(1) قوة جاذبة عليّ
جاء في مقدمة الجزء الأوّل من «خاتم الأنبياء» وبشأن «الرسالات» ما يلي: «إنّ الرسالات الّتي ظهرت بين الناس لم تكن على منوال واحد، كما لم يكن شعاع تأثيرها متساوياً. بعض الدعوات والأنظمة الفكرية كان ذا بعد واحد، تقدم باتجاه واحد، وقد عم في بداية ظهوره شرائح واسعة من الناس ويتبعه الملايين منهم. ولكن ما أن انتهى زمانه حتّى طوي بساط وجوده وأُسلم إلى النسيان. وبعض آخر كان ذا بعدين، بعث شعاعه إلى اتجاهين، وشمل طبقات واسعة من الناس وتقدم في عصور عديدة، ولم يقتصر على البعد المكاني بل تعداه إلى البعد الزماني أيضاً. وثمة دعوة تقدمت في اتجاهات مختلفة، وضمت جماعات من البشر واسعة تحت نفوذها، بحيث أننا نرى آثارها في كلّ قارة من القارات، وكان لها بعد زماني أيضاً، أي إنّها لم تكن خاصة بزمان وعصر معينين، بل حكمت بكلّ اقتدار خلال قرون طويلة، وتعمقت جذورها في دخائل النفوس واستولت على ضمائر الناس وهيمنت على قلوبهم وأمسكت بزمام مشاعرهم. إنّ دعوات كهذه هي الدعوات ذوات الأبعاد الثلاثة الّتي اضطلع بها الأنبياء. فأين يمكن العثور على مدرسة فكرية وفلسفية استطاعت ـ مثل الأديان العظيمة ـ أن تحكم ملايين الناس مدة ثلاثين قرناً أو عشرين قرناً أو أربعة عشر قرناً كحد أدنى، وأن تستولي على جماع مشاعر أتباعها وما في أعماقهم؟». كذلك هي القوّة الجاذبة، فبعض ذات بعد واحد، وبعض ذات بعدين، وبعض ذات ثلاثة أبعاد. جاذبة عليّ(عليه السلام) من النوع الأخير، فهي قد جذبت مجاميع واسعة من البشر، وليست مقصورة على قرن واحد أو قرنين اثنين، بل استمرت خلال القرون الماضية كلها واستمرت.. إنّها حقيقة ما زالت تتلألأ على ملامح القرون والعصور، وقد غارت حتّى أعماق القلوب، بحيث أن الناس بعد قرون إذا ذكروه وذكروا أخلاقه وسجاياه انهمرت دموع الشوق من عيونهم وبكوا على مصائبه، الأمر الّذي أثر حتّى في نفوس الأعداء واستذرف دموعهم. وهذه أشد الجاذبات قوة. من هنا يمكن أن ندرك أن صلة الإنسان بالدين ليست من الصلات المادية، بل هي ارتباط مختلف لا يشبهه أي ارتباط بين الإنسان وبين أي شيء آخر. ولو لم يصطبغ عليّ(عليه السلام) بصبغة الله ولم يكن من رجال الله لكان قد طواه النسيان، إن في تاريخ البشر أبطالا كثيرين: أبطالا في القول، وأبطالا في العلم والفلسفة، وأبطالا في القوّة والسلطة، وأبطالا في ميادين الحروب.. ولكن الإنسان قد نسيهم جميعاً، أو أ نّه لم يعرفهم أصلا، غير أن عليّاً لم يمت بموته وإنما ازداد حياة ـ إن صح التعبير ـ وهو نفسه يقول: «هَلَكَ خُزَّانُ الاَْمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعَُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ»(1). ويقول عن نفسه: «غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي»(2). في الحقيقة، عليّ(عليه السلام) أشبه بقوانين الفطرة الّتي تظل خالية أبداً. إنّه منبع فياض لا ينضب، بل يزداد فيضه على مر الأيام. وهو ـ كما يقول عنه جبران خليل جبران: «شخصية ولدت قبل زمانها». بعض الناس يصل إلى مركز القيادة في زمانه، وبعض يستمر في قيادته قليلا بعد زمانه حتّى ينساه الناس، أمّا عليّ(عليه السلام)، وبعض آخرون من الناس، فهم من الهداة والقادة دائماً وأبداً.
من أهم ميزات الشيعة على سائر المذاهب الاُخرى هو أن أساس مذهبهم المحبة. فمنذ عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الّذي وضع فيه حجر الأساس لهذا المذهب، كان الكلام يدور على المحبة والموالاة، حتّى أننا إذ نسمع النبيّ الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «عليّ وشيعته هم الفائزون»(3) نجد جمعاً من الناس قد تحلقوا حول عليّ(عليه السلام) وقد جذبهم إليه واستغرقهم حباً. ولهذا نرى التشيع مذهب الحب والوله. إن لعنصر المحبة في التشيع أهمية كبيرة، وتاريخ التشيع يقترن بأسماء مجموعة من العشاق والمضحين المدلهين في الحب. عليّ(عليه السلام) هو ذلك الّذي وإن كان يقيم الحدود الإلهية على الناس ويجلدهم ويقطع يد سارقهم بموجب الشرع، فإنّهم لم يلووا عنه كشحاً ولم تنقص محبتهم له أبداً، وهو في هذا يقول: «لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَاأَبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي: وَذلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الاُْمِّيِّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهُ قَالَ: « يَا عَلِيُّ، لاَ يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ»(4). إنّ عليّاً ميزان توزن به الفطرة والطينة. فمن كان ذا فطرة سليمة وطينة طاهرة لا يبغضه حتّى لو ضرب خيشومه. ومن كان ذا فطرة ملوثة لا يحبه حتّى لو أحسن إليه كلّ الإحسان، لأنّ عليّاً(عليه السلام) ليس سوى الحقّ متجسداً. ها هو رجل من محبي عليّ أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ذو فضيلة وإيمان، ولكن مما يؤسف له أ نّه قد زلت قدمه، فكان لابدّ من اجراء الحد عليه. قطع عليّ(عليه السلام)أصابعه اليمنى، فأمسك بها بيده اليسرى ومضى وقطرات الدم تنزف منه. فأراد ابن الكواء أن يستغل هذا الحدث لمصلحة أصحابه الخوارج وضد عليّ(عليه السلام) فتقدم نحوه وقد ارتدى ملامح التعطف والترحم وسأله: «من قطع يمينك؟». فقال: «قطع يميني سيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين وأولى الناس بالمؤمنين، عليّ بن أبي طالب، إمام الهدى... السابق إلى جنات النعيم، مصادم الأبطال، المنتقم من الجهال، معطي الزكاة... الهادي إلى الرشاد، والناطق بالسداد، شجاع مكي، جحجاج وفي...». فقال ابن الكواء: «الويل لك! يقطع يمينيك وتثني عليه!». فقال: «كيف لا أثني عليه وقد خالط حبه لحمي ودمي! والله ما قطع يدي إلاّ بما أنزله الله»(5). هذه النماذج من العشق والولوع الّتي نراها في تاريخ عليّ وأصحابه تجرنا إلى مسألة المحبة والحب وآثارهما.
يطلق شعراء الفرس على العشق لفظة (إكسير) وكان أصحاب الكيمياء يعتقدون أن في العالم مادة أسموها «الإكسير»(6) أو «الكيمياء» تستطيع أن تحيل المادة إلى مادة أُخرى، فراحوا يبحثون عن هذه المادة قروناً طويلة. وقد استعمل الشعراء هذا المصطلح وقالوا: إنّ الإكسير الحقيقي القادر على التغيير والتحويل هو الحب، فالحب هو القادر على قلب الماهيات. العشق هو الإكسير وله خصائص الكيمياء، أي إنّه يبدل المعدن معدناً آخر، والناس معادن. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة». الحب هو الّذي يجعل القلب قلباً، فلولا الحب لكان القلب مجرد ماء وطين. ومن آثار الحب والقوّة والقدرة. إنّه يخلق القوّة ويحيل الجبان شجاعاً. إنّ الدجاجة ما دامت وحيدة تطبق جناحيها وتدرج في هدوء، وقد تمد رقبتها لتلتقط دودة، وتفزع هاربة من أتفه صوت، ولا تبدي أية مقاومة حتّى أمام الطفل الضعيف. إلاّ أن هذه الدجاجة نفسها إذا صارت أُمّاً، وتمكن الحب من حنايا كيانها، تغير حالها، فتراها وقد أنزلت جناحيها في حالة التهيؤ للدفاع، وتتخذ هيئة المحارب، وحتّى صوتها يمتلىء قوة وشجاعة.. كانت من قبل تهرب عند استشعار الخطر، أمّا الآن فإنّها تهجم عند استشعار الخطر، وتهجم بكلّ جرأة، إنّه الحب الّذي أحال هذه الدجاجة الجبانة إلى حيوان جريء وشجاع! إنّ الحب يحيل الثقيل الكسول إلى خفيف سريع الحركة، بل إنّه يحيل الأحمق إلى ذكي حادّ الذهن. هذا الفتى وهذه الفتاة اللذين لم يكونا يفكران ـ وهما خليلين ـ إلاّ فيما يخصهما وحدهما، أصبحا ـ بعد ن ارتبطا برباط الزواج وتكوين العائلة ـ لا يفكران إلاّ فيما يخص الطرف الآخر، فتتداخل أشعة مطاليبهما، وما أن يرزقا بالوليد حتّى يتغيران كلّ التغير. فذاك الفتى المتثاقل الكسول غداً سريعاً كثير الحركة، وتلك الفتاة الّتي لم تكن تغادر الفراش إلاّ بعناء، أمست الآن كالبرق الخاطف انطلاقاً إذا سمعت صوت طفلها النائم في المهد. ترى ما تلك القدرة الّتي أزالت ذلك الكسل والتراخي واستبدلته بكلّ هذا النشاط والحركة؟ إنّها الحب ليس غير! إنّه الحب الّذي يحيل البخيل كريماً، والعجول صبوراً! إنّه الحب الّذي يجعل من الدجاجة الأنانية الّتي لم تكن تفكر إلاّ في نفسها، وتلتقط الحب لحياتها، حيواناً جواداً إذا وجدت حبة نادت فراخها. وإنّه الحب الّذي يجعل من الأُم الّتي كانت بالأمس القريب أنانية، مغرورة، كسولة تستعجل الأُمور ثائرة الأعصاب، ضعيفة البصر، قليلة التحمل، امرأة عجيبة في صبرها وتحملها ورضاها بالجوع والعطش والتعب وقلة النوم وانعدام الأناقة وتحمل مشاق الأُمومة. إن من آثار الحب الرقة واللطف وتجنب الخشونة والفظاظة، ومن آثاره تلطيف العواطف والأحاسيس، وكذلك التوحيد والتوحد والتركيز، والقضاء على التشتت والتفرق، ومن بلوغ القوّة الحاصلة من الاتحاد والتجمع. أمّا في الشعر والأدب فإنّنا نصادف أثراً واحداً من آثار الحب، وهو فيض الوحي والإلهام، يقول حافظ الشيرازي ما ترجمته: (البلبل من فيض الورد تعلم الكلام، وإلاّ ما كان *** كل هذا القول والغزل معبأ في منقاره)(7) فعلى الرغم من أن المعنى الظاهري لكلمة «فيض» أمر خارج عن وجود البلبل، إلاّ أ نّه ليس في الحقيقة سوى قدرة الحب. لا تظنن مجنوناً أُضيب بالجنون جزافاً *** فهو «مجذوب» ليلى من قرنه إلى قدمه)(8) إن الحب يوقظ القوى النائمة ويطلق الطاقات المقيدة. مثل ذلك انفلاق الذرة وانطلاق طاقاتها. إنّه يلهم، ويصنع الأبطال. وما أكثر الشعراء والفلاسفة والفنانين الّذين خلقهم حب قوي! الحب يوصل النفس إلى كمالها ويظهر المواهب الكامنة المحيرة. إنّه يلهم القوى المدركة، ويقوي مشاعر الإرادة والعزيمة. وإذا ما تسامى في العلى صنع الكرامات وخوارق العادات. إنّه يطهر الروح من الأخلاط والشوائب. فالحب، بعبارة أُخرى، يصفّي. إنّه يمحو الصفات الرذيلة الناشئة من الأنانية أو من البرود وانعدام الحرارة، كالبخل، والتقتير، والجبن، والكسل، والتكبر والعجب. إنّه يزيل الحقد والحسد، وإن قيل أن الحرمان والإخفاق في الحب يمكن أن يخلقا بدورهما الحقد والعقد. (بالحب يحلو كلّ مر *** بالحب يصيح النحاس ذهباً)(9) أثر الحب على الروح اعمار وبناء، وعلى الجسم تذويب وتخريب. إنّ أثره في الجسم عكس تأثيره في الروح، فهو في الجسم باعث على خرابه واصفراره ونحوله وسقمه واختلال هامته وأعصابه، وغير ذلك من صور الهدم والتخريب... ولكنه في الروح ليس كذلك، بحسب موضوع الحب، وما يريديه المحب منه. فإذا تجاوزنا آثار الحب الاجتماعية، فإنّه من حيث آثاره الروحية الفردية تكميلي، لأ نّه يولد القوّة والرقة والصفاء والاتحاد والهمة، ويقضي على الضعف والجبن والكراهية والتفرق والبلادة، وينقي الروح من الشوائب الّتي هي «الدسّ» بتعبير القرآن، ويزيل الغش ويجعل العيار خالصاً.
إن الحب ـ بصرف النظر عن نوعيته، حيواناً جنسياً كان أم حيوانياً أو إنسانياً نسلياً، وبصرف النظر عن مزايا الحبيب وصفاته من شجاعة وبطولة وفن وعلم، أو كان ذا أخلاق وآداب وصفات خاصة ـ يخرج المرء من الفردية والأنانية. الأنانية تقيد وتحديد، والحب يحطم هذه القيود والحدود. وما لم يخرج الإنسان من ذاته يكون ضعيفاً، خائفاً، بخيلا، حسوداً، شريراً، عجولا، محباً لذاته، متكبراً، كليل الروح، فاتر الهمة والنشاط، منطفئاً دائم البرود. ولكنه ما إن يضع قدمه خارج «ذاته» ويحطم ما أحاط نفسه به من حدود، حتّى تتلاشى كلّ تلك الصفات الرذيلة. إن الأنانية بذلك المفهوم القبيح الّذي ينبغي التخلص منه ليس تلك الحالة الوجودية أو العلاقة الوجودية الّتي تربط الإنسان بذاته وكينونته. إذ لا معنى لأن يسعى المرء كيلا يحب نفسه. إن «حب الذات» الّذي جبل عليه الإنسان لم يخلق عبثاً لكي يحاول اجتثاثه من دخيلته. إنّ صلاح الإنسان وبلوغه الكمال لا يعني أن هناك مجموعة من الأُمور الزائدة قد عبئت في ذاته، فعليه أن يسعى لإزالة تلك الأُمور الزائدة المذمومة المضرة، وبعبارة أخرى: تكامل الإنسان لا يكون بالحذف منه، بل بالاضافة إليه. إن الواجب الملقى على كاهل الإنسان هو السير نحو الاكتمال، وهذا يكون بالاستزادة، لا بالانتقاص.
أمّا الصراع مع «حب الذات» فهو الصراع مع «محدودية الذات» وضيقها. فالذات ينبغي أن تزداد سعة، وهذا الحصار الّذي ضربته حول نفسها ـ ذلك الحصار الّذي يجعلها لاترى إلاّ ما يخصها هي بالذات ويبعدها عن رؤية ما للآخرين ـ يجب أن يتحطم، لتتسع شخصية الإنسان فتسع الآخرين بل تسع العالم كله. إذن... فالنضال ضد «حب الذات» يقصد به النضال ضد هذا الحصار، ضد الحدود والقيود الّتي تحد ذات الإنسان. فالمقصود بحب الذات هنا ليس سوى محدوية الفكر وضيقه. ويأتي الحب ليحول ميول المرء ورغباته من داخل ذاته إلى خارجها، ويوسع من حدود كيانه ويغير من طبيعة وجوده. وعلى هذا فالحب من العوامل الكبيرة في التربية الأخلاقية، إذا ما وجد الهداية الصحيحة واستغل الاستغلال النافع.
إن التعلق بشخص أو بشيء، إذا بلغ أوج شدته بحيث أ نّه يكتسح وجود الإنسان ويسخره ويصبح الحاكم المطلق عليه، يكون هو الحب أو العشق، وهو القمة من المشاعر والعواطف. إلاّ أننا ينبغي ألاّ نظن أن هذا الّذي أطلقنا عليه اسم (الحب) نوع واحد. كلا، إنّه نوعان مختلفان كلّ الاختلاف. إن الآثار الحسنة الّتي سبق ذكرها تختص بأحد النوعين. أمّا آثار النوع الآخر فهدامة مخربة، على النقيض من الأوّل. إن لمشاعر الإنسان مراتب ودرجات. بعضها ينطوي تحت مقولة الشهوات، وعلى الأخص الشهوة الجنسية، وهذا مما يشترك فيه الإنسان والحيوان، إلاّ انها في الإنسان تصل إلى درجة الغليان أحياناً لأسباب لا مجال لذكرها الآن، فيطلق عليها ـ لذلك ـ اسم الحب، ولكنها ليست بهذه الصورة في الحيوان أبداً. ولكنها على كلّ حال ليست سوى فوران الشهوة وطغيانها، بادئة بالغريزة الجنسية ومنتهية بها. وإنّما يرتبط ارتفاعها وانخفاضها إلى حد كبير بالنشاط الفزيولوجي في أعضاء التناسل وبقوة الحيوية في الشباب، وضعفها التدريجي في الشيوخ. أن الشاب الّذي يرتجف كلما رأى وجهاً مليحاً وشعراً جعداً، ويتلوى على نفسه كلما لمس يداً ناعمة ظريفة، فليعلم أن الأمر ليس سوى الجريان المادي الحيواني.. هذا النوع من الحب سريع المجيء سريع الذهاب، لا يعتمد عليه، ولا يقبل نصيحة. إنّه خطر يقتل الفضيلة، ولا يمكن درء خطره إلاّ بالعفاف والتقوى وعدم الاستسلام. أي إن قوة هذا الحب لا تسوق الإنسان نحو أية فضيلة. ولكنه إذا نقذ إلى كيان المرء ووقف وجهاً لوجه مع العفاف والتقوى، واستطاعت النفس أن تتحمل ضغطه دون أن تستسلم، فهو عندئذ يمنح الروح قوة وكمالا. في الإنسان نوع آخر من المشاعر تختلف في حقيقتها وماهيتها عن الشهوة، ولنا أن نطلق عليه اسم «العاطفة» أو، كما يسميه القرآن «المودة» و «الرحمة». عندما يكون الإنسان تحت تأثير شهواته، لا يكون قد خرج من ذاته، فهو يرغب في الشخص أو الشيء ويريده لنفسه ويلح في طلبه. فإذا فكر في الحبيب فإنّما يفكر كيف ينال وصاله ويبلغ أقصى المتعة منه. بديهي أن هذه الحالة لا يمكن أن تكمل الإنسان وتربي روحه وتهذبها. إلاّ أنّ الإنسان قد يقع تحت تأثير عواطفه الإنسانية السامية، فيصبح المحبوب والمعشوق في نظره شيئاً عظيماً محترماً يتمنى له السعادة، ويفتدي رغباته بنفسه. هذه العواطف تخلق في المرء مشاعر الصفاء والحميمية واللطف والرقة ونكران الذات، بخلاف النوع الأوّل الّذي يقوم على الغلظة والحيوانية والإجرام. إنّ من أمثلة النوع الأخير محبة الأُم لأطفال. إنّ هذا النوع من العواطف هو الّذي إذا بلغ أوج قوته وكماله أوجد تلك الآثار الطيبة الّتي ذكرناها. وهذا النوع هو الّذي يمنح النفس جلالها وعظمتها وشخصيتها، بخلاف النوع الأوّل الّذي يجعل صاحبه وضيعاً حقيراً. إن هذا النوع هو الحب المكين الّذي يزداد بالوصال شدة وحدة، بخلاف النوع الأوّل الّذي يكون سريع الانهيار، وفي الوصال نهايته. يصف القرآن الكريم العلاقة بين الزوجين بالمودة والرحمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً لِتَسْكُـنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(10). وفي هذا شيء كثير من السمو، فهو يشير إلى الجانب الإنساني المترفع عن الحيوانية في الحياة الزوجية، وإلى أن عامل الشهوة ليس الرابط الطبيعي الوحيد فيها، بل إنّ الرابط الأصيل فيها هو الصفاء والحميمية واتحاد الروحين وبعبارة أخرى: إنّ ما يجمع الزوجين ويوحّد بينهما هو حرارة المحبة والمودة والصفاء، لا تلك الشهوة الموجودة في الحيوانات أيضاً. إنّ الفلاسفة الماديين لم يستطيعوا إنكار هذه الحالة الروحية الّتي لها جوانبها غير المادية والّتي لا يرونها تنسجم مع معادية الإنسان. يقول برتراند راسل في كتابه (الزواج والأخلاق): «إنّ العمل الّذي لا يستهدف إلاّ الربح لن تكون له نتائج مفيدة فلبلوغ هذه النتائج يلزم اختيار عمل ينطوي على الإيمان بفرد أو بشيء. كذلك الحب، فهو إذا استهدف وصال الحبيب فحسب كان على مستوى العمل طلباً للربح نفسه، ولم يزد شيئاً في كمال شخصيتنا. وللوصول إلى هذه الغاية ينبغي على المحب أن يرى «الأنا» في الحبيب مثل «الأنا» في ذاته أهمية، وأن يعتبر مشاعر الحبيب ورغباته مشاعره هو ورغباته». ثمة نقطة أُخرى جديرة بالتذكر، وهي ما قلناه عن أ نّه حتّى الحب الشهواني قد يكون ذا فائدة، ولا يكون ذلك إلاّ إذا صاحبته التقوى والعفاف، فالنأي والحرمان من جهة، والعفاف والطهارة من جهة أُخرى، تسبب العذاب والضغط والألم للروح، فتكون لها آثار نافعة.
وفي هذا يقول المتصوفون: إنّ الحب المجازي يتحول إلى حب حقيقي، إلى حب الله ذاته. وفي هذا ـ أيضاً ـ يروي أن «من عشق، وكتم، وعف، ومات، مات شهيداً». ولكن ينبغي أن لا يغرب عن بالنا أنّ هذا النوع من الحب ـ على الرغم مما قد يكون فيه من فائدة ـ ليس مما يمكن تحبيذه. إنّه لواد ذي خطر، ويشبه في هذا المصيبة الّتي تحيق بالمرء، فإن واجهها بالصبر والرضى، كانت مكملة لشخصه ومطهرة لنفسه، فتضج الغِر، وتصفي الكدر، ومع ذلك فالمصيبة لا يمكن تحبيذها، إذ ليس من المعقول أن يستنزل المرء على نفسه المصائب، ولا على غيره بهدف الوصول عن طريقها إلى تلك الفوائد. إنّ لبرتراند راسل في هذا أيضاً قول جميل: «العذاب يملأ الناس بالطاقة كالثقل الثمين. إنّ من يجد نفسه سعيداً كلّ السعادة لن يبذل أي جهد للاستزادة منها. إلاّ أ نّني لا أرى في هذا عذراً مقبولا يدفعنا إلى تعذيب الآخرين لحملهم على التقدم نحو الخير، لأنّ ذلك في أغلب الأحيان يؤدي إلى عكس المطلوب ويحطم الإنسان. وعليه فالأفضل أن نستسلم لما يصادفنا في منعطفات مسيرة الحياة»(11). إنّ الإسلام ـ كما نعلم ـ يذكر كثيراً آثار البلايا وفوائدها، وأ نّها من ألطاف الله تعالى، إلاّ أ نّه لا يجيز لأحد اتخاذ ذلك ذريعة لخلق المصائب للنفس أو للآخرين. ثم إنّ هناك اختلافاً بين الحب والمصيبة، وهو أنّ الحب من أشد العوامل الأُخرى «مجانبة للعقل» فحيثما وضع الحب قدمه أنزل العقل عن عرش سلطانه. ولهذا نجد الأدب الصوفي يشير إلى العشق والعقل كرقيبين. ومن هنا ـ أيضاً ـ جاء التضاد بين الفلاسفة والمتصوفة، فأولئك يعتمدون العقل هادياً، وهؤلاء يتخذون الحب مرشداً. والمتصوفة في أدبهم يجعلون العقل محكوماً عليه ومغلوباً في ميدان التنافس مع العقل. هذا سعدي يقول ما ترجمته: (ينصحني الّذين يريدون لي الخير: *** صنع اللَّبن فوق البحر لا جدوى فيه) (ان قوة الشوق تغلب الصبر *** ودعوى العقل على العشق باطلة) ويقول آخر ما ترجمته: قارنت حكمة العقل في طريق الحب *** فكان كقطر الندى يرسم على مياه البحر) إنّ طاقة تكون بهذه القوّة وتأخذ زمام الاختيار من يد الإنسان، وكما يقول مولوي: «تجعل المرء كريشة في مهب الرياح» أو كما يقول برتراند راسل: «هي أقرب إلى الفوضى» كيف يمكن الدعوة لها والايصاء بها؟ ومهما يكن، فكون الأمر مقيداً شيء، وتجويزه والإيصاء به شيء آخر. وعليه، فليس هناك ما يدعو لقبول اعتراض بعض المتشرعين على بعض فلاسفة الإسلام(12) لتطرقهم في بحث الإلهيات إلى آثار الحب وفوائده، وذلك لأ نّهم اعتقدوا أنّ أُولئك الفلاسفة يعتبرون الإيصاء بالحب جائز، مع أ نّهم قصدوا إلى ذكر فوائده في جو من التقوى والتعفف، ولم يقولوا بجوازه أو الايصاء به، كما هي الحال مع المصائب والبلايا تماماً.
قلنا: إنّ الحب لا يقتصر على الحب الحيواني الجنسي، ولا الحب الحيواني النسلي، بل إنّ هناك نوعاً آخر ينمو في جو أعلى وأرفع، خارج حدود الماديات، ويستمد وجوده مما وراء غريزة بقاء النوع. وهو ـ في الحقيقة ـ الحد الفاصل بين عالم الإنسان وعالم الحيوان. إنّه الحب المعنوي الإنساني. إنّه تعشق فضائل الإنسن وما فيه من خير، والولوع بالسجايا الإنسانية وجمال الحقيقة. وهذا الحب هو الّذي يرد كثيراً في القرآن تحت ألفاظ «المحبة» وأحياناً «الود» أو «المودة». ويمكن تقسيم الآيات الخاصة بهذا في القرآن إلى عدة أقسام، فمنها: 1 ـ الآيات الّتي وردت في وصف المؤمنين وتتحدث عن حبهم العميق لله أو للمؤمنين: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً لِلّهِ)(13). (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا اُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(14). 2 ـ الآيات الّتي تتحدث عن حب الله للمؤمنين: (إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ)(15). (وَاللّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)(16). (إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ)(17). (وَاللّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ)(18). (إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)(19). 3 ـ الآيات الّتي تتضمن الحب المتبادل بين الطرفين، حب الله للمؤمنين وحب المؤمنين لله، وحب المؤمنين بعضهم بعضاً: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)(20). (فَسَوْفَ يَأتِي اللّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)(21). (إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً)(22). (وَجَعَلَ بَـيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(23). وهذا هو الحب الّذي أراده إبراهيم لذريته(24)، وما طلبه نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم)لأهله بأمر من الله(25). ويستفاد من الروايات أن روح الدين وجوهره ليس سوى الحب والمحبة. يقول بريد العجلي: كنت في حضرة الإمام الباقر(عليه السلام) فدخل عليه مسافر من خراسان كان قد قطع تلك المسافة الطويلة للتشرف برؤية الإمام، فعندما نزع نعليه رأيت الشقوق في قدميه. قال: والله لم يأت بي آت من حيث جئت سوى حبكم أهل البيت. فقال الإمام(عليه السلام): والله لو أحبنا حجر لحشره الله معنا «وهل الحب إلاّ الحب»(26). قال رجل للإمام الصادق(عليه السلام): إننا نسمي أبناءنا بأسمائكم وأسماء آبائكم. أينفعنا هذا في شيء؟ فقال الإمام: «نعم والله. وهل الدين إلاّ بالحب. ثمّ تلا الآية الشريفة: (إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)(27). إنّه الحب الّذي يحمل على الطاعة، فالعاشق لن يتأتى له أن يتقاعس عن تحقيق إرادة المعشوق. إنّنا نرى هذا بأعيننا، فهذا الشاب العاشق يضحي بكلّ شيء في سبيل معشوقته. إن إطاعة الله وعبادته تكون بمقدار حب الإنسان لله تعالى. قال الإمام الصادق(عليه السلام): تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إنّ المحب لمن يحب مطيع |
(1) نهج البلاغة: الحكمة 139. (2) نهج البلاغة: الحكمة 149. (3) ينقل جلال الدين السيوطي في الدر المنثور في شرح الآية السابقة من سورة البينة، عن ابن عساكر عن جابر بن عبدالله الأنصاري قوله: كنت في حضرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دخل عليّ، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «والّذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة». وقد ورد مضمون هذا الحديث باسلوب آخر في كنوز الحقائق للمناوي في روايتين، وفي مجمع الزوائد للهيثمي، وفي الصواعق المحرقة لابن حجر. (4) نهج البلاغة: الحكمة 42. (5) البحار: 40/281 و282 ط حديثة، والتفسير الكبير لفخر الدين الرازي، ذيل الآية 9 من سورة الكهف. (6) جاء في البرهان القاطع عن الإكسير: أ نّه جوهر مذيب ومازج ومكمل، وهو يحول النحاس إلى ذهب، كما أ نّهم يطلقون هذه الكلمة على العقاقير النافعة، وعلى رأي المرشد الكامل، من باب المجاز. وهذه الخصائص الثلاثة ـ في الحقيقة ـ موجودة في الحب، فهو يذيب ويمزج ويكمل. إلاّ أن وجه الشبه المعروف هو هذه الخصيصة الأخيرة، أي التغيير التكميلي. ولذلك فالشعراء قد يسمّون الحب بالطبيب والدواء وأفلاطون وجالينوس... الخ. (7) لسان الغيب حافظ الشيرازي. (8) للعلاّمة الطباطبائي. (9) المثنوي المعنوي ترجمة. (10) الروم: 21. (11) برتراند راسل (زناشوئي وأخلاق): 134. (12) مثل ابن سينا في (رسالة العشق) وصدر المتألهين في السفر الثالث من أسفاره. (13) البقرة: 165. (14) الحشر: 9. (15) البقرة: 222. (16) آل عمران: 148. (17) التوبة: 4 و7. (18) التوبة: 108. (19) المائدة: 42. (20) آل عمران: 31. (21) المائدة: 54. (22) مريم: 96. (23) الروم: 21. (24) إشارة إلى الآية 37 من سورة إبراهيم. (25) إشارة إلى الآية 23 من سورة الشورى. (26) سفينة البحار: 1/201 مادة «حب». (27) المصدر نفسه: 622 مادة «سما» والآية من آل عمران31. |