أمّا شجاعته وبأسه ومراسه في محارب الاقران ورباطة جأشه حيث تزلزل الاقدام وقلوب الشجعان واجفة خائفة وهو ثابت كالطود الشامخ لا تزلزله العواصف ولا تزيله القواصف ذكرت ذلك في فصل آخر.
حيث افتخر كل قرن شجاع بالانتماء إليه، حتى أن معظم زعماء وملوك العالم الاسلامي ترسم صورته واسمه على سيوفهم، وسل عن الحروب والغزوات التي خاضها أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مدافعاً عن بيضة الاسلام، كغزوة بدر، وأحد، والخندق، وبني قريضة، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة، وبني جذيمة وحنين، وبني زبيدة وأخيراً غزاة السلسلة، وغيرها المنتشرة ذكرها في كتب السير والتاريخ
وهل بعد نداء جبرئيل بين السماء والارض يوم أحد، «لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي» مقالة قائل..؟؟ وأما حروبه ومجاهدته مع أصحاب الجمل بالبصرة الناكثين وأصحاب صفين الباغين، والنهروان الخارجين المارقين، تجدها في كتب السير والتواريخ الاسلامية منتشرة تكاد تصل حد التواتر.
هذا ما كان من شجاعته في حروبه وغزواته([12]).
اذكر الواقعة بالمعنى، لا بالنص، حسبما استخلصتها من السيِّيَرِ والروايات والتواريخ وخاصّة من كتاب «عليٌّ من المهد إلى اللحدِ» للسيّد القزويني ص57، وفي حياة مؤمن قريش أبي طالب رضوان الله عليه ورحم الله من قال وصدق:
ولولا أبو طالب وابنه * * * لما مثل الدين شخصاً وقاما
فذاك بمكّة آوى وحامى * * * وهذا بيثرب جسّ الحماما
فلّله ذا فاتحاً للهدى * * * ولله ذا للمعالي ختاما
كان رسول الله (عليه السلام) في حماية أبي طالب وابنه علي (عليه السلام)، وفي مأمن من مؤامرات قريش ومكائدهم، وعلى الرغم من كلِّ ذلك ما كان ينجو من الاعتداءات والاذى إبّان الدعوة، من رميه بالحجارة، وقَذفِهِ بالدم، ورفث القرابين التي تُنحر للاصنام، وتلويث ملابسه الطاهرة عندما كان يطوف بالكعبة أو يصلّي فيها.
وكانوا يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل وسيلة تصل أيديهم الاثمةِ إليه، أو يجدون سبيلاً، حتّى وصل الامر بهم إلى محاربته محاربة نفسية، هادفين من وراء ذلك خنق الدعوة في مهدها قبل أن يستفحل الامر، وينتشر خارج نطاق مكّة، لا سيّما إذا وجدت مخرجاً إلى يثرب أو المدن الكبيرة الاخرى، ولما فشلت مساعي قريش في صدِّ الدعوة وأعياهم الجهد والحيل، عند ذلك عمدوا إلى صبيانهم وغَرّو جهالهم أن يرموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحجارة والرفث والتراب عندما يمر بطريقه عليهم.
شكى ذلك إلى أخيه وابن عمِّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقال له: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله، إذا خرجت أخرجني معك.
كان يرافقه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّما يخرج إلى الحرم للطواف وقد تعرّض له الصبيان بالطريق فكان علي (عليه السلام) يمسك الواحد منهم من أُذنه فيقضمها، أو يمسك أنفه فيجدعه، وبعدها صاروا يهربون من بين يديه صائحين باكين إلى آبائهم، يقولون: قضمنا علي، قضمنا علي. وما عادوا بعد ذلك إلى أذيّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسُمِّي عليٌّ (عليه السلام) من ذلك الحين بالقضم واشتهر به.
وهكذا كان ديدنهم في أذيّة النبي ومحاربته، وكان في كلِّ تلك المصائب صابراً صامداً كما أمره تعالى في محكم كتابه المجيد: (فاستقم كما أمرت)([13]) أو (واصبروا إنّ الله مع الصابرين)([14]) أو (فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل)([15]).
إلى أن لبّت نداء ربّها زوجته الطاهرة خديجة الكُبرى سلام الله عليها، والتي كانت احد أركان دعوته المجيدة، وبعد فترة قصيرة من فراق زوجته التحق بالرفيق الاعلى عمّه أبو طالب سلام الله عليه وبموته انهدَّ ركنه الثاني، فجزع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحزن عليهما حزناً شديداً، حتّى سُمّيَ ذلك العام بعام الاحزان، لفقد الاحبَّة والكافلين له، وقد كانا له بمنزلةِ الجناحين يطير بهما.
وبقي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده مع ابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام)وعدد من المؤمنين المستضعفين، يقارعون الكفار والمشركين من قريش وغيرهم ويتحمّلون الاذى ; عند ذلك نشط الكفّار والمشركون بعد فقد زوجته وعمِّه، وقامت قيامتهم لمّا خلا الجو لهم، وهبّوا عن بَكرةِ أبيهم وعزموا على اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتلهِ.
اجتمعت مشيخة قريش ورؤساء قبائلهم في دار الندوة يتداولون الامر، ويتذاكرون في كيفية تنفيذ المؤامرة والخلاص منه ومن دعوته، واشترك معهم إبليس لعنه الله بصفة رجل غريب جاء من نجد ودخل معهم، فلمّا أنكروه قال: إنّي من نجد أسمع منكم وأُشير عليكم.
وبعد المناقشات والمداولات، استقر رأيهم على أن تخرج قريش من كل قبيلة منهم رجلاً شجاعاً، ويبيتوا على دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعند الفجر يهجموا عليه بجمعهم ويضربوه ضربة رجل واحد ويقتلوه، وعند ذلك يتفرّق دمه بين قبائل قريش، فحينئذ لا يستطيع بنو هاشم قتال جميع قبائل قريش والاخذ بثأره، فيضطرون عند ذلك بقبول ديته، والرضوخ لجمعهم.
وكان أبو لهب عمّه مع المشركين مشتركاً في المؤامرة.
وفي رواية: كان المتآمرون أربعون رجلاً يمثّلون أربعين قبيلة.
وفي رواية اُخرى: كانوا خمسة عشر رجلاً يمثلون خمسة عشر قبيلة.
وفي رواية ثالثة: كان المتآمرون عشرة رجال يمثلون عشرة قبائل.
على أي حال، نزل الامين جبرائيل بهذه الاية المباركة: (وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَو يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ)الانفال آية 30.
وأخبره بتفاصيل المؤامرة، وأمره أن يهاجر من مكّة هذه الليلة إلى يثرب، ويجعل أخاه وابن عمّه علي بن أبي طالب (عليه السلام) مكانه، والمبيت على فراشه.
فأرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي (عليه السلام) يخبره بتفاصيل المؤامرة، وهبوط الامين جبرائيل بالاية، قائلاً له: يا علي، إنَّ الروح الامين هبط عليَّ الساعة يخبرني أنَّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي، وأوحى إليَّ عن ربّي أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار حراء في جبل ثور ، تحت ليلتي هذه، وقد أمرني أن آمرك بالمبيت على فراشي وفي مضجعي، لتخفي بمبيتك عليهم أثري، فما أنت قائل؟
فقال عليٌّ (عليه السلام): أوتسلمنَّ بمبيتي يا رسول الله؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): نعم.
فتبسَّم ضاحكاً، وأهوى إلى الارض ساجداً شاكراً لله.
فكان علي (عليه السلام) أوّل من سجد للهِ شكراً، وأول من وضع جبهته على الارض معفرها بالتراب، وقال: فداك سمعي وبصري، مُرني بما شئت تجدني مطيعاً مُنفِّذاً.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فارقد على فراشي، واشتمل ببردي الحضرمي ; ثمَّ إنّي أُخبرك يا عليّ، إنَّ الله تبارك وتعالى، يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشدُّ الناس بلاءً الانبياء، ثمَّ الامثل فالامثل ; وقد امتحنك يابن أُمّ وامتحنني فيك، مثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السلام)، والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبراً صبراً، فإنَّ رحمة الله قريب من المحسنين.
ثم ضمَّه إلى صدره (صلى الله عليه وآله وسلم) وبكى إليه وجداً به، وفرقاً عليه، بكى عليٌّ (عليه السلام) جزعاً على فراقه.
فجاءت قريش قاصدةً تنفيذ خطتها ومؤامرتها، وأحاطوا بالدار، وجلس أكثرهم بالباب يحرسونها ريثما يطلع الفجر ليثبوا على داره وثبة رجل واحد ويقتلوه.
وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدار مارَّاً من بين أيديهم، آخذاً حفنةً من التراب رمى با على وجوههم، قائلاً لهم: شاهت الوجوه، وقرأ الاية الكريمة: (وجعلنا من بين أيديهم سدَّاً ومن خلفهم سدَّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)([16]) فغشي على أعينهم ولم يروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا مرّ بهم، وانطلق متوجِّهاً إلى غار ثور، وصادفه أبو بكر بالطريق فالتحق به ورافقه المسير.
عند ذلك أوحى الله تبارك وتعالى إلى جبرئيل وميكائيل: إنِّي آخيت بينكما، وجعلتُ عمر أحدكما أطول من الاخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كل واحد منهما الحياة، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليهما: ألا كنتما مثل عبدي علي بن أبي طالب! آخيتُ بينه وبين محمّد عبدي ورسولي، فبات على فراشه فادياً له بنفسه ويؤثره بالحياة ; اهبطا إلى الارض فاحفظاه من عدوه. فنزلا، فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل يقول: بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب، يباهى الله سبحانه بك ملائكته؟!
وأنزل الله عزَّ وجلَّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بطريقه إلى يثرب في شأن علي بن ابي طالب (عليه السلام) هذه الاية الكريمة المباركة: (ومن الناس مَن يَشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)([17]).
بات عليٌّ (عليه السلام) على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ملتحفاً ببرده الحضرمي، والمشركون يرمونه بالحجارة بين الفينة والفينة، وهم يتصورون أنّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو صابر يتضور من شدّة الالم، ولا يُبدي أي حركة لئلا ينكشف أمره.
فلما طلع الفجر وثب المشركون على الدار شاهرين سيوفهم، قاصدين فراش النبي، صلوات الله عليه وآله، فنهض أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من فراش النبي شاهراً سيفه، ولمّا رأوه أسقط ما في أيديهم، وقالوا: عليٌّ هذا؟! قال: نعم.
قالوا: أين محمّد؟
قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟! ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم.
قالوا: كنتَ تخدعنا منذ الليل بنومك على فراشه، وظننّا أنّك محمّد؟
فتركوه وتتبعوا أثره حتّى وصلوا إلى باب الغار في جبل ثور، الذي اختفى فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه أبو بكر، فوجدوا على باب الغار نسيج العنكبوت، وطير راقد على فراخه، فقالوا: إلى هنا انقطع أثره، أمَّا أنّه صعد إلى السماء، وأو نزل إلى الارض، ولا يمكن دخول الغار، وهذا نسيج العنكبوت وعش الطير ببابه. فرجعوا خائبين.
وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه ثلاثة أيّام في الغار، وكان عليٌّ (عليه السلام) يأتيه بالطعام كلَّ يوم، وفي اليوم الثالث جاء عليٌّ (عليه السلام) ومعه الدليل وثلاث جمال، واحدٌ له، والاخر لصاحبه، والثالث للدليل، فركبها وانطلقا إلى يثرب.
وسبق أن أوصاه: إذا أتاك كتابي اقض ديني، وردَّ الودائع التي عندي إلى أصحابها، والتحق بي مع الفواطم.
وكان (عليه السلام)، يعتز ويفتخر بهذه الموفقية التي نالها من عند الله تعالى، فأنشد يقول:
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى * * * ومَن طاف بالبيت العتيق وبالحجرِ
محمّد لمّا خاف أن يمكروا به * * * فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكرِ
وبتُّ أراعيهم حتّى ينشرونني * * * وقد وطّنت نفسي على القتل والاسرِ
وبات رسول الله في الغار آمناً * * * هناك وفي حفظ الاله وفي سترِ
أقام ثلاثاً ثمّ زمت قلائصٌ * * * قلائص يفرين الحصى أينما يفري
هذا العمل العظيم والتضحية الجسيمة التي أقدم عليها هذا البطل العظيم وهو لا يزال في شرخ الشباب وباكورة عمره الشريف، الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه، وقع من أهل السماء موقع الاعجاب والاكبار والتقدير، وبهذه المواساة الفريدة في تاريخ الاسلام، بل وفي تأريخ الانبياء كافّة عدا تضحية جده الامجد النبي إسماعيل (عليه السلام)، إذ قال له أبوه إبراهيم الخليل عليه أفضل التحية والسلام: (يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكْ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)([18]).
فلا غرو ولا عجب أن طأطأ عظماء العالم رؤوسهم إجلالاً وإكباراً لعظمتهِ وإقدامه وتضحيته صلوات الله وسلامه عليه.
أما كيفية هجرة علي (عليه السلام)، من مكة إلى المدينة فقد رواها المحدثون بهذه الكيفية. انقلها مجملاً.
كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي بن ابي طالب (عليه السلام) كتاباً يأمره فيه بالمسير إليه، وقلة التلوم([19])، وكان الرسول بعث إليه أبا واقد الليثي، فلما أتاه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)تهيأ للخروج والهجرة.
قال ابن شهرآشوب: واستخلفه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لرد الودائع، لانه كان أميناً، فلما أدّاها قام على الكعبة فنادى بصوت رفيع: يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصية؟ هل من عدة له قِبَل رسول الله؟ فلما لم يأت أحد لحق بالنبي.
وقال ابن شهرآشوب أيضاً: أمره النبي أن يؤدي عنه كل دَين وكل وديعة وأوصى إليه بقضاء ديونه، فإذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا - إذا ملا الليل بطن كل واد - إلى ذي طوى، وخرج علي (عليه السلام) بفاطمة الزهراء (عليها السلام) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وقد قيل: هي ضباعة وفي رواية، وفاطمة بنت حمزة بن عبدالمطلب، وتبعهم أم أيمن وابنها أيمن مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبو واقد رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فقال علي (عليه السلام): إرفق بالنسوة أبا واقد! إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدركنا الطالب - أو قال: الطلب - فقال علي (عليه السلام): أربع عليك، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال لي: يا علي إنهم لن يصلوا من الان إليك بأمر تكرهه، ثم جعل - يعني علياً (عليه السلام) - يسوق بهن سوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول:
ليس إلاّ الله فارفع ظنكا * * * يكفيك رب الناس ما أهمّكا
وسار، فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبع فوارس من قريش مستلئمين وثامنهم مولى الحارث بن أمية يدعي جناحاً وهو افتكهم، فأقبل علي (عليه السلام) على أيمن وأبي واقد وقد تراءى القوم فقال لهما: أنيخا الابل وأعقلاها. وتقدم حتى أنزل النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم علي (عليه السلام) منتضياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت أنك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أبا لك، قال: فان لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شَعراً، وأهون بك من هالك. ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته، وتختله علي (عليه السلام) فضربه على عاتقه ، فأسرع السيف مضياً فيه حتى مس كاثبة فرسه، فكان علي (عليه السلام) يشد على قدمه شد الفرس، أو الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد * * * آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع القوم عنه، بعد قتل جناح فقالوا له: اغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب، قال: فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)بيثرب، فمن سرّه أن أفري لحمه واهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: اطلقها مطاياكما، ثم سار ظاهراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فتلوَّم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، يُصَلّون للهِ ليلتهم ويذكرونه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر، فصلى علي (عليه السلام) بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلك منزلاً بعد منزل يعبدون الله عزَّ وجلّ ويرغبون إليه كذلك حتى قدموا قبا، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم: (الَّذِين يَذْكرُونَ اللهَ قِياماً وَقعُوداً وَعلى جُنُوبِهم وَيتَفكّرُون فِي خَلقِ السَّمَاواتِ والارْض ربّنا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً)([20]) إلى قوله: (فَاسْتَجَابَ لَهُم رَبهُم أنِي لا أُضِيعُ عَمَل عَامل مِنْكُم مِن ذَكَر أو أُنْثى).
ولما نزل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء خارج المدينة بقي ينتظر قدوم علي (عليه السلام)، فقال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك، وهم يستريثون إقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تُقِم ههنا تنتظر علياً، فما أظنه يقدم إليك إلى شهر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلاّ، ما أسرعه. ولست أُريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله عزَّ وجلَّ وأحبّ أهل بيتي إليَّ فقد وقاني بنفسه من المشركين. فبقي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة عشر يوماً فوافى عليٌّ بعياله وقد تفطرت قدماه فاعتنقه النبي وبكى رحمة لما بقدميه من الورم. وتفل في يديه وأمرَّها على قدميه فلم يشتكهما بعد ذلك أبداً.
لقد وصل الامام علي (عليه السلام) مع الفواطم والمؤمنين قبا يوم الاثنين، ومكث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم الخميس، وفي صباح يوم الجمعة تحرك الركب الطاهر يرافعه أمير المؤمنين (عليه السلام) بصحبة المؤمنين يقصدون يثرب، فادركته الصلاة - صلاة الظهر - أو صلاة الجمعة - في بني سالم بن عوف فصلاها عندهم، وبعد ان اكمل صلاته دعا براحلته فركبها وسار في ركبه المؤمنون وهم أكثر من مائة رجل يحملون السلاح محيطين به يميناً وشمالاً.
ولما دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المؤمنين يثرب استقبله أهلها بالترحاب والاهازيج والاشعار التي تنبأ عن شغفهم وسرورهم منها:
طَلَع البدرُ عَلينَا مِن ثَنيَّاتِ الوَداع * * * وَجب الشُكر عَلَينا مَا دعَا للهِ داع
ايها المبعوث فيا جئت بالامر المُطاع * * * جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
وهكذا رحب أهل يثرب بمقدم نبيهم الكريم.
وأما ما ظهر من شجاعته (عليه السلام) في حروبه وغزواته مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ابتداءً من واقعة بدر، واحد، والاحزاب والخندق، وحنين، وخيبر، وذات السلاسل. التي تنزلت فيه سورة والعاديات، وغيرها من الحروب والغزوات، وفتح مكة، وتكسير الاصنام وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في العدد الاول من هذه الكرسات ملخصاً في سيرة النبي الكريم.
فضلاً عما ذكرنا من حروبه الثلاثة في عهد خلافته، الناكثين في البصرة، والقاسطين في صفين، والمارقين الخوارج، في النهروان بكراس عنوانه «ثم عقر الجمل» ولا يحتاج لتكراره.
قال الله تبارك وتعالى: (يا أَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَمْ تَفعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسالَتَهُ واللهُ يَعصِمُكَ مِن النَّاسِ) المائدة: 67.
أيها الاخوة أعرض لكم واقعة الغدير، تلك الواقعة التي أكمل الله فيها الدين وأتم فيها النعمة، يوم تتويج الامام المرتضى (عليه السلام) بتاج الخلافة العظمى والامامة الكبرى.
وهذا البحث من أهم البحوث الاسلامية، وهنا مفترق الطرق بين المذاهب الاسلامية، ويمكن لنا أن نقول: إن الكتب والمؤلفات التي كُتِبَت حول هذا الموضوع بالذات وحول الامام والخلافة بصورة عامة - قد جاوزت العد والضبط والاحصاء، من إثبات أو ردٍّ أو مناقشة وما يدور في هذا الفلك.
ومن الجدير أن عدداً من النصارى ذكروا هذه الحادثة نظماً ونثراً، ولعلنا نشير إلى بعض أقوال هؤلاءِ بصورة موجزة رعاية للاختصار.
ومن أعجب الامور أن بعض المسلمين بعد إقامة الادلة الكافية والبراهين الشافية والحجج القاطعة على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبعد المناقشة في سند الحديث ودلالة متنه ومفهومه قال: إن علياً هو الافضل ولكن غيره أصلح!! اقول: سبحان الله، هذه كلمة تُضحك الثكلى! لان معناها: إن الله ورسوله ما كانا يعرفان الاصلح!؟ أو كانا يعرفانه ولكنهما قدَّما غير الاصلح، نعوذ بالله من الخطل.
والافضل أن نذكر الواقعة بصورة موجزة ثم ننظر أين ينتهي بنا البحث؟ وأقوال المفسرين والمحدثين تختلف من حيث الايجاز والتفصيل، ولكن المفاد واحد، وهذه صورة الواقعة:
لما قضى رسول الله مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع الغفيرة ووصل إلى غدير خم من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة نزل إليه الامين جبرئيل عن الله بقوله: (يا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إليكَ من رَّبِّكَ)([21]) الاية. وأمره أن يُقيم علياً علماً للناس ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة فأمر رسول الله أن يُردَّ من تقدم منهم، ويُحبَس من تأخر عنهم في ذلك المكان، ونهى عن سمرات خمس متقاربات دوحات عظام أن لا ينزل تحتهن أحد.
حتى إذا أخذ القوم منازلهم فَقُمَّ (كُنِسَ) ما تحتهن حتى إذا نودي بالصلاة صلاة الظهر عمد إليهن فصلى بالناس تحتهن، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاءِ، وظُلِلّ لرسول الله بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف (صلى الله عليه وآله وسلم) من صلاته قام خطيباً وسط القوم على منبر من أقتاب الابل وأسمع الجميع، رافعاً عقيرته قائلاً:
«الحمد لله ونستيعنه ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن ضَل، ولا مُضل لمن هَدى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله - أما بعد -: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلاّ مثل نصف عمر الذي قبله، وأني أُوشك أن أُدعى فأُجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون»؟
قالوا: نشهد أنك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً.
قال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور»؟
قالوا: بلى نشهد بذلك.
قال: «اللهم اشهد».
ثم قال: «أيها الناس ألا تسمعون»؟
قالوا: نعم.
قال: «فإني فرط على الحوض، وأنتم واردون عليَّ الحوض، وإن عرضه ما بين صنعاءَ وبُصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين».
فنادى مناد: وما الثَقلان يا رسول الله؟
قال: «الثقل الاكبر كتاب الله طرف بيد الله عزَّ وجلَّ وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا، والاخر الاصغر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا - ثم أخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون - فقال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ فمن كنت مولاه فعلي مولاه - يقولها ثلاث مرات وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرات - ثم قال: اللهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وأحبَّ مَن أحبه، وأبغض مَن أبغضه، وانصر مَن نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلِّغ الشاهد الغائب».
وقد ذكروا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطبة مفصلة جداً رواها الطبرسي في الاحتجاج، ورواها غيره في كتبهم بغير تفصيل.
وكيف ما كان: لما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خطبته نزل وأمر المسلمين أن يبايعوا علياً بالخلافة ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين.
فتهافت عليه الناس يبايعونه، وجاء الشيخان: أبو بكر وعمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالا: هذا أمر منك أم من الله؟
فقال النبي: وهل يكون هذا عن غير أمر الله؟ نعم أمر من الله ورسوله، فقاما وبايعا، فقال عمر: السلام عليك يا أمير المؤمنين بخ بخ لك يا علي لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة!! وكذلك وسلم عليه أبي بكر بإمرة المؤمنين.
هذه الواقعة من أشهر الحوادث بين المفسرين والمحدثين والمؤرخين، وتعتبر عندهم من أصح الاحاديث لتواتر الروايات الواردة حول الحديث.
أما الصحابة الذين شهدوا بالغدير فالمشهور منهم مائة ونيف ذكرنا معظم اسمائهم في الجزء الثاني من كتابنا «علي في الكتاب والسنة» ص410 - 414 وعددهم ينيف على المئة صحابي.
قال ابن عباس: وجبت والله في اعناق القوم فقام حسان وقال: أئذن لي يا رسول الله ان اقول في علي ابيات تسمعهن: فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): قل على بركة الله، فقام وقال: يا معشر مشيخة قريش اتبعها قولي بشهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الولاية ماضية ثم قال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * * * بخم فأسمع بالرسول مناديا
وقد جاءه جبريل عن أمر ربه * * * بأنك معصوم فلا تك وانيا
وبلغهم ما أنزل الله ربهم * * * إليك ولا تخشى هناك الاعاديا
فقام به إذ ذاك رافع كفه * * * بكف عليّ مُعْلِنَ الصوت عاليا
فقال: فمن كنت مولاكم ووليكم؟ * * * فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * * * ولن تجد فينا لك اليوم عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني * * * رضيتك من بعدي اماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليّهُ * * * فكونوا له انصار صدق مواليا
هناك دعا: اللّهم والي وليه * * * وكن للذي عادى علياً معاديا
فيا رب انصر ناصريه لنصرهم * * * امام هدىً كالبدر يَجلوا الدياجيا
إلى آخر الابيات.
ولما انتهت البيعة لامير المؤمنين (عليه السلام) هبط جبرئيل (عليه السلام)على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الاية: (اليومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وأَتمَمْتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسلامَ دِيناً)([22]).
أما المفسرون والمحدثون من الشيعة فقد اتفقت كلمتهم على نزول هذه الاية يوم الغدير بعد انتهاء البيعة لعلي (عليه السلام) ، كما أيده حفاظ أهل السنة ومحدثيهم فقد روى ذلك أكثر من ستة عشر طريقاً.
قال الله سُبحانه وتعالى في مُحكم كتابه المجيد: (قُل هَل يَستوي الَّذينَ يَعلمُونَ والذينَ لاَيَعلَمُونَ)([23])، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي لا يعرف الله إلاّ أنا وأنت، ولا يَعرِفني إلاّ الله وأنت، ولا يعرفك إلاّ الله وأنا».
وقال: «أنا مدينة الحكمة وعليٌّ بابها».
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لو كُشِفَ ليَ الغِطاء ما ازددت يقيناً»، فشدة يقينه دالة على قوة دينه، ورجاحة موازينه.
ومما لا شك فيه ولا ريب أنَّ للعلم صولةً وجولةً، وفضيلة وكمالاً، ويَعترِف البشر كافة بشرفه وسموّه، بل ويُفضّل العالم على الجاهل بالفطرة كتفضيل النور على الظلام، وقد حثّ الاسلام منذ انبثاقه على التعلم وإعطاء العلم والاولوية في كل مجالاته، فقد قال الرسول الاعظم(صلى الله عليه وآله وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة».
والقرآن الكريم يشير إلى مزيّة العِلم وقيمته، وسُموّ قَدَرِه وكرامَتِه في كثير من الايات، ويثني على كل من أوتي من العلم نصيباً: (ومَن يُؤتَ الحِكمةَ فَقد أُوتيَ خيراً كَثيراً)([24]).
والعلم أيضاً من أهم الاُسس التي يستند عليها لتسنّم المراكز الراقية، والمناصب السامية، والقيادة (كالحكم، والقضاء)، كما أنّ العِلم بالاحكام الشرعية والتفقه بها، وتعلم آداب القضاء والفتوى، ويعتبر من الضروريات التي حثّ عليها الاسلام، كما أسلفت بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم، ودرجات الايمان بالله ومعرفته تابعة لمراتب العلم.
فعلِم عليّ (عليه السلام) من عِلمِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث قال (عليه السلام): «علّمني رسول الله من العلم ألف باب ينفتح له من كل باب ألف باب».
وعِلمُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من عِلم الله تعالى، اكتسبه عن طريق جبرئيل وعن طريق الالهام والنكت في القلب، وليس عن طريق التعلم والتحصيل.
ونجد في القرآن الكريم طائفة من الايات التي تصرّح بتمجيد العلم والحث عليه، كما تبين بأن علوم الانبياء اكتسبت من الله تعالى عن طريق الافاضة، والالقاء في القلب.
ومما لا شك فيه ولا ريب أنّ مثل هذه العلوم لا تشوبها شكوك ولا انحراف، بل هو الحق المطلق، الصادر عن الحق جلّت قدرته.
وإليك بعض تلك الايات المجيدة، قال سبحانه وتعالى:
(وَقُلْ رَّبِّ زِدني عِلماً)([25]).
(فَوَجَدا عَبداً مِن عِبَادِنا آتيناهُ رَحمةً مِن عِندَنا وعَلَّمناهُ مِن لَّدُنَّا عِلماً)([26]). إلى آخر الايات النازلة في العِلم.
فإذا عرفت هذا يا عزيزي القاريء، فكيف يمكننا أن نقدّر أو نستطيح أن نعلم مقدار علم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي هو من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله الذي أخذ علمه من الله تعالى عن طريق الوحي.
بالاضافة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى نعت أمير المؤمنين(عليه السلام)، بقوله عزّ من قائل: (ومَن عِندهُ عِلمُ الكِتابِ)([27]) كما ذكرنا ذلك مفصلاً في الجزء الاول من كتابنا - علي في الكتاب والسنة ص 163 - في تفسير الاية رقم 43 من سورة الرعد - فراجع -.
وبهذه المناسبة أقول: إنَّ آصف بن بَرْخِيا الذي كان عنده علمٌ من الكتاب وهو حرف واحد من اثنين وسبعين من الاسم الاعظم، استطاع بذلك العلم البسيط أن يجلب عرش الملكة بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس - موقع عرش النبي سليمان - قبل أن يرتدّ طرفه ، كما ذكره القرآن الكريم بقوله: (قالَ الَّذِي عِندهُ عِلمٌ مِنَ الكتابِ أنا آتيكَ بهِ قَبلَ أن يرتدَّ إليكَ طَرفُكَ)([28]).
فكيف بأمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي (عِندهُ علُم الكتابِ)([29])، بنص القرآن المجيد وحديث رسوله الكريم والذي قال (عليه السلام) مراراً وبعدة مناسبات: «ها هنا لَعِلماً جماً» وأشار إلى صدره، وقال: «سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن طرق السموات فإني أعلم بها من طرق الارض».
وفي رواية أخرى: «لو سألتموني عن آية لاخبرتكم بوقت نزولها وفيم نزلت، وأنبأتكم بناسخها ومنسوخها، وخاصها من عامها، ومحكمها من متشابهها، ومكيّيها من مدنيّها، والله ما من فئة تُضِلّ أو تهدى إلاّ أنا أعرف قائدها وسائقها، وناعقها إلى يوم القيامة».
قال ابن عباس: عليٌّ عَلِمَ عِلماً علّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ورسول الله علّمه الله، فعِلمُ النبي من عِلم الله تعالى، وعِلمُ عليّ من عِلم النبي، وعلمي من علم علي، وما علمي وعلم أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عِلم عليٍّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر.
وعن ابن عباس أيضاً: أن عمر بن الخطاب قال له يوماً: يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سُئِلت عنه! قال: فأبرز عليٌّ كفه وقال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة، فقال: عجلت أبا حفص؟ قال: لم يخف عَليَّ، فقال علي: وأنا أسرع فيما لا يخفى عَليَّ.
هذا غيض من فيض عِلم أمير المؤمنين، وباب مدينة عِلم سيد المرسلين صلّى الله عليهما وآلهما أجمعين.
أقول: وهل استطاع (عليه السلام) أن يُبلّغ معشار ما حواه ووعاه من العلم، وهل السياسة الزمنية تركته وشأنه لتبليغ ما يمكن تبليغه وبث ما يمكن بثه، كلا وألف كلا، وفي هذا المقام ما أدري هل آسف على الامام الذي ضاع قدَرهُ بين الجهال والمنحرفين وأصحاب المطامع والحاقدين في ذلك العهد ولم يفسح له المجال، ليبث بين المسلمين شيئاً من علومه الالهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين عثر بهم الحظّ وحُرمُوا الارتشاف من ذلك المنهل العذب الذي تطفح ضفتاه من كل فضيلة ومكرمة، وقد كانوا ولا يزالون بأمسِّ الحاجة الى علمه سلام الله عليه، فقد قهرته الظروف الصعبة، واضطرته السياسة الزمنية إلى الجلوس في داره خمس وعشرين سنة مسلوب الارادة والامكانيات من القيام بواجبه الذي طُبع عليه، لا يستطيع تنوير العقول بعلومه، أو تزويد النفوس بمواهبه؟.
قال (عليه السلام): «أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الابل لكانت لذلك أهلاً: لا يَرجونّ أحدٌ منكم إلاّ ربه، ولا يخافنّ إلاّ ذنبه، ولا يستحيين أحدٌ منكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحيين أحدٌ إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وعليكم بالصبر فإنّ الصبر من الايمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له ولا في إيمان لا صبر معه» (نهج البلاغة ج4 كلماته القصيرة).
وقال (عليه السلام): «من أُعطي أربعاً لم يحرم أربعاً: من أعطي الدعاء لم يحرم الاجابة، ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول، ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة، وتصديق ذلك كتاب الله تعالى حيث قال عزَّ وجلَّ في الدعاء: (أدعُوني أستجيب لكُم)([30])، وقال في الاستغفار: (ومَن يَعمل سُوءاً أو يَظلِم نفسَهُ ثمَّ يَستغفِر اللهَ يجدِ الله غَفُوراً رَّحيماً)([31]) ، وقال في الشكر: (لَئِن شَكرتُم لازيدَنكُم)([32])، وقال في التوبة: (إنَّما التَّوبةُ عَلى اللهِ للَّذينَ يعمَلُونَ السُّوءَ بجهالة ثمَّ يتوبونَ مِن قريب، فَأولئك يتوبُ اللهُ علَيهِم وكانَ اللهُ علِيماً حكيماً)([33])(شرح نهج البلاغة، ج4 ص34.
ومن خطبة له (عليه السلام): «من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه، ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ».
ومن خطبة له (عليه السلام): «واللهِ لان أبيت على حسَك السَعدان مسهَّداً([34])، وأُجرّ في الاغلال مصفّداً، أحب إليَّ من أن ألقى الله ورسوله يومَ القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها([35]) - إلى أن قال(عليه السلام) -: واللهِ لو أُعطيتُ الاقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإنّ دنياكم عندي لاهون من ورقة في فم جرادة تقضمها([36])، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ باللهِ من سُبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين» (نهج البلاغة، ج2 ص217، 218).
وقال (عليه السلام): «طوبى لمن ذلّ في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت خليقته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه، وعزل عن الناس شره، ووسعته السنَّة، ولم ينسب إلى البدعة» (نهج البلاغة، ج4).
وقال (عليه السلام): «الناس ثلاث: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق» (نهج البلاغة، ج4).
حينما نقم عثمان على أبي ذر الغفاري ونفاه إلى الربذة، قام أمير المؤمنين (عليه السلام) وولداه الحسن والحسين (عليهما السلام) بتوديعه، قائلاً له: «يا أبا ذر إنك غَضِبْتَ لله فارجو من غَضِبْتَ له، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفت عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم وما اغناك عما منعوك، وسيعلم من الرابح غداً، والاكثر حُسَّداً، ولو أن السموات والارضين كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل الله له منها مخرجاً، ولا يؤنسنّك إلاّ الحق ولا يوحشنّك إلاّ الباطل، فلو قبلت دنياهم لاحبّوك، ولو قرضت منها لامنوك» (نهج البلاغة، ج2 ص12).
وقال (عليه السلام): «إن مع كل إنسان مَلكين يحفظانه، فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه، وإن الاجل جُنّةً حصينة، كما قال كفى بالاجل حارساً» (نهج البلاغة).
أما فصاحة علي (عليه السلام) وبلاغته فقد سنّ لقريش، والعرب أُسس الفصاحة، وكل من جاء بعده فهو عِيالٌ عليه منه أخذ وبه اقتدى، ومن تلامذته أبو الاسود الدؤلي الذي علّمه أُسس المنطق ومبادىء النحو والصرف والعربية، وهي من أبرز صفاته الحميدة ومشهور بها كشهرته بشجاعته وإقدامه وصفته المميزة عند الجميع، وظاهرة للعيان كظهور الشمس في رابعة النهار.
ألا ترى إلى كلماته القصيرة في الحكمة والموعظة، وخطبته الجليلة المؤثرة في كل المناسبات والمجالات، وتجسيد كل موضوع يتطرق إليه ببيانه مثل: خطبة توحيد الله جلّ شأنه، وخطبته المعروفة بالشقشقية، وخطبه المشهورة كالهداية، والملاحم، واللؤلؤة، والغراء، والقاصعة، والافتخار، والاشباح، والدرّة اليتيمة، والاقاليم، والوسيلة، والطالوتية، والقصبية، والسليمانية، والناطقة، والدامغة، والفاضحة وغيرها. من خطبه المشهورة العارية عن الالف، وخطبته الخالية من النقاط، وهذا دليل قاطع على أن النطق طي لسانه، والقلم طوع بنانه يُدَوِّرُه حيثما شاء وكيف ما شاء.
وقال ابن أبي الحديد في مقدمة على شرح النهج:
ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد عَلِمتَ أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الارض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر]دبر كل فريضة[وتوعّدوا مادِحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً حتى حضروا([37]) أن يسمّي أحدٌ باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رِفعةً وسُموّاً، وكان كالمسك كلما سُتِر انتشر عُرفه، وكلما كُتِم تضوّع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجب عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.
وما أقول في رجل تُعزى إليه كل فضيلة؟ وتَنتمي إليه كل فِرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرتها وسابق مضمارها، ومجلِّي حَلَبتها.
وكُلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى.. وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية، والفضائل النفسية والدينية وجدته ابن جلاّها، وطلاع ثناياها».
وقال نباتة: حَفِظتُ من الخطابة كنزاً لا يزيده الانفاق إلاّ سعةً وكثرةً، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (عليه السلام).
لما قال مِحفَن بن ابي مَحفَن - لمعاوية -: جئتك من عند أعيى الناس، قال له: ويحك؟ كيف يكون أعيى الناس؟ فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره.
وهذا يكفي دلالةً على أنه لا يُجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة، وحسبك أنه لم يدوّن لاحد من فصحاء الصحابة العُشر ولا نصف العُشر مما دُوِّن له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب (البيان والتبيين) وفي غيره من الكتب».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([12]) راجع الفصل الخاص به .
([13]) سورة هود : آية 12 .
([14]) سورة الانفال : آية 46 .
([15]) سورة الاحقاق : آية 35 .
([16]) سورة يس : آية 9 .
([17]) سورة البقرة : آية 207 .
([18]) سورة الصافات : آية 102 .
([19]) أي عدم التباطىء .
([20]) سورة آل عمران : الاية 191 ـ 195 .
([21]) سورة المائدة : الاية 67 .
([22]) سورة المائدة : الاية 3 .
([23]) سورة الزمر : آية 9 .
([24]) سورة البقرة آية 269 .
([25]) سورة طه : آية 114 .
([26]) سورة الكهف : آية 65 .
([27]) سورة الرعد : آية 43 .
([28]) سورة النمل : آية 40 .
([29]) سورة الرعد : آية 43 .
([30]) سورة غافر : آية 60 .
([31]) سورة النساء : آية 110 .
([32]) سورة إبراهيم : آية 7 .
([33]) سورة النساء : آية 17 .
([34]) الحسك : الشوك ، مسهداً ، ساهراً .
([35]) قفولها : رجوعها ، الثرا : التراب .
([36]) جلب قشرة شعير : تقضمها بأسنانها .
([37]) منعوا .