الفصل 2

مقايسة بين على عليه السلام وسائر الانبياء عليهم السلام

وإن شئت زيادة بصيرة من أمرك فلاحظ الايات التى جاءت في شأن الأنبياء عليهم السلام، فإنهم وإن كانوا مطهرين معصومين إلا أن فيهم أحوالا وخواطرا، وللشيطان في غير واحد منهم وساوس ومطامع، وها نحن نذكر طوائف من الآيات - إن شاء الله تعالى - في شأنهم، ونفايس بينهم وبين أهل البيت - صلوات الله عليهم أجمعين.

 1 - المقايسة بين آدم وبينهم عليهم السلام: قال الله عزوجل وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه - الآية (1).

 وقال عزوجل: ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما وقال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أو تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدليهما


(1) - البقرة، 2: 36.

 


[234]

بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * (1) وقال عزوجل: ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما * وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى * فقلنا يا ادم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرئ وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى * فوسوس إليه الشيطان قال يا ادم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى * فأكلا منها فبدت لهما سؤاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى ادم ربه فغوى * (2) خلاصة الآيات، أن الله عزوجل خلق آدم وزوجه، واسكنهما الجنة وأباح لهما الجنة وجميع نعمه إلا قربهما من شجرة منهية، وأذن لهما في الأكل أكلا واسعا هنيئا من أي مكان كان لأنه عزوجل قال: وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمينء فأزلهما الشيطان عنها أي حولها وزحزحهما عن الجنة فأخرجهما مما كانا فيه أي من ذلك المكان أو النعمة الذى كانا فيها.

 وفي سورة الأعراف: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ماوري عنهما من سوآتهما وفي سورة طه: وعصى آدم ربه فغوى * أخى العزيز ! شاهدت ما أوردناه قبلا من معنى التطهير من الرجس في اللغة بتطهيرهم من كل ما تنفر عنه الطبع وما يعده العقل قبيحا، أفليست الزلة من آدم وزوجه مما يعده العقل قبيحا ؟ وما معنى العصيان ؟ وما معنى الغواية ؟ وهل علمت معنى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ؟ أنشدك الله ورسوله


(1) - الاعراف، 22 - 19.

 (2) - طه، 121 - 115.

 


[235]

كيف تقايس آية التطهير بالايات التى جاءت في آدم وزوجه ؟ هل إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * مساوية مع هذه الآيات: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها وفوسوس لهما الشيطان وفدليهما بغرور وبدت لهما سؤاتهما وألم أنهكما عن تلكما الشجرة وولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وعصى آدم ربه فغوى ؟ وهل هذه الآيات التي جاءت في شأن آدم وزوجه وخروجهما عن الجنة بقربهما إلى الشجرة المنهية مساوية مع الايات التي جاءت في سورة الأنسان في شأن علي عليه السلام وأهل بيته: وهي قوله تعالى: يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيراء إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * (1)

فآدم لما أن عصى زال فضله * وفي هل أتى شكر الإمام علي الرفد

 

خلاصة آيات سورة الدهر (الأنسان):

ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * المراد بإطعام الطعام الأحسان إلى المحتاجين بأي وجه كان، ومؤاساتهم مع أن الطعام محبوب لهم لأنهم في حال الفاقة والحاجة.

 إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * أي لانمن عليكم ولانتوقع منكم مكافأة مما ينقص الأجر، ولا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا تشكرونا لدى الناس.

 وعن سعيد بن جبير: (أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله ما في قلوبهم فأثنى به عليهم).

 أيها القارئ الكريم ! فانظر تفاسير العامة في شأن نزول الايات حتى اتضح


(1) - الانسان، 8 و9.

 


[236]

لك الحقيقة في المقايسة بين أهل البيت - صلوات الله عليهم أجمعين - وغيرهم.

 قال جار الله الزمخشري في تفسيره (الكشاف (1): (عن ابن عباس - رضي الله عنه -: إن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة عليها السلام وفضه جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا، وما معهم شئ، فاستقرض علي عليه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة عليها السلام صاعا فاختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم، أهل بيت محمد ! مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فأثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ على بيد الحسن والحسين عليهما السلام وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال صلى الله عليه واله وسلم: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة عليها السلام في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: خذها يا محمد، هناك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة).

 وذكر العلامة النيشابوري في تفسيره (غرائب القرآن (2) عين ما تقدم، ثم قال: (ويروى أن السائل في الليالي جبرائيل، أراد بذلك ابتلاء هم بأذن الله سبحانه).

 قال أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الالوسي البغدادي في (روح المعاني (3) بعد نقل ما تقدم من (الكشاف) بمثله: (وما ذا عسى يقول امرؤ فيهما [يعني عليا وفاطمة عليها السلام] سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصي النبي صلى الله عليه واله وسلم، و


(1) - المصدر، ج 4: ص 197، ط قاهره.

 (2) - النيشابوري: غرائب القرآن، ج:.

 (3) - المصدر، ج 29: ص 158، ط بيروت.

 


[237]

فاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي صلى الله عليه واله وسلم، وأما الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان، وليس هذا من الرفض بل ما سواه عندي هو الغي.

 ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين، وأنما صرح عزوجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول صلى الله عليه واله وسلم).

 أقول: وأن شئت زيادة توضيح فراجع: (الدر المنثور)، لجلال الدين السيوطي (1)، و(البحر المحيط) لأبي حيان الأندلسي المغربي (2)، (ينابيع المودة، للشيخ سليمان القندوزي الحنفي (3) و(كفاية الطالب) للحافظ الكنجي الشافعي (4) وفيه: (أن السائل الأول كان جبرئيل، والثاني ميكائيل، والثالث كان إسرافيل عليهما السلام.

 2 - مقايسة بين الخليل عليه السلام والأمير عليه السلام: قال الله عزوجل في قصة إبراهيم: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (5) خلاصة الآية أن إبراهيم عليه السلام لما رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى، فأمره تعالى عز شأنه أن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء، ويجعلها على عدة جبال، ثم يدعوهن إليه حتى يحصل له الاطمينان على كيفية إحياء الموتى.

 أخى العزيز ! لازم لك أن تتوجه بأن الخليل عليه السلام طلب من الله تعالى كيفية


(1) - السيوطي: الدر المنثور، ج 6: ص 299، ط بيروت.

 (2) - أبو حيان: تفسير البحر المحيط، ج 8: ص 395.

 (3) - القندوزي: ينابيع المودة، ص 93، ط اسلامبول.

 (4) - الكنجي: كفاية الطالب / الباب 98: ص 345، ط الغري.

 (5) - البقرة، 2: 261.

 


[238]

الأحياء لا أصل الأحياء، ونظير هذا أن يقول القائل: (كيف يحكم زيد في الناس) ؟ وهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولو كان سائلا عن ثبوت الحكم يقول: (أيحكم زيد) ؟ فالقائل في الاول لا شك له في أصل الحكم بل في كيفيته.

 وإنما سأل الخليل عليه السلام أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفرقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزقها.

 قال شهاب الدين الالوسي في تفسيره (روح المعاني (1): (يعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر ديني - والعياذ بالله - ولكنه سؤال عن كيفية الأحياء ليحيط بها علما، وكيفية الاحياء لا يشترط في الأيمان الأحاطة بصورتها، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة (كيف) موضوعها والسؤال عن الحال - إلى أن قال - ومعنى الطمأنية حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الأحياء المتحملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الايمان بالقدرة على الاحياء على أكمل الوجوه، ولا أرى رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئا وإنما افادت أمرا لا يجب الايمان به.

 ومن هنا تعلم أن عليا - كرم الله وجهه - لم يثبت لنفسه مرتبة في الأيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه، بقوله عليه السلام: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول (2).

 وعن العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير (الميزان (3): (والطمأنينة والأطمينان


(1) - المصدر، ج 3: ص 26، ط بيروت.

 (2) - مورد الحاجة من نقل كلامه قوله (عسى أن يتوهم) - الخ، وانما نتكلم على رده أفضلية الامام عليه السلام بعيد هذا.

 (3) - المصدر، ج 2: ص 394.

 


[239]

سكون النفس بعد انزعاجها واضطرابها، وهو مأخوذ من قولهم اطمأنت الأرض، وأرض مطمئنة إذا كانت فيه انخفاض يستقر فيها الماء إذا سال إليها - إلى أن قال - قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام (ليطمئن قلبي) مطلق يدل على كون مطلوبه عليه السلام من هذا السؤال حصول الايمان المطلق وقطع منابت كل خطور قلبي وأعراقه).

 وعن الفخر الرازي في (تفسيره الكبير) (1): (قوله تعالى: (قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) قالوا: والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل).

 أيها القارئ العزيز ! إذا سأل الخليل عليه السلام أن يريه الله عزوجل كيفية الاحياء حتى يحصل له الاطمينان ويرتفع عنه كل خطور الجنان يظهر لك أن في نفسه الشريفة حالات وخواطر وإلا كان سؤاله عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى عبثا، فما تقول في هذه الخواطر والوساوس هل هي موجودة في أهل البيت: أو أذهبها الله عنهم كلها وطهرهم منها تطهيرا ؟ فأنت إذا أمعنت النظر فيما سبق عرفت أن جميع أنواع الرجس مطلقا سواء كان عصيانا أو وسوسة أو اضطرابا أو شكا مدفوعة عنهم - صلوات الله عليهم أجمعين - فبهذا البيان ظهر فضله عليه السلام عليه عليه السلام بلا ريب.

 نعم، بقي هناشي لازم أن نشير إليه وهو أن ما استفدناه من الاية - من أن في نفس الخليل عليه السلام أحوالا وخواطرا، وهي منتفية عن أهل البيت: - إنما يصح إذا كان مورد الأطمينان ومتعلقه في قوله عليه السلام إحياء الموتى، وأما إذا كان موضع الأطمينان الخلة كما جاءت في الرواية فلا، والرواية هذه: عن علي بن محمد بن الجهم قال: (حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليه السلام، فقال له المأمون: يابن رسول الله ! أليس من قولك أن الأنبياء معصومون ؟ قال عليه السلام: بلى، قال: فما معنى قول الله عزوجل: (وعصى آدم ربه فغوى (2) - إلى أن قال: - فأخبرني عن قول


(1) - المصدر، ج 7: ص 40.

 (2) - طه، 121.

 


[240]

إبراهيم عليه السلام: (رب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي (1).

 قال الرضا عليه السلام: إن الله كان أوحى إلى إبراهيم عليه السلام أني متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته.

 فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام أنه ذلك الخليل، فقال: رب أرني كيف تحيى الموتى ؟ قال: أولم تؤمن ؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي على الخلة (2).

 أقول: هذا الحديث وإن جاء في كتب الحدث ك‍ (العيون) و(تفسير البرهان) و(نور الثقلين)، إلا أنه لا يخلو عن شيء كما قال العلامة الطباطبائي، في (تفسير الميزان) (3) (فما نقله [علي بن الجهم] من جوابه عليه السلام في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت: المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها، فالرواية لا تخلو عن شئ). والله أعلم.

 

 كون الخليل عليه السلام من شيعة الامير عليه السلام قال الله تعالى: وإن من شيعته لإبراهيم (4).

 قال القرطبي في تفسيره الكبير (الجامع لأحكام القرآن (5): (قال الكلبي والفراء: المعنى: وإن من شيعة محمد صلى الله عليه واله وسلم لإبراهيم.

 فالهاء في (شيعته) على هذا لمحمد صلى الله عليه واله وسلم، وعلى الأول [أي على قول ابن عباس ومجاهد] لنوح).

 وقال الطبري في تفسيره (6): (وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: وإن من شيعة محمد صلى الله عليه واله وسلم لإبراهيم).

 


(1) - البقرة، 260.

 (2) - الحويزى، حسن بن الجمعة: نور الثقلين، ج 1: ص 275.

 (3) - المصدر، ج 1: ص 147.

 (4) - الصافات، 83.

 (5) - المصدر، ج 15: ص 91.

 (6) - الطبري: جامع البيان، ج 24: ص 68.

 


[241]

قال الفخر الرازي: (الضمير في قوله من (شيعته) إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان: الأول - وهو الأظهر - إنه عائد إلى نوح عليه السلام.

 الثاني: قال الكلبي: المراد من شيعة محمد صلى الله عليه واله وسلم لإبراهيم (1).

 قال الالوسي: (وذهب الفراء إلى أن ضمير (شيعته) لنبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم - إلى أن قال: - وقلما يقال للمتقدم هو شيعة المتأخر، ومنه قول الكميت - (رحمه الله) -:

وما لي إلا آل أحمد شيعة * ومالي إلا مشعب الحق مشعب (2)

قال العلامة الطباطبائي: وإن من شيعته لإبراهيم، الشيعة هم القوم المشايعون لغيرهم الذاهبون على أثرهم، وبالجملة كل من وافق غيره في طريقته فهو من شيعته، تقدم أو تأخر، قال تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل (3).

 أيها القارئ الكريم ! أنت بعد ما لاحظت أقوال المفسرين، وعلمت آرائهم يحصل لك الأطمينان بأن الهاء في (شيعته) يمكن أن يعود إلى المتقدم أو المتأخر، أي إن المفسرين يجوزون أن يعود الضمير إلى نوح عليه السلام لأنه عليه السلام تقدم ذكره قبل إبراهيم عليه السلام أو إلى نبينا محمد صلى اللهعليه واله وسلم فإذا جاز عود الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يجوز أن يعود إلى أخيه ووصيه وعيبة علمه الذي هو بمنزلة نفسه وروحه مع ورود دليل نقلي يؤيده عن طريق أهل البيت - صلوات الله عليهم أجمعين -، وإليك بعض نصوصها: عن مولانا الصادق عليه السلام أنه قال: (قوله عزوجل: وإن من شيعته لإبراهيم أي


(41) - الرازي: التفسير الكبير، ج 26: ص 146.

 (2) - الالوسي: تفسير روح المعاني، ج: ص.

 (3) - الطباطبائي: الميزان، ج 17: ص 153.

 والاية في سبأ، 34: 54.

 


[242]

إبراهيم عليه السلام من شيعة علي عليه السلام (1).

 وسأل جابر بن يزيد الجعفي جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن تفسير هذه الاية: (وإن من شيعته لابراهيم) فقال عليه السلام: (إن الله سبحانه لما خلق إبراهيم عليه السلام كشف له عن بصره، فنظر فرأى نورا إلى جنب العرش فقال: إلهي ! ما هذا النور ؟ فقيل: هذا نور محمد صلى الله عليه واله وسلم صفوتي من خلقي ورأى نورا إلى جنبه، فقال: إلهي ! وما هذا النور ؟ فقيل له: هذا نور علي بن أبي طالب ناصر دينى.

 ورأى إلى جنبهما ثلاثة أنوار، فقال: إلهي ! وما هذه الأنوار ؟ فقيل: هذه نور فاطمة فطمت محبيها من النار، ونور ولديها الحسن والحسين.

 فقال: إلهي وأرى تسعة أنوار قد حفوا بهم (2).

 قيل: يا إبراهيم ! هؤلاء الأئمة من ولد علي وفاطمة، فقال إبراهيم: إلهي ! بحق هؤلاء الخمسة إلا ما عرفتني من التسعة ؟ فقيل: يا إبراهيم ! أولهم علي بن الحسين، وابنة محمد، وابنة جعفر، وابنة موسى، وابنة على، وابنة محمد، وابنة على، وابنة الحسن، والحجة القائم إبنه - صلوات الله عليهم أجمعين -.

 فقال إبراهيم: إلهي وسيدي ! أرى أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلا أنت.

 قيل: يا إبراهيم ! هؤلاء شيعتهم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

 فقال إبراهيم: وبما تعرف شيعته ؟ فقال: بصلاة إحدى وخمسين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، والقنوت قبل الركوع، والتختم في اليمين.

 فعند ذلك قال إبراهيم: اللهم اجعلني من شيعة أمير المؤمنين، قال: فأخبر الله في كتابه فقال: وإن من شيعته لإبراهيم (3).

 3 - المقايسة بين موسى وعلي عليهما السلام: قال الله عزوجل في قصة موسى: فلما أتيها نودي من شاطئ الواد الاءيمن في


(1) - البحراني: البرهان، ج 4: ص 20.

 (2) - وفي (تأويل الايات) المخطوط لشرف الدين النجفي: (قد أحدقوا بهم).

 (3) - البحراني: البرهان، ج 4: ص 20.

 


[243]

البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين * وأن ألق عصاك فلما راها تهتز كأنها جآن ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الامنين * اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين * قال رب إني قتلت منهم نفسا فاخاف أن يقتلون * (1) خلاصة الايات: أن موسى - على نبينا وآله وعليه السلام - لما رجع من مدين مع أهله، وما معه من الغنم ضل الطريق، وبينما هو كذلك إذ رأى نارا تضئ عن بعد، فقال لأهله: انتظروا قليلا إني أبصرت نارا لعلي اتيكم منها بخبر الطريق أو آتيكم بقطعة من الحطب فيها نار لتستدفئوا بها من البرد، فلما جاء إلى النار التي أبصرها من جانب الطور ناداه ربه من الجانب الأيمن من الوادي: يا موسى ! إني أنا الله رب العالمين، وأمره تعالى أن يلقي عصاه حتى يكون آية على نبوته من الله تعالى، فألقاها فصارت حية تسعى، فلما ورآها تتحرك وتضطرب كأنها جان من الحيات لسرعة عدوها وخفه حركتها خاف موسى عليه السلام وولى مدبرا ولم يرجع، فجاءه النداء من الله تعالى: يا موسى ! أقبل ولا تخف مما تهرب منه، هي عصاك، إنما أردنا أن نريك آية لتكون عونك، يا موسى ! أدخل يدك في جيب قميصك تخرج ولها شعاع يضئ من غير سوء ولابرص.

 فلما خاف موسى عليه السلام من العصا تارة، ومن شعاع يده مرة اخرى، أمره ربه أن تضع يده على صدره ليزول ما به من الخوف والدهشة كما يشاهد من حال الطير إذا خاف نشر جناحيه، وإذا أمن ضمهما إليه.

 ثم قال عزوجل: يا موسى ! فذانك برهانان، أي ما تقدم من جعل العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء، وهما دليلان واضحان على قدرة ربك وصحة نبوتك، فبناء على ذلك فاذهب إلى


(1) القصص 28: 33 - 30.

 


[244]

فرعون وملائه إنهم قد طغوا.

 قال: رب إني قتلت منهم نفسا وأخاف منهم أن يقتلون أيها القارئ الكريم ! انشدك بالله، هل تجد منصفا يقضي بالمساواة بين هذه الآيات التي جاءت في موسى عليه السلام مع اشتمالها على خوفه من الحية وهربه منها وخوفه من القتل، وبين آية التطهير التي هي مشتملة على إذهاب جميع أنواع الرجس عن أهل البيت: حتى الاضطراب والوسوسة والريب والخوف ؟ ويقول: لا فرق بين هذه الآيات والآية التي جائت في تضحية علي عليه السلام بنفسه الشريفة، وذلك حين أراد النبي صلى الله عليه واله وسلم الهجرة من مكة أمره عليه السلام أن ينام ويبيت في فراشه ؟ ! وهي قوله عزوجل: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤف بالعباد (1).

 وقد روى كثير من علماء العامة نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام.

 قال الفخر الرازي: (في سبب النزول روايات، (والرواية الثالثة) نزلت في علي بن أبي طالب، بات على فراش رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليلة خروجه إلى الغار، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبرئيل عليه السلام عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب ؟ يباهي الله بك الملائكة، ونزلت الاية (2).

 وقال أبو حيان الاندلسي: (وقيل: نزلت في علي عليه السلام حين خلفه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع، وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجرا صلى الله عليه واله وسلم (3).

 وقال الآلوسي: (وقال الأمامية وبعض منا: إنها نزلت في علي - كرم الله تعالى


(1) - البقرة، 2: 207.

 (2) - فخر الدين رازي: التفسير الكبير، ج 5: ص 223، ط مصر.

 (3) - أبو حيان: البحر المحيط، ج 2: ص 118، ط مصر.

 


[245]

وجهه - حين استخلفه النبي صلى الله عليه واله وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار (1).

 وقال القرطبي: (وقيل: نزلت في علي - رضي الله عنه - حين تركه النبي صلى الله عليه واله وسلم على فراشه ليلة خرج إلى الغار، على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله (2).

 وقال الحافظ، الشيخ سليمان الحنفي القندوزي: (قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: أوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل: أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر صاحبه، فايكما يؤثر أخاه عمره ؟ فكلاهما كرها الموت، فأوحى الله إليهما: أني آخيت بين علي وليي وبين محمد نبيي، فآثر علي حياته للنبي، فرقد على فراش النبي يقيه بمهجته، اهبطا إلى الأرض واحفظاه من عدوه، فهبطا فجلس جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب ؟ والله عزوجل يباهي بك الملائكة، فأنزل الله الآية (3).

 ولنزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام مصادر عديدة من كتب العامة والخاصة، فإن شئت أكثر مما ذكرنا فراجع (تذكرة الخواص)، و(كفاية الطالب)، و(البحار)، (ج 9، ط أمين الضرب) و(مسند أحمد)، و(الفصول المهمة)، وتفاسير الفريقين ذيل الآية الشريفة.

 ويعجبني أن اورد ما ذكره عبد الكريم الخطيب في كتابه القيم (علي ابن أبي طالب بقية النبوة وخاتم الخلافة (4)، قال: (لقد دعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عليا ليلة الهجرة، وطلب إليه أن يبيت في المكان الذي اعتاد الرسول صلى الله عليه واله وسلم أن يبيت فيه، وأن يتغطى بالبرد الحضرمي الذي كان النبي صلى الله عليه واله وسلم يتغطى به حتى إذا نظر ناظر من


(1) - الالوسي: روح المعاني، ج 2: ص 97.

 (2) - القرطبي: الجامع لاحكام القرآن، ج 3: ص 21.

 (3) - قندوزي: ينابيع المودة، ص 92.

 (4) - عبد الكريم الخطيب: علي بن ابي طالب بقية النبوة وخاتم الخلافة، صص 103 و107، ط دار المعرفة - بيروت.

 


[246]

قريش إلى الدار رأى كأن النبي صلى الله عليه واله وسلم نائم في مكانه مغطى بالبرد الذي يتغطى به.

 وهذا الذي كان من على في ليلة الهجرة إذا نظر إليه في فجر الأحداث التي عرضت للأمام علي في حياته بعد تلك الليلة فإنه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة وإشارات دالة على أن هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمرا عارضا، بل هو عن حكمة لها آثارها - إلى أن قال: - إنه إذا غاب شخص الرسول كان علي هو الشخصية المهياة لأن تخلفه وتمثل شخصه وتقوم مقامه.

 حين نظرنا إلى علي وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا: هذا خلف الرسول صلى الله عليه واله وسلم والقائم مقامه - انتهى ملخصا).

 4 - المقايسة بين زكريا وعلى عليهما السلام: قال الله عزوجل في قصة زكريا: قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقياً * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * (1).

 

خلاصة الآيات:

أن زكريا عليه السلام كان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل، وهو شيخ كبير لم يكن له ولد وكانت امرأته عاقرا، فنادى ربه نداء خفيا مستترا عن أعين الناس لأنه أبعد من الريا، قال: رب إني ضعفت قواي ووهن العظم مني - وذكر العظم لأنه عمود البدن وأساسه - واضطرم المشيب في سواد رأسي، وانتشر بياض الشعر كما ينشر شعاع النار في الهشيم، يا رب إني خفت من أبناء عمي من


(1) - مريم، 19: 1 - 4.

 


[247]

بعدي - وكأن بني عمه كانوا من شرار بني إسرائيل - فأعطني من واسع فضلك وعظم جودك وعطائك - لا بطريق الأسباب العادية - ولدا يرثني ويرث من آل يعقوب، واجعله رب رضيا.

 فاستجاب الله تبارك وتعالى دعاءه وتولى تسمية الولد بنفسه فقال: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى فلما سمع هذه البشرى صار متعجبا، فقال: من أي وجه كان لي ولد وامراتي عاقر، وقد ضعفت من الكبر ؟ وقال الله تعالى في رد كلامه: يا زكريا ! إني إذا أردت شيئا كان دون أن يتوقف على الأسباب العادية التى رسمتها للحمل والولادة، يا زكريا ! ليس خلق هذا الغلام الذي وعدتك بأعجب من خلق البشر جملة من العدم.

 قال زكريا: يا رب اجعل لي علامة تدلني على تحقق المسؤول.

 فقال الله تبارك وتعالى: علامتك على وجود المبشر به وحصول الحمل ألا تقدر على تكلم النا س بكلامهم المعروف ثلال ليال وأنت صحيح الجسم ليست بك علة ولا مرض.

 أخى العزيز ! احب أن تلاحظ الايات مرة اخرى بعين الدقة والنظر فإنه عليه السلام لما طلب من الله ولدا ونادى ربه نداء خفيا، وقال: ولم أكن بدعائك رب شقيا، استجاب الله عز شأنه دعاءه وبشره بغلام اسمه يحيى، فما معنى لاستفهامه عليه السلام بقوله: أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا مع ذكره عليه السلام هذين الأمرين في ضمن دعائه وهو قوله تعالى حكاية عنه: (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا... وكانت امرأتي عاقرا) ؟ أهذا استفهام إنكاري - العياذ بالله - ؟ لا، لأنه لا يناسب مقام النبوة، بل هو مبني على استعجابه عليه السلام.

 قال العلامة الطباطبائي رحمه الله: (فإن من بشر بما لا يتوقعه لتوفر الموانع وفقدان الأسباب تضطرب نفسه بادى ما يسمعها، فيأخذ في السؤال عن خصوصيات ما بشر به ليطمئن قلبه ويسكن اضطراب نفسه فإن الخطورات النفسانية ربما لا تنقطع


[248]

مع وجود العلم والأيمان (1).

 نعم، إن زكريا عليه السلام كان يوقن أن الله تعالى يعطيه ولدا وسماه يحيى، مع ذلك له اضطراب وقلق وأحوال وخواطر في كيفية الأعطاء حتى قال: رب اجعل لي آية وقال الله عزوجل: إنك لا تقدر على التكلم مع الناس إلا رمزا.

 أيها القراء الكرام ! أنشدكم الله ورسله هل يمكن لأحد أن يجد في شأن أهل البيت: موردا مثل ما ذكر من أحوال زكريا عليه السلام ؟ أعني أنهم: طلبوا من الله تعالى شيئا، وهو عزوجل شأنه استجاب دعاءهم وبشرهم به، ومع ذلك قالوا: أنى لنا ذلك ؟ وأحوالنا كذا وكذا، اللهم اجعل لنا اية حتى نكون من الطمئنين.

 لا، والله، فإن آية التطهير تدل دلالة واضحة وصراحة قاطعة على أنهم عليهم السلام في أعلى درجات اليقين والأطمينان، لا تشوبهم وسوسة من الوساوس، ولا خاطرة من الخطورات النفسانية حتى لو كشف الغطاء عنهم ما ازدادوا يقينا، لأن الله عز شأنه أذهب عنهم جميع أنواع الرجس، ومن أنواعه القلق والأضطراب، وطهرهم تطهيرا.

 أمن الأنصاف أن يقايس أحد هذه الايات التي جاءت في زكريا عليه السلام بآية المباهلة التي جاءت في أهل البيت - صلوات الله عليهم أجمعين - في مقام الدعاء والأبتهال ؟ ونحن نذكرها ونتكلم عليها فيما بعد، إن شاء الله تعالى.

 


(1) - الطباطبائي: الميزان، ج 14: ص 14.

 


[249]

 

الفصل 3

2 - آية الشهادة:

ومن الايات الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام وتقدمه على جميع الأنام، سوى نبينا محمد صلى الله عليه واله وسلم هي قوله تعالى عز شأنه: ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (1).

 إن الله تعالى أخبر وحكى عن الكفار أنهم أنكروا كون محمد صلى الله عليه واله وسلم نبيه مرسلا من جهته، وهو جل جلاله لقن رسوله صلى الله عليه واله وسلم في رد قولهم الأحتجاج عليهم بأمرين: الأول شهادة الله على رسالته.

 والثاني شهادة من عنده علم الكتاب معنى شهادة الله تعالى: أما شهادة الله تعالى فبالد لائل الواضحة والحجج القاطعة من إظهار المعجزات وخوارق العادات على يدي رسوله صلى الله عليه واله وسلم لصدق رسالته، فعلى هذا تكون شهادة الله تعالى فعليا، لا قوليا، وهذه الشهادة مقصودة في قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله اءلا هو العزيز الحكيم (2)، وهو عز


(1) - الرعد، 13: 43.

 (2) - آل عمران، 3: 18.

 


[250]

شأنه وجل جلاله شهد على وحدانية نفسه من عجيب خلقه ولطيف حكمته ووضع ميزانه فيما خلق.

 والشاهد على ذلك كون (قائما بالقسط) في الاية حالا من اسم الجلالة، كما في التفاسير.

 فالقيام بالقسط إشارة إلى البرهان على صدق شهادته تعالى في الآفاق والأنفس، فإن وحدة النظام تدل على وحدة واضعه، ولعلك لو تأملت ذيل الآية تتجلى لك الحقيقة، وهو قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم تفرد بالالوهية وكمال العزة والحكمة، فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط والعدل ووضع كل شيء على وفق حكمته.

 فإذا ظهرت لك الحقيقة من أن شهادته عزوجل على وحدانيته قيامه بالقسط وعدله على وفق الحكمة، وشهادته عزوجل على صدق رسالة رسوله إظهار المعجزات وخرق العادات على يده، فاعلم أن من جملة المعجزات، بل من أعظمها إنزال القرآن عليه بحيث تحدى به العرب، وعجزت الفصحاء والبلغاء عن الأتيان بسورة من مثله.

 ومن الواضح قبح إظهار المعجزة على يد الكاذب، تعالى الله عن ذلك.

 إن قلت: لعل الاية الكريمة نزلت تسلية لرسول الله، يعني أن الله تعالى يعلم إنك رسوله فلا يضرك تكذيب الكفرة، كقول القائل في مقام تسلية نفسه: إن الله يعلم ويشهد بصدق إدعائي، فعلى هذا لا يلزم من شهادة الله تعالى على رسالة رسوله إظهار المعجزات وخوارق العادات على يده.

 قلنا: بين المقامين فرق واضح، لأن الاية نزلت في رد الكفار المعاندين وفي مقام الأحتجاج عليهم، فلايتم الأحتجاج إلا بظهور المعجزات وخوارق العادات، وفي الاية تلويح بل للمنصف تصريح بذلك، لأن الاية لو كانت هكذا كفى بالله شهيدا ومن عنده علم الكتاب لاحتمل أن تكون في مقام التسلي لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقط دون الأحتجاج والرد عليهم، ولكنها مع ذكر (قل) في صدرها، وضم (بيني وبينكم) إليها تدل على أنها في مقام الأحتجاج والرد عليهم، وذلك لا يمكن إلا


[251]

بالمعجزات وخوارق العادات.

 معنى شهادة من عنده علم الكتاب: وأما شهادة (من عنده علم الكتاب) وكيفيتها فستتضح لك بعد أن تعلم المراد من الموصول في الاية الشريفة.

 واعلم أن الله تعالى اكتفى في إثبات رسالة رسوله صلى الله عليه واله وسلم بشهادة نفسه وشهادة من عنده علم الكتاب، وجعلها في عرض شهادته وجعله عديلا لنفسه وقرينا لساحة قدسه، ومن البديهي أنه ليس انضمام شهادة من عنده علم الكتاب إلى شهادة الله تعالى من قبيل ضم شهادة عدل إلى شهادة عدل آخر، أو دليل ظني الى آخر لأن الرسالة والنبوة من الاصول لا تثبت إلا بالعلم واليقين، فعلى هذا يكون ضم شهادة من عنده علم الكتاب إلى شهادة الله تعالى ضم برهان مستقل إلى برهان مستقل آخر، وهذا متوقف على ثبوت عصمة الشاهد وإلا لا يحصل للأنسان يقين.

 أخى العزيز ! فتعال معي نلاحظ الأخبار والأحاديث التي جاءت من طريق العامة والخاصة في شأن (من عنده علم الكتاب) حتى يتضح الأمر، إن شاء الله تعالى.

 فمن طريق العامة: 1 - قال العلامة سليمان بن إبراهيم الحنفي القندوزي في تفسير قوله: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب: الثعلبي وابن المغازلي بسنديهما عن عبد الله بن عطاء قال: (كنت مع محمد الباقر - رضي الله عنه - في المسجد فرأيت ابن عبد الله ابن سلام، قلت: هذا ابن الذي عنده علم الكتاب.

 قال: إنما ذاك علي بن أبي طالب (1).

 


(1) - القندوزي: ينابيع المودة، الباب الثلاثون.

 


[252]

2 - الثعلبي وابو نعيم بسنديهما عن زاذان، عن محمد بن الحنفية، قال: (من عنده علم الكتاب علي بن أبي طالب).

 3 - عن الفضيل بن يسار، عن الباقر صلى الله عليه واله وسلم، قال: (هذه الاية نزلت في علي عليه السلام، إنه عالم هذه الامة).

 وفي رواية عنه عليه السلام قال: (إيانا عنى خاصة، وعلي أفضلنا وأولنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم).

 4 - عن عمر بن اذينة، عن جعفر الصارق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين - صلوات الله عليه -: (ألا إن العلم الذي هبط به آدم عليه السلام من السماء إلى الأرض وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيين في عترة خاتم النبيين صلى الله عليه واله وسلم).

 5 - وقال الصادق عليه السلام: (علم الكتاب كله - والله - عندنا، وما اعطي وزير سليمان بن داود عليه السلام إنما عنده حرف واحد من الاسم الأعظم وعلم بعض الكتاب كان عنده، قال تعالى: قال الذي عنده علم من الكتاب - اي بعض الكتاب - أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك (1).

 قال تعالى لموسى عليه السلام: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة (2) بمن التبعيض.

 وقال في عيسى عليه السلام: ولا بين لكم بعض الذي تختلفون فيه (3) بكلمة البعض.

 وقال في علي: ومن عنده علم الكتاب أي كل الكتاب، وقال: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (4)، وعلم هذا الكتاب عنده عليه السلام).

 6 - عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري - 2 - قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن هذه الاية الذي عنده علم من الكتاب قال: ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليه السلام.

 وسألته عن قول الله عزوجل: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن


(1) - النمل، 27: 40.

 (2) - الاعراف، 7: 145.

 (3) - الزخرف، 43: 63.

 (4) - الانعام، 6: 59.

 


[253]

عنده علم الكتاب قال: ذاك أخي علي بن أبي طالب).

 7 - عن محمد بن مسلم، وأبي حمزة الثمالي، وجابر بن يزيد، عن الباقر عليه السلام، وروي (عن) علي بن فضال والفضيل بن يسار وأبي بصير، عن الصادق عليه السلام، وروى أحمد بن محمد الحلبي ومحمد بن فضيل، عن الرضا عليه السلام، وقد روي عن موسى بن جعفر وعن زيد بن علي عليه السلام وعن محمد الحنفية، وعن سلمان الفارسي وعن أبي سعيد الخدري وإسماعيل السدي أنهم قالوا في قوله تعالى: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب، هو علي بن أبي طالب عليه السلام).

 8 - وسئل سعيد بن جبير: (ومن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام ؟ قال: لا، وكيف وهذه السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم في المدينة بعد الهجرة).

 9 - وابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (من عنده علم الكتاب إنما هو علي، لقد كان عالما بالتفسير والتأويل والناسخ والمنسوخ).

 10 - وعن محمد بن الحنفية - رضي الله عنه - قال: (عند أبي أمير المؤمنين علي - صلوات الله عليه - علم الكتاب الأول والاخر).

 11 - عن قيس بن سعد بن عبادة، قال: (ومن عنده علم الكتاب علي.

 قال معاوية بن أبي سفيان: هو عبد الله بن سلام، قال قيس: أنزل الله: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (1)، وأنزل: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه (2)، فالهادي من الاية الاولى، والشاهد من الثانية علي، لأنه نصبه صلى الله عليه واله وسلم يوم الغدير وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه) وقال: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).

 فسكت معاوية ولم يستطع أن يردها).

 قال بعض المحققين: (إن الله تبارك وتعالى بعث خاتم أنبيائه وأشرف رسله و


(1) - الرعد، 13: 7.

 (2) - هود، 11: 17.

 


[254]

أكرم خلقه بمنه وفضله العظيم بسابق علمه ولطفه بعد أخذه العهد والميثاق على أنبيائه وعباده بمحمد صلى الله عليه واله وسلم بقوله: لتؤمنن به ولتنصرنه (1) ولما فتح الله أبواب السعادة الكبرى والهداية العظمى برسالة حبيبه على العرب وقريش وخصوصا على بني هاشم بقوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين (2) ورهطك المخلصين اقتضى العقل أن يكون العالم بجميع أسرار كتاب الله لابد أن يكون رجلا من بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم لأنه أقرب به من سائر قريش، وأن يكون إسلامه أولا ليكون واقفا على أسرار الرسالة وبدء الوحي، وأن يكون جميع الأوقات عنده بحسن المتابعة ليكون خبيرا عن جميع أعماله وأقواله، وأن يكون من طفوليته منزها عن أعمال الجاهلية ليكون متخلفا بأخلاقه ومؤدبا بآدابه ونظيرا بالرشيد من أولاده، فلم يوجد هذه الشروط لأحد إلا في علي عليه السلام.

 وأما عبد الله بن سلام لم يسلم إلا بعد الهجرة، فلم يعرف سبب نزول السور التي نزلت قبل الهجرة، ولما كان حاله هذا لم يعرف حق تأويلها بعد إسلامه، مع أن سمان الفارسى الذى صرف عمره الطويل ثلاث مائة وخمسين سنة في تعلم أسرار الأنجيل والتوراة والزبور وكتب الأنبياء السابقين والقرآن لم يكن من عنده علم الكتاب لفقده الشروط المذكورة، فكيف يكون من عنده علم الكتاب ابن سلام الذي لم يقرأ الأنجيل، ولم يوجد فيه الشروط، ولم يصدر منه مثل ما صدر من علي يعسوب الدين من الأسرار والحقائق في الخطبات، مثل قوله: (سلوني قبل أن تفقدوني، فإن بين جنبي علوما كالبحار الزواخر)، ومثل ما صدر من أولاده الأئمة الهداة - عليهم سلام الله وبركاته - من المعارف والحكم في تأويلات كتاب الله وأسراره (3).

 12 - قال القرطبي في تفسيره: (قال عبد الله بن عطاء: قلت لأبي جعفر بن علي بن


(1) - آل عمران، 3: 81.

 (2) - الشعراء، 26: 214.

 (3) - القندوزي: ينابيع المودة، صص 102 الى 105.

 


[255]

الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام، فقال: انما ذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وكذلك قال محمد بن الحنفية (1).

 13 - قال أبو حيان الاندلسي المغربي في تفسيره: (قال قتاده: كعبد الله بن سالم و(تميم الداري وسلمان الفارسي).

 وقال مجاهد: عبد الله بن سلام خاصة.

 وهذان القولان لا يستقيمان إلا أن تكون الاية مدنية، والجمهور على أنها مكية.

 وقال محمد ابن الحنفية والباقر عليه السلام: هو علي بن أبي طالب (2).

 14 - قال الالوسي في تفسيره: (قال محمد ابن الحنفية والباقر عليه السلام: المراد بـ(من) علي كرم الله تعالى وجهه (3).

 ومن طريق الخاصة: 15 - قال العلامة الفيض القاساني في تفسيره: (وفي الأحتجاج: سأل رجل علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - عن أفضل منقبة له، فقرأ الاية وقال: إياي عنى بمن عنده علم الكتاب (4).

 16 - علي بن إبراهيم القمي، عن الصادق عليه السلام: (الذي عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين عليه السلام.

 وسئل عن الذي عنده علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب ؟ فقال: ما كان علم الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر (5).

 


(1) - الجامع الاحكام القرآن ج 9 ص 336.

 (2) - أبو حيان: البحر المحيط، ج 5: ص 401.

 (3) - الالوسي: روح المعاني، ج 13: ص 158.

 (4) - الفيض القاساني: تفسير الصافى، ج 3: ص 77.

 (5) - علي بن إبراهيم: تفسير القمي، ج 1: ص 367، الفيض القاساني: تفسير الصافى / ذيل الآية.

 


[256]

17 - وعن الصادق عليه السلام: (علم الكتاب والله كله عندنا، والله كله عندنا (1).

 18 - العياشي، عن الباقر عليه السلام: (أنه قيل له: هذا ابن عبد الله بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول الله: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب، قال عليه السلام: كذب، هو علي بن أبي طالب عليه السلام (2).

 أخي المكرم ! فبعد ما لاحظت الأخبار والأحاديث، وعلمت بمعونتها أن المراد من الموصول في الاية: (ومن عنده علم الكتاب) هو سيد الوصيين أمير المؤمنين عليه السلام فجدير بك أن تعلم أن شهادته عليه السلام على صحة الرسالة فعلية وقولية.

 أما القولية فالأقرار باللسان عمن هو المثل الأعلى في المعارف.

 وأما الفعلية فبمتابعته له والاتباع لأمره والانتهاء بنهيه.

 ويعجبني جدا ماقاله العلامة سماحة الحجة، الاية الله العظمى، السيد الخوئي في تفسيره في تصديق علي عليه السلام الرسالة.

 قال،: (إن تصديق علي عليه السلام - وهو على ما عليه من البراعة في البلاغة والمعارف وسائر العلوم - لاعجاز القرآن هو بنفسه دليل على أن القرآن وحي إلهى، فإن تصديقه بذلك لا يجوز أن يكون ناشئا عن الجهل والاغترار، كيف وهو رب الفصاحة والبلاغة، وإليه تنتهي جميع العلوم


(1) - علي بن إبراهيم: تفسير القمي، ج 1: ص 367، الفيض القاساني: تفسير الصافى / ذيل الآية.

 (2) - السمرقندي: تفسير العياشي، ج 2: ص 220.

 وليعلم أن معنى (من عنده علم الكتاب) معنى عام ينطبق على كل من كان له تلك الصفة، والمراد بالكتاب إن كان هو القرآن فظاهر كون (من عنده) على عليه السلام دون سائر الناس، امثال ابن سلام وأضرابه.

 وإن كان المراد التوراة - كما هو الظاهر من السياق - فكون علمها عند عبد الله بن سلام لا ينافي كونها عند على عليه السلام.

 والحق، أن المراد بمن عنده علم الكتاب في هذه الامة على بن أبي طالب عليه السلام، لا غير.

 ومن امة موسى عليه السلام عبد الله بن سلام.

 فإن كان المراد بالكتاب مطلق الكتب السماوية فلا خلاف في كون المراد بمن عنده علي عليه السلام، وإن كان خصوص التوراة فعبد الله بن سلام أيضا يعلمها، ولو كان حينذاك في المدينة ولم يسلم بعد، فلا مانع من شهادته يصدق النبي لبشارة التوراة والمطلوب هنا شهادة المخالف لا الموافق فلا منافاة بين الاخبار والاقوال.

 (الغفاري)


[257]

الأسلامية، وهو المثل الأعلى في المعارف، وقد اعترف بنبوغه وفضله المؤالف والمخالف ؟ وكذلك لا يجوز أن يكون تصديقه هذا تصديقا صوريا ناشئا عن طلب منفعة دنيوية من جاه أو مال، كيف وهو منار الزهد والتقوى، وقد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ورفض زعامة المسلمين حين اشترط عليه أن يسير بسيرة الشيخين، وهو الذي لم يصانع معاوية بإبقائه على ولايته أياما قليلة مع علمه بعاقبة الأمر إذا عزله عن الولاية، وإذن فلابد من أن يكون تصديقه بإعجاز القرآن تصديقا حقيقتا مطابقا للواقع ناشئا عن الأيمان الصادق.

 وهذا هو الصحيح والواقع المطلوب (1) - انتهى).

 وقال الواقدي المورخ في شهادة علي عليه السلام على إثبات الرسالة نظير ما قاله العلامة الحجة الخوئي،، قال: ابن النديم في (الفهرست) (2): (روى (الواقدي) أن عليا عليه السلام كان من معجزات النبي صلى الله عليه واله وسلم كالعصا لموسى عليه السلام وإحياء الموتى لعيسى بن مريم عليه السلام).

 إن قلت: المنكر للأصل - وهو النبي صلى الله عليه واله وسلم - فلا تكون شهادته قاطعة للخصومة بالنسبة إلى النبوة، فكيف يستشهد الله عزوجل بشهادته على ثبوت النبوة ويحتج بها على منكري النبوة والرسالة ؟ يقال: إنما لا يجوز الاكتفاء بشهادة الفرع إذا كان القبول مستندا إلى مجرد الأقرار والاعتراف مع قطع النظر عن ظهور مقامه ودرجته من كونه عالما بالكتاب، واقفا على كل شئ، قادرا على إظهار المعجزات وخوارق العادات الملازم للعصمة والصدق عقلا، وأما إذا كان الاستشهاد به من حيث كونه كذلك - كما في المقام - حيث لم يذكر الشاهد باسمه بل بوصفه لينظر المنكر في شأنه و


(1) - الخوئي: البيان في تفسير القرآن، ص 91.

 (2) - الخوئي: البيان في تفسير القرآن، ص 111.

 


[258]

يراجع إليه ويظهر عنده ثبوت آثاره فينكشف عنده ثبوت الوصف للشاهد وأحقية المشهود به فهو قاطع للخصومة ومثبت للدعوى بالضرورة وإن لم يتعرف به المنكر عنادا.

 فبما أوضحناه وبيناه ظهر واتضح أن شهادة علي على إثبات الرسالة فعلية وقولية، وأنها صارت كالمعجزة لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم.

 وأيضا أن المراد من الموصول في (ومن عنده علم الكتاب) هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

 وفي الموصول أقوال اخر ينبغي أن نلفت النظر إليها وإلى ردها.

 قال بعض: (المراد من الموصول هم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وتميم الدارمي وسلمان الفارسي) وهذا القول مردود بأن السورة مكية، وهؤلاء أسلموا بالمدينة.

 وأن شئت زيادة توضيح فلاحظ أقوال المفسرين في ذيل الآية: قال أبو حيان الاندلسي في تفسيره: (والجمهور على أنها مكية (1).

 وقال الطبري في تفسيره: (عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير ومن عنده علم الكتاب أهو عبد الله بن سلام ؟ قال: هذه السورة مكية فكيف يكون عبد الله بن سلام ؟ (2).

 وقال القرطبي في تفسيره: (قال ابن جبير: السورة مكية وابن سلام أسلم بالمدينة بعد هذه السورة، فلا يجوز أن تحمل هذه الاية على ابن سلام (3).

 وقال الالوسي في تفسيره: (واجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون: إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية، فلتكن هذه من ذلك.

 وأنت تعلم أنه لابد لهذا من نقل.

 وفي البحر: أن ما ذكر (يعنى كون الاية في شأن ابن سلام) لا يستقيم إلا أن تكون هذه الاية مدنية والجمهور على أنها مكية ؟.

 والشعبي أنكر أن يكون


(1) - أبو حيان: البحر المحيط، ج 9: ص 401.

 (2) - الطبري: جامع البيان، ج: ص 104.

 (3) - الجامع الاحكام القرآن ج 9 ص 336.

 


[259]

شئ من القرآن نزل فيه (1).

 وقال الفخر الرازي في تفسيره: (إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين من الكذب لا يجوز، وهذا السؤال واقع (2).

 إن قلت: ما تقول في الاية التي تصرح على أن أحدا من بنى إسرائيل شهد على صحة الرسالة والنبوة وهي قوله تعالى في سورة الأحقاف (الاية 10): قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ؟ قلنا: وإن قال بعض المفسرين إن الشاهد هو عبد الله بن سلام، إلا أن هذا القول مردود لأن سورة الأحقاف كلها مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة.

 وقال الطبري في تفسيره: (قوله: وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، وهو موسى بن عمران عليه السلام، على مثله يعني على مثل القرآن، قالوا: ومثل القرآن الذي شهد عليه موسى بالتصديق التوراة).

 وقال أيضا: (سئل داود عن قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به - الاية، قال داود: قال عامر: قال مسروق: والله، ما نزلت في عبد الله بن سلام، ما نزلت إلا بمكة وما أسلم عبد الله إلا بالمدينة، ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه واله وسلم بها قومه.

 قال: فالتوراة مثل القرآن، وموسى مثل محمد صلى الله عليه واله وسلم فآمنوا بالتوراة وبرسولهم وكفرتم (3).

 أقول: وبالجملة لا شاهد لتفسيره بعبدالله بن سلام، بل الشاهد موجود على خلافه وهو نزول السورة بمكة، وتوهم أن السورة مكية إلا هذه الاية استنباط من القائل، لأن العقل يستقل بقبح الأحتجاج بما لاحجية له، فكيف يحتج الله تعالى


(1) - الالوسي: روح المعاني، ج 13: ص 158.

 (2) - الفخر: التفسير الكبير، ج 19: ص 70.

 (3) - الطبري: جامع البيان، ج 26: ص 6.

 


[260]

شأنه بما لا يكون حجة ويجعلها حجة وكافية قاطعة للخصومة.

 وقال بعضهم: (إن كون الاية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به)، وفيه أي معنى لأن يحتج على قوم يقولون: لست مرسلا، بأن يقال لهم: صدقوه اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون عليه.

 إن قلت: ذكر بعضهم أن المراد بالموصول هو الله عزوجل فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا.

 يقال: هذا من عطف الذات وهو الموصول مع صفته (علم الكتاب) إلى نفس الذات وهو الله تعالى، وهذا قبيح غير جائز، ومضافا إلى ذلك أن هذا القول مناف لأخبار كثيرة تقول: إن المراد من الموصول في (ومن عنده علم الكتاب) هو أمير المؤمنين عليه السلام.

 فقد اتضح مما ذكرناه أن الاية لا ينطبق على أحد من علماء اليهود كعبد الله بن سلام ونظرائه وإخوانه، لأن هؤلاء أسلموا بعد الهجرة والحال أن السورة مكية باتفاق الجمهور، فأذا لم يصدق الموصول على عبد الله بن سلام وأمثاله ثبت صدقه على أمير المؤمنين عليه السلام لأن الأقوال لا يزيد عن أربعة، فإذا بطل ثلاثة ثبت الرابع بلا ريب.

 وأما المراد من الصلة (علم الكتاب)، فقال بعضهم: هو التوراة والانجيل، وهذا قول من قال: إن المراد من (من) الموصول علماء أهل الكتاب، وقد علمت أن السورة مكية وأن علماء اليهود والنصارى أسلموا في المدينة.

 وقال بعضهم: هي التوراة بالخصوص وهو كما ترى كسابقه.

 وقال بعضهم: هو اللوح المحفوظ.

 وهذا قول من اعتقد أن المراد من الموصول هو الله تعالى، وقد علمت أنه من قبيل عطف الذات مع صفته إلى الذات وهو غير جائز.

 وقال بعضهم: إن المراد بها هي القرآن يعني من تحمل هذا الكتاب وتحقق بعلمه واختص به ويعلم تأويله وتنزيله، وظهره وبطنه، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابه، ومطلقه ومقيده،


[261]

ومجمله ومبينه.

 إن قلت: من أين هذا العموم والأستغراق ؟ قلت: إضافة العلم إلى الكتاب تفيد العموم، فيكون المراد العلم بكل الكتاب الذي لم يفرط فيه من شئ، ولا رطب ولا يابس إلا فيه وهذا ملازم لكمال العصمة وتمام القدس.

 أخى العزيز ! إن العلم بظهر الكتاب وبطنه لا يحصل بالأكتساب وإنما هو موهبة جليلة لا يليق بها إلا من اجتمعت فيه الفضائل الكريمة منها العصمة والطهارة يؤتيها الله من يشاء حسب مراتب استعداده، ولذا اختلف نصيب الأنبياء في العلم والكمال، فمنهم من اوتي حرفا واحدا، ومنهم اوتي حرفين أو ثلاثة أو أزيد، ولم يؤت الجميع أحد من الأنبياء وأوصيائهم عليه السلام إلا نبينا وأوصياؤه - صلى الله عليهم أجمعين -.

 ولم يكن منع الجميع من بخل من المبدأ الفياض - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - بل من جهة عدم استعدادهم له - وهذا يدل على ارتفاعهم: درجات الكمال ظاهرها وباطنها وأولها إلى آخرها ألف ألف مرة بحيث لا يتصور فوقها درجة ومرتبة، (فبلغ الله بكم أشرف محل المكرمين، وأعلى منازل المقربين، وأرفع درجات المرسلين حيث لايلحقه لاحق، ولا يفوقه فائق، ولا يسبقه سابق، ولا يطمع في إرادكه طامع (1).

 فعلى هذا إن الاية الكريمة تدل على أن علم الكتاب كله عند مولانا أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ذريته - سلام الله عليهم أجمعين -، وأيضا تدل على أنهم أعلم وأفضل من أولي العزم من الأنبياء: لأن علومهم محدودة وليس عندهم علم الكتاب كله.

 والشاهد على ذلك آيات وروايات، ومن الايات التي تصرح بذلك هي الاية التي جاءت في شأن سليمان بن داود ووزيره ووصيه عليهما السلام وهي قوله تعالى: قال يا أيها الملاء أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني


(1) - الزيارة الجامعة الكبيرة.

 


[262]

مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فأنما يشكر لنفسه ومن كفر فان ربي غني كريم * (1) والمراد من الموصول (الذي) آصف بن برخيا، وزير سليمان عليه السلام كما يظهر من الروايات، وعنده علم بعض الكتاب لاكله، كما هو واضح من كلمة (من) البعضية، سواء كان المراد من الكتاب اللوح المحفوظ أو جنس الكتب المنزلة أو كتاب سليمان.

 فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن هذه الاية الذي عنده علم من الكتاب قال: ذاك وزير أخي سليمان بن داود عليهما السلام وسألته عن قول الله عزوجل: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب قال صلى الله عليه واله وسلم: ذاك أخي علي بن أبي طالب عليه السلام (2).

 وعن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل: (فأيما أكرم على الله نبيكم، أم سليمان عليه السلام ؟ فقالوا: بل نبينا أكرم يا أمير المؤمنين.

 قال: فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان عليه السلام، وإنما كان عند وصي سليمان من اسم الله الأعظم حرف واحد سأل الله - جل اسمه - فخسف له الأرض ما بينه وبين سرير بلقيس فتناوله في أقل من طرف العين، وعندنا من اسم الله الأعظم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله تعالى استأثر به دون خلقه.

 فقالوا: يا أمير المؤمنين ! فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية وغيره واستنفارك الناس إلى حربه ثانية ؟ فقال عليه السلام: بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * (3) إنما أدعو


(1) - النمل، 27: 40 - 38.

 (2) - القندوزي: ينابيع المودة، الباب 30: ص 103.

 (3) - الانبياء، 21: 26 و27.

 


[263]

هؤلاء القوم إلى قتاله ليثبت الحجة وكمال المحنة (1).

 وسئل الصادق عليه السلام عن الذي علم من الكتاب أعلم أم الذي عنده علم الكتاب.

 فقال عليه السلام: (ما كان الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر (2).

 وعن عبد الله بن الوليد السمان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (ما يقول الناس في اولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام ؟ قال: قلت: ما يقدمون على اولي العزم أحدا.

 قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام: وكتبنا له في الاءلواح من كل شيء موعظة (3) ولم يقل: كل شئ، وقال لعيسى عليه السلام: ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه (4) ولم يقل: كل شئ، وقال لصاحبكم أمير المؤمنين عليه السلام: قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (5) وقال الله عزوجل: ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (6)، وعلم هذا الكتاب عنده عليه السلام (7).

 وعنه قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (أي شيء تقول الشيعة في عيسى وموسى وأمير المؤمنين: ؟ قلت: يقولون: إن عيسى وموسى أفضل من أمير المؤمنين عليه السلام.

 فقال عليه السلام: أتزعمون أن أمير المؤمنين عليه السلام قد علم ما علم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ؟ قلت: نعم، ولكن لا تقدمون على أولى العزم أحدا، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فخاصمهم بكتاب الله، قلت: وفي أي موضع منه اخاصمهم ؟...) فذكر عليه السلام عين ما تقدم (8).

 


(1) - البحراني: تفسير البرهان، ج 3: ص 205.

 (2) - الفيض القاساني: تفسير الصافى / ذيل الاية.

 (3) - الاعراف، 7: 145.

 (4) - الزخرف، 43: 63.

 (5) - الرعد، 13: 43.

 (6) - الانعام، 6: 59.

 (7) - الحويزي: تفسير نور الثقلين، ج 2: ص 68.

 (8) - المصدر.