الحب في المجتمع قوة عظيمة ومؤثرة. خير المجتمعات تلك الّتي تدار بقوة الحب: حب الزعيم والحاكم للناس، وحب الناس وتعلقهم بزعيمهم وقائدهم. إن حب الحاكم عظيم في استقرار الحكومة ودوامها. فبغير عامل الحب لا يستطيع قائد أن يقود، وإذا استطاع فبصعوبة بالغة، بحيث يربي أفراد الناس على الانضباط والتزام القانون، حتّى وإن أقام العدل والمساواة بينهم، وفي هذه الحالة سيلتزم الناس القانون، ومن هذا المنطلق سوف يتوقعون أن يروا في قائدهم أمارات الحب، وهذا الحب هو الّذي يحمل الناس على الطاعة والتسليم. وها هو القرآن يخاطب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (فَبَِما رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(1). فالقرآن يرى سبب حب الناس للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحب الّذي يبديه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نحوهم. ومع ذلك فإنّه يوصيه بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويستشيرهم في أُمورهم. كلّ ذلك من آثار المحبة والمودة، كما أنّ الرفق والحلم والصبر جميعاً من شؤون الحب أيضاً. ويقول القرآن أيضاً: (وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّـئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَـيْنَكَ وَبَـيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(2).
الإمام عليّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) يوصي مالكاً الأشتر عند توليته مصر بقوله:
«وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ ... فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ»(3). قلب الحاكم يجب أن يكون منبع العطف على الأُمة والمحبة لها، فالقوة والعنف لا يكفيان، فبهذين يمكن سوق الأُمة سوق الأغنام، ولكن لا يمكن بهما ايقاظ ما في داخلهم من طاقات كامنة للعمل. لا القوّة والعنف وحدهما، بل إنّ العدالة الجافة لا تكفي معهما أيضاً... إنّ على الحاكم أن يحب الناس حباً أبوياً بجماع قلبه، وأن يظهر لهم مودته وعطفه، ولابدّ أن يكون ذا شخصية جذابة تصنع المحبين، لكي يستطيع أن يضع إرادتهم وهمتهم وطاقاتهم الإنسانية العظيمة الخلاقة في خدمة هدفه المقدس.
كان البحث السابق في الحب وآثاره مقدمة للتوصل إلى النتائج الّتي سوف نتناولها بالبحث فيما يلي: إنّ أهم بحث من بحوثنا ـ وهو بحثنا الأصل في الواقع ـ هو معرفة ما إذا كان حب الأولياء والصالحين يعتبر هدفاً بحد ذاته والوسيلة الفضلى لتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق وكسب السجايا والفضائل الإنسانية. في الحب الحيواني، يتوجه كلّ اهتمام العاشق وعنايته إلى صورة الحبيبة وتناسق أعضائها وجمال ملامحها وطراوة بشرتها، وفي هذا الحب تكون الغريزة هي الّتي تجذب الإنسان وتلهب فيه الرغبة، ولكن بعد أن يشبع شهوته يخبو ذلك اللهيب وتبرد حرارته وتنطفىء شعلته. أمّا الحب الإنساني، فهو الحياة وهو الّذي يصنع الأتباع الطائعين، كما قلنا.. إنّ الحب هو الّذي يشاكل بين العاشق والمعشوق، فيسعى المحب لأن يكون مظهراً من مظاهر الحبيب ونسخة من سلوكه، كما يقول الخواجة نصيرالدين الطوسي في شرح إشارات ابن سينا: «والنفساني هو الّذي يكون مبدؤه مشاكلة نفس العاشق لنفس المعشوق في الجوهر، ويكون أكثر اعجاباً بشمائل المعشوق لأ نّها آثار صادرة عن نفسه... وهو يجعل النفس لينة شيقة ذات وجد ورقة، منقطعة عن الشواغل الدنيوية»(4). فالحب يسوق الإنسان نحو المشابهة والمشاكلة، وما فيه من قدرة تجعل المحب يكون بشكل المحبوب. الحب كأسلاك الكهرباء الّتي تصل بين المحبوب والمحب. فتنقل إليه صفات المحبوب. ولهذا كان لاختيار المحبوب أهمية بالغة. ولذلك أولى الإسلام اهتماماً كبيراً بموضوع اختيار الأحبة والأصدقاء، وقد وردت في ذلك آيات وروايات كثيرة، لأنّ الصداقة تصطنع الصبغة وتصطنع الجمال، وتصطنع الغفلة، فحيثما ألقت بأشعتها قلبت العيوب فنوناً، وأحالت الأشواك ورداً وريحاناً»(5). وهناك آيات وأحاديث تحذر بشدة من مصاحبة رفاق السوء وتبادل الود معهم، وفي أُخرى حث على مصادقة الأخيار الأطهار. قال ابن عباس: كنا في حضرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فسألوه: من خير جليس؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «من ذكّركم بالله رؤيته، وزادكم في عملكم منطقه، وذكّركم بالآخرة عمله»(6). ما أحوج الإنسان إلى إكسير حب الصالحين والأطهار، إلى أن يحبهم ويصطبغ بصبغتهم! هنالك عدة طرق لتهذيب النفس وإصلاح الأخلاق، كما أن هناك مدارس مختلفة لذلك، منها مدرسة سقراط الّتي ترى أنّ على المرء أن يعتمد العقل في إصلاح نفسه، فيلزمه أوّلا أن يدرك فوائد تزكية النفس ومضار اختلال الأخلاق، ثمّ يقوم بواسطة آلة العقل بالبحث عن الصفات المذمومة واحدة واحدة فيقتلعها كما يقتلع المرء الشعيرات من داخل أنفه واحدة واحدة، أو كالزارع الّذي يقتلع الحشائش الضارة من أرضه، أو ينظف قمحه مما فيه من أحجار وصخيرات بيده، وبذلك يكون قد نظف بيدر حياته من الشوائب. وعلى وفق هذا الاسلوب لابدّ من الالتزام الصبر والجلد والدقة في الحساب والتفكير لكي يمكن بالتدريج إزالة المفاسد الأخلاقية وتنقية ذهب الوجود من أوشابه، ولربما أمكن القول بأنّ ذلك غير متيسر للعقل أن يضطلع به. الفلاسفة يريدون اصلاح الأخلاق من العقل والفكر والتفكير. فهم يقولون مثلا: إن العفة والقناعة في نظر الناس هما اللذان يؤديان إلى عزة الإنسان وشخصيته، وإنّ الطمع والجشع هما باعثا الذلة والضعة. أو يقولون: إنّ العلم سبب القوّة والقدرة، وإنّه كذا وكذا، وإنّه «خاتم ملك سليمان» وإنّه سراج في طريق الإنسان ينير له الطريق ويكشف المهاوي. أو يقولون: الحسد وإرادة السوء للناس دليل مرض نفسي له عواقب اجتماعية سيئة، وما إلى ذلك من أقوال. لاشك في أن هذا طريق صحيح، وأنّ هذه وسيلة جيدة. ولكن الكلام يدور على قيمة هذه الوسيلة بالقياس إلى وسيلة أُخرى، كالقول بأن السيارة وسيلة جيدة، ولكن ينبغي معرفة درجة جودتها بالنسبة للطائرة مثلا. نحن ـ قبل كلّ شيء ـ لا نجادل في قيمة العقل من حيث عمله الإرشادي، أي إلى أي مدى تكون الاستدلالات العقلية قادرة على اظهار الواقع في القضايا الأخلاقية ومدى صحتها وعدم صحتها. ولكن الّذي نريد أن نقوله هو أن المدارس الفلسفية الأخلاقية والتربوية لا تعد ولا تحصى، وما زالت هذه القضايا الاستدلالية تدور ضمن حدود البحث واختلافات وجهات النظر، وفي هذا يقول أهل التصوف: (قوائم الاستدلال خشبية *** والقوائم الخشبية جد غير مكينة) إنّنا لا نبحث هذا في الوقت الحاضر، وإنّما نبحث في المدى الّذي يبلغه. إنّ رجال العرفان والسير والسلوك قالوا باستبدال طريق العقل والاستدلال بطريق المحبة والولاء. يقولون: ابحث عن الإنسان الكامل، ضع حبل حبه والولاء له في عنق قلبك، فذلك أقل خطراً من الاستدلال وأسرع في بلوغ المرام. من حيث المقارنة بين هاتين الوسيلتين فإنّهما تكونان كالمكائن اليدوية القديمة والمكائن الآلية الحديثة. إنّ تأثير قوة الحب والولاء في إزالة الرذائل الأخلاقية من القلب أشبه بتأثير المواد الكيماوية على المعادن. فصانع (الكلايش) مثلا يزيل أطراف الحروف الطباعية بالتيزاب، لا بظفره أو بالسكين. ولكن تأثير قوة العقل في اصلاح المفاسد الأخلاقية أشبه بمن يريد أن يفصل ذرات الحديد عن التراب باليد، فكم سيكون عناؤه وتعبه في هذا السبيل؟! إذ لو كان بيده مغناطيس قوي لاستطاع بإدارة المغناطيس دورة واحدة في التراب أن يجتذب كلّ ذرات الحديد مرة واحدة. إنّ قوة المحبة والولاء هي المغناطيس الّذي يجمع الصفات الرذيلة ويلقي بها بعيداً. يرى أهل العرفان أنّ حب الأطهار والكاملين والولاء لهم يعمل كالجهاز الآلي الّذي يجمع الرذائل ويطرحها جانباً. فلو أصبح المرء مجذوباً بحقّ لكان في أحسن حال من الصفاء والنبوغ. نعم، إنّ الّذين سلكوا هذا الطريق طلبوا اصلاح الأخلاق من قوة الحب واعتمدوا في ذلك على قدرة العشق والولاء. ولقد دلت التجارب على أنّ مطالعة مئات الكتب الأخلاقية لم تؤثر بقدر أثر مصاحبة الصالحين وحبهم ومتابعتهم في الروح. يرمز (مولوي) بالناي إلى رسالة الحب، فيقول: (من رأى كالناي سماً وترياقاً معاً؟ *** من رأى كالناي جليساً وعاشقاً معاً؟) (إنّ من قُدّ بالحب قميصه *** طهر من الجشع والعيوب كلها) فمرحا لك أيها الحب ذو التعامل الحسن *** ويا طبيب عللنا كلها) نرى أحياناً بعض العظماء الّذين يقلدهم أتباعهم حتّى في طراز مشيتهم وملابسهم وتعاملهم وطريقة حديثهم. إنّ هذا التقليد ليس اختياراً، بل هو طبيعي يحدث بغير وعي وبتأثير قوة الحب والولاء الّتي تؤثر في جميع أركان وجود المحب، فتعمل على أن تجعله في جميع الأحوال أشبه بالحبيب. ولهذا فعلى كلّ امرىء يريد اصلاح نفسه أن يبحث عن أحد رجال الحقيقة فيمحضه حبه لكي يستطيع أن يصلح نفسه حقّاً. (إذا كان في رأسك هوى الوصال ـ يا حافظ ـ *** فعليك أن تصبح تراب أعتاب أهل الخبرة) إنّ الإنسان الّذي كان من قبل يتهاون كلما عنّ له أن يؤدي عبادة أو أن يعمل عملا صالحاً. أصبح بعد أن وافاه الحب والولاء وقد زايله الإهمال والتراخي، فرسخ عزمه وقويت همته: (حب الطيبين أخذ من الجميع قلوبهم ودينهم بغير وجل *** والرخ في الشطرنج لم يأخذ ما أخذه وجه الجميل) (لا تظنن مجنوناً أصيب بالجنون جزافاً *** فهو «مجذوب» ليلى من قرنه إلى قدمه) (إنّني لم أبلغ الشمس رفعة بنفسي *** فقد كنت ذرة صعد بي حبك إلى العلى) (إنّهما قوسا حاجبيك وكفك السماوية *** الّتي جالت في هذا المجلس وذهبت بقلب المجنون)(7) يشير التأريخ إلى رجال عظام أثار حب الكاملين والولاء لهم ـ في نظر المحبين في الأقل ـ ثورة في أرواحهم ونفوسهم. والشاعر (رومي) واحد من أُولئك، إذ أ نّه لم يكن منذ البداية بهذه الحرقة والثورة. كان عالماً هادئاً منصرفاً إلى التدريس في زاوية من مدينته. ولكنه منذ اليوم الّذي التقى فيه (شمس) التبريزي، وهب له قلبه وروحه وولاءه، فأحاله هذا إلى شخص مختلف وأشعل في قلبه النيران كالشرر إذ يصيب مخزناً للبارود. إنّه في الظاهر كان من الأشاعرة، إلاّ أنّ ديوانه (مثنوي) يعد من أعظم دواوين الدنيا. لقد نظم (ديوان شمس) في ذكر حبيبه ومراده، ويذكره في (مثنوي) كثيراً أيضاً، حيث نراه في هذا الديوان يرمي إلى أن يقول شيئاً، ولكنه ما إن يتذكر (شمساً) حتّى يضطرم في داخله طوفان عارم وتتلاطم فيه أمواج صاخبة، فينقلب هو موضوع الكلام. (ماذا أقول وليس فيَّ عرق مدرك *** في وصف ذاك الحبيب الّذي لا نظير له) (شرح هذا الهجران وهذا العذاب *** أتركه في هذا الوقت إلى وقت آخر) (لا تبحث عن الفتنة والاضطراب وإراقة الدماء *** فلا تتحدث أكثر من هذا عن شمس التبريزي) وهذا مصداق قول حافظ: (البلبل من فيض الورد تعلم الكلام وإلاّ ما كان *** كل هذا القول والغزل معبأ في منقاره)
في التاريخ الإسلامي نشاهد نماذج بارزة لم يسبق لها مثيل من حب المسلمين وتعلقهم بشخص رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا في الحقيقة واحد من الاختلافات بين مدرسة الأنبياء ومدرسة الفلاسفة، ففي هذه يكون الطلاب متعلمين فحسب، بغير أن يكون للأساتذة الفلاسفة أي تأثير في نفوس طلابهم أكثر من تأثير أي معلم في تلميذه. أمّا الأنبياء فنفوذهم من قبيل نفوذ الحبيب، ذلك الحبيب الّذي يكون قد نفذ إلى أعماق قلب محبه واستولى على جماع حياته ووجوده. ومن بين الّذين تولهوا في حب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أبوذر الغفاري. أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالتحرك يوماً إلى تبوك (على بعد حوالي مائة فرسخ شمال المدينة المنورة عند الحدود السورية). فاعتذر بعضهم بمختلف الأعذار، وقف المنافقون حجر عثرة في طريق ذلك.. ولكن تهيأ في النهاية جيش جرار. كانت تعوزهم التجهيزات العسكرية، ولم يكن معهم من الطعام إلاّ النزر اليسير بحيث كان بعضهم يسد جوعه بتمرات معدودات. إلاّ أ نّهم جميعاً كانوا أشد ما يكونون حيوية ونشاطاً، فقد كان الحب ينفث فيهم القوّة، وجاذبة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تزيدهم قدرة. كان أبو ذر ـ أيضاً ـ بين هذا الجيش المتجه إلى تبوك. وفي خلال الطريق تأخر ثلاثة أشخاص واحداً بعد واحد، فكانوا يخبرون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، فكان في كلّ مرة يقول:
«إذا كان فيه خير فسيرجعه الله، وإذا لم يكن فيه خير فخيراً فعل». وكان أبو ذر يركب جملا ضعيفاً نحيفاً لا يقوى على السير، فتأخر به عن الركب، فقيل لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إن أبا ذر قد تخلف أيضاً. فكرر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جملته تلك: «إذا كان فيه خيراً فسيرجعه الله، وإذا لم يكن فيه خير فخيراً فعل». ويواصل الجيش مسيره وأبو ذر متخلف عن لحاق الركب، لخور مطيته، ولم ينفع فيها ضرب ولا حث، فهجر البعير، وحمل متاعه على ظهره، وراح يمشي فوق الصخور المحرقة في ذلك الحر اللافح، وقد أوشك على الهلاك من شدة العطش. ووصل إلى صخرة في ظل جبل حيث كان ماء المطر قد تجمع في بركة صغيرة، فذاقه فإذا به عذب بارد، ولكنه امتنع عن الشرب قائلا: والله لن أشرب حتّى يشرب منه حبيبي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). وملأ قربته ووضعها على كتفه وأسرع خلف جيش المسلمين. رأى الجيش شبحاً بعيداً مقبلا عليهم، فقالوا: يا رسول الله: نرى شبحاً مقبلا علينا، فأخبرهم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أ نّه لابدّ أن يكون أبا ذر، وإذا اقترب عرفوه. نعم.. إنّه أبو ذر، ولكنه يكاد يقع على الأرض تعباً وعطشاً. وما أن وصل إلى حيث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى وقع على الأرض. فأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسرعوا إليه بالماء. فقال أبو ذر بصوت ضعيف: إنّ معي ماء. فتبسم(صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله: أمعك الماء وأنت تشرف على الهلاك عطشاً؟ فقال: يا رسول الله. عندما تذوقت الماء، أحزنني أن أشرب منه قبل أن يشرب منه حبيبي رسول الله(8). ترى في أية مدرسة من مدارس العالم يمكن أن نعثر على مثل هذا الوله والتشوق ونكرات الذات؟ نموذج آخر: بلال الحبشي نموذج آخر من المدلهين بحب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). كان طواغيت قريش في مكة يعذبونه أشد عذاب.. لا يطيقه إنسان. يرمونه على الرمال المحرقة في الصحراء الملتهبة، ويطلبون منه أن يذكر آلهتهم بخير وأن يذكر محمّداً بسوء. كان أبو بكر ينصحه بكتمان إسلامه، ولكنه لم يكن يطيق الكتمان. وقد أبدع الشاعر (رومي) في الإشارة إلى ذلك في قصيدة وردت في الجزء السادس من ديوانه (مثنوي). نموذج آخر: يذكر المؤرخون المسلمون حادثة شائعة معروفة من حوادث صدر الإسلام في غزوة الرجيع، ويوم الرجيع. في السنة الثالثة من الهجرة جاء جمع من قبيلتي (عصل) و (القارة) ـ وهما تشتركان حسب الظهر مع قريش في الأُصول وتسكنان حوالي مكة ـ إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: «لقد أسلم جمع منا، فنطلب إرسال عدد من المسلمين يشرحون لنا معنى الدين ويعلمونا القرآن ويفقهوننا في أُصول الدين وتعاليم الإسلام». فأرسل معهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ستة من أصحابه لذلك، برئاسة رجل اسمه (مرثد بن أبي مرثد) وقيل إنّه (عاصم بن ثابت). وصل مبعوثو رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أُولئك الأعراب الّذين كانوا قد قدموا إلى المدينة لهذا الغرض، ووصلوا إلى مكان تقطنه قبيلة هذيل، فنزلوا ليلتهم هناك، وفيما كان رسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يغطون في نومهم، وإذا بجمع من أفراد قبيلة هذيل تغير عليهم بسيوف مصلتة. واتضح أنّ الجمع الّذي وفد إلى المدينة كان يبيت الخدعة منذ البداية، أو عند وصولهم إلى هذه المنطقة استولى عليهم الطمع فغيروا رأيهم. على كلّ حال، يبدو أنّ هؤلاء قد اتفقوا مع قبيلة هذيل على أسر مبعوثي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وما إن أدرك الرسل جلية الأمر حتّى بادروا إلى أسلحتهم وامتشقوا سيوفهم للدفاع عن أنفسهم. إلاّ أنّ الهذليين أقسموا بأ نّهم لا ينوون قتلهم، وإنّما يقصدون تسليمهم إلى قريش في مكة لقاء مبلغ من المال، وأ نّهم يعاهدونهم على عدم قتلهم. فقال ثلاثة من الستة، وكان منهم عاصم بن ثابت: إننا لن نقبل أبداً بعار قبول عهد من مشرك. وقاتلوهم حتّى قتلوا. أمّا الثلاثة الآخرون، وهم: زيد بن دثنة، وخُبيب بن عدي وعبدالله بن طارق، فقد أظهروا اللين واستسلموا.
فأوثق الهذليون وثاق هؤلاء الثلاثة وتوجهوا إلى مكة. وقبيل وصولهم استطاع عبدالله بن طارق أن يحرر يديه من الوثاق وأن يصل إلى سيفه، إلاّ أن الأعداء لم يمهلوه بل قتلوه رجماً بالحجارة. وأخذوا زيداً وخبيباً إلى مكة وبادلوهما بأسيرين من هذيل كانا في مكة وعادوا من حيث أتوا. فجاء صفوان بن أُمية القرشي واشترى زيداً ممن اشتراه، قاصداً قتله انتقاماً لدم أبيه الّذي كان قد قتل في أُحد أو في بدر. فأخذوه إلى خارج مكة لقتله، واجتمع الناس لمشاهدة ما يجري. جيء بزيد إلى موضع الأضاحي. فتقدم زيد بقدم ثابتة دون أن يظهر عليه أي تخاذل أو خوف، وكان أبو سفيان أحد الحاضرين، فأراد أن يستغل هذه اللحظات الأخيرة من حياة زيد لعله يستطيع أن ينتزع منه كلمة ندم أو أسف أو إنكار لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). فتقدم إليه وخاطبه قائلا: «أحلفك بالله، ألا تحب الآن أن يقف محمد موقفك فتضرب عنقه ونعيدك سالماً إلى زوجتك وأطفالك؟». فقال زيد: «أقسم بالله إنّي لا أحب حتّى أن تشاك قدم محمّد بشوكة وأنا أُقيم بين أهلي وعيالي».
ففغر أبو سفيان فاه عجباً، والتفت إلى قريش وقال: «والله إنّي لم أر أصحاباً يحبون قائدهم كما يحب محمّداً أصحابه». وبعد فترة جاء دور خبيب بن عدي، فجاءوا به ليصلبوه خارج مكة. وهناك طلب أن يمهلوه حتّى يصلي ركعتين. فسمحوا له.. فصلى ركعتين بكلّ خشوع وتضرع ثمّ خاطب الجمع قائلا:
«والله لو لم أخش اتهامكم إياي بالخوف من الموت لصليت طويلا». وإذ أوثقوا خبيباً إلى أعواد المشنقة، رفع صوته الرخيم المؤثر الّذي نفذ إلى قلوب الحاضرين فألقى بعضهم أنفسهم على الأرض من شدة الخوف وهم يستمعون إلى خبيب بن عدي يناجي ربّه:
«اللّهمّ إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. اللّهمّ احصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً»(9).
نموذج آخر: نعرف من التاريخ أنّ حرب أُحد انتهت بما كان فيه الحزن والأسى للمسلمين، إذ استشهد فيها سبعون ألفاً من المسلمين وعلى رأسهم حمزة عم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). فقد انتصر المسلمون أول الأمر، ولكنهم بعد ذلك هوجموا على أثر ترك المسلمين مرتفعاً كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمرهم بحراسته وعدم التخلي عنه. فقتل بعض وتشتت بعض ولم يبق إلاّ القليل حول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يدافعون عنه، ومن ثمّ تمكنوا من وقف المشركين من التقدم. ومرة أُخرى استطاع ذاك النفر القليل من جمع شتات الجند وأوقفوا المشركين عند حدهم، وخاصة بعد شيوع خبر مقتل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الّذي أضعف من تماسك المسلمين. ولكنهم ما إن عرفوا أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يزال حياً حتّى عادت قوة الإيمان إلى قلوبهم. كان الجرحى مجندلين على الأرض لا يعلمون بما يجري من حولهم. كان سعد بن الربيع بين الجرحى ويحمل في جسده اثني عشر جرحاً. وفي غضون ذلك مر به أحد المسلمين الفارين وقال له: سمعت أنّ النبيّ قد قتل، فقال سعد: «أشهد أنّ محمّداً قد بلغ رسالة ربّه، فقاتل أنت عن دينك، فإنّ الله حي لا يموت». وبعد أن جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) جنده راح يتفقدهم واحداً واحداً ليعرف الحي من الميت منهم، فلم ير سعد بن الربيع، فقال: «من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هم أم في الأموات؟ فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر يا رسول الله ما فعل. فنظر وجده جريحاً في رمقه الأخير. فأخبره أنّ النبيّ قد أرسله ليبحث عنه. فقال سعد: فأبلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)مني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله خيراً عنا ما جزى نبيّاً عن أُمته، وأبلغ قومك السلام عني وقل لهم: إنّ سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيك ومنكم عين تطرف»(10). إنّ صفحات تاريخ صدر الإسلام مليئة بنماذج من هذا الولع العجيب والولاء الجميل. ليس في تاريخ البشر كله إنسان حظي بحب الرجال والنساء والأصحاب والكبار والصغار مثل ما حظي به النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)بحيث أ نّهم كانوا يحبونه إلى الحد الّذي رأيت. يقول ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ما خلاصته: «لم يكن أحد يسمع كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ ووقعت محبته في قلبه ومال إليه. لذلك فقد كان قريش يطلقون على المسلمين في مكة اسم (الصباة) وكانوا يقولون: نخاف أن يصبوا الوليد بن المغيرة إلى دين محمد. ولئن صبا الوليد، وهو ريحانة قريش، لتصبون قريش بأجمعها. وكانوا يقولون: إنّ في كلام محمد لسحراً أشد فعلا من الخمر. وكانوا ينهون أبناءهم عن مجالسته لئلا ينجذبوا إليه بسحر كلامه ويؤخذوا ببهاء طلعته. عندما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يجلس في حجر إسماعيل بزاوية الكعبة ويقرأ القرآن بصوت مرتفع، أو يذكر الله، كان المشركون يضعون أصابعهم في آذانهم لكيلا يسمعوه فيقعون تحت تأثير سحر كلامه وعذوبته فيميلون إليه. وكانوا يغطون رؤوسهم ووجوههم بأرديتهم حتّى لا يؤخذوا بسيماه الجذاب. لذلك كان أكثر الناس يقبلون على الدخول في الإسلام بمجرد سماع كلامه ورؤية ملامحه وتذوق حلاوة ألفاظه»(11). إنّ من بين حقائق الإسلام التاريخية، الّتي تثير اعجاب كلّ دارس للتاريخ وعالم بالإنسان وبالمجتمع، ذلك الانقلاب الّذي أحدثه الإسلام في حرب الجاهلية. فبموجب الموازين والحسابات العادية وبالطرق المألوفة في التربية والتعليم، يتطلب مجتمع كذاك إلى مضي زمان طويل حتّى ينقرض الجيل القديم الّذي ألِفَ الرذائل والفساد ويتربى جيل جديد مختلف. ولكننا هنا ينبغي ألا نغفل عن قوة الجذب والانجذاب الّتي قلنا: إنّها مثل ألسنة اللهب تحرق المفاسد من جذورها. كان أغلب أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يعشقونه العشق كلّ العشق، وإنّ مطية الحب الّتي ركبوها هي الّتي طوت لهم ذلك الزمن الطويل في فترة قصيرة، فغيروا مجتمعهم في أقصر وقت. |
(1) آل عمران: 159. (2) فصلت: 34. (3) نهج البلاغة. (4) شرح الإشارات: 3/383 ط جديدة. (5) إن في الحب عيوباً، منها أن العاشق ـ وقد استغرقه حسن المعشوق ـ بغفل عن رؤية ما فيه من عيوب، فحب الشيء يعمي ويصم، و «من عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه» كما يقول الإمام عليّ(عليه السلام). وهذا لا يتنافى مع ما قلناه من أنّ الحب يجعل الذكاء حاداً والإدراك أعمق، ويحيل القوّة إلى الفعلية. كما أن تأثير الحب السيىء ليس أن يحيل المرء إلى أبله، بل تنتابه الغفلة، والبلاهة والغفلة مختلفتان. فكثيراً ما يستطيع القليل الذكاء الابتعاد عن الغفلة بحفظ تعادل مشاعره. الحب يحد الذكاء، ولكنه يوجه النظرة والتوجه إلى اتجاه واحد، لذلك فقد قيل: إن أثر العشق التوحّد، ومن هذا التوحّد والتمركز يحصل العيب فيغفل الإنسان عن الالتفات إلى الأُمور الأُخرى. والأكثر من ذلك هو أن الحب لا يغطي العيوب فحسب، بل إنّه يقلب القبيح حسناً، إذ أن من خصال الحب أ نّه حيثما شع نوره ظهر الجمال، فالذرة من الحسن تبدو كالشمس، بل يبدو الأسود أبيض والظلام ضياء. والظاهر أن السبب هو أن الحب ليس كالعلم الّذي يعتمد على المعرفة كلياً. فالحب جانبه الباطني النفساني أقوى وأشد من جانبه الخارجي العيني، أي إنّ مقدار الحب لا يتبع مقدار الحسن بل هو أكثر ما يتبع مقدار الاستعداد لتقبله... إن في العاشق ـ في الواقع ـ جوهراً، مادة أو إنّه النار تحت الرماد، تبحث عن العذر والموضوع. وعندما يصادف يوماً هذا الموضوع ويحصل التوافق ـ وهذا ما لم يعرف سره حتّى الآن، ولذلك يقال: إنّ الحب لا يحتاج إلى سبب ـ تظهر تلك القوّة الباطنية وتصطنع الجمال بقدر ما تستطيع، لا بالقدر الموجود فعلا في المعشوق. وهذا هو معنى القول: إنّ الود يقلب العيوب فنوناً والأشواك ورداً وريحاناً. (6) بحار الأنوار: 15/51 كتاب العشرة ط قديمة. (7) هذه الآبيات للعلاّمة الطباطبائي باللغة الفارسية وفيها الكثير من المحسنات البديعية، ومنها التورية في «رخ» الشطرنج و «رخ» بمعنى الوجه أو الخد ـ المترجم. (8) بحار الأنوار: 21/215 و216 ط جديدة. (9) سيرة ابن هشام: 2/169 ـ 173. (10) شرح ابن أبي الحديد: 3/574 ط بيروت، سيرة ابن هشام: 2/94. (11) شرح نهج البلاغة: 2/220. |