب قلوب الشبان وتستهوى أفئدتهم ، غير أن المناوئين لرسالات الله عامة ، ورسالة الرسول الأعظم خاصة ، أجمعوا على أن يخنقوا نداءه بأساليب مختلفة ، من اتهام صاحب الرسالة بالسحر والجنون ، إلى تعذيب المعتنقين والمؤمنين بها ، إلى ضرب الحصار الاقتصادي عليهم ، إلى الحيلولة دون وصول الوافدين إلى مكة لسماع دعوته ، إلى أن أجمعوا أمرهم .

  ( 1 ) الشعراء / 214 . ( 2 ) الحجر / 94 . [ * ]  
 

- ص 6 -

على إنهاء حياته وإطفاء نوره بقتله في داره غيلة ، لكن الله سبحانه حال بينهم وبين أمنيتهم الخبيثة ، ورد كيدهم إلى نحورهم ، فخيب رجاءهم بإخبار الرسول بالمؤامرة والمكيدة فلم ير النبي الأعظم بدا " من مغادرة مكة متوجها إلى يثرب ، ولما نزل دار مهجره ، اجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج فبايعوه ووعدوه بالنصر والمؤازرة ، تأكيدا " للبيعة التي أجراها نقباؤهم مع النبي الأكرم في " منى " أيام إقامته في مكة فصار النصر حليفه ، والتقدم في مسير الدعوة أليفه .

ولكن خصماءه الألداء ما تركوه حتى بعد مغادرة موطنه ، فأخذوا يشنون عليه الغارة المرة ، بعد الأخرى ، ويجذبون الأحزاب عليه ، ويستعينون باليهود وبمشركي الجزيرة عامة ليطفئوا نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون ، فهم أرادوا شيئا " ، والله سبحانه أراد شيئا آخر فإذا قضى أمرا يقول له كن فيكون .

وعندئذ أخذت الدعوة الإلهية بالتقدم والانتشار في أكثر الأصقاع والربوع من الجزيرة العربية ، بعونه ومشيئته سبحانه ، وبطولة أصحابه ومعتنقيه وببركة التضحيات الثمينة التي يقدمها النبي والمؤمنون في مجالها ، فبدت بوادر اليأس على الأعداء وأذعنوا إلى حد ما بأنه ليسوا بمتمكنين من إيقاف الدعوة ، وعرقلة مسيرها إلا أنه بقيت لهم نافذة رجاء وهو أن صاحب الدعوة على زعمهم - ليس له عقب يخلفه فهو يموت وتموت به دعوته ويعود الأمر على ما كان عليه وتصبح الأرض خالصة للوثن والوثنيين فكانوا ينتظرون ذلك اليوم وإليه يشير سبحانه : " أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ " ( 1 ) .

وكان القوم يحلمون بهذه الرؤية الشيطانية ، ويتربصون به ريب المنون لا يشكون في أن دعوته ستموت بموته لأنه في منظرهم ملك في صورة نبي ، وسلطته سلطة في صورة دعوة إلهية فلئن مات أو قتل انقطع أثره وخمد ذكره ، كما هو المشهود من حال الملوك والجبابرة مهما تعالى أمرهم ، وبلغوا عن التكبر والتجبر وركوب رقاب الناس ، مبلغا عظيما " كان الخصم يحلم بهذه الأمنية الشيطانية حتى جاء أمين الوحي

  ( 1 ) الطور / 30 - 32 . [ * ]  
 

- ص 7 -

فأدهشهم وطارت عقولهم فأمر النبي بتنصيب علي عليه السلام لمقام الولاية الإلهية ، واستخلافه في أمر المسلمين بعده فخاطبه بقوله : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " ( 1 ) .

فقام النبي صلى الله عليه وآله في محتشد عظيم من الناس التف حوله وجوه المهاجرين والانصار وأخذ بيد علي ( ع ) ورفعها وقال ألست أولى بكم من أنفسكم . قالوا اللهم بلى فقال من كنت مولاه فهذا علي مولاه . اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ( 2 ) .

فصار عمل النبي صلى الله عليه وآله وقيامه بواجبه في تنصيب علي عليه السلام مقام القيادة بعد وفاته ، سببا " ليأس المشركين قاطبة فأذعنوا أن النبي نور لا يطفأ ، وسراج لا يخبو وأن كتابه فرقان لا يخمد برهانه ، وتبيان لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أنصاره ، وحق لا تخذل أعوانه . وقد نزل أمين الوحي يبشر النبي الأكرم عن قنوط المشركين ويأسهم . إذ قال سبحانه : " الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " " ( 3 ) .

وحيث إن هذه الواقعة التاريخية الكبرى وقعت - عند منصرف النبي من حجة الوداع - في مكان يسمى بغدير خم ، سميت بواقعة الغدير واشتهر في جميع الأجيال بهذا الاسم وجاء في القصائد والأشعار بهذا العنوان .

لم يكن يوم الغدير أول يوم نوه فيه النبي الأكرم بمقام علي وفضله ومنقبته ، ولا آخره بل كانت النبوة والإمامة منذ فجر الدعوة الإلهية صنوين . فقد أصرح النبي بإمامة وصيه ووزارة وزيره يوم جهر بدعوته بين قومه وأسرته في السنة الثالثة من بعثته ، يوم أمره سبحانه بإنذار الأقربين من عشيرته . فدعى الأقربين إلى داره فخاطبهم بقوله :

  ( 1 ) المائدة / 67 . وتسمى الآية آية البلاغ لاشتماله على لفظة بلغ . راجع للوقوف على مصادر نزولها في حق الإمام علي ( عليه السلام ) كتب الحديث والتفسير وكفانا في ذلك ما حققه الشيخ الأكبر الأميني في كتابه " الغدير " ج 1 ص 214 - 229 .
( 2 ) لاحظ مصادر حديث الغدير في موسوعة " الغدير " ج 1 ص 14 - 151 .
( 3 ) المائدة / 3
. [ * ]
 
 

- ص 8 -

" والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة . . فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا وقلت واني لأحدثهم سنا ، وارمصهم عينا . . انا يا نبي الله . . فاخذ برقبتي ثم قال : ان هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم " ( 1 ) .

كان النبي الأعظم واقفا على خطورة الموقف وعظم مقام القيادة فكان يعرف زعيم الأمة والقائم بعده بأعباء الخلافة حينا " بعد حين ، بأساليب مختلفة فتارة يشبهه بهارون ( 2 ) وأخرى بأنه وأولاده أحد الثقلين ( 3 ) وثالثة بأنهم كسفينة نوح ( 4 ) إلى غير ذلك من نصوصه المباركة حول إمام المتقين وأولاده المعصومين .

كل ذلك يعرب عن أن النبي لم يترك مسألة الوصاية سدى ولم يفوضه إلى شورى الأمة ومفاوضاتها أو منافساتها أو إلى بيعة رجل أو رجلين أو بيعة عدة من المهاجرين والأنصار بل عالج مسألة الخلافة في حياته بأحسن الوجوه والأساليب وعرف الأمة زعيمها وقائدها من بعده في أخريات أيامه الشريفة في محتشد عظيم لم يكن له نظير في تاريخ الرسالة حتى ينقله الحاضرون - عند وصولهم إلى أوطانهم - إلى الغائبين وينتشر خبر الولاية بين الأمة جمعاء حتى لا يبقى لمريب ريب .

  ( 1 ) تاريخ الطبري ج 2 / 63 ومسند الإمام أحمد 1 / 159 .
( 2 ) مستدرك الحاكم ج 3 / 109 وصححه الذهبي في تلخيصه على
شرط مسلم .
( 3 ) مسند الإمام احمد ج 5 / 182 و 189 . من حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين .
( 4 ) مستدرك الحاكم ج 3 ص 151 ، من حديث أبي ذر
. [ * ] 
 
 
 

مكتبة الشبكة

الصفحة التالية

الصفحة السابقة

فهرس الكتاب