حب عليّ في القرآن والسنّة

أظهرت البحوث السابقة قيمة الحب وأثره، واتضح من خلال ذلك أن حب الطيبين وسيلة لتهذيب النفس وليس هدفاً بذاته. فلننظر الآن إلى كان الإسلام والقرآن قد اختارا لنا حبيباً نمحضه الود، أم لا.

عندما يكرر القرآن أقوال الأنبياء السابقين نرى أن كلا منهم قد أعلن:

(وَمَا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْر إنْ أجْرِيَ إلا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ)(1).

ولكنه يأمر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول:

(قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى)(2).

هنا يتبادر للذهن هذا السؤال: لماذا لم يطلب الأنبياء السابقون أي أجر، وطلب نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) أجراً من الناس هو حب أقربائه الأدنين؟

القرآن نفسه يجيب على هذا السؤال بقوله:

(قُلْ مَا سَألْـتُكُمْ مِنْ أجْر فَهُوَ لَكُمْ إنْ أجْرِي إلا عَلَى اللّهِ)(3).

أي إنّ ما طلبته من أجر إنّما يعود نفعه عليكم، إذ أنّ هذه المودة ليست سوى ذريعة تتوصلون بها إلى اصلاح ذواتكم وإلى التكامل الإنساني. هذا هو الأجر، ولكنه في الحقيقة خير آخر أعرضه عليكم، وذلك لأنّ أهل البيت وذوي قربى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أُناس طاهرو الذيل غير ملوثين «حجور طابت وطهرت» فحبهم والتمسك بهم لا يعني سوى طاعة الله والتزام الفضائل. إنّ حبهم هو الإكسير الّذي يقلب الأحوال ويوصل إلى الكمال.

ومهما يكن المراد من لفظة «قربى» فهي لا شك تشمل عليّاً.

يقول الفخر الرازي: «يروي الزمخشري في (كشافه):

عندما نزلت هذه الآية، سئل النبيّ: يا رسول الله، من هم ذوو القربى الّذين يجب علينا حبهم؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): عليّ وفاطمة وابناهما. يتضح من هذه الرواية أنّ هؤلاء الأربعة هم أقرباء النبيّ الّذين على الناس أن يمحضوهم الحب والولاء. وهذا ما يمكن إثباته من عدة طرق:

1 ـ آية (إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى).

2 ـ ما من شك في أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحب فاطمة حباً جماً، وكان يقول: فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها. وكذلك كان يحب عليّاً والحسنين، وقد وردت في هذا روايات كثيرة.

وعليه فإنّ حبهم فرض على الأُمة أجمعين(4)، لأنّ القرآن يقول: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(5). ويقول أيضاً: (ولَـقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(6). كلّ هذا يدل على أنّ حب آل محمد ـ وهم عليّ وفاطمة والحسنان ـ واجب على المسلمين كافة»(7).

وهناك أحاديث شريفة كثيرة بشأن حب عليّ(عليه السلام):

1 ـ يذكر ابن الأثير أنّ النبيّ خاطب عليّاً بقوله: «يا عليّ إنّ الله عزّوجلّ قد زينك بزينة لم يتزين العباد بزينة أحب إليه منها، الزهد في الدنيا، فجعلك لا تنال من الدنيا شيئاً ولا تنال الدنيا منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين ورضوا بك إماماً ورضيت بهم أتباعاً فطوبى لمن أحبك وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب عليك، فأمّا الّذين أحبوك وصدقوا فيك فهم جيرانك في دارك ورفقاؤك في قصرك، وأمّا الّذين أبغضوك وكذبوا عليك فحق على الله أن يوقفهم مواقف الكذّابين يوم القيامة»(8).

2 ـ يروي السيوطي أن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«يا عليّ، لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(9).

3 ـ يروي أبو نعيم أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب الأنصار قائلا:

«يا معشر الأنصار، ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبداً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا عليّ فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي، فإنّ جبريل أمرني بالذي قلت لكم من الله عزّوجلّ»(10).

وثمة روايات أوردها أهل السنّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أ نّه قال: «إنّ النظر إلى وجه عليّ عبادة، والحديث عن فضائل عليّ عبادة».

1 ـ ينقل المحب الطبري عن عائشة أ نّها قالت: «رأيت أبي كثير النظر إلى وجه عليّ، فقلت له: أراك يا أبي كثير النظر إلى وجه عليّ. فقال: بنيتي، لقد سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: النظر إلى وجه عليّ عبادة»(11).

2 ـ أخرج الديلمي عن عائشة أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«خير اخوتي عليّ، وخير أعمامي حمزة. وذكر عليّ عبادة»(12).

لقد كان عليّ أحب الخلق عند الله ورسوله، ولا شك في هذا.

يقول أنس بن مالك:

«في كلّ يوم كان أحد أبناء الأنصار يقوم على خدمة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). وفي يوم نوبتي جاءت أُم أيمن بطعام من دحاج محمر وقالت: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لقد ابتعت هذه الدجاجة وطبختها بنفسي. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):

اللّهمّ ابعث إليَّ بأحب عبيدك ليشاركني في تناول هذا الطعام.

وفي تلك اللحظة طرق الباب. فقال رسول الله: يا أنس افتح الباب. فقلت في نفسي: أدعو الله أن يكون من الأنصار. ولكني رأيت عليّاً عند الباب. فقلت: رسول الله مشغول. وعدت إلى حيث كنت.

فطرق الباب ثانية. فقال رسول الله: افتح الباب. فعدت أدعو الله أن يكون الطارق من الأنصار. وفتحت الباب وإذا بعليّ. فقلت: إنّ النبيّ مشغول. وعدت إلى مكاني.

فطرق الباب مرة أُخرى. فقال رسول الله: يا أنس، افتح الباب وأت به، فلست أنت أول من أحب قومه، ولكنه ليس من الأنصار. ففتحت الباب وأدخلت عليّاً، فجلس يأكل مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)(13).

 

سر حب عليّ

ما سبب وقوع حب عليّ في القلوب؟

سر الحب لم يكتشف لحد الآن، أي لا يمكن حصره ضمن قانون معين، بحيث يمكن القول انه إذا حصل كذا يحصل كذا، إلاّ أنّ في الحب ـ ولا شك ـ سراً. فقد يكون في المحبوب شيء يغشي بصر المحب فيجذبه إليه. وإذا ما اشتد هذا الجذب وارتفع الحب إلى أعلى الدرجات، قيل: إنّه العشق. ولقد كان عليّ محبوب القلوب ومعشوق الناس، فلماذا؟ وكيف؟

فيم امتياز عليّ بحيث أثار العشق فولهت به القلوب، فاصطبغ بصبغة الحياة الخالدة؟

لماذا ترى القلوب أ نّها شديدة القرب منه، ولا تحسبه قد مات، بل تراه حياً يرزق؟

لاشك أن مبعث الحب فيه ليس جسمه، لأنّ جسمه لم يعد الآن بيننا، وما كنا أحسسنا به. إنّ حبه ليس من قب يل حب الأبطال الشائع في الأُمم.. كما نكون قد جانبنا الصواب إن قلنا: إنّ حبنا عليّاً تابع لحبنا الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وإنّ حب عليّ هو حب الإنسانية.. صحيح أنّ عليّاً كان تجسيداً للإنسان الكامل، وصحيح أنّ الإنسان يحب مثل الإنسانية السامية.

ولكن لو أنّ جميع الفضائل الّتي امتاز بها عليّ من الحكمة، والعلم، والتضحية، ونكران الذات، والتواضع، والأدب، والمحبة، والعطف، والأخذ بيد الضعيف، والعدالة، والحرية، وحب الحرية، واحترام الإنسان، والإيثار، والشجاعة، والمروءة، والفتوة نحو العدو، والسخاء والجود والكرم.

أقول: لو أنّ كلّ ما تحلى به عليّ من الفضائل لم يكن مصطبغاً بالصبغة الإلهية، لما كان على هذا القدر الّذي نراه عليه اليوم من استثارة للانفعال واجتذاب للحب. فعليّ محبوب لكونه مرتبطاً بالله. إنّ قلوبنا ترتبط في أعماقها، وبغير وعي منا، بالله.

ولما كان عليّ آية الله العظمى ومظهر صفات الله في أعيننا، فقد عشقناه.. في الحقيقة إنّ سند حب عليّ هو ما يربط النفوس بالله، ذلك الرابط الّذي كان في الفطرة دائماً. ولما كانت الفطرة خالدة، فحب عليّ خالد أيضاً.

سودة الهمدانية المحبة لعليّ وقفت أمام معاوية تصف عليّاً فقالت:

صلى الإله على روح تضمنها *** قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحقّ لا يبغي به بدلا *** فصار بالحقّ والإيمان مقرونا

صعصعة بن صوحان العبدي واحد آخر من المولعين بعليّ حباً. كان من القلة الّذين حضروا دفن عليّ في ذلك الليل البهيم. وبعد أن تم الدفن وقف صعصعة على القبر واضعاً احدى يديه على فؤاده والأُخرى قد أخذ بها التراب ويضرب به رأسه، ثمّ قال:

«بأبي أنت وأُمي ـ يا أميرالمؤمنين ـ هنيئاً لك يا أبا الحسن، فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرت برأيك، وربحت تجارتك، وقدمت على خالقك، فتلقاك الله ببشارته، وحفتك ملائكته، واستقررت في جوار المصطفى، فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك المصطفى، وشربت بكأسه الأوفى، فاسأل الله أن يمن علينا باقتفائنا أثرك والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أُولئك.

فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت في سبيل ربّك بين يدي أخيك المصطفى حقّ جهاده، وقمت بدين الله حقّ القيام، حتّى أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام، وانتظم الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام.

بك اشتد ظهر المؤمنين، واتضحت أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لأحد مناقبك وخصالك. سبقت إلى إجابة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مقدماً مؤثراً، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك، ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كلّ جبار عنيد، وذل بك كلّ ذي بأس شديد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى.

فهنيئاً لك يا أميرالمؤمنين. كنت أقرب الناس من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قرباً وأولهم سلماً وأكثرهم علماً وفهماً، فهنيئاً لك يا أبا الحسن. لقد شرف الله مقامك، وكنت أقرب الناس إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نسباً، وأولهم إسلاماً، وأوفاهم يقيناً، وأشدهم قلباً، وأبذلهم لنفسه مجاهداً، وأعظمهم في الخير نصيباً.

فلا حرمنا الله أجرك، ولا أذلنا بعدك، فو الله لقد كانت حياتك مفاتح للخير ومغالق للشر، وإنّ يومك هذا مفتاح كلّ شر ومغلاق كلّ خير. ولو أنّ الناس قبلوا منك لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا على الآخرة»(14).

نعم، لقد اختاروا الدنيا لأ نّهم لم يستطيعوا الوقوف مع عدل عليّ واستقامته حتّى ظهرت أيدي الجمود الفكري من الاكمان وقتلت عليّاً.

ليس لعليّ(عليه السلام) نظير من حيث كونه موضع حب عارم من لدن أُناس ضحوا برؤوسهم في سبيل حبه، وارتقوا المشانق في سبيل الولاء له. إنّ الصفحات العجيبة الّتي كتبها هؤلاء في التاريخ لتثير الحيرة والدهشة، وهي مفخرة من مفاخر تاريخنا. إنّ دماء هذه النخبة تلطخ أيدي مجرمين أرجاس مثل زياد بن أبيه وابنه عبيدالله والحجّاج بن يوسف والمتوكل، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.

 

 

 

(2)

قوة دافعة عليّ

 

عليّ يصنع الأعداء

سوف نقصر بحثنا هذا على فترة خلافته الّتي امتدت أربع سنوات وبضعة أشهر. كان عليّ(عليه السلام) دائماً تلك الشخصية ذات القوتين، قوة الجذب وقوة الدفع. فمنذ صدر الإسلام نرى مجموعة من الناس يتحلقون حوله، ونرى آخرين ليسوا على وفاق تام معه، وقد يعانون الأمرين من وجوده.

ولكن زمن خلافته والأزمنة الّتي تلت استشهاده، تعتبر فترة ظهور عليّ(عليه السلام) تاريخياً وفيها تتجلى قوتا الجذب والدفع عنده، وهما يزدادان قوة كلما قوي احتكاكه بالناس، مثلما كانتا أضعف قبل خلافته.

كان عليّ من الّذين يصطنعون الأعداء ويوجدون المتذمرين. وكان هذا من مفاخر عليّ الكبرى. إنّ كلّ امرىء يسلك سلوكاً معيناً وله هدف يناضل من أجله، وعلى الأخص إذا كان ثورياً يسعى لتحقيق أهدافه المقدسة ومن الّذين يصفهم الله تعالى بقوله:

(يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم)(15).

لابدّ أن يكون كذلك. لذلك فإن أعداءه ـ وعلى الأخص في فترة حياته ـ لم يكونوا أقل عدداً من أصحابه، إن لم يكونوا أكثر.

واليوم، إذا أُبرزت شخصية عليّ(عليه السلام) ـ بغير تحريف ـ على حقيقتها، فإنّ الكثيرين ممن يدعون محبته ينحازون إلى صفوف أعدائه.

بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً(عليه السلام) على رأس جيش إلى اليمن. وعند العودة عزم على لقاء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة. وعندما اقترب من مكة أسرع لملاقاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أقام على العسكر رجلا منه.

فقام هذا بتوزيع الحلل الّتي كانت مع الجيش على الجنود لكي يدخلوا مكة في حلة قشيبة. ولكن عليّاً(عليه السلام) عند عودته اعترض على هذا العمل واعتبره منافياً للانضباط، لأنّ الواجب يقضي بالحصول على أوامر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن تلك الحلل قبل التصرف فيها. وكان ذلك ـ في الحقيقة ـ يعتبر في نظر عليّ(عليه السلام) تصرفاً في بيت المال قبل أخذ موافقة قائد المسلمين.

لذلك أمر عليّ(عليه السلام) الجند بخلع تلك الحلل وارجاعها إلى حيث كانت، حتّى يرى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رأيه في توزيعها. إلاّ أنّ ذا لم يرق لأفراد الجيش، وما إن وصلوا مكة وأخذ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسألهم عن أحوالهم، حتّى شكوا إليه عليّاً(عليه السلام) وخشونته بشأن الحلل.

فوقف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخاطبهم بقوله:

«أيها الناس لا تشكوا عليّاً، فوالله إنّه لأخشن في ذات الله من أن يشكى»(16).

لم يكن عليّ(عليه السلام) يحابي أحداً في الله، بل إنّه كان إذا راعى أحداً أو داراه فإنّما كان ذلك في سبيل الله. وهذا ـ لا ريب ـ يخلق الأعداء ويملأ بالألم قلوب الّذين امتلأت قلوبهم بالطمع والجشع.

لم يكن بين أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من له محبون مضحون، كما لم يكن بينهم من له أعداء ألداء شديدو الخطر مثلما كان لعليّ(عليه السلام)، كان عليّ(عليه السلام) رجلا هاجمه أعداؤه حتّى في جنازته وهو ميت.

وكان هو نفسه دارياً بكلّ هذا وقد تنبأ به. لذلك أوصى أن يُعَفّى على قبره حتّى لا يعرفه أحد غير أبنائه، إلى أن مضى على ذلك قرن من الزمان، وزال الأمويون، وانقرض الخوارج أو ضعف بأسهم، وضمرت مشاعر الحقّ والانتقام في القلوب.. عند ذلك أعلن ابنه الإمام جعفر الصادق(عليه السلام) عن مكان مدفنه الشريف.

 

الناكثون والقاسطون والمارقون

دفع عليّ(عليه السلام) أثناء خلافته ثلاث طوائف وطردهم وكافحهم.

أصحاب الجمل وقد أُطلق عليهم اسم الناكثين

وأصحاب صفّين الّذين قال عنهم: إنّهم القاسطون.

وأصحاب النهروان، وهم الخوارج الّذين وصفهم بأ نّهم المارقون(17):

«فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالاَْمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وقَسطَ آخَرُونَ»(18).

كان الناكثون ـ من حيث طبيعتهم ـ من محبي المال، من أصحاب المطامع وطالبي الامتيازات. فكلامه في العدل والمساواة موجه في أغلبه إلى هؤلاء.

أمّا القاسطون فكانوا من ذوي الميول السياسية من المنافقين. كانوا يسعون للاستيلاء على زمام الحكم للقضاء على حكومة الإمام عليّ(عليه السلام)وقيادته. عرض عليه بعضهم أن يجاريهم ويساويهم ويحقق بعض طلباتهم.. فرفض، لأ نّه لم يكن على تلك الشاكلة. كان قد اضطلع بالأمر لإحقاق الحقّ ومحق الظلم، لا لتأييد الظلم وترويجه. وكان معاوية وصحبه ـ من جهة أُخرى ـ لا يرتضون الأُسس الّتي أقام عليّ(عليه السلام) عليها حكمه. كانوا يريدون أن يكون لهم ـ وحدهم ـ كرسي الخلافة الإسلامية، فكانت مقاتلة عليّ(عليه السلام) هؤلاء بمثابة مقاتلة النفاق والرياء.

أمّا الطائفة الثالثة المارقة فقد كانوا شديدين في التعصب الديني الأعمى ومن الجهلة الخطرين.

هؤلاء، كلّهم كانت دافعة عليّ(عليه السلام) شديدة عليهم بحيث ما كان يمكن أن يتساهل معهم أبداً.

إنّ من بعض مظاهر إنسانية عليّ(عليه السلام) الكاملة، هي أ نّه عندما بدأ بالعمل الإيجابي واجه طوائف متعددة وانحرافات متنوعة، فحاربها كلّها. فمرة نراه يقف بوجه عبدة المال ومحبي الدنيا، ومرة نراه يصارع محترفي السياسة ممن لهم عشرة أوجه ومائة وجه، ومرة يكون صراعه مع الجهلة المنحرفين من ذوي الظاهر المتدين.

ننعطف ببحثنا الآن إلى هذه الفئة الأخيرة، الخوارج، فهؤلاء، وإن يكن أمرهم قد انتهى، إلاّ أنّ لهم تاريخاً جديراً بالدرس والاستعبار، كما أنّ لأفكارهم جذوراً امتدت إلى سائر المسلمين. فبعد هذه القرون الأربعة عشر الطويلة، وبعد زوال أشخاصهم وحتّى أسمائهم ما زالت روحهم متفشية في هياكل هؤلاء المتدينين الجامدين الّذين يقفون حجر عثرة في طريق تقدم الإسلام والمسلمين.

 

ظهور الخوارج

كلمة (الخوارج) تعني المتمردين، وهي من (خرج)(19) الّتي تأتي مع حرف الجر (على). وقد ظهر هؤلاء من بين أحداث صفين في آخر يوم كانت الحرب فيه قد اتجهت لصالح الإمام عليّ، حيث قام معاوية ـ بعد استشارة عمرو بن العاص ـ بخدعة ماهرة. لقد أدرك يومذاك أنّ جميع محاولاته وآلامه قد انهارت بغير فائدة. ولم يبق بينه وبين الهزيمة إلاّ خطوة واحدة، فرأى أ نّه بغير الحيلة لا يمكن أن ينجو.

فأمر برفع المصاحف على رؤوس الرماح ـ إشارة إلى كونهم مسلمين ومن أهل القبلة والقرآن ـ مطالبين بوضع القرآن حكماً بينهم. لم يكن هذا شيئاً جديداً، فقد سبق للإمام عليّ(عليه السلام) أن اقترحه عليهم فرفضوه، وهم كانوا ما يزالون يرفضونه، إلاّ أ نّهم اتخذوه ذريعة ينجون بها من الهزيمة المنكرة.

وراح عليّ(عليه السلام) ينادي أن اضربوهم فهم يتخذون من صفحات القرآن ذريعة يدرأون بها عن نفسهم الهلاك، وبعد ذلك يبقون في غيهم سادرين. إنّ صفحات القرآن من حيث كونها ورقاً لا قيمة لها بإزاء حقيقة القرآن. إنّني أنا حقيقة القرآن ومظهره. وهؤلاء يرفعون ورقاً وخطاً لكي يقضوا على المعنى والحقيقة.

وتنادى عدد من جنود عليّ(عليه السلام) ممن جهلوا حقيقة الدين ـ ولم يكونوا قلة ـ ماذا يقول عليّ(عليه السلام)؟ أنحارب القرآن؟ إننا حاربنا لإحياء القرآن، وها هم يستسلمون له، فلماذا الحرب بعد ذلك؟ وقال عليّ(عليه السلام): أنا أيضاً أقول حاربوا من أجل القرآن، ولكن هؤلاء لا شأن لهم بالقرآن، بل يتخذون لفظ القرآن وكتابته وسيلة لحفظ أرواحهم.

في كتاب الجهاد من الفقه الإسلامي موضوع تحت عنوان «تترس الكفار بالمسلمين». ويكون هذا في حالة حرب المسلمين مع الكفار، فيعمد الكفار إلى وضع أسرى المسلمين في الخطوط الأمامية يتترسون بهم ليتقدموا هم إلى الإمام، بحيث أنّ المسلمين إذا أرادوا الدفاع عن أنفسهم أو الهجوم على العدو لوقف تقدمه، سيكون عليهم بالضرورة أن يزيحوا من طريقهم اخوتهم المسلمين الأسرى. أي إنّهم لن يكونوا قادرين على الوصول إلى العدو المحارب إلاّ بقتل أولئك المسلمين، فإنّ الإسلام يجيز هنا قتل المسلم في سبيل مصلحة الإسلام العليا وفي سبيل حفظ حياة بقية المسلمين.

وأولئك أيضاً يعتبرون من الشهداء الّذين استشهدوا في سبيل الله، إلاّ أنّ على المسلمين أن يدفعوا دية دمائهم إلى ذويهم من بيت مال المسلمين(20).

وهذا لا يختص به الفقه الإسلامي، بل هو من الأُمور المسلّم بها في القوانين الدولية الّتي تقول: إذا استخدم العدو القوى الداخلية لمصلحته، فيجوز القضاء على تلك القوى للتمكن من العدو وإجباره على الانسحاب.

ففي الوقت الّذي يقول فيه الإسلام: اضرب حتّى المسلم الحي ليتحقق النصر للإسلام، لا يكون ثمة داع للكلام على مجرد أوراق وصحائف.. إنّ احترام الورق وما كتب عليه يكون بسبب احترام المعنى والمحتوى. وكانت تلك الحرب في سبيل المحتوى، ولكن هؤلاء جعلوا الورق وسيلة لكي يزيلوا المعنى والمحتوى من الوجود.

ولكن الجهل والسذاجة حالا ـ كما يحول الستار السميك ـ دون رؤيتهم الحقيقة الواضحة، وقالوا: إنّنا فضلا عن كوننا لا نحارب القرآن، فإنّ علينا أن نقف بوجه من يقدم على هذا المنكر وأن ننهى عنه، فنقاتل من يقاتل القرآن.

لم يكن قد بقي على النصر النهائي إلاّ ساعة، وكان مالك الأشتر، ذلك الجندي الشجاع المضحي، يوالي تقدمه نحو خيمة القيادة ليستولي عليها ويزيل آخر شوكة من طريق الإسلام. في تلك اللحظة ضغطت تلك الطائفة على عليّ(عليه السلام) وهددوا بأ نّهم سوف يهجمون عليه من الخلف إذا لم يوقف الحرب. وكلما أصر عليّ(عليه السلام) على رأيه ازداد أولئك اصراراً على رأيهم.

أرسل عليّ(عليه السلام) إلى مالك أن أوقف الحرب وأترك الميدان. فرد عليه بأ نّه لو أجاز له الاستمرار بضع دقائق لأنهى الحرب وأنهى العدو معاً.

فشهروا السيوف قائلين سنقطعك ارباً ارباً أو تأمره بالرجوع.

فعاد يرسل إليه إنّك إن شئت أن ترى عليّاً حياً فاترك الحرب وعد. فرجع مالك، واستبد الفرح بالعدو لأن حيلته قد انطلت.

توقفت الحرب حتّى يحتكموا إلى القرآن، فيؤلفوا لجنة التحكيم ويحكم حكام الجانبين بما في القرآن والسنّة مما يتفق عليه الجانبان، لتنتهي الخصومة، أو ليزيدوا الاختلافات اختلافاً آخر.

قال عليّ(عليه السلام): فليعيّنوا حَكمَهم كي نعيّن ـ نحن أيضاً ـ حَكمَنا.

فعين أُولئك بالإجماع عمرو بن العاص، عصارة الخديعة والمخاتلة.

واقترح عليّ(عليه السلام) عبدالله بن عباس السياسي، أو مالكاً الأشتر المؤمن المضحي ذا البصيرة، أو أي رجل من أمثالهما.

إلاّ أن أولئك الحمقى كانوا يفتشون عن ضريب لهم، فانتخبوا أبا موسى الأشعري الّذي كان قليل التدبير، كما لم يكن على وفاق تام مع عليّ(عليه السلام)، وكلما حاول عليّ(عليه السلام) وأصحابه أن يبينوا لأولئك الناس أن أبا موسى لم يكن الرجل القادر على ذلك الأمر، أبوا وقالوا: لن نرضى عنه بديلا. فقال: ما دام الأمر كذلك، فافعلوا ما بدا لكم. فأرسلوه حكماً يمثل عليّاً(عليه السلام)وأصحابه إلى مجلس التحكيم.

وبعد أشهر من التشاور، انتهى الأمر بعمرو بن العاص أن يقول لأبي موسى الأشعري: أرى خير المسلمين في إقالة عليّ(عليه السلام) ومعاوية كليهما من الحكم، وننتخب ثالثاً، ولن يكون سوى عبدالله بن عمر، صهرك فقال أبو موسى: صدقت، فما العمل؟ فقال: تخلع أنت عليّاً من الخلافة، وأخلع أنا معاوية. وبعد ذلك سيختار المسلمون خليفة لهم، ولن يكون غير صهرك عبدالله بن عمر، فتنام الفتنة وتقتلع جذورها.

وتم اتفاقهما على هذا الأمر، ونادى مناديهم في الناس أن اجتمعوا لتستمعوا إلى الحكم النهائي.

واجتمع الناس، والتفت أبو موسى إلى عمرو بن العاص وطلب إليه أن يصعد المنبر ليعلن رأيه. فقال عمرو: كيف أصعد المنبر قبلك وأنت الشيخ الوقور من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): حاش لله أن تبلغ بي الجرأة هذا الحد فأتكلم قبلك.

فنهض أبو موسى وارتقى المنبر، والقلوب تدق بعنف في الصدور، والعيون تكاد تخرج من محاجرها نحو الخطيب، والأنفاس تكاد تتوقف مبهورة انتظاراً للنتيجة. وتكلم أبو موسى فقال: إننا بعد التشاور رأينا أن من صلاح الأُمة أن لا يبقى عليّ ولا معاوية. وأن المسلمين لهم الخيار في اختيار من يشاؤون للخلافة. ثمّ خلع خاتمه من اصبع يده اليمنى وقال: إنّني أخلع عليّاً عن الخلافة كما أخلع خاتمي هذا من اصبعي. ونزل عن المنبر.

قام عمرو بن العاص وارتقى المنبر وقال: إنّكم سمعتم قول أبي موسى الأشعري في كونه خلع عليّاً عن الخلافة. أنا أيضاً أخلعه عن الخلافة كما خلعه أبو موسى. ونزع خاتمه من يده اليمنى وألبسه اصبع يده اليسرى وهو يقول: وأُنصب معاوية للخلافة مثلما أضع الخاتم في اصبعي هذا. ونزل عن المنبر.

هنا أدرك الخوارج ـ الّذين أوجدوا هذا الأمر بأنفسهم ـ مدى الخطأ فيما فعلوا. ولكنهم لم يكونوا يدركون أين كان موضع الخطأ لم يقولوا: إنّ خطأنا يكمن في قبولنا الاستسلام لخديعة عمرو بن العاص وفي إيقافنا الحرب. كما أ نّهم لم يقولوا: إنّ خطأنا بعد القبول بالتحكيم كان في اختيار (الحكم) بجعلنا أبا موسى نداً لعمرو بن العاص. بل كانوا يقولون: إن جعلنا إنسانين حكمين في دين الله كان كفراً ومخالفاً للشرع، فلا حكم إلاّ لله.

جاءوا إلى عليّ(عليه السلام) وقالوا: لقد أخطأنا وقبلنا بالتحكيم، فأصبحنا نحن وأنت من الكافرين. إننا تبنا إلى الله، فتب أنت أيضاً، فقد تضاعفت مصيبتنا.

فقال عليّ(عليه السلام): التوبة خير ولا بأس بها. أستغفر الله من كلّ ذنب.

فقالوا: هذا لا يكفي، بل عليك أن تعترف بأنّ التحكيم كان إثماً وأ نّك تتوب من هذا الاثم.

فقال: إنّني لم أقل بالتحكيم ولا طلبته. أنتم الّذين أردتموه، وها أنتم تشاهدون النتيجة، ثمّ كيف أقول بحرمة شيء لم يحرمه الإسلام وأعتبره اثماً، ثمّ أعترف بذنب لم أرتكبه؟!

هنا بدأ نشاط هؤلاء كفرقة دينية. كانوا في البداية فرقة باغية متمردة، ولهذا أطلق عليهم اسم الخوارج، ولكنهم شيئاً فشيئاً وضعوا لعقائدهم أُصولا وقواعد، وانتظموا في حزب كان سياسياً أول الأمر ثمّ أصبح فرقة دينية ثمّ انتقل الخوارج إلى القيام بنشاطهم كأصحاب مذهب ديني وراحوا يدعون له.

ثم بعد ذلك فكروا في ضرورة اكتشاف جذور المفاسد في دنيا الإسلام، فتوصلوا إلى القول بأنّ عثمان وعليّاً ومعاوية قد اخطأوا وأثموا، وأنّ عليهم أن يكافحوا الفساد الّذي ظهر، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. وهكذا ظهر مذهب الخوارج باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنّ في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطين رئيسين، الأوّل: البصيرة في الدين، والثاني: البصيرة في العمل.

وقد جاء في الروايات أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع فقدان البصيرة في الدين، يكون ضرره أكثر من نفعه. أمّا البصيرة في العمل فهي لازمة للشرطين الواردين في الفقه باسم «احتمال التأثير» و «عدم ترتب مفسدة» ومرجع الحكم في هذين يعود إلى العقل والمنطق(21).

غير أنّ الخوارج كانوا يفتقرون إلى البصيرتين الدينية والعملية. كانوا أُناساً جهلة لا بصيرة عندهم بشيء، بل كانوا يرون هذه الفريضة من الفرائض التبعدية، وكانوا يقولون: إنّه يجب القيام بذلك قياماً أعمى.

(1) الشعراء: 109.

(2) الشورى: الآية 23.

(3) سبأ: 47.

(4) حب النبيّ لهم لم يكن حباً شخصياً فحسب، ولمجرد كونهم أبناءه وأ نّه لو كان آخرون غيرهم بمكانهم لأحبهم النبيّ أيضاً. بل كان النبيّ يحبهم لكونهم كانوا نماذج متميزين بحبهم الله، فقد كان للنبيّ أبناء آخرون، ولكنه لم يكن يحبهم إلى هذا الحد، ولا كان حبهم فرضاً على الناس.

(5) الأعراف: 158.

(6) الأحزاب: 21.

(7) التفسير الكبير للرازي: 27/166 ط مصر.

(8) أُسد الغابة: 4/23.

(9) كنز العمّال وجمع الجوامع للسيوطي: 6/156.

(10) حلية الأولياء: 1/63، ومثل هذا روايات كثيرة وقد صادفنا في كتب أهل السنّة المعتبرة أكثر من تسعين رواية بهذا المعنى، أضف إلى ذلك ما ورد في كتب الشيعة.

(11) الرياض النظرة: 2/219 وغيرها كثير صادفنا منها أكثر من 20 رواية.

(12) الصواعق المحرقة: 74 وهناك خمس روايات أُخرى بهذا المعنى في كتب أهل السنّة الموثقة.

(13) مستدرك الصحيحين: 3/131. هذه الرواية نقلت بصورة مختلفة في أكثر من 18 رواية في كتب أهل السنّة.

(14) بحار الأنوار: 42/295 و296 ط جديدة.

(15) المائدة: 54.

(16) سيرة ابن هشام: 4/250.

(17) الواقع إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هو الّذي أطلق عليهم تلك الأسماء، إذ قال له: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين. هذه الرواية يذكرها ابن أبي الحديد في شرحه نهج البلاغة 1/201 ويقول: إنّ هذه الرواية احدى أدلة نبوة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأ نّها إخبار صريح بالمستقبل وبالغيب ممّا لا يجرى معه أي تأويل.

(18) نهج البلاغة: الشقشقية خ 3.

(19) خرج فلان على فلان: برز لقتاله. وخرجت الرعية على الملك: تمردت. وتعبير (الخوارج) يقصد به المعنى الثاني، لأ نّهم خرجوا على عليّ(عليه السلام) إبان حكمه وتمردوا عليه. وبما أ نّهم أقاموا تمردهم ذاك على أساس ديني، فقد أصبحوا نِحلة ولصق اسم الخوارج بهم ولم يطلق على الّذين خرجوا بعدهم على سلطان زمانهم.

ولو لم يكن للخوارج مدرسة وعقائد خاصة لمضوا مثل سائر المتمردين بعدهم. إلاّ أ نّهم كانت لهم معتقداتهم، وهذه غدت فيما بعد ذات موضوع قائم بذاته، على الرغم من أ نّهم لم ينجحوا أبداً في تأسيس حكم وحكومة، ولكنهم نجحوا في تأسيس ميدان فقهي وأدبي لعقائدهم. (راجع ضحى الإسلام: 3/340 ـ 347 ط 6.

كان هناك آخرون ممن لم تتح فرصة الخروج وإن كانوا من الخوارج عقيدة، كالّذي يقال عن عمرو بن عبيد وبعض آخر من المعتزلة. إنّ بعض المعتزلة الّذين كانوا يعتقدون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في خلود مرتكب الكبائر ـ كما يعتقد الخوارج ـ كانوا يعبرون عنهم بأ نّهم «يرون رأي الخوارج» بل لقد كان هناك عدد من النسوة يؤمن بأفكار الخوارج، كما جاء في الكامل للمبرد: 2/154.

وعليه، فإنّ بين مفهوم كلمة (الخوارج) اللغوي ومفهومها الاصطلاحي عموم من وجه.

(20) اللمعة: ج 1 كتاب الجهاد، الفصل الأوّل. والشرائع: كتاب الجهاد.

(21) أي أن القصد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الترويج «للمعروف» وإزالة «المنكر». وعليه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي القيام بهما عند وجود الاحتمال بترتب أثر على ذلك. فإذا قطعنا بعدم وجود أي احتمال بترتب أي أثر عليهما، فما وجه الوجوب في القيام بهما؟

ثم إنّ أصل تشريع هذه الفريضة هو القيام بما يؤدي إلى تحقق فائدة للمسلمين، فلابدّ من القيام بها بحيث لا تؤدي إلى مفسدة أكبر من الّتي أُريد النهي عنها. هذان الظرفان تلزمهما البصيرة في العمل. فالّذي لا يملك البصيرة في العمل لا يستطيع أن يتنبأ بما إذا كان سيتريث على ذلك العمل أثر أم لا. من هنا جاء في الحديث إنّ الأمر بالمعروف غير البصير أفساده أعظم أصلاحه.

إنّ احتمال ترتب الفائدة لم يشترط في الفروض الأُخرى، وإنّه إذا وجد احتمال الأثر فليفعل، وإلاّ فلا، على الرغم من أنّ في أداء كلّ فريضة نفعاً، إلاّ أنّ تشخيص في ذلك النفع ليس من مسؤولية المكلف.. ففي الصلاة لم يقل الشرع: إنّك إذا احتملت فيها فائدة فصل، وإن لم تحتمل فلا تصل. كذلك الصوم، لم يقل أحد: إذا احتملت فيه فائدة فصم، وإن لم تحتمل فلا تصم، اللّهمّ إلاّ القول بخصوص الصوم: إنّك إن احتملت فيه الضرر فلا تصم. إذن، لا وجود لشرط احتمال الأثر في الفروض الأُخرى كالحج والزكاة والجهاد. ولكن هذا القيد موجود في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن الواجب معرفة ما يحتمل أن يكون له من أثر ورد فعل، وما إذا كان في القيام به مصلحة للمسلمين وللإسلام أم لا. أي إنّ ادراك وجود الأثر يقع على عاتق المنفذ نفسه.

في القيام بهذه الفريضة، لكلّ فرد ـ بل من الواجب عليه ـ أن يشرك العقل والمنطق والبصيرة في العمل لمعرفة فائدة لأنّ هذه الفريضة ليست تعبدية. إنّ وجود شرط اعمال البصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متفق عليه بإجماع الفرق الإسلامية، باستثناء الخوارج الّذين ظلوا على جمودهم الفكري وجفافهم وتعصبهم في القول بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة تعبدية، وليس فيها شرط احتمال الأثر وعدم ترتب مفسدة، بل هي فريضة يجب القيام بها بغير جدل أو كلام. وهكذا كان هؤلاء يثورون أو يغتالون الأشخاص استناداً إلى عقيدتهم هذه، على الرغم من معرفتهم بعدم جدوى ذلك، وبأنّ دماءهم تذهب هدراً.