الفصل 3

صفة الحوض ومنزلة أمير المؤمنين عليه السلام عنده

قال الصدوق رحمه الله: (إعتقادنا في الحوض أنه حق، وأن عرضه ما بين أيلة وصنعاء (1)، وهو حوض النبي صلى الله عليه واله وسلم، وأن فيه من الأباريق عدد نجوم السماء، وأن الوالي عليه يوم القيامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يسقي منه أولياءه، ويذود عنه أعداءه، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا (2) 1 - عن أبى أيوب الأنصاري، قال: (كنت عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقد سئل عن الحوض، فقال: أما إذا سألتموني عن الحوض فإني سأخبركم عنه، إن الله تعالى أكرمني به دون الأنبياء، وإنه ما بين أيلة إلى صنعاء، يسيل فيه خليجان من الماء، ماؤهما أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، بطحاؤهما مسك أذفر، حصباؤهما الدر والياقوت، شرط مشروط من ربي لا يردهما إلا الصحيحة نياتهم، النقية قلوبهم، الذين يعطون ما عليهم في يسر، ولا يأخذون مالهم في عسر، المسلمون للوصي من بعدي، يذود من ليس من شيعته كما يذود الرجل الجمل الأجرب عن


(1) - أيلة - بالفتح -: مدينة على ساحل بحر القلزم - والصنعاء موضعان، أحدهما باليمن، واخرى بدمشق.

 (2) - المجلسي: بحار الانوار، ج 8: ص 27.

 


[478]

إبله (1)).

 2 - عن عبد الله بن عباس، قال: (لما نزل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إنا أعطيناك الكوثر قال له علي بن أبي طالب: ما هو الكوثر يا رسول الله، قال: نهر أكرمني الله به، قال علي: إن هذا النهر شريف فانعته لنا يا رسول الله، قال: نعم، يا علي الكوثر نهر يجري تحت عرش الله تعالى، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، وحصاه (حصباؤه - خ ل) الزبرجد والياقوت والمرجان، حشيشه الزعفران، ترابه المسك الأذفر، قواعده تحت عرش الله عز وجل، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يده في جنب علي أمير المؤمنين عليه السلام وقال: يا علي ! إن هذا النهر لي ولك ولمحبيك من بعدي (2).

 3 - قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (في حديث طويل): (يا علي ! أنت أول من تنشق عنه الأرض معي، (وأنت أول من يبعث معي)، وأنت أول من يجوز الصراط معي، وإن ربي عز وجل أقسم بعزته أنه لا يجوز عقبة الصراط إلا من معه براءة بولايتك وولاية الأئمة من ولدك، وأنت أول من يرد حوضي، تسقي منه أولياءك، وتذود عنه أعداءك، وأنت صاحبي إذا قمت المقام المحمود، ونشفع لمحبينا فنشفع فيهم، وأنت أول من يدخل الجنة وبيدك لوائي وهو لواء الحمد وهو سبعون شقة، الشقة منه أوسع من الشمس والقمر، وأنت صاحب شجرة طوبى في الجنة، أصلها في دارك، وأغصانها في دور شيعتك ومحبيك (3).

 4 - عن أبى الأسود الدئلي، عن أبيه، قال: (سمعت أمير المؤمنين، علي بن أبى طالب عليه السلام، يقول: والله، لأذودن بيدي هاتين القصيرتين عن حوض


(1) - المجلسي: بحار الانوار، ج 8: ص 28.

 (2) - المجلسي: بحار الانوار، ج 8: ص 18.

 (3) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: صص 211 و212 و216.

 


[479]

رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أعداءنا وليردنه أحباؤنا (1).

 5 - عن علي عليه السلام: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لأقمعن بيدي هاتين عن الحوض أعداءنا، ولاوردنه أحباءنا (2).

 6 - عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: (أنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومع عترتي على الحوض، فمن أرادنا فليأخذ بقولنا، وليعمل عملنا، فإن لكل أهل نجيبأ ولنا نجيب، ولنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة، فتنافسوا في لقائنا على الحوض فإنا نذود عنه أعداءنا، ونسقي منه أحباءنا وأولياءنا، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، حوضنا فيه مشعبان ينصبان من الجنة، أحدهما من تسنيم والاخر من معين، على حافتيه الزعفران، وحصاه اللؤلؤ، وهو الكوثر (3).

 7 - عن ابن خالد، عن الرضا، عن آبائه، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (يا علي ! أنت أخي ووزيري وصاحب لوائى في الدنيا والاخرة، وأنا صاحب حوضي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني (4).

 8 - عن عبد الرحمن بن قيس الرحبي قال: (كنت جالسا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على باب القصر حتى ألجأته الشمس إلى حائط القصر، فوثب ليدخل، فيقام رجل من همدان فتعلق بثوبه وقال: يا أمير المؤمنين ! حدثني حديثا جامعا ينفعني الله به، قال: أولم يكن في حديث كثير ؟ قال: بلى، ولكن حدثني حديثا ينفعني الله به.

 قال عليه السلام: حدثني خليلي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أرد أنا وشيعتي الحوض رواء مرويين مبيضة وجوههم، ويرد عدونا ظمآن مظمئين مسودة وجوههم، خذها إليك، قصيرة


(1) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: صص 211 و212 و216.

 (2) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: صص 211 و212 و216.

 (3) - الفيض: تفسير الصافى، ج 5: ص 301.

 (4) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: صص 211 و212 و216.

 


[480]

من طويلة، أنت مع من أحببت، ولك ما اكتسبت، أرسلني يا أخا همدان، ثم دخل القصر (1).

 9 - إن رجلا من المنافقين قال لمولانا الرضا عليه السلام: (إن من شيعتكم من يشرب الخمر على الطريق لا يرعون عنه، واعترضه آخر فقال: إن من شيعتكم من يشرب النبيذ (يعني الخمر)، قال: فعرق وجهه الشريف حياء ثم قال: الله أكرم أن يجمع بين رسيس الخمر وحبنا أهل البيت في قلب المؤمن، ثم صبر هنيئة، وقال: وإن فعله المنكوب منهم فإنه يجد ربا رؤوفا، ونبيا عطوفا، وإماما على الحوض عروفا، وسادة له بالشفاعة وقوفا (2).

 10 - قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (اعطيت في على خمس خصال هي أحب إلي من الدنيا وما فيها، أما واحدة فهو ذاب (3) بين يدي الله عز وجل حتى يفرغ من الحساب، وأما الثانية فلواء الحمد بيده وآدم عليه السلام ومن ولد تحته، وأما الثالثة فواقف على عقر حوضي، يسقي من عرف من امتى، وأما الرابعة فساتر عورتي ومسلمي إلي ربى عز وجل، وأما الخامسة فلست أخشى عليه أن يرجع زانيا بعد إحصان ولا كافرا بعد إيمان (4).

 11 - عن علي عليه السلام، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (أنت) أول من يدخل الجنة، فقلت: يا رسول الله ! أدخلها قبلك ؟ قال: نعم، لأنك صاحب لوائي في الآخرة كما انك صاحب لوائي في الدنيا، وحامل اللواء هو المتقدم.

 ثم قال صلى الله عليه واله وسلم: يا علي ! كأني بك وقد دخلت الجنة وبيدك لوائي وهو لواء


(1) - الطوسي: كتاب الأمالي، ج 1: ص 150.

 (2) - الفيض: علم اليقين، ج 2: ص 603.

 (3) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: صص 219 و217.

 


[481]

الحمد، وتحته آدم ومن دونه (1).

 12 - قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: (آدم وجميع خلق الله يستظلون بظل لوائي يوم القيامة - الحديث (2).

 عن العلامة الحلي رحمه الله: (المطلب الرابع: في أنه عليه السلام صاحب الحوض واللواء والصراط والأذن، روى الخوارزمي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: علي يوم القيامة على الحوض، لا يدخل الجنة إلا من جاء بجواز من علي عليه السلام.

 وعن جابر بن سمرة، قال: قيل: يا رسول الله ! من صاحب لوائك في الاخرة ؟ قال: صاحب لوائي في الآخرة صاحب لوائى في الدنيا علي بن أبي طالب).

 وعن عبد الله بن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على شفير جهنم لم يجز عليه إلا من كان معه كتاب بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام)، والاخبار في ذلك أكثر من أن تحصى (3).

 وقال الفضل بن روزبهان في رد كلام العلامة رحمه الله: (من ضروريات الدين أن النبي صلى الله عليه واله وسلم صاحب الحوض المورود والشفاعة العظمى والمقام المحمود يوم القيامة، وأما أن عليا صاحب الحوض فهو من مخترعات الشيعة، ولم يرد به نقل صحيح (4).

 وقال العلامة المظفر رحمه الله في مناقشة كلام الفضل: (لا ريب أن النبي صلى الله عليه واله وسلم صاحب الحوض ولكن عليا عليه السلام هو المتولي عليه، فهو صاحبه أيضا كما أن لواء النبي صلى الله عليه واله وسلم في الآخرة - وهو لواء الحمد - بيد علي عليه السلام أيضا كما صرحت بهذا كله أخبار القوم فضلا عن أخبارنا).

 


(1) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: صص 219 و217.

 (2) - المجلسي: بحار الانوار، ج 39: ص 213.

 (3) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: ص 587 و588، ط القاهرة.

 (4) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: ص 587 و588، ط القاهرة.

 


[482]

فمنها ما رواه الحاكم (1)، عن علي بن أبي طلحة، وصححه: (أن الحسن عليه السلام قال لمعاوية بن خديج: أنت الساب لعلي عليه السلام ؟ والله، إن لقيته - وما أحسبك تلقاه يوم القيامة - لتجده قائما على حوض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يذود عنه رايات المنافقين).

 ومنها ما في (الصواعق) عن الطبراني: (يا علي ! معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن الحوض (2).

 ومنها ما في (الصواعق) - أيضا - عن أحمد: (اعطيت في علي خمسا... الثانية: فلواء الحمد بيده، آدم ومن ولده تحته، وأما الثالثة: فواقف على حوضي يسقي من عرف من امتي (3).

 وروي في (الكنز) - أيضا - عن الطبراني، عن علي عليه السلام: (إنى أذود عن حوض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بيدي هاتين القصيرتين الكفار والمنافقين).

 وروي فيه - أيضا - عن عمر - من حديث طويل - عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، قال فيه: (و أنت تتقدمني بلواء الحمد، وتذود عن حوضي (4).

 وفيه - أيضا - عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لعلي: (أنت أمامي يوم القيامة، فيدفع إلي لواء الحمد فأدفعه إليك وأنت تذود الناس عن حوضي (5).

 13 - قال في (لسان العرب) في مادة (صيد): (وفي الحديث أنه صلى الله عليه واله وسلم قال لعلي: (أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة، تذود عنه الرجال كما يذاد البعير الصاد) يعني الذي به الصيد، وهو داء يصيب الأبل في رؤوسها فتسيل انوفها وترفع رؤوسها ولا تقدر أن تلوي معه أعناقها، يقال: بعير صاد، أي ذو صاد، كما يقال: رجل مال،


(1) الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 138 / كتاب معرفة الصحابة.

 (2) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: صص 588 و594.

 (3) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: صص 588 و594.

 (4) - المتقي: كنز العمال، ج 6: ص 402 / باب فضائل علي عليه السلام.

 (5) - المتقي: كنز العمال، ج 6: ص 402 / باب فضائل علي عليه السلام.

 


[483]

أي ذو مال ويوم راح أي ذو ريح وقيل: أصل صاد (صيد) بالكسر قال ابن الاثير: ويجوز أن يروى صاد بالكسر على أنه اسم فاعل من الصدى: العطش).

 14 - عن عبد الله بن إجارة بن قيس، قال: (سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو على المنبر يقول: (أنا أذود عن حوض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بيدي هاتين القصيرتين الكفار والمنافقين كما تذود السقاه غريبة الأبل عن حياضهم (1).

 أقول: وهنا نكتة مهمة حقيق ذكرها وهي أن أحاديث الحوض تدل على ارتداد قوم بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وكونهم مطرودين عن الحوض لأنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وإليك بعضها: الف - عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: (أنا فرطكم (2) على الحوض، وليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لاناولهم اختلجوا (3) دوني، فأقول: أي رب أصحابي ! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (4).

 ب - في حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: (ألا وإنه سيجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي ! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا... فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (5).

 وفي رواية: (وإنى على الحوض أنتظر من يرد علي منكم، فوالله، ليقتطعن دوني رجال، فلأقولن: أي رب مني ومن امتي ! فيقول: إنك لا تدري ما عملوا


(1) - الهيثمي: مجمع الزوائد، ج 9: ص 137، ط بيروت.

 (2) - فرط: تقدم وسبق.

 (3) - اختلج: اجتذب واقتطع.

 (4) - ابن الاثير: جامع الاصول، ج 11: ص 119.

 (5) - صحيح مسلم، ج 8: ص 157 / باب فناء الدنيا.

 


[484]

بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم (1).

 وفي رواية: (قد ارتدوا على أدبارهم القهقري)، وفي رواية: (والله، ما برحوا يرجعون على أعقابهم)، وفي رواية: (ما زالوا يرجعون على أعقابهم).

 وفي رواية إنهم قد ارتدوا على أدبارهم، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم (2).

 ج - عن أبى النضر مولى عمر بن أبى عبيدالله أنه بلغه: (أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لشهداء احد: (هؤلاء أشهد عليهم) فقال أبو بكر الصديق !: ألسنا يا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إخوانهم ؟ أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما جاهدوا ! فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: بلى، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي، فبكى أبو بكر ثم بكى، ثم قال: أئننا لكائنون بعدك (3) !.

 أقول: لا يخفى على المطلع الخبير أن الأحاديث الماضية - التي تسمى روايات الحوض - ونظائرها من الأخبار التي توعز إلى اتباع هذه الامة سنن من كان قبلهم، وكذلك بعض الآيات القرآنية وبعض الخطب من (نهج البلاغة) كلها دالة على ارتداد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وانقلابهم على أعقابهم، وهذا مسلم بين الفريقين ولا شبهة فيه، وإنما الكلام في تعيين المرتدين وفيمن رجعوا عنه، ولكنا نورد اولا بعض ما يدل من الكتاب والأخبار على الارتداد كما أوردنا بعض نصوصها فيما مر تشييدا للمرام، ثم نتكلم في المسألة على ما هو محل الكلام إن شاء الله تعالى.

 أما الأرتداد في القرآن فهو قول الله عز وجل: وما محمد إلا رسول قد خلت


(1) - راجع جامع الاصول، ج 11: ص 121.

 (2) - المصدر السابق، ج 11: ص 121.

 وقوله: (همل النعم) أي ضوال الابل، أي ان الناجى منهم قليل.

 (لسان العرب) (3) - موطأ مالك، ص 307 / باب الشهداء في سبيل الله.

 


[485]

من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (1).

 قال صاحب المنار: (قال ابن القيم: هذه الاية كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وذكر أن توبيخ الذين ارتدوا على أعقابهم بهذه الآية قد ظهر أثره يوم وفاة النبي صلى الله عليه واله وسلم، فقد ارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الصادقون على دينه حتى كان العاقبة لهم، أقول: ولا ينافي هذه الحكمة كون الوقعة كانت قبل وفاته صلى الله عليه واله وسلم ببضع سنين، لأن غزوة احد كان في السنة الثالثة من الهجرة... (2).

 وقال العلامة المظفر رحمه الله: (أما الكتاب قوله تعالى: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، فإن الاستفهام فيه ليس على حقيقته لاستلزامه الجهل، فلابد أن يراد به الأنكار أو التوبيخ، وكل منهما لا يكون إلا على أمر محقق بالضرورة فيكون انقلابهم بعد موت النبي صلى الله عليه واله وسلم محققا، ولذا قال: انقلبتم) بصيغة الماضي تنبيها على تحققه (3).

 أما الارتداد في نهج البلاغة فهو قوله عليه السلام: (حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه واله وسلم رجع قوم على الأعقاب، غالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي امروا بمودته، ونقلوا البناء على رص أساسه، فبنوه في غير موضعه، معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنة من آل فرعون (4).

 قال ابن أبى الحديد: (رجعوا على الأعقاب) تركوا ما كانوا عليه.

 (وغالتهم السبل) أهلكهم اختلاف الآراء والأهواء.

 (غاله كذا) أي أهلكه.

 والسبل: الطرق.

 و


(1) - آل عمران، 3: 144.

 (2) - العبده - رشيد رضا: المنار، ج 4: ص 160.

 (3) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: ص 10.

 (4) - نهج البلاغة، الخطبة 150.

 


[486]

الولائج: جمع وليجة وهي البطانة يتخذها الأنسان لنفسه، (ووصلوا غير الرحم) أي غير رحم الرسول صلى الله عليه واله وسلم، (وهجروا السبب) يعني أهل البيت أيضا، وهذه إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه واله وسلم، (خلفت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، حبلان ممدودان من السماء الى الارض، لا يفترقان، حتى يردا على الحوض)، فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السبب، والسبب في اللغة: الحبل، عنى بقوله عليه السلام: (امروا بمودته) قول الله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (1).

 والرص: مصدر رصصت الشئ، أي ألصقت بعضه ببعض، ومنه قوله تعالى: * كأنهم بنيان مرصوص (2)، (فبنوه في غير موضعه)، ونقلوا الأمر عن أهله إلي غير أهله، ثم ذمهم عليه السلام وقال: إنهم (معادن كل خطيئة، وأبواب كل ضارب في غمرة) الغمرة: الضلال والجهل، والضارب فيها: الداخل المعتقد لها، مار يمور: إذا ذهب وجاء، فكأنهم يسبحون في الحيرة كما يسبح الأنسان في الماء.

 وذهل فلان - بالفتح - يذهل، (على سنة من آل فرعون) أي على طريقه، وآل فرعون: أتباعه (3).

 أما الاخبار والاحاديث في ذلك فكثيرة جدا وصريحة في المقصود قويا حتى قال العلامة المظفر رحمه الله: (فمنها (أي الأخبار) ما هو كالاية الشريفة (4) في الدلالة على ارتداد الامة بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم (5)، وإن شئت زيادة توضيح في هذا الباب فراجع صحيح البخاري (الجزء 8: ص 148 / باب الحوض، والجزء 9: ص 58 / باب


(1) - الشورى، 42: 23.

 (2) - الصف، 61: 4.

 (3) - ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 9: ص 132.

 (4) - يعنى الآية المذكورة في آل عمران، 3: 144.

 (5) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: ص 11.


[487]

الفتن، من طبع مصر / مطبعة محمد علي صبيح وأولاده) وصحيح مسلم (الجزء 8 / باب فناء الدنيا وبيان الحشر، ص 157، ط بيروت) وها نحن نذكر نبذة يسيرة من الصحيحين ما هو موضع الحاجة فلاحظ: 1 - قال صلى الله عليه واله وسلم: (سيؤخذ ناس دوني، فأقول: يا رب، مني ومن امتي فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك ؟ والله، ما برحوا يرجعون على أعقابهم (1).

 2 - عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، قال: (أنا على حوضي أنتظر من يرد علي، فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: امتي، فيقول: لا تدري مشوا على القهقرى (2).

 3 - وعنه صلى الله عليه واله وسلم: (أنا فرطكم على الحوض، من ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا، ليرد علي أقوام وأعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا احدثهم هذا فقال: هكذا سمعت سهلا ؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبى سعيد الخدرى لسمعته يزيد فيه، قال: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا، لمن بدل بعدي (3).

 4 - عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا بذارع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم (4).

 5 - وعنه صلى الله عليه واله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ امتي بأخذ القرون قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع - الحديث (5).

 6 - وعنه صلى الله عليه واله وسلم: (يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، فيحلاون عن


(1) - صحيح البخاري، ج 8: ص 151 وج 9: ص 58.

 (2) - صحيح البخاري، ج 8: ص 151 وج 9: ص 58.

 (3) - صحيح البخاري، الجزء 9: ص 58.

 (4) - المصدر السابق، ص 126.

 (5) - المصدر السابق، ص 126.

 


[488]

الحوض، فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (1).

 7 - وعنه صلى الله عليه واله وسلم: (بينا أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم، فقلت: أين ؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بينى وبينهم فقال: هلم، قلت: أين ؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم (2).

 أقول: فبعد ملاحظة الاية والأخبار في ثبوت الأرتداد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم قد حان أن نتكلم على ما هو المهم في المسألة وهو أن نعلم من هم المرتدون، أهم أكثر الصحابة وجلها - كما هو ظاهر روايات الحوض وغيرها، أو هم قليل من الناس الذين لم يؤدوا الزكاة في عهد أبي بكر وقاتلهم أبو بكر، وصاروا مرتدين على زعم جل العامة ؟ مع أن بعضهم يقول: إنهم ليسوا بمرتدين كما سيظهر لك عن قريب، إن شاء الله.

 قال الفضل بن روزبهان في رد كلام العلامة الحلي، بعد نقل العلامة روايات الحوض في ارتداد الناس بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم: (فنقول: ما روي من الجمع بين الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: (لا تدري ما أحدثوا بعدك)، فاتفق العلماء أن هذا في أهل الردة الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وهم كانوا أصحابه في حياته ثم ارتدوا بعده (3).

 وقال - أيضا: (إن المراد منهم أرباب الارتداد الذين ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم


(1) - المصدر السابق، ج 8: صص 150 و152، وقد تقدم معنى همل النعم ص 355.

 (2) - المصدر السابق، ج 8: صص 150 و152، وقد تقدم معنى همل النعم ص 355.

 (3) - نقله دلائل الصدق، ج 3، صص 400 و412.

 


[489]

وقاتلهم أبو بكر الصديق (1).

 وقال ابن المنظور في (لسان العرب) في مادة (ردد): (وفي حديث القيامة والحوض: (فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم) أي متخلفين عن بعض الواجبات، قال: ولم يرد ردة الكفر، ولهذا قيد بأعقابهم لأنه لم يرتد أحد من الصحابة بعده وإنما ارتد قوم من جفاة العرب (2).

 قال العلامة المظفر رحمه الله في رد كلام الفضل: (فلا إشكال بظهور تلك الأحاديث (روايات الحوض) بأبي بكر وأتباعه دون أهل الردة لقرائن، منها: دلالة بعض تلك الأحاديث على ارتداد عامة الصحابة إلا مثل همل النعم، ومنها تعبير بعضها بأنهم (ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم) أو (ما زالوا يرجعون على أعقابهم...) أو (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)... فإن هذا النحو من الكلام ظاهر في الاستمرار وطول مدة الارتداد، وهو لا يناسب إرادة مانعي الزكاة أياما وأشباههم ولا سيما أنهم رجعوا إلى الأسلام بإقرار الخصوم (3).

 وقال رحمه الله: (... لا يناسب إرادة قوم مخصوصين من أهل البادية رأوا النبي صلى الله عليه واله وسلم أوقاتا قليلة وارتدوا أياما يسيرة وتابوا وأسلموا (4).

 وقال رحمه الله: (على أن الكثير ممن زعموا ردتهم إنما منعوا الزكاة عن أبي بكر، وغاية ما يقال فيه الحرمة لا الارتداد، ولذا أجرى عليهم عمر أحكام الأسلام فرد سبيهم وأموالهم، مضافا إلى أن هذه الرواية (5) وغيرها مصرحة بأنهم من الصحابة،


(1) - نقله دلائل الصدق، ج 3، صص 400 و412.

 (2) - ليت شعري أن جفاة العرب من هم ؟ ألم ير ابن المنظور كلمة (أصحابي) في الأخبار ؟ ألم يكن (أعقابكم) ناظرا إلى عهد أكثر الصحابة بالجاهلية الأولى ؟ على أن وظيفة اللغوي تعريف اللغة لا الرأي في مسائل الكلام.

 (المصحح) (3) - المظفر: دلائل الصدق، ج 3: ص 410.

 (4) - المصدر، ص 411.

 (5) - يعنى قوله صلى الله عليه واله وسلم: (يا رب أصحابي ! فيقال: انك لا تدري ما أحدثوا بعدك).

 


[490]

ومن زعموا ردتهم إن ماتوا على الارتداد - كما هو ظاهر هذه الأخبار - لم يكونوا من الصحابة لأن من مات مرتدا ليس بصحابي عندهم، وإن تابوا وماتوا مسلمين لم يكونوا ممن يؤخذ بهم ذات الشمال، ويحال بينهم وبين النبي صلى الله عليه واله وسلم، فلا يرادون (أي الذين قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة) بتلك الأخبار على كلا الوجهين، ولا يرد علينا النقض بمن أنكروا النص على أمير المؤمنين عليه السلام ودفعوه عن الأمامة حيث نقول بارتدادهم ونسميهم مع ذلك بالصحابة لأنه لا يشترط عندنا في إطلاق اسم الصحابي على الشخص بقاؤه على الأيمان، بل لا يشترط فيه إلا تحقق الصحبة لا سيما مع بقائه على صورة الأسلام (1).

 أقول: قد سبق في الصفحة 356 تحت الرقم ج رواية عن موطأ مالك مصرحة بانقلاب أبي بكر ونظرائه على أعقابهم، قال العلامة جلال الدين السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك المطبوع في هامشه: (قال ابن البر: هذا مرسل عند جميع رواة الموطأ ولكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة)، يعني أن مضمونه موافق لصحاح كثيرة وهي أخبار الحوض، وهذا الحديث دليل محكم على أن ارتداد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عام شامل لكل الصحابة إلا مثل همل النعم (1) لا أهل الردة الذين هم أهل البادية، وهم ليسوا بمرتدين حتى على رأي


(1) - المظفر: دلائل الصدق ج 3: ص 412.

 (2) - وهم الثلاثة أو السبعة ومن لحق بهم بعد، الذين استقاموا على الطريقة ولم تحركهم عواصف الفتن ولم يحيصوا عن صاحب الولاية عليه السلام، كما نقل عن أبى جعفر الباقر عليه السلام: (ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم إلا ثلاثة نفر: المقداد ابن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسى، ثم ان الناس عرفوا ولحقوا بعد) وعن ابي عبد الله الصادق عليه السلام: (أن النبي صلى الله عليه واله وسلم لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفارا إلا ثلاثا: سلمان والمقداد وأبو ذر الغفاري) (المفيد: الاختصاص، ص 6)، إي والله، ولاغر وبعد أن اتفق نظيره في امة موسى عليه السلام حين رجع من الطور فرأى امته مرتدين مشركين عابدي الوثن، ولم يبق منهم على الايمان إلا أخوه هارون، مع أنهم يعلمون حياة موسى، وامة الأسلام قد استيقنوا أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قد مات، و


[491]

بعض العامة فلاحظ كلامه ! قال الدكتور حسن إبراهيم حسن (1): (اتخذ بعض المستشرقين ارتداد بعض القبائل العربية عن الأسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله وسلم دليلا على أن الاسلام إنما قام بالسيف وأن الخوف وحده هو الذي أدخل العرب في هذا الدين، وفي الحق أن العرب الذين حاربهم أبو بكر وسموا مرتدين لم يرتدوا عن الأسلام كما يتبادر إلى الذهن من تسميتهم مرتدين، وإنما كانوا فريقين: فريقا منع الزكاة فقط زاعما أنها إناوة تدفع إلى الرسول صلى الله عليه واله وسلم، فلما انتقل إلى جوار ربه أصبحوا في حل من عدم دفعها إلى خليفته، وفي شأن هذا الفريق عارض عمر أبا بكر في حربهم محتجا بقوله عليه السلام: (امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: (لاإله إلا الله)... فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله)... وأما الفريق الثاني فقد ارتدوا عن الأسلام ولم يكونوا مسلمين (2)...) قال العلامة العسكري - حفظه الله - بعد نقل الكلام المذكور وغيره: (مما ذكرنا يظهر للباحث المتتبع أن ما وصفوه بالردة في عصر أبي بكر لم يكن بالارتداد عن الأسلام وإنما كانت مخالفة لبيعة أبي بكر وامتناعا من دفع الزكاة إليه (3).

 فظهر مما ذكرنا وأوضحنا أن الناس صاروا مرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله وسلم وعند قبضه، وأنهم جل الصحابة وأكثرها كما شاهدت في الأخبار الماضية، ومن المعلوم أن الصحابة لم يعدلوا عن الشهادتين عموما حتى يستحقوا الطرد والبعد


= هذا آكد وأشد في العدول عن طريقته، وإنما افتتن العامة بعمل الخاصة لأن (الناس على دين ملوكهم) ولأن الأكثر همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يركنوا إلى ركن وثيق، وقال الله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (الانفال، 8: 25) (المصحح) (1) - هو مدير جامعة أسيوط وأستاذ التاريخ الاسلامي بجامعة القاهرة.

 (2) - الدكتور حسن ابراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي، ج 1: ص 351.

 (3) - العسكري: عبد الله بن سبا، ج 1: ص 141.

 


[492]

عن رحمة الله تعالى بحيث لا تشملهم الشفاعة مع أنا شاهدنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أرادهم بقوله: (فأقول: سحقا سحقا، لمن بدل بعدي (1).

 فما الباعث على طردهم وإبعادهم عن -، - تعالى ؟ وما السبب لقوله صلى الله عليه واله وسلم هذا، مع أنه نبي الأمة وإمام الرحمة وشافع المذنبين بقوله: (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امتي) ؟ إني اشهد الله وملائكته ورسله أني لا أعلم سببا لذلك إلا إنكار أصل من اصول الدين وركن من أركانه، وهو إمامة أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه السلام، وخلافته عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بلا فصل، جعلنا الله بحقه وبحق ذريته الطاهرين وبحق أسمائه الحسنى التي هي هم من أعوانهم وانصارهم والمحبين لهم في الدنيا والمرافقين لهم في الآخرة.

 أهمية الامامة والولاية: نعم، إن الدين الذي رجعوا عنه واستحقوا به الطرد والبعد عن رحمة الله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين هو الأمامة والولاية لأمير المؤمنين عليه السلام، لأن الأمامة من أركان الدين، واصول الأيمان واليقين بحيث تجب معرفتها كمعرفة رب العالمين وخاتم النبيين، والأعتقاد بها واجب على كافة المسلمين (2)، وأن المنحرفين عنها والمنكرين لها عن الأسلام خارجون وفي جهنم داخلون - إلا القاصرين منهم والمستضعفين - وإن عومل بهم معاملة الاسلام والمسلمين حفظا لمذهب أهل البيت: ومصلحة المؤمنين، وهذا عقيدتي وعقيدة جميع


(1) - قال العلامة القسطلاني في (ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري) (ج 9: ص 340): (فأقول سحقا سحقا) - بضم السين وسكون الحاء المهملتين وبالقاف والنصب - فيهما على المصدر، أي بعدا بعدا وكررها ثنتين تأكيدا.

 (لمن غير بعدى) أي دينه، لانه لا يقول في العصاة بغير الكفر سحقا سحقا بل يشفع لهم ويهتم بأمرهم كما لا يخفى).

 أقول: والدين هنا الولاية لانها اسها وأصلها كما سنبين، إن شاء الله تعالى.

 (2) - لاية الاكمال، وآية الولاية، وآية الاطاعة، وآية التبليغ كما بين في محله.

 


[493]

فقهاء الامامية وأعلام الدين - رضوان الله عليهم أجمعين - وقد نقلنا أقوالهم في ذلك في ص 124، لأن الله سبحانه وتعالى جعل الولاية والامامة إكمال الدين، ورضاه عن المؤمنين، وقرن المولى - عز شأنه - في الكتاب المبين ولاية نفسه وولاية نبيه بولاية أمير المؤمنين، وجعل - سبحانه - طاعته وطاعة نبيه ووصيه قرينا، وجعل الولاية بحيث لو لم تبلغ ما بلغت رسالة خير المرسلين، وإنك إن كنت من أهل الأنصاف واليقين لا يبقى لك شك بأن ولاية على وأولاده المعصومين وإمامتهم من اصول الدين وأركان اليقين، وها نذكر لك آراء المحققين وأعلام الدين حتى تكون من أمرك على بصيرة ويقين: 1 - قال المحقق الأكبر العلامه المظفر،: (لا يخفى أن أصل الشئ أساسه وما يبتني عليه، فاصول الدين هي التي يبتني عليها الدين، وبالضرورة أن الشهادتين كذلك إذ لا يكون الشخص مسلما إلا بهما، وكذلك الاعتراف بالامام للكتاب والسنة.

 أما الكتاب، فقوله تعالى: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (1).

 فأن الاستفهام فيه ليس على حقيقته لاستلزامه الجهل، فلابد أن يراد به الأنكار أو التوبيخ، وكل منهما لا يكون إلا على أمر محقق بالضرورة، فيكون انقلابهم بعد موت النبي صلى الله عليه واله وسلم محققا، ولذا قال: (انقلبتم) بصيغة الماضي تنبيها على تحققه.

 ومن المعلوم أن الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يعدلوا عن الشهادتين فيتعين أن يراد به أمر آخر، وما هو إلا إنكار إمامة أمير المؤمنين عليه السلام إذ لم يصدر منهم ما يكون وجها لانقلابهم عموما غيره بالاجماع، فإذا كان إنكار إمامته عليه السلام انقلابا عن الدين كانت الامامة أصلا من اصوله.

 ولا ينافيه أن الآية نزلت يوم احد حيث أراد بعض المسلمين الارتداد، فإن


(1) - آل عمران، 3: 146.

 


[494]

سببية نزولها في ذلك لا تمنع صراحتها في وقوع الانقلاب بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم كما يقتضيه الترديد في الآية بين الموت والقتل، فإن ما وقع يوم احد إنما هو لزعم القتل، وقد فهم ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فيما رواه ابن عباس قال: (كان علي عليه السلام يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الله تعالى يقول: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟ والله لاننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله (1)، والله لئن مات أو قتل لاقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه، ووليه، وابن عمه، ووارث علمه، فمن أحق به مني (2) ؟) وأما السنة: فنحن لا نذكر منها إلا أخبار القوم - كعادتنا - لتكون حجة عليهم، فمنها، ما هو كالآية الشريفة في الدلالة على ارتداد الامة بعد النبي صلى الله عليه واله وسلم كروايات الحوض، ولنذكر منها ما هو صريح بارتداد الامة إلا النادر ثم ذكر رواية البخاري المذكور في ص 358، - ثم قال: (فهذه الرواية قد دلت على ارتداد الصحابة إلا القليل الذي هو في القلة كالنعم المهملة المتروكة سدى، وقد عرفت أن الصحابة لم ترتكبوا ما يمكن أن يكون سببا للارتداد غير إنكار إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، فلابد أن تكون الامامة أصلا من اصول الدين.

 ومنها: الأخبار المستفيضة الدالة على أن من مات بلا إمام مات ميتة جاهلية، ونحو ذلك، فتكون أصلا للدين البتة، كرواية مسلم في باب - الأمر بلزوم الجماعة من كتاب الامارة عن عمر قال: (وسمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).

 ومنها: الأخبار الكثيرة التي ناطت الايمان بحب آل محمد صلى الله عليه واله وسلم والكفر


(1) - صدور الكلام باعتبار الجماعة لا خصوص شخصه عليه السلام حيث لم يكن ضالا قط.

 (2) - الحاكم: المستدرك، ج 3: ص 126 / باب معرفة الصحابة.

 


[495]

ببغضهم، فإنها كناية عن الاعتراف بإمامتهم وإنكارها للملازمة عادة بين حبهم الحقيقي والاعتراف بفضلهم، وبغضهم وإنكاره، ولا يراد الحب والبغض بأنفسهما إذ لادخل لهما بماهية الايمان والكفر، فلابد أن يكونا كناية عن ذلك، فلابد أن تكون الامامة أصلا...) ويشهد لكون الامامة من اصول الدين أن منزلة الامام كالنبي في حفظ الشرع ووجوب اتباعة والحاجة إليه ورئاسته العامة بلا فرق، وقد وافقنا على أنها أصل من اصول الدين جماعة من مخالفينا كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار، وجمع من شارحي كلامه كما حكاه عنهم السيد السعيد رحمه الله (1).

 وقال - أيضا: (لا يخفى أن رئاسة الامام رئاسة دينية وزعامة إلهية ونيابة عن الرسول في أداء وظائفه، فلا تكون الغاية منها مجرد حفظ الحوزة وتحصيل الأمن في الرعية وإلا لجاز أن يكون الامام كافرا أو منافقا أو أفسق الفاسقين إذا حصلت به هذه الغاية، بل لابد أن تكون الغاية منها تحصيل ما به سعادة الدارين كالغاية من رسالة الرسول، وهي لا تتم إلا أن يكون الأمام كالنبي معصوما... (2).

 وقال - أيضا: (الأمامة من اصول الدين كما هو الحق (3).

 2 - قال العلامة الأميني - رضوان الله عليه -: إن الخلافة إمرة إلهية كالنبوة وإن كان الرسول خص بالتشريع والوحي الألهى، وشأن الخليفة التبليغ والبيان وتفسير المجمل (4)...).

 وقال - أيضا - في رد كلام ابن تيمية الحراني بعد أسطر: (... على أن أحدا لوعد الامامة من اصول الدين فليس بذلك البعيد عن مقائيس البرهنة بعد أن قرن


(1) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: صص 11 و29.

 (2) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: ص 29.

 (3) - المصدر، ص 296.

 (4) - الاميني: الغدير، ج 7: ص 131.

 


[496]

الله سبحانه ولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بولايته وولاية الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقوله: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا - الاية (1) وخص المؤمنين بعلي عليه السلام كما مر الايعاز إليه في الجزء الثاني (ص 52) وسيوا فيك حديثه مفصلا بعيد هذا، وفي آية كريمة اخرى جعل المولى - سبحانه - بولايته كمال الدين بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاءسلام دينا (2)، ولا معنى لذلك إلا كونها أصلا من اصول الدين، لولاها بقي الدين مخدجا ونعم الله على عباده ناقصة، وبها تمام الاسلام الذي رضيه رب المسلمين لهم دينا.

 وجعل هذه الولاية بحيث إذا الم تبلغ كان الرسول صلى الله عليه واله وسلم ما بلغ رسالته، فقال: يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك إن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس (3)، ولعلك تزداد بصيرة فيما قلناه لو راجعت الأحاديث الواردة من عشرات الطرق في الايات الثلاث كما فصلناها في الجزء الأول (ص 214 - 223 و230 - 238) وفي هذا الجزء.

 وبمقربة من هذه كلها ما مر في الجزء الثاني (ص 301، 302) من إناطة الأعمال كلها بصحة الولاية وقد اخذت شرطا فيها، وهذا هو معنى الأصل كما أنه كذلك بالنسبة إلى التوحيد والنبوة، وليس في فروع الدين حكم هو هكذا، ولعل هذا الذي ذكرناه كان مسلما عند الصحابة الأولين، ولذلك يقول عمربن الخطاب - لما جاءه رجلان يتخاصمان عنده - (هذا مولاي ومولى كل مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن)، راجع الجزء الأول (ص 382.

) وستوافيك في هذا الجزء زرافة من الأحاديث المستفيضة الدالة على أن بغضه - صلوات الله عليه - سمة النفاق وشارة الالحاد، ولولاه عليه السلام لما عرف المؤمنون بعد


(1) - المائدة، 5: 55.

 (2) - المائدة، 5: 3.

 (3) - المائدة، 5: 67.

 


[497]

رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ولا يبغضه أحد إلا وهو خارج من الايمان، فهى تدل على تنكب الحائد عن الولاية عن سوي الصراط كمن حاد عن التوحيد والنبوة، فلترتب كثير من أحكام الأصلين على الولاية يقرب عدها من الاصول، ولا ينافي ذلك شذوذها عن بعض أحكامها لما هنالك من الحكم والمصالح الاجتماعية كما لا يخفى (1).

 3 - قال شيخ الاسلام العلامة المجلسي رحمه الله: (لا ريب في أن الولاية والاعتقاد بإمامة الأئمة عليه السلام والاذعان بها من جملة اصول الدين، وأفضل من جميع الأعمال البدنية، (لأنها مفتاحهن) أي بها تفتح أبواب معرفة تلك الأمور وحقائقها وشرائطها وآدابها (2).

 4 - قال العلامة المحقق، الحاج آقا رضا الهمداني الغروي،: (في أوصاف المستحقين للزكاة، وهي امور: الأول الايمان، يعني الاسلام مع الولاية للأئمة الاثنى عشر عليهم السلام، فلا يعطى الكافر بجميع أقسامه، بل ولا معتقد لغير الحق من سائر فرق المسلمين بلا خلاف فيه على الظاهر بيننا، والنصوص الدالة عليه فوق حد الاحصاء... وخبر إبراهيم الاوسي عن الرضا عليه السلام قال: (سمعت أبى يقول: كنت عند أبي يوما فأتاه رجل فقال: إنى رجل من الرى، ولي زكاة، فإلى من أدفعها ؟ فقال: إلينا، فقال: الصدقة عليكم حرام ! فقال: بلى، إذا دفعتها إلى شيعتنا فقد دفعتها إلينا، فقال: إنى لا أعرف لهذا أحدا، فقال: فانتظر بها سنة، قال: فإن لم اصب لها أحدا ؟ قال: انتظر بها سنتين حتى بلغ إلى أربع سنين، ثم قال له: إن لم تصب لها أحدا فصرها صررا واطرحها في البحر، فإن الله عز وجل حرم أموالنا وأموال شيعنا على عدونا).

 


(1) - الاميني: الغدير، ج 3: ص 152.

 (2) - المجلسي: بحار الانوار، ج 68: ص 334.

 


[498]

لعل ما في ذيله من الأمر بإلقائها في البحر - على تقدير أن لا يصيب لها أحدا من الشيعة في تلك المدة الذي هو مجرد فرض لا يكاد يتفق حصوله في الخارج - للتنبيه على أن إلقاءها في البحر وإتلافها لدى تعذر إيصالها إلى الشيعة أولى من إيصالها إلى المخالفين على سبيل الكناية (1).

 أقول: أنشدكم الله أيها القراء الأعزاء، هل تفهمون من هذا الحديث معنى غير أنهم تركوا ركنا من أركان الاسلام وأصوله واسسه ؟ ! 5 - قال العلامة الحلي رحمه الله: (ولا يكفى الاسلام، بل لابد من اعتبار الايمان، فلا يعطى غير الأمامي، ذهب إليه علماؤنا أجمع خلافا للجمهور كافة واقتصروا على اسم الاسلام، لنا إن الامامة من أركان الدين واصوله، وقد علم ثبوتها من النبي صلى الله عليه واله وسلم ضرورة، فالجاحد بها لا يكون مصدقا للرسول صلى الله عليه واله وسلم في جميع ما جاء به فيكون كافرا فلا يستحق الزكاة، ولأن الزكاة معونة وإرفاق، فلايعطى غير المؤمن لأنه يحاد الله ورسوله، والمعونة والارفاق موادة فلا يجوز فعلها مع غير المؤمن... (2).

 6 - وقال - أيضا: (الامامة لطف عام، والنبوة لطف خاص لامكان خلو الزمان من نبي حي بخلاف الامام لما سيأتي، وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص، وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام عن منكر الأمامة أصلا ورأسا: وهو شرهم (3).

 7 - قال ابن خلدون: (الفصل السابع والعشرون في مذاهب الشيعة في حكم الامامة... ومذهبهم جميعا متفقين عليه أن الامامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الامة ويتعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة


(1) - الهمداني: مصباح الفقيه / كتاب الزكاة، ص 104 و105، النجفي: الجواهر، ج 15: ص 382.

 (2) - الحلي: المنتهى / كتاب الزكاة، ج 1: ص 543.

 (3) - الحلي: الالفين، ص 13، ط بيروت.


[499]

الاسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الامة، بل يحب عليه تعيين الامام لهم، ويكون معصوما من الكبائر والصغائر، وإن عليا رضي الله عنه هو الذي عينه - صلوات الله وسلامه عليه - (1).

 8 - قال العلامة، السيد شهاب الدين المرعشي رحمه الله: (إن الامامة خلافة عن النبوة وقائمة مقامها، وإذا كان كذلك كان كل ما استدللنا به على وجوب النبوة في حكمة الله تعالى فهو بعينه دال على وجوب الامامة في حكمته أيضا لأنها سادة مسدها قائمة مقامها لا فرق بينها وبينها إلا في تلقي الوحي الالهي بلا واسطة بشر (2).

 9 - وقال - أيضا: (اصول الدين هي التي يبتني عليها الدين، واصول دين الاسلام على قسمين: قسم منها ما يترتب عليه جريان حكم المسلم في الفقهيات، وهو الشهادة بالوحدانية والشهادة بالرسالة، وقسم منها يتوقف عليه النجاة الاخروي فقط، والتخليص من عذاب الله، والفوز برضوانه، والدخول في الجنة، فيحرم دخولها على من لم يعترف به، ويساق إلى النار في زمرة الكفار، دون العاصين والمرتكبين للذنب في الفروع فإنهم لا يحرم عليهم الجنة، وإن دخلوا النار ووقعوا في العذاب، بل يعود مآل أمرهم إلى النجاة إن ارتحلوا عن هذه الدنيا بالعقائد الصحيحة، وهذا القسم من الاصول يسمى أيضا باصول الأيمان.

 ومن القسم الثاني الأعتقاد بالأمامة والأعتراف بالأمام، فإن الأمامة مرتبة تالية للنبوة، ونسبتها إلى النبوة نسبة العلة المبقية إلى العلة المحدثة، وقد وافقنا على كونها من الاصول جمع من المخالفين كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار، وجمع من شارحي كلامه (3).

 


(1) - مقدمة ابن خلدون، ص 196، ط بيروت.

 (2) - ذيل احقاق الحق، ج 2: ص 306.

 (2) - هامش إحقاق الحق، ج 2: ص 294.

 


[500]

10 - قال استاذ البشر، المحقق الأكبر الطوسي رحمه الله: (اصول الأيمان ثلاثة: التصديق بوحدانية الله عز وجل في ذاته والعدل في أفعاله، التصديق بنبوة الأنبياء، والتصديق بإمامة الأئمة المعصومين عليهم السلام... (1).

 11 - قال العلامة البهبهاني رحمه الله: (إن الأمامة من اصول الدين، والاعتراف بإمامة الأمام وولايته كالاقرار بنبوة النبي صلى الله عليه واله وسلم من الاصول لا من الفروع، ولذا قال صلى الله عليه واله وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

 بل معرفة النبي صلى الله عليه واله وسلم إنما يكون أصلا واجبا باعتبار كونه رسولا أو إماما لان النبي مع قطع النظر عن رسالته وإمامته لا يجب على الناس معرفته كمن كان نبيا على نفسه ولا يكون رسولا إلى أحد ولا إماما على الامة، فالمعرفة إنما تجب لأحد الوصفين، فإن وجبت المعرفة لأجل الرسالة استلزم وجوب معرفة الامام بطريق أولى، لأن الامامة مرتبة فوق الرسالة، وإن وجبت لأجل الامامة فالوجوب أوضح لاتحاد الموضوع واستحالة التفكيك (2).

 12 - قال الفاضل المحقق، الدكتور مصطفى غالب: (والأمامة بمفهومها العرفاني أساس الدين، والمحور العقلاني الذي تدور حوله كل العقائد الباطنية والظاهرية، لأن الدين لا يستقيم أمره إلا بوجود الامامة، ولا يكمل وجوده وتتم تفاعلاته الروحية والوجدانية إلا بوجودها باعتبارها تتمة النبوة واستمرارا لها (3).

 13 - قال الفاضل المحقق، كامل سليمان: (إن مرتبة الامامة كالنبوة، فكما لا يجوز للخلق تعيين نبى لا يجوز لهم إمام، وأيضا العقول قاصرة والأفهام حاسرة عن معرفة من يصلح لهذا المنصب العظيم والامر الجسيم، والوجدان يغني عن


(1) - المجلسي: مرآة العقول، ج 7: ص 128.

 (2) - البهبهاني: مصباح الهداية، ص 114.

 (3) - مصطفى غالب: الأمامة وقائم القيامة، ص 19، ط بيروت.

 


[501]

البيان.

 (1) 14 - قال العلم العلامة، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء: (قد أنبأناك أن هذا هو الأصل الذي امتازت به الامامية وافترقت عن سائر فرق السلمين، وهو فرق جوهري أصلي وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما، وعرفت أن مرادهم بالأمامة كونها منصبا إلهيا يختاره الله بسابق علمه كما يختار النبي... (2).

 15 - قال المحقق العلامة، الشيخ محمد رضا المظفر: (نعتقد أن الأمامة أصل من اصول الدين لا يتم الايمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الاباء والأهل والمريين مهما عظموا وكبروا بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة... فالأمامة استمرار للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو بنفسه يوجب أيضا نصب الامام بعد الرسول فلذلك نقول: إن الامامة لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الامام الذي قبله، وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاؤوا أن ينصبوا أحدا نصبوه، وإذا شاؤوا أن يعينوا إماما لهم عينوه، ومتى شاؤوا أن يتركوا تعيينه تركوه (3).

 أقول: لما جر البحث إلى هنا فينبغي أن نشير إلى بعض الآيات التي يستفاد منها أن الامامة من اصول الدين وأركانه وأن صاحبها أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام، فنختار منها آية واحدة وهي: قوله تعالى: (واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (4).

 قال العلامة، الشيخ سليمان القندوزي: (موفق بن أحمد الحمويني وأبو نعيم


(1) - كامل سليمان: صك الخلاص، ص 33، ط بيروت.

 (2) - آل كاشف الغطاء: أصل الشيعة واصولها، ص 107، ط بيروت.

 (3) - المظفر: عقائد الامامية، ص 93.

 (4) - الزخرف، 43: 45.

 


[502]

الحافظ بأسانيدهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: لما عرج بي إلى السماء انتهى بي السير مع جبرئيل إلى السماء الرابعة، فرأيت بيتا من ياقوت أحمر، فقال جبرئيل: هذا البيت المعمور، قم يا محمد، فصل إليه، قال النبي صلى الله عليه واله وسلم: جمع الله النبيين فصفوا ورائي صفا فصليت بهم، فلما سلمت أتاني آت من عند ربي فقال: يا محمد ! ربك يقرئك السلام ويقول لك: سل الرسل: على ما ارسلتم من قبلك ؟ فقلت: معاشر الرسل ! على ماذا بعثكم ربي قبلي ؟ فقالت الرسل: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب، وهو قوله تعالى: واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا - الاية (1).

 قال العلامة الأكبر، المحقق المظفر رحمه الله: (ودلالتها على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام واضحة، فإن بعث الرسل وأخذ الميثاق عليهم في القديم بولاية علي عليه السلام وجعلها محل الاهتمام العظيم في قرن أصلي الدين: الربوبية والنبوة لا يمكن أن يزاد بها إلا إمامة من له الفضل عليهم كفضل محمد صلى الله عليه واله وسلم.

 فإن قلت: لم تذكر الآية الكريمة النبوة والامامة بل ولا الارسال بشهادة أن لا إله إلا الله فإنها قالت: (أجعلنا) ولم تقل أأرسلناهم بالشهادة.

 قلت: السؤال والاستفهام في الاية للتقرير بمعنى تقرير الرسل عما استقر عندهم نفيه وهو جعل آلهة من دون الرحمن يعبدون، لكن لما كان المناسب لتقرير الرسل بماهم رسل هو تقريرهم عما ارسلوا به كان الظاهر إرادة تقريرهم عن ذلك بما هم رسل بنفسه وهو راجع إلى الارسال بالشهادة بالوحدانية، فصح ما أفادته الروايات من أن المراد بالاية السؤال عما بعث به الرسل من الشهادة بالوحدانية، ولما كان بعثهم بهذا معلوما للنبي صلى الله عليه واله وسلم البتة لم يحسن أن يراد أن يقرهم به خاصة بل ينبغي أن يراد تقريرهم به بضميمة ما لا يعلم النبي صلى الله عليه واله وسلم


(1) - القندوزي: ينابيع المودة، الباب 15: ص 82.

 


[503]

إقرارهم به لعدم علمه بإرسالهم عليه وهو الذي ذكرته الروايات أعني إرسالهم على نبوته وإمامة أمير المؤمنين عليه السلام.

 وإنما لم تذكر الاية الشريفة للاكتفاء بذكر الأصل وهو البعث على الشهادة بالوحدانية كما أن بعض الروايات المذكورة اكتفت بذكر نبوة نبينا وإمامة ولينا لأنهما الداعي إلى السؤال والتقرير مع وضوح بعثهم على الشهادة بالوحدانية لكونه الأصل ولذكر الاية له فما أعظم قدر نبينا الأطيب وأخيه الأطهر عند الله تبارك وتعالى حتى ميزهما على جميع عباده، وأكرمهما ببعث الرسل الأكرمين على الأقرار بفضلهما ورسالة محمد صلى الله عليه واله وسلم وإمامة علي عليه السلام وأخذ الميثاق عليهم بهما مع الشهادة بالوحدانية (1).

 وقال العلامة، السيد علي البهبهاني رحمه الله: (فاعلم أنها (أي الاية المذكورة) تدل على اختصاص الأمامة والخلافة بمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه الطاهرين - سلام الله عليهم أجمعين - توضيح ذلك: أن ولاية مولانا أمير المؤمنين عليه السلام التي بعث الله الأنبياء عليهم السلام عليها إن كانت بمعنى ولاية التصرف في الامور - كما هو الظاهر - فقد ثبت أن خلافته عليه السلام عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه واله وسلم منصوصة في الكتاب المجيد وسائر الصحف السماوية، والنص على خلافته وإمامته يوجب اختصاصها به عليه السلام إذ لا مجال مع النص للعدول إلى غيره باختيار الامة وتقديمه عليه عليه السلام.

 وإن كانت بمعنى المودة والمحبة فبعث الأنبياء عليهم السلام عليها وجعلها تلو ولاية سيد الأنبياء صلى الله عليه واله وسلم ورسالته يدل على أنها أقرب وسيلة يتوسل بها إلى الخالق - تبارك وتعالى - بعد التوحيد والأقرار برسالته ونبوته صلى الله عليه واله وسلم، فيدل على أنه عليه السلام أفضل الخلق بعد خاتم النبيين صلى الله عليه واله وسلم حتى الأنبياء عليهم السلام (2).

 


(1) - المظفر: دلائل الصدق، ج 2: ص 169.

 (2) البهبهاني: مصباح الهداية ص 184.

 


[504]

وقال العلامة، السيد شهاب الدين النجفي المرعشي في ربط ذيل الآية بما قبلها: (لا يبعد تعميم الالهة بحيث يشمل كل ما عبد من دون الله، فيشمل صنمي قريش أيضا (1).

 ولقد أجاد من قال:

آل النبي هم النبي وإنما * بالوحي فرق بينهم فتفرقوا

أبت الأمامة أن تليق بغيرهم * إن الرسالة بالامامة أليق

ومن قال إسلام، فما قال حيدر * فذلك قلب ليس ينبضه دم

أو سنة ليست من الفضول لكنها من أعظم الأصول

وأكمل الشهادتين بالتي * قد اكمل الدين بها في الملة

فإنها مثل الصلاة خارجة * عن الخصوص بالعموم والجهة

ولايته هي الأيمان حقا * فذرني من أباطيل الكلام

 

القرآن وساقى الكوثر:

قال ابن شهرآشوب رحمه الله: جاء في تفسير قوله تعالى: وسقاهم ربهم (2) يعنى سيدهم علي بن أبي طالب والدليل على أن الرب بمعنى السيد قوله تعالى: اذكرني عند ربك (3).

 


(1) - هامش احقاق الحق، ج 3: ص 146.

 (2) - الدهر، 76: 21.

 (3) - ابن شهرآشوب: مناقب آل ابي طالب، ج 2: ص 162.

 والاية في يوسف، 12: 42.

 


[505]

ساقي الكوثر في القصائد والمدائح:

1 - الحميرى:

فإنك تلقاه لدى الحوض قائما * مع المصطفى بالجسر جسر جهنم

يجيران من والاهما في حياته * إلى الروح والظل الظليل المكرم

وله أيضا:

والحوض حوض محمد ووصيه * يسقي محبيه ويمنعه العدى

وله ايضا:

ألا أيها اللاحي عليا دع الخنا * فما أنت من تأنيبه بمصوب (1)

أتلحى أمير الله بعد أمينه وصاحب حوض شربه خير مشرب

وحافاته در ومسك ترابه * وقد حازماء من لجين ومذهب (2)

2 - ابن حماد:

والحوض حوضك ليس ثم مدافع * في الحشر تسقي من تشاء وتمنع

عجبا لاعمى عن هداه ونوره * كالشمس واضحة تضئ وتلمع

وله أيضا:

وهم سقاة للحوض من والاهم * يسقى بكأس لذة للشارب

وله أيضا:

وإن الحوض حوضك والبرايا * إليك لدى القيامة مهطعينا

وتحت لوائك المحمود تضحى * جميع الخلق دونك خاشعينا

3 - العوني:


(1) - لاحى فلانا: لامه وعابه. والخنا - بالفتح -: الفحش بالقول. والتأنيب من أنبه: لامه وعنفه.

 (2) - الحافات: الجوانب والاطراف. واللجين - مصغرا - الفضة.

 


[506]

تسقي الظماء على حوض النبي غدا * للمؤمنين بمملو من الحلب (1)

4 - الزاهي:

بدر الدجى وزوجه شمس الضحى * في فضلها وابناه للعرش القرط

ومن له الكوثر حوض في غدو * النار ملك والفراديس خطط

وله أيضا:

يا ساقي الشيعة من كأسه * عند ورود الكوثر الجاري

في يوم تبلو النفس ما قدمت * لسيد في الحكم جبار

والنار في الموقف قد سعرت * لأخذ نصاب وفجار

5 - حسان بن ثابت:

له الحوض لا شك يحيى به * فمن شاء أسقى برغم العدى

ومن ناصب القوم لم يسقه * ويدعو إلى الورد للأولياء (2)

أقول: إذا أمعنت النظر في الأخبار والأحاديث التي جاءت من الفريقين في صفة حوض النبي صلى الله عليه واله وسلم والكوثر وجدت في خلالها عجائب من حيث المضامين والمعاني مثل كون ترابه المسك الأذفر، وحصاه الدر والياقوت والمرجان، وحشيشه الزعفران، و، و، وفتحدثك نفسك: ما المراد من هذه المعاني ؟ هل يجب علينا أن نلتزم بظواهرها ونقول: إن في حوض النبي صلى الله عليه واله وسلم أباريق كعدد النجوم، وفيه مرجان وياقوت ودر (3)، أو يمكن أن نعبر من هذه الظواهر إلى معاني أعلى و


(1) - الحلب - محركة -: اللبن.

 (2) - نقلنا الاشعار كلها من المناقب، لابن شهرآشوب (ج 2: ص 162 - 164.

) (3) - كقول النبي صلى الله عليه واله وسلم: (رأيت نهرا في الجنة، حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فضربت بيدي مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر، فقلت: ما هذا ؟ قيل: الكوثر الذي أعطاك الله... أشد بياضا من اللبن، وأحلى من


[507]

أرقي وألطف من ذلك ؟ نعم، جاء هذا المعنى في قول الصادق عليه السلام على ما ذكره العلامة المجلسي رحمه الله وهو:

في الأصل كنا نجوما يستضاء بنا * وللبرية نحن اليوم برهان

نحن البحور التي فيها لغائصكم * در ثمين وياقوت ومرجان

مساكن القدس والفردوس نملكها * ونحن للقدس والفردوس خزان

من شذ عنا فبرهوت مساكنه * ومن أتانا فجنات وولدان (1)

فهل المراد من النجوم والدر والياقوت والمرجان في هذه الأبيات ظاهرها ؟ أو وراءه حكمة وعلم ومعرفة ؟ فإن الغائص في بحور علوم أهل البيت عليهم السلام له أنواع من المعرفة التي لا يقاس بها الياقوت والمرجان والدر وغير ذلك من الأشياء التي تقر بها عيون العامة عند سماعها، ولكن الخاصة والعظماء تفهم ما فوق ذلك، وتعلم أن هذه ألفاظ لضيق البيان عن كشف حقائقها، وهذا لا ينافى ظواهرها أيضا فلنختم هذا البحث بنقل كلمات من أفذاذ العلماء وعظمائهم:

 

الكوثر في كلام الاعلام :

1 - قال المولى صدر الدين الحكيم الشيرازي رحمه الله: (قال بعض العلماء: (إنا أعطيناك الكوثر) فالكوثر صورته صورة الماء، وحقيقته حقيقة العلم، لست أقول:


= العسل، وفيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت) (الفخر الرازي: تفسير الكبير، ج 31: ص 124).

 وكقوله صلى الله عليه واله وسلم: (عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، لا يشرب منه أحد فيظمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعب)، و(عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد) (الالوسي: تفسير روح المعاني، ج 30: ص 244).

 وكقوله صلى الله عليه واله وسلم: (عرضه ما بين أيلة وصنعاء... وأن فيه من الأباريق عدد نجوم السماء) و: (حصاه (حصباؤه) الزبرجد والياقوت والمرجان، حشيشه الزعفران، ترابه المسك الأذفر، قواعده تحت عرش الله عز وجل) (المجلسي: بحار الانوار، ج 8: ص 18).

 (1) - المجلسي: بحار الانوار، ج 47: ص 26.

 


[508]

إن المراد من هذه الأمثال الواردة في القرآن مقصور على معانيها الباطنية العقلية من غير تحقق الصور المحسوسة كما يقوله الباطنية، كلا، بل نقول: الغرض منها العبور من مظاهرها إلى مطاويها، ومن صورها إلى معانيها، فإن للقرآن ظهرا وبطنا، وتأويلا وتفسيرا.

 ثم إذا شبه العلم مطلقا بالماء فيترتب عليه تشبيه أقسامه بأقسامه، كتشبيه العلوم الحقة الخالية عن الشبه والشكوك بالماء الطاهر الزلال، والعلوم التي بخلافها بالماء الكدر المخلوط بالكثايف، وكتشبيه اليقينات الدائمة بالماء الجاري أبدا، والتي بخلافها بالماء المنقطع، وكتشبيه العلم الذي يفيض من عند الله بإلهامه بلا واسطة معلم بشري بالماء النازل من السماء الجارية في الأودية (1) بلا سعي وتعمل آلة وحفر قناة واستنباط، والذي يحصل بالفكر والروية كالماء المستنبط من الأرض بالحفر ونحوه، والذي يحصل بالتقليد كالماء الذي يفرغ من حوض إلى حوض (2).

 2 - قال العلامة الفيض رحمه الله: (يخطر بالبال أن مثال الكوثر في الدنيا هو العلم والحكمة، ومثال أوانيه علماء الامة، ولهذا فسر بالخير الكثير، فإن الله عز وجل يقول: ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا اولوا الاءلباب (3).

 ويؤيد هذا ما رواه بعض علماء العامة عن مولانا الصادق عليه السلام في تأويل الاية: إنا أعطيناك نورا في قلبك دلك علي وقطعك عما سواي، قال: وكان هذا منه عليه السلام نوع


(1) - اشارة الى الآية 17 من سورة الرعد، وكقوله تعالى: وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج (فاطر، 35: 12) فإنه تمثيل للأيمان والكفر، وهما نوعان من العلم.

 وكقول أمير المؤمنين عليه السلام في (الكافي) (باب معرفة الأمام): (ولاسواء حيث ذهب الناس الى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، ذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمرالله لا نفاد لها ولا انقطاع)، فانه عليه السلام شبه علوم الائمة عليهم السلام بالعيون الصافية.

 (2) - شرح اصول الكافي / باب معرفة الامام، ص 477، ط طهران.

 (3) - البقرة، 2: 269.

 


[509]

إشارة كإشارات الصوفية لا أنه تفسير السورة.

 أقول: ومن شرب كأس العلم من مشرب التحقيق علم أن مثل هذه الاشارة يرجع إلى التفسير عند التحقيق، ويتحدان بحسب المعنى، لما عرفت مرارا: أن لكل حقيقة في كل موطن صورة ومثالا... (1).

 3 - قال العلامة الطريحي رحمه الله: (والحوض الكوثر، ومن كلام علي عليه السلام: أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب وهاشم المطعم في العام السغب لعل المراد بهما الحقيقة، ويحتمل أنه أراد العلم والهدى (2).

 4 - قال العلامة الطنطاوي في تفسيره: (وصف الكوثر: طينته مسك أذفر، ماؤه أشد بياضا من الثلج، وأحلى من العسل، حافتاه من ذهب، مجراه على الدرو الياقوت، تربته أطيب من المسك، شاطئاه در مجوف.

 وصف كيزانه وطيره: آنيته عدد نجوم السماء، فيه طير أعناقها كأعناق الجزور، وفي رواية، كيزانه كنجوم السماء، من شرب منها لا يظمأ أبدا، وزواياه سواء، فيه أباريق كنجوم السماء، من ورده فشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها.

 وصف الشاربين: في حديث مسلم: (قالوا: يا نبي الله تعرفنا ؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون إلى، فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي ! فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك) ؟ هذا ملخص ما جاء في الحوض من رواية البخاري أو مسلم.

 إذا عرفت هذا فأصغ لما أتلو عليك من نبأ هذه الأحاديث وأسرارها: إعلم أن


(1) - الفيض: علم اليقين، ج 2: ص 987.

 (2) - الطريحي: مجمع البحرين / مادة (حوض).

 


[510]

هذه الأحاديث وردت لغاية أرقي مما يراها الذين لا يفكرون، كم امم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا ؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة وصورة مفرحة وبهجة وجمال، ومن قرأ كتاب (كليلة ودمنة) الذي لم تخل منه مدرسة من مدارس العالم الشرقي والغربي في الوقت الحاضر إلا لها حظ من قراءته.

 أقول: من قرأ هذا الكتاب عرف مقدرة الفيلسوف الهندي، وكيف جاء بالسياسة ونظام المدنية والعلوم الاجتماعية في قوالب المحادثات الحيوانية، فتارة يجعله في هيئة محاورة بين ثور وأسد، وتارة بين حمامة وغراب، وسلحفاة وفأرة، وهكذا مما سر العامة بظاهره الطلي الجميل، وعلم الحكماء والعلماء بباطنه القويم.

 ولكن ليس ذلك (أي التعبير النبوي) كما في (كليلة ودمنة) الذي يفرح به الجهال، ولكن الحكماء يرون الباطن هو المقصود، والظاهر منبوذ، لأن البهائم لا تتكلم بداهة، كلا ثم كلا بل هنا ظاهر القول حق، وباطنه حق.

 الجاهل يسمع الدر والياقوت وشرابا أحلى من العسل، فيفرح به فيعبد الله ليصل إلى هذه اللذات، وهذا الجاهل أكثر أهل هذه الأرض، والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة، وراءه علم، لأنني أرى في خلال القول عجائب، فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء ؟ وأي دخل لنجوم السماء هنا ؟ ولماذا عبر به ؟ ثم يقول: لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض يكونون عليهم آثار الوضوء ؟ ثم يقول: لماذا ذكر أن عدد الانية يكون أكثر من نجوم السماء ؟ ولماذا هذه المحافظة كلها على عدد نجوم السماء ؟ إذن يقول: لا، لا، الحق أن نبينا محمدا صلى الله عليه واله وسلم يريد أمرين: أمرا واضحا جليا يفرح به جميع الناس، وأمرا يختص بالقواد والعظماء، إن النبوة بأمرالله، والله جعل في أهل الارض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوما، وكل


[511]

لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية، هكذا حكماء الامة الاسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قواد الامة الذين يقودونها، فماذا يقولون ؟ يقولون: إن النبي صلى الله عليه واله وسلم يريد معاني أرقي، إن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل، وأبيض من الثلج كل شيء هناك وأي شيء عدد نجوم السماء، ولماذا خصصت النجوم بالعدد، والوضوء بالأثر ؟ والذى نقوله: إن الحوض يرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فما المسك الأذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من در وياقوت، ولا حلاوة العسل التي في ذلك الماء، ولا اتساع ذلك الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين.

 إن هذه الأحاديث جاءت لترقية الامة الاسلامية بأن يردوا حوض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالعلم، وهذه الأحاديث تشير إلى أن هذه الامة سينبغ منها اناس لا نظير لهم ستطهر نفوسهم، ويكرعون من موارد العلوم الشريفة، ويشربون من حوض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ويدرسون العلوم التي بثها الله في هذه الدنيا ولا نهاية لها، ولا يذرون شيئا مما خلق الله إلا عرفوه على مقدار طاقتهم... فيصبحون خلفاء الله في الأرض فالقرآن يطلب هذه العلوم كلها.

 فمن قرأ الفلك باعتبار أنه آثار جمال الله فقد ورد بعض حوض رسوله صلى الله عليه واله وسلم، ومن درس الطب والحكمة والتشريع أو عجائب النمل أو النحل كذلك أو نظام كسوف الشمس والقمر فقد ورد بعض حوض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مع طهارة نفوسهم.

 هذا هو سر حديث الحوض يدلنا على أن هذه الامة سيطول أمدها، ستكون لهم دول وحكماء وعظماء وانظر كيف يقول: إن هذا الحوض ببعد عنه اناس هم


[512]

مسلمون، ولكن يقال للنبي صلى الله عليه واله وسلم - كما في البخاري ومسلم -: (هل تدري ما أحدثوا بعدك ؟) اولئك الذين يطردون من الحوض، هم الذين لم تستعد قلوبهم للعلم، وهم لم يسعوا له (1).

 


1 - تفسير الجواهر / ذيل سورة الكوثر.

 وقد نقلنا كلامه بالتلخيص مع أدنى تغيير في العبارات.