أُصول عقائد الخوارج
يرجع أصل فكرة الخوارج إلى الأُمور التالية:
1 ـ تكفير عليّ وعثمان ومعاوية وأصحاب الجمل
وأصحاب التحكيم ـ الّذين يرتضون التحكيم عموماً ـ إلاّ إذا تابوا عن
رضاهم بالتحكيم.
2 ـ تكفير الّذين لا يقولون بتكفير عليّ وعثمان
ومعاوية والآخرين الّذين ذكرناهم.
3 ـ الإيمان ليس عقيدة قلبية فحسب، بل إنّ العمل
بالأوامر وترك النواهي جزء من الإيمان، فالإيمان مركب من الاعتقاد
والعمل.
4 ـ وجوب الثورة على الوالي والإمام الظالم دون
قيد أو شرط يقولون ليس للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي
شرط، وإنّ من الواجب القيام بذلك دائماً وبدون استثناء(1).
لقد ظهر هؤلاء بهذه العقائد واعتبروا جميع الناس
على وجه الأرض كفّاراً مخلدين في النار وأهدروا دمائهم.
الخوارج والخلافة
إنّ الفكرة الوحيدة عند الخوارج، والّتي يرى
المُحْدَثون اليوم أ نّها فكرة لامعة، هي نظريتهم في الخلافة والّتي
كانت ذات صبغة ديمقراطية. كانوا يقولون: إنّ الخلافة يجب أن تتعين في
انتخابات حرة، وأجدر الناس بها من كان ذا تقوى وصلاح، سواء أكان من
قريش أم لم يكن، وسواء أكان من احدى القبائل المرموقة أم من احدى
القبائل الضائعة، وسواء أكان عربياً أم لم يكن.
ثم بعد انتخابه ومبايعته بالخلافة، إذا خالف
مصلحة المجتمع الإسلامي فإنّه يعزل عن الخلافة، وإذا رفض فلابدّ من
مقاتلته وقتله(2).
إنّهم في هذا يقفون في موقف التعارض مع الشيعة
الّذين يقولون: إنّ الخلافة أمر إلهي، وإنّ الخليفة يجب أن يعينه الله.
إنّهم... كذلك يقفون موقف المعارض لأهل السنّة
الّذين يقولون إنّ الخلافة يجب أن تكون في قريش ويمسكون بمقولة: إنّما
الأئمّة من قريش.
والظاهر أنّ نظريتهم هذه في الخلافة لم يتوصلوا
إليها في أول ظهورهم، بل إنّ شعارهم المعروف «لا حكم إلاّ لله» وما جاء
في نهج البلاغة أيضاً(3) يدل على أ نّهم بادىء الأمر كانوا يقولون بأنّ
الناس والمجتمع لا حاجة بهم إلى حكومة، بل على الناس أن يعملوا وفق
كتاب الله.
ولكنهم بعد ذلك رجعوا عن هذا القول وبايعوا
عبدالله بن وهب الراسبي بالخلافة(4).
الخوارج والخلفاء
كان الخوارج يعتبرون خلافة أبي بكر وعمر صحيحتين
بالنظر لكونهما قد اختبرا بالانتخاب الحر، ولأ نّهما لم يخرجا عن
المحجة الصالحة ولم يرتكبا ما يخالف الشريعة. كما أ نّهم كانوا يرون
صحة خلافة عثمان وعليّ، ولكنهم يقولون: إنّ عثمان قد حاد عن المسير
الصحيح في أواخر السنة السادسة من خلافته وتغاضى عن مصالح المسلمين،
لذلك كان معزولا عن الخلافة، وبما أ نّه استمر في الحكم فقد كفر ووجب
قتله. أمّا عليّ فبقبوله التحكيم بغير أن يتوب بعد ذلك فقد كفر أيضاً
ووجب قتله. ولهذا فقد كانوا يتبرأون من خلافة عثمان منذ سنته السابعة،
ومن خلافة عليّ بعد قبوله التحكيم(5).
كذلك... كانوا على خلاف مع الخلفاء الآخرين
وكانوا دائماً في حرب معهم.
انقراض الخوارج
لقد ظهرت هذه الجماعة في أواخر العقد الرابع من
القرن الأوّل الهجري على أثر خطأ خطير، ولم يدم أمرهم أكثر من قرن
ونصف، فنتيجة لتهورهم وجرأتهم الجنونية أثاروا عليهم الخلفاء فتعقبهم
هؤلاء حتّى أبادوهم وأبادوا مذهبهم معهم وانقرضوا نهائياً في أوائل
تأسيس الدولة العباسية.
إنّ منطقهم الجاف العديم الروح، وجفاف سلوكهم
وفظاظته، وبعده عن الحياة.. وأخيراً فإنّ تهورهم الّذي ألغى حتّى
«التقية» بمفهومها الصحيح المنطقي، أدى إلى زوالهم.
لم تكن مدرسة الخوارج مدرسة قادرة على البقاء
فعلا، ولكنها أبقت أثرها، فقد نفذت أفكار الخوارج وعقائدهم في مختلف
الفرق الإسلامية، فنحن ما زلنا نرى حتّى الآن (نهروانيين) كثيرين لا
يقلون خطراً على الإسلام ومعاداة له من الداخل عما كانوا عليه في زمان
عليّ(عليه السلام)، بمثل ما أنّ هناك الكثيرين من أمثال معاوية وعمرو
بن العاص كانوا موجودين وما زالوا، وهم يستغلون (النهروانيين) ـ
أعداءهم ـ في الوقت المناسب.
أشعار أم روح
إنّ البحث في الخوارج وأفكارهم باعتبارهم يمثلون
فرقة ـ دينية ـ لا طائل تحته، لأنّ مذهبهم لم يعد له وجود اليوم. إلاّ
أنّ دراستهم ودراسة أعمالهم لا تخلو من نفع يعود علينا وعلى مجتمعنا،
إذ أنّ مذهبهم وإن يكن قد انقرض إلاّ أنّ روحه ظلت باقية وحلت في
الكثيرين منا.
هنا لابدّ لنا من مقدمة قصيرة:
بعض المذاهب يمكن أن يموت من حيث كونه شعاراً،
ولكن روحه تظل حية، كما أنّ العكس ممكن أيضاً، فقد يبقى مسلك من حيث
كونه شعاراً، حياً وتموت روحه. ولهذا يمكن أن يتبع فرد أو أفراد ـ من
حيث الشعار ـ مذهباً من المذاهب، ومن حيث الروح لا يتبعون ذلك المذهب.
وقد يكون العكس، فبعضهم قد يتبعون روحياً مذهباً من المذاهب، مع أ نّهم
يرفضون شعاراته.
فنحن جميعاً نعلم ـ مثلا ـ أنّ المسلمين افترقوا
فرقتين بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): السنّة والشيعة،
أولئك ينطوون ضمن اطار عقيدة معينة، وهؤلاء ينطوون ضمن اطار عقيدة
معينة أُخرى.
يقول الشيعة: إنّ الخليفة بعد النبيّ(صلى الله
عليه وآله وسلم) مباشرة هو عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، لأ نّه(صلى
الله عليه وآله وسلم) قد عيّنه خليفة بعده بأمر من الله سبحانه وتعالى.
أي إنّ ذلك المنصب حقّ خاص له بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
والسنّة يقولون: إنّ الإسلام في تعاليمه لم يقل
بشيء خاص فيما يتعلق بالخلافة والإمامة، بل عهد إلى الناس أنفسهم بأمر
اختيار أميرهم وقائدهم، وإنّه ـ في الأكثر ـ يجب أن يكون من قريش.
إنّ الشيعة يوجهون الانتقاد إلى عدد من أصحاب
رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)والشخصيات المعروفة، بينما يقف
السنّة ـ في هذا ـ في النقطة المقابلة للشيعة تماماً، فهم يحسنون الظن
بكلّ من اتصف بصفة (الصحابي) بصورة مفرطة. يقولون: إنّ الصحابة جميعاً
عادلون صادقون. التشيع يبني على النقد والبحث والاعتراض و (استخراج
الشعرة من العجين). والتسنن يبني على الحمل على الصحة والتسويغ و (إن
شاء الله كانت قطة).
في هذا العصر والزمان الّذي نعيش فيه، هل يكفي
أن يقول أحد: إنّ عليّاً(عليه السلام) هو خليفة رسول الله(صلى الله
عليه وآله وسلم) مباشرة، حتّى نعتبره شيعياً بغير أن ننتظر منه أي شيء
آخر، ومهما تكن روحيته وطراز تفكيره؟
ولكننا إذا رجعنا إلى صدر الإسلام نجد روحية
خاصة هي روحية التشيع، تلك الروحية الّتي كانت هي وحدها القادرة على
قبول وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بشأن عليّ(عليه السلام)
قبولا كاملا من دون أن تصاب إرادتها بالشك والتردد.
وفي النقطة المقابلة لتلك الروحية وذلك الطراز
من التفكير كانت تقف روحية أُخرى وطراز آخر من التفكير كان يغمض عينيه
عن وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بمختلف التفسيرات
والتأويلات، على الرغم من الإيمان الكامل به(صلى الله عليه وآله وسلم).
إنّ نشأة هذا الانشعاب الإسلامي كان سببها ـ في
الحقيقة ـ أنّ فريقاً من المسلمين ـ وكانوا الأكثرية ـ لم تنظر إلاّ
إلى الظاهر، إذ أنّ بصرها لم يكن حديداً وعميقاً بما يكفي للوصول إلى
باطن الأُمور ورؤية كلّ الوقائع. كانوا يرون الظاهر ويحملون الأُمور
على الصحة في كلّ الحالات، فيقولون: إنّ عدداً من كبار الصحابة والشيوخ
الّذين لهم سابقة في الإسلام قد ساروا في طريق لا يمكن أن نقول عنه
إنّه ليس هو الطريق الصحيح.
أمّا الفريق الآخر، وهم الأقلية، فكانوا يقولون:
إنّ الشخصيات تحوز على احترامنا وتقديرنا ما التزمت الحقّ واحترمته.
فإذا رأينا أنّ هؤلاء الشيوخ الّذين لهم سابقة في الإسلام هم الّذين
يدوسون بأقدامهم على الأُصول الإسلامية، فإنّهم يفقدون احترامنا، لأننا
وراء الأُصول لا الشخصيات. وهذه هي الروح الّتي ولد بها التشيع.
إننا عندما نتابع في التأريخ الإسلامي سلمان
الفارسي وأبا ذر الغفاري ومقداد الكندي وعمّار بن ياسر وأمثالهم نريد
أن نرى ما الّذي حملهم على التحلق حول عليّ(عليه السلام) وترك
الأكثرية؟
إننا نرى أ نّهم أُناس أُصوليون وعارفون بها،
متدينون وعارفون بالدين. كانوا يقولون: إننا ينبغي ألاّ نستسلم في
أفكارنا وادراكنا للآخرين لكيلا نخطيء إذا ما أخطأوا. لقد كانت روحيتهم
ـ في الواقع ـ روحية تتحكم فيها الأُصول والحقائق، لا الأشخاص
والشخصيات.
كان أحد أصحاب الإمام عليّ(عليه السلام) قد
انتابه الشك في حرب الجمل. كان ينظر إلى الطرفين، ففي طرف يرى
عليّاً(عليه السلام) ومعه كبار رجال الإسلام يضربون بسيوفهم في ركابه.
وفي الطرف الآخر كان يرى زوجة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الّتي
قال الله فيها وفي زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) الأُخريات:
(وَأزْوَاجُهُ اُمَّهَاتُهُمْ)(6) ويرى في ركابها طلحة، من طلائع
المسلمين ومن أقدمهم سابقة في الإسلام، ومن أمهر الرماة، قدّم خدمات
جلى للإسلام. ويرى الزبير، أسبق من طلحة اسلاماً، ذلك الرجل الّذي كان
مع عليّ(عليه السلام)يوم السقيفة.
كان الرجل يزداد حيرة كلما أمعن في الفكر. ما
جلية الأمر ياترى؟ فعليّ(عليه السلام) وطلحة والزبير من طلائع الإسلام
والمضحين في سبيله، ومن أقوى حصونه المدافعة عنه. ولكنهم الآن يواجه
بعضهم بعضاً، فأيهم أقرب إلى الحقّ؟ ما الّذي ينبغي له في مثل هذا
الحال؟
لا شكّ أننا لا يجوز لنا أن نلوم هذا على حيرته
تلك وتردده، فلعلنا لو كنا في ظروف مماثلة لتأثرنا بشخصيتي طلحة
والزبير وماضيهما المجيد.
ولكننا اليوم إذنرى عليّاً(عليه السلام)
وعمّاراً وأويساً القرني وغيرهم إلى جانب، ونرى عائشة والزبير وطلحة
يواجهونهم في طرف آخر، لا ينتابنا الشك والتردد في القول بأنّ هذا
الطرف الثاني هو الّذي يبدو عليه سيماء الجرم، أي إنّ آثار الجريمة
والخيانة بادية في وجوههم، فبالنظر إلى وجوههم وملامحهم كان الرائي لا
يخطىء في الحكم عليهم بأ نّهم من أهل النار.
أمّا لو كنا نعيش في ذلك الزمان ونرى سوابقهم
قريبة منا، فلعله لم يكن من المستبعد أن نقع في تردد مماثل.
إننا اليوم إذ نعرف أنّ الطرف الأوّل كان على
حقّ والطرف الثاني على باطل، فلأننا بعد مضي الزمن، واتضاح الحقائق،
ومعرفة عليّ(عليه السلام) وعمّار من جهة وطلحة والزبير وعائشة من جهة
أُخرى استطعنا أن ندرك كنه الأُمور وأن نقضي بالحقّ. أو إننا إذا لم
نكن من أهل الدرس والتحقيق، فإننا ـ في الأقل ـ قد لُقّنا بذلك منذ
طفولتنا. أمّا في حينه، فإنّ هذين العاملين لم يكن لهما وجود.
على كلّ حال، جاء هذا الرجل إلى
أميرالمؤمنين(عليه السلام) وقال له: «أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة
وعائشة على باطل؟» إنّ شخصيات من كبار صحابة رسول الله(صلى الله عليه
وآله وسلم) كيف يمكن أن يخطئوا ويسيروا في طريق الباطل؟
أمّا جواب عليّ(عليه السلام) فيصفه الدكتور طه
حسين، الأديب والكاتب المصري، بقوله: إنّه قول لا أحكم منه ولا أرفع.
فمنذ أن انطفأ الوحي وانقطع نداء السماء لم يسمع كلام عظيم كهذا(7).
قال عليّ(عليه السلام): «إنّك لملبوس عليك. إنّ
الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال. اعرف الحقّ تعرف أهله، واعرف
الباطل تعرف أهله».
فليس صحيحاً أن تتخذ من بعض الناس مقاييس لك،
ثمّ تروح تقيس الحقّ والباطل عليهم، فتقول: إنّ العمل الفلاني حقّ لأنّ
فلاناً وفلاناً وافقوه، وإنّ العمل الفلاني باطل لأنّ فلاناً وفلاناً
خالفوه.. كلا، لا يجوز أن يجعل الأشخاص معايير للحقّ والباطل. بل إنّ
الحقّ والباطل هما اللذان يجب أن يقاس عليهما الأشخاص. نعم، عليك أن
تكون عارفاً بالحقّ والباطل، لا بالأشخاص والشخصيات، فتقيس الأفراد ـ
سواء أكانوا كباراً أم صغاراً ـ وفق مقاييس الحقّ، فإن انطبقت عليهم
تقبلتهم. وعندئذ لا يمكن أن يقال: هل إنّ عائشة وطلحة والزبير على
باطل؟
هنا جعل عليّ(عليه السلام) الحقّ نفسه مقياساً
للحقّ، وذلكم هو روح التشيع ولا شيء غيره. ففرقة الشيعة ـ في الواقع ـ
قد ولدت من نظرة خاصة تعطي الأهمية للأُصول الإسلامية لا للأفراد
والأشخاص. ولهذا كان لابدّ أن يتربى الشيعة الأوائل أُناساً نَقدَة
يحطمون الأصنام.
كان عليّ(عليه السلام) فتى في الثالثة والثلاثين
من عمره عند وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يتبعه إلاّ
قلة يعدون على أصابع اليدين، وفي قبالة شيوخ في الستين مع الكثرة
الكاثرة. كان منطق هذه الأكثرية هو أنّ هذا هو طريق المشايخ أو المشايخ
لا يخطئون، وإننا لعلى أثرهم سائرون. أمّا الأقلية فكان منطقها يقول:
إنّ ما لا يخطىء هو الحقّ، وعلى المشايخ أن يدوروا حيثما دار الحقّ.
من هذا يتضح أنّ الّذين يتخذون شعار التشيع
شعاراً لهم، ولكن روحهم ليست روح التشيع، هم كثرة كثيرة.
إنّ طريق التشيع ـ مثل روحه ـ طريق تمييز الحقّ
واتّباعه. وإنّ من أهم آثار ذلك هو الجذب والدفع ـ لا كلّ جذب ولا كلّ
دفع، فقد قلنا من قبل: إنّ بعض الجذب يكون جذب الباطل والجرم والمجرم،
وبعض الدفع يكون دفع الحقّ والفضائل الإنسانية ـ إنّما نقصد جذباً
ودفعاً على شاكلة ما لعليّ(عليه السلام)، فالشيعة تعني نسخة مطابقة
لسيرة عليّ(عليه السلام)، فعلى الشيعة أن يكونوا مثل عليّ(عليه السلام)
ـ أيضاً ـ يمتلكون قوتي الجذب والدفع.
كانت هذه المقدمة لازمة لتبيان أن من الممكن أن
يموت مذهب من المذاهب، ولكن تبقى روحه حية في أُناس آخرين هم بحسب
الظاهر ليسوا من أتباع ذلك المذهب، بل قد يعتبرون أنفسهم من مخالفيه.
إنّ مذهب الخوارج ميت اليوم. أي لا توجد على وجه الأرض ـ اليوم ـ فرقة
دينية تطلق على نفسها اسم الخوارج ويتبعها عدد من الناس.
ولكن هل ماتت روح هذا المذهب أيضاً؟
ألم تحل هذه الروح في أتباع مذاهب أُخرى؟
أليس فينا ـ مثلا، والعياذ بالله ـ جمع من ذوي
الجمود الديني حلت فيهم تلك الروح؟
هذا موضوع يلزمه بحث خاص به، فقد نستطيع أن نرد
على هذا السؤال إن عرفنا مذهب الخوارج جيداً، وما قيمة البحث في
الخوارج إلاّ من هذا الباب. علينا أن نعرف لماذا دفعهم عليّ(عليه
السلام) عنه، أي لماذا لم تجذبهم قوة جاذبة عليّ(عليه السلام)، بل على
العكس من ذلك، طردتهم قوة دافعته؟
إنّ الّذي لا شك فيه ـ كما سنعرف ذلك قريباً ـ
هو أنّ العناصر الروحية الّتي أثرت في شخصية الخوارج وشكلت روحيتهم لم
تكن كلها من تلك العناصر الّتي تؤثر فيها قوة دافعة عليّ(عليه السلام)،
فقد كان فيها الكثير من العناصر المتميزة النيرة الّتي لولا اقترانها
بعدد من النقاط المظلمة لوقعت تحت تأثير قوة جاذبة عليّ(عليه السلام).
ولكن الجوانب المظلمة في روحهم كانت من الكثرة والاتساع بحيث أ نّها
وضعتهم في صف أعداء عليّ(عليه السلام).
الخوارج وديمقراطية عليّ(عليه السلام)
لقد عامل عليّ الخوارج بمنتهى الحرية
والديمقراطية. لقد كان خليفة وكانوا من رعاياه، فكان قادراً على أن
ينفذ بحقهم ما كانوا يستحقونه. ولكنه لم يسجنهم ولم يجلدهم، بل إنّه لم
يقطع حتّى نصيبهم من بيت المال، وكان ينظر إليهم نظرته إلى الآخرين.
ليس في هذا ما يدعو إلى العجب في سيرة حياة
عليّ، إلاّ أ نّك قلما تجد نظيراً له في تاريخ العالم.
لقد كانوا أحراراً في الإعلان عن عقيدتهم أنى
شاءوا. وكان الإمام عليّ وأصحابه يقابلونهم بمعتقداتهم بكلّ حرية،
ويجادلونهم فيها ويتبادلون الأدلة والاستدلال.
لعل هذا القدر من الحرية لم يسبق له وجود في
العالم. فما من حكومة عاملت معارضيها بهذا القدر من الديمقراطية. لقد
كانوا يأتون إلى المسجد ويقطعون على عليّ(عليه السلام) خطبته كان
علي(عليه السلام) يوماً على المنبر، فجاءه رجل يسأل سؤالا، فرد عليه
عليّ(عليه السلام) الجواب فوراً. فصاح أحد الخوارج من الحاضرين: «قاتله
الله، ما أفقهه!» فأراد الآخرون أن يلقوا عليه درساً في الأدب، فمنعهم
عليّ(عليه السلام) قائلا: اتركوه، إنّه إنّما شتمني أنا.
لم يكن الخوارج يأتمون بعليّ(عليه السلام) في
الصلاة، لأ نّهم كانوا يقولون بكفره، وإنّما كانوا يحضرون إلى المسجد
ولا يصلّون خلفه، وكانوا أحياناً يؤذونه. كان عليّ(عليه السلام) يوماً
يصلّى وقد ائتم به الناس. فقرأ أحد الخوارج ـ وهو ابن الكواء ـ بأعلى
صوته:
(وَلَـقَدْ اُوحِيَ إلَيْكَ وَإلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أشْرَكْتَ لَـيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَـتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)(8).
كان ابن الكواء يريد بذلك أن يذكر عليّاً(عليه
السلام) بأننا نعرف سوابقك في الإسلام، فقد كنت أول من أسلم، وقد آخى
الرسول بينه وبينك، وضحيت بنفسك في ليلة المبيت إذ نمت في فراش النبيّ
وعرضت نفسك للسيوف المشرعة، ولسنا ننكر خدماتك للإسلام، ولكن الله قال
لرسوله أيضاً: إنّك لو أشركت لحبطت أعمالك، وبما أ نّك قد كفرت فقد
أهدرت أعمالك تلك كلّها.
فما الّذي فعله عليّ(عليه السلام) بإزاء ذلك؟ ما
أن ارتفع صوت الرجل بتلاوة القرآن حتّى سكت عليّ(عليه السلام) حتّى
انتهى الرجل، فاستأنف عليّ(عليه السلام)الصلاة، فعاد ابن الكواء يكرر
الآية، فسكت عليّ(عليه السلام) ثانية. كان عليّ(عليه السلام)يسكت
لأ نّه حكم القرآن الّذي يقول:
(إذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأنصِتُوا)(9).
ولهذا ينبغي على المأمومين السكوت عندما يتلو
الإمام القرآن.
وإذا تكرر هذا من ابن الكواء، بقصد الإخلال
بالصلاة، تلا الإمام هذه الآية:
(فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلا
يَسْتَخِفَّـنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(10). فسكت ابن الكواء ولم
يعد(11).
قيام الخوارج وطغيانهم
اكتفى الخوارج في أوائل أمرهم بمجرد النقد
والجدل الحر، وكان عليّ(عليه السلام) يقابلهم ـ كما قلنا ـ دون أن
يتعرض لهم بسوء، ولم يقطع مرتباتهم من بيت المال. ولكنهم بعد أن يئسوا
شيئاً فشيئاً من توبة عليّ(عليه السلام)... بدلوا أسلوبهم وعزموا على
الثورة. اجتمعوا في دار أحدهم حيث خطب فيهم صاحب الدار خطبة مثيرة،
ودعا أصحابه إلى الثورة باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنر. وقد جاء
في خطابه:
«أمّا بعد، فو الله ما ينبغي لقوم يؤمنون
بالرحمن وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون الدنيا آثر عندهم من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بالحقّ وإن مُنَّ وضُرَّ، فإنّه من
يمن ويضر في هذه الدنيا فإنّ ثوابه يوم القيامة رضوان الله والخلود في
جناته، فأخرجوا بنا ـ إخواننا ـ من هذه القرية الظالم أهلها إلى كور
الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة»(12).
فزاد بأقواله هذه من أوار هيجانهم، فتحركوا
معلنين التمرد والثورة، فقطعوا الطرق واتخذوا النهب والسلب حرفة(13)
كانوا يريدون بذلك إضعاف الحكم واسقاطه.
هاهنا لم يبق موضع للتغاضي وإطلاق الحرية، لأنّ
المسألة لم تعد مسألة اظهار العقيدة، بل أصبحت إخلالا بأمن المجتمع
وتمرداً مسلحاً على حكومة شرعية. لذلك فقد تعقبهم عليّ(عليه السلام)
ولحق بهم عند شاطىء النهروان، فخطب فيهم ونصحهم وألقى عليهم الحجة، ثمّ
أعطى راية الأمان بيد أبي أيوب الأنصاري وقال: من استظل بالراية كان في
أمان، فرجع من الاثني عشر ألفاً ثمانية آلاف، وركب الباقون رؤوسهم
عناداً، فهزموا شر هزيمة ولم يبق منهم سوى عدد معدود.
|