الفصل 20

الإمام علي عليه السلام عفوه ومنه

1 - قال عليه السلام لما ضربه ابن ملجم المرادي - لعنه الله -: (وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا، ومحمد صلى الله عليه واله وسلم فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم، أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا الا تحبون أن يغفر الله لكم ؟ والله، ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد، وطالب وجد، وما عند الله خير للأبرار (1).

 أقول: (خلاكم ذم) أي عداكم الذم وجاوزكم اللوم بعد قيامكم بالوصية، ولفظ العمود مستعارلهما لشبههما بعمودي البيت لكونهما سببين لقيام الأسلام، والقارب: الذي يسير إلى الماء وقد بقي بينه وبينه ليلة واحدة.

 2 - وقال عليه السلام: (يا بني عبد المطلب ! لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته


(1) - نهج البلاغة، / 23.

 


[654]

هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور (1).

 3 - قال جورج جرداق: (كل ما في الطبيعة كان يعصف بالثورة، إلا وجه ابن أبي طالب فقد انبسط لا يحدث بانتقام، ولا يشير إلى اشتباك، فإن العواد وقفوا بباب الأمام وكلهم جازع متألم باك يدعو إلى الله أن يرحم أمير المؤمنين فيشفيه ويشفي به آلام الناس، وكانوا قد شدوا على ابن ملجم فأخذوه، فلما أدخلوه عليه قال: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه (2).

 4 - قال الشيخ المفيد رحمه الله، (عن هاشم بن مساحق القرشي قال: حدثنا أبي أنه لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم، فقال بعضهم لبعض: والله، ظلمنا هذا الرجل - يعنون أمير المؤمنين عليه السلام - ونكثنا بيعته من غير حدث والله، لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه ولا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه.

 قال: فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا، فلما مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم، فقال عليه السلام: أنصتوا أكفكم، إنما أنا بشر مثلكم، فإن قلت حقا فصدقوني، وإن قلت باطلا فردوا علي، أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده ؟ قلنا: اللهم نعم، قال: فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر، فأمسكت ولم احب أن أشق عصا المسلمين وافرق بين جماعاتهم، ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده، فكففت ولم اهج الناس وقد علمت أني كنت أولى الناس بالله وبرسوله وبمقامه، فصبرت حتى قتل وجعلني سادس ستة، فكففت ولم أحب أن افرق بين المسلمين، ثم بايعتم عثمان، فطغيتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي و


(1) - نهج البلاغة، 47.

 (2) - جورج جرداق: الإمام علي صوت العدالة الانسانية، ج 4: ص 1004.

 


[655]

أتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر، وفيتم لهما ولم تفوا لي، وما الذي منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي ؟ فقلنا له: كن يا أمير المؤمنين، كالعبد الصالح يوسف إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (1)، فقال عليه السلام لا تثريب عليكم اليوم، وإن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث بإسته - يعنى مروان ابن الحكم - (2).

 5 - وعنه قال: (عن حبة العرني، قال: والله، إني لأنظرن إلى الرجل الذي ضرب الجمل ضربة على عجزه فسقط لجنبه، فكأني أسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجا أشد منه، قال: لما عقر الجمل، وانقطع بطان الهودج، فزال عن ظهر الجمل، وانفض أهل البصرة منهزمين، وجعل عمار بن ياسر ومحمد ابن أبي بكر يقطعان الحقب والأنساع، واحتملاه - أي الهودج - ووضعاه على الأرض، فأقبل علي بن أبي طالب حتى وقف عليها وهي في هودجها، فقرع الهودج بالرمح، وقال: يا حميراء ! رسول الله أمرك بهذا المسير ؟ ونادى عمار ابن ياسر يومئذ: لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا موليا، ورأيت يومئذ سعيد وأبان ابنا (3) عثمان فجئ بهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فلما وقفا بين يديه قال بعض من حضر: اقتلهما يا أمير المؤمنين، فقال: بئس ما قلتم، آمنت الناس كلهم وأقتل هذين ؟ ثم أقبل عليهما، وقال لهما: ارجعا عن غيكما، وانزعا وانطلقا حيث شئتما وأحببتما، فأقيما عندي حتى أصل أرحامكما، فقالا: يا أمير المؤمنين ! نحن نبايع، فبايعا وانصرفا (4).

 6 - قال صاحب الجواهر رحمه الله: (لما هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين عليه السلام:


(1) - يوسف، 12: 92.

 (2) - المفيد: الجمل أو النصرة في حرب البصرة، ص 222 و203.

 (3) - كذا.

 (4) - المفيد: الجمل أو النصرة في حرب البصرة، ص 222 و203.

 


[656]

لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، فلما كان يوم صفين قتل المقبل والمدبر، وأجاز على الجريح، فقال أبان بن تغلب لعبدالله بن شريك: هاتان سيرتان مختلفتان ! فقال: إن أهل الجمل قتل طلحة والزبير، وإن معاوية كان قائما بعينه وكان قائدهم.

 وفي الدعائم (عن أبي جعفر عليه السلام أنه: سار علي عليه السلام بالمن والعفو في عدوه من أجل شيعته، لأنه كان يعلم انه سيظهر عليهم عدوهم من بعده فأحب أن يقتدي من جاء بعده به فيسير في شيعته بسيرته، ولا يجاوز فعله - إلى أن قال: - قد تظافرت (النصوص) في أنه عليه السلام سار في أهل الجمل بالمن والعفو (1).

 7 - وقال - أيضا: عن أبي جعفر عليه السلام: لولا أن عليا عليه السلام سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما، ثم قال: والله، لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس (2).

 8 - وقال - أيضا - في ضمن كلامه: (على أنه عليه السلام مع منه عليهم بما من وكانت سيرته معلومة لديهم، قد فعلوا في كربلا ما فعلوا (3).

 9 - وقال - أيضا: (فإنه عليه السلام أمر برد أموالهم، فأخذت حتى القدور... وأن عليا عليه السلام نادى: من وجد ماله فليأخذه، فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضح فلم يفعل فرمى برجله فأخذه - إلى أن قال: - ولعل الجمع بين النصوص أنه عليه السلام قد أذن لهم بأخذ المال الذي عند العسكر، ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها غرمه من بيت المال لأهله حتى أنه عليه السلام كان يكتفي من المدعي باليمين (4).

 


(1) - النجفي: جواهر الكلام، ج 21 / كتاب الجهاد: ص 330.

 (2) - النجفي: جواهر الكلام، ج 21 / كتاب الجهاد: ص 335.

 (3) - النجفي: جواهر الكلام، ج 21 / كتاب الجهاد: ص 337.

 (4) - النجفي: جواهر الكلام، ج 21 / كتاب الجهاد: ص 340.

 


[657]

10 - وقال - أيضا: (ويخطر في البال أن عليا عليه السلام كان يجوز له قتل الجميع إلا خواص شيعته، لأن الناس جميعا قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم السقيفة إلا أربعة: سلمان وأبا ذر والمقداد وعمار، ثم رجع بعد ذلك أشخاص، والباقون استمروا على كفرهم حتى مضت مدة أبي بكر وعمر وعثمان، فاستولى الكفر عليهم أجمع حتى آل الأمر إليه عليه السلام ولم يكن له طريق إلى إقامة الحق فيهم إلا بضرب بعضهم بعضا، وأيهم قتل كان في محله إلا خواص الشيعة الذين لم يتمكن من إقامة الحق بهم خاصة.

 والله العالم (1).

 11 - قال ابن أبي الحديد: (وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وسبوه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لايتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الأمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا ذراريهم، ولاغنم شيئا من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقبل سنة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم فتح مكة فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، ولا إساءة لم تنس (2).

 12 - وقال - أيضا: (إن الغالب على ذوي الشجاعة، وقتل الأنفس، وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو، لأن أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح ومغالبة هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل، ولقد أحسن مهيار في قوله:

حتى إذا دارت رحى بغيهم * عليهم وسبق السيف العذل


(1) - النجفي: الجواهر، ج 41: ص 347.

 (2) - شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 23 و52.

 


[658]

عاذوا بعفو ماجد معود * للعفو حمال لهم على العلل

فنجت البقيا عليهم من نجا * وأكل الحديد منهم من أكل

أطت بهم أرحامهم فلم يطع * ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل (1)

 

تذييل واستطراد:

قال العلامة المناوي: (ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية: (ويح عمار) بالجر على الأضافة، وهو ابن ياسر، (تقتله الفئة الباغية)، قال القاضي في شرح المصابيح: يريد به معاوية وقومه، انتهى.

 وهذا صريح في بغي طائفة معاوية الذين قتلوا عمارا في وقعة صفين، وأن الحق مع علي، وهو من الأخبار بالمغيبات - إلى أن قال: - قال القرطبي: هذا الحديث من أثبت الأحاديث وأصحها، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره، قال: إنما قتله من أخرجه، فأجابه علي بأن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه، قال ابن دحية: وهذا من علي إلزام مفحم لاجواب عنه، وحجة لااعتراض عليها.

 وقال الأمام عبد القاهر الجرجاني في (كتاب الأمامة): أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي، منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين (على) أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، لكن لا يكفرون ببغيهم... وعن أبي سعيد الخدري، قال: كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة وعمار لبنتين، فراه النبي صلى الله عليه واله وسلم ينفض التراب عنه ويقول: (ويح - الخ،) قال المصنف (يعني السيوطي) في الخصائص: هذا الحديث (أي حديث عمار) متواتر، ورواه من الصحابة بضعة عشر... (2).

 


(1) - شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 23 و52.

 (2) - فيض القدير، ج 6، ص 365 ط بيروت.

 


[659]

 

الفصل 21

الإمام علي عليه السلام واغاثة الملهوف واعانة المظلوم

1 - ذكر الشيخ المفيد رحمه الله، عن ابن دأب، قال: (ذكر الكوفيون أن سعيد بن القيس الهمداني رآه (يعنى أمير المؤمنين عليه السلام) يوما في شدة الحر في فناء حائط، فقال: يا أمير المؤمنين ! بهذه الساعة ؟ قال: ما خرجت إلا لأعين مظلوما، أو اغيث ملهوفا، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها، لا تدري أين تأخذ من الدنيا حتى وقفت عليه، وقالت: يا أمير المؤمنين ! ظلمني زوجي وتعدى علي، وحلف ليضربني، فاذهب معي إليه، فطأطأ رأسه ثم رفعه وهو يقول: لا والله، حتى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع، وأين منزلك ؟ قالت: في موضع كذا وكذا، فانطلق معها حتى انتهت إلى منزلها، فقالت: هذا منزلي.

 قال: فسلم فخرج شاب عليه إزار ملونة، فقال: اتق الله فقد أخفت زوجتك، فقال: وما أنت وذاك - والله، - لاحرقنها بالنار لكلامك - قال: وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرة بيده والسيف معلق تحت يده، فمن حل عليه حكم بالدرة ضربه، ومن حل عليه حكم بالسيف عاجله - فلم يعلم الشاب إلا وقد أصلت السيف وقال له: آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، وترد المعروف، تب وإلا قتلتك.

 


[660]

قال: وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين عليه السلام حتى وقفوا عليه، قال: فاسقط في يد الشاب (1)، وقال: يا أمير المؤمنين ! اعف عنى عفا الله عنك - والله - لأكونن أرضا تطأني، فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول لا خير في كثير من نجويهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس (2)، الحمدلله الذي أصلح بي بين امرأة وزوجها، يقول الله تبارك وتعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (3) 2 - قال المحدث النوري رحمه الله: إنه عليه السلام قال: (ما حصل الأجر بمثل إغاثة الملهوف، وقال: أفضل المعروف إغاثة الملهوف (4).

 


(1) - أي ندم على فعله.

 (2) - النساء، 4: 114.

 (3) - المفيد: الأختصاص، ص 151، ط بصيرتي.

 (4) - النوري مستدرك الوسائل، ج 2: ص 409.

 


[661]

 

الفصل 22

الإمام علي عليه السلام وبعض صدقاته

1 - قال أبو نيزر: (جاءني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأنا أقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة، فقال علي عليه السلام: هل عندك من طعام ؟ فقلت: طعام لاأرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة صنعته بإهالة سنخة، فقال علي به، فقام إلى الربيع - وهو جدول - فغسل يديه ثم أصاب من ذلك شيئا، ثم رجع إلى الربيع فغسل يديه بالرمل حتى أنقاهما، ثم ضم يديه كل واحد منهما الى اختها وشرب منها حسى من الربيع، ثم قال: يا أبانيزر ! إن الأكف أنظف الانية، ثم مسح ندى ذلك الماء على بطنه وقال: من أدخل بطنه النار فأبعده الله، ثم أخذ المعول وانحدر، فجعل يضرب وأبطأ عليه الماء فخرج وقد تنضح جبينه عرقا فانتكف العرق من جبينه، ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم فانثالت كأنها عنق جزور، فخرج مسرعا وقال: اشهد الله أنها صدقة، علي بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين تصدق بالضيعتين: بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة، وابن السبيل ليقي بهما وجهه حر النار يوم القيامة، لاتباعا ولاتوهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين،


[662]

إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين، فهما طلق لهما وليس لأحد غيرهما).

 قال أبو محلم محمد بن هشام: فركب الحسين دين، فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى أن يبيع وقال: إنما تصدق بهما أبي ليقي الله وجهه حر النار، ولست بائعهما بشئ (1).

 أقول: القرع: حمل اليقطين، والاهالة: الشحم والزيت وماء اذيبت من الشحم والألية، وسنخ الطعام: تغير، والسنخة: المتغيرة وفي حديث النبي صلى الله عليه واله وسلم: أن خياطا دعاه إلى طعام فقدم إليه إهالة سنخة وخبزا شعيرا، والحسوة: ملء الفم، حسا الطائر الماء، وهو كالشرب، والفسح: الوسعة والسعة، وانتكف العرق عن جبينه: مسحه.

 تذييل: قال الياقوت: عن محمد بن إسحاق بن يسار: أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان ابنا للنجاشي ملك الحبشة - الذي هاجر إليه المسلمون لصلبه: وأن عليا وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه، وأعتقه مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه، وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي وأنهم أرسلوا وفدا منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملكوه عليهم ويتو جوه ولا يختلفوا عليه، فأبى، وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالاسلام.

 قال: وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة، وأحسنهم وجها، قال: ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت: هذا رجل عربي (2).

 


(1) - الحموى: معجم البلدان، ج 4.

 ص 176 / مادة (عين).

 (2) - المصدر، ص 175.

 


[663]

الفصل 23

الإمام علي عليه السلام وعدله

كان منهجه عليه السلام في العدل كمنهج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إن لم نقل إنه عينه لقوله صلى الله عليه واله وسلم: (كفي وكف علي في العدل سواء (1) و(يدي ويد علي بن أبي طالب في العدل سواء (2) و(إنه أوفاكم بعهد الله تعالى، وأقومكم بأمر الله، وأعدلكم في الرعية، وأقسمكم بالسوية، وأعظمكم عند الله مزية (3).

 ولقوله عليه السلام: (والله، لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو اجر في الأغلال مصفدا أحب إلي من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشئ من الحطام... والله، لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته (4).

 وقوله عليه السلام: (من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالأجلال من


(1) - ابن المغازلى: مناقب علي بن ابى طالب، ص 129 و130.

 (3) - ابن المغازلى: مناقب علي بن ابى طالب، ص 129 و130.

 (3) - الحمويني: فرائد السمطين، ج 1: ص 176.

 (4) - نهج البلاغة، خ 224.

 والسعدان: نبت له شوك.

 ومسهدا: ساهرا أرقا.

 ومصفدا: مقيدا.

 


[664]

معلم الناس ومؤدبهم (1).

 وقوله عليه السلام: (إني والله، ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية، إلا وأتناهى قبلكم عنها (2).

 وقوله عليه السلام في صفة خصومه: (وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولانسيل حتى نمطر (3).

 فهلم معي حتى ننظر إلى نماذج من عدله عليه السلام ليطابق القول الفعل، والدعوى العمل.

 1 - قال ابن أبي الحديد: (عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن عليا عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شئ، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته إلى حاله، فأن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق).

 قال الكلبي: ثم أمر عليه السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض...، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر أن لا يعرض لسلاح وجدله لم يقاتل به المسلمين، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وغير داره، وأمر أن ترجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث اصيب أو اصيب أصحابها، فبلغ ذلك عمرو بن العاص - وكان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها - فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك


(1) - المصدر، خ 73.

 (2) - المصدر، خ 175.

 (3) - المصدر، خ 9.

 قال عبده: وإذا أمطرنا أسلنا، أما اولئك الذين يقولون: نفعل ونفعل، وما هم بفاعلين، فهم بمنزلة من يسيل قبل المطر، وهو محال غير موجود، فهم كالاعدام فيما به يوعدون.

 


[665]

ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها (1).

 2 - وقال - أيضا: (قال أبو جعفر - المعروف بالأسكافي - (المتوفى سنة 240): لما اجتمعت الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بعد قتل عثمان للنظر في أمر الأمامة أشار أبو الهيثم بن التيهان، ورفاعة بن رافع، ومالك بن العجلان، وأبو أيوب الأنصاري، وعمار بن ياسر بعلي عليه السلام، وذكروا فضله وسابقته وجهاده وقرابته، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيبا يذكر فضل علي عليه السلام، فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة، ومنهم من فضله على المسلمين كلهم كافة.

 ثم بويع وصعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة - وهو يوم السبت لأحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة -، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر محمدا فصلى عليه، ثم ذكر نعمة الله على أهل الأسلام - إلى أن قال عليه السلام: - (وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر، وإني حاملكم على منهج نبيكم صلى الله عليه واله وسلم، ومنفذ فيكم ما امرت به إن استقمتم لي وبالله، المستعان، ألا إن موضعي من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته....

 ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عارا وشنارا إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا، ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يرى أن الفضل له على من سواه لصحبة فإن الفضل النير غدا عند الله، وثوابه وأجره على الله.

 وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل


(1) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: ص 269.

 


[666]

قبلتنا فقد استوجب حقوق الأسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غدا أحسن الجزاء وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجرا ولا ثوابا، وما عند الله خير للأبرار، وإذا كان غدا - إن شاء الله - فاغدوا علينا، فإن عندنا مالا نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولاعجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا يكن إلا حضر إذا كان مسلما حرا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ثم نزل.

 قال شيخنا أبو جعفر: (وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه عليه السلام، وأورثهم الضغن عليه، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية، فلما كان من الغد غدا، وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيدالله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم وأعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك).

 فقال سهل بن حنيف: (يا أمير المؤمنين ! هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم، فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضل أحدا على أحد (1).

 3 - قال العلامة الفيض الكاشاني رحمه الله: (خطب أمير المؤمنين عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ! إن آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار، ولكن الله خول بعضكم بعضا، فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمن به على الله تعالى، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوون فيه بين الأسود والأحمر، فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما، قال: فأعطى كل واحد ثلاثة دنانير، وأعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء بعد غلام أسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين ! هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني وإياه سواء ؟ فقال:


(1) - ابن أبى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 7: ص 36.

 


[667]

إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا (1).

 4 - قال العلامة المجلسي رحمه الله: (عن محمد بن إبراهيم النوفلي رفعه إلى جعفر بن محمد عليهما السلام أنه ذكر عن آبائه: أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى عماله: أدقوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عني فضولكم، واقتصدوا قصد المعاني، وإياكم والأكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الأضرار (2).

 5 - وقال: (قال علي بن أبي طالب عليه السلام: احاج الناس يوم القيامة بسبع: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، وإقام الحدود (3).

 6 - وقال: (عن هلال بن مسلم الجحدري ؟، قال: سمعت جدي حرة [أو حوة] قال: شهدت على بن أبي طالب عليه السلام اتي بمال عند المساء، فقال: اقسموا هذا المال، فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين، فأخره إلى غد، فقال لهم: تقبلون أن أعيش إلى غد ؟ فقالوا: ماذا بأيدينا ؟ قال: فلا تؤخروه حتى تقسموه، فأتي بشمع فقسموا ذلك المال من تحت ليلتهم (4).

 7 - وقال: (دخل عليه عمرو بن العاص ليلة وهو في بيت المال، فطفئ السراج وجلس في ضوء القمر، ولم يستحل أن يجلس في الضؤء بغير استحقاق (5).

 8 - وقال: (عن أبي مخنف الأزدي قال: أتى أمير المؤمنين عليه السلام رهط من الشيعة، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! لو أخرجت هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضلتهم علينا حتى إذا استوسقت الامور عدت إلى أفضل ما عودك


(21) - القاساني: الوافى، ج 3 / الجزء 14: ص 20 الى 38 و107.

 (2) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 105 و107.

 (3) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41، ص 105 و107.

 (4) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 116، 122 و118.

 (5) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 116، 122 و118.

 


[668]

الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ويحكم ! أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من أهل الأسلام ؟ لا والله، لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجما، والله، لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم....

 (1).

 9 - وقال: اتي علي بمال من إصفهان، وكان أهل الكوفة أسباعا، فقسمه سبعة أسباع، فوجد فيه رغيفا فكسره بسبعة كسر، ثم جعل على كل جزء كسرة، ثم دعا امراء الأسباع فأقرع بينهم (2).

 أقول: قال الحافظ ابن عبد البر في (الأستيعاب) - بعد ذكره قصة الرغيف وكسره: (وأخباره في مثل هذا من سيرته لا يحيط بها كتاب (3).

 10 - وقال: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما ولي علي عليه السلام صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنى والله، لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم أفتروني مانعا نفسي ومعطيكم ؟ قال: فقام إليه عقيل - كرم الله وجهه - فقال له: الله لتجعلني وأسود بالمدينة سواء ؟ فقال: اجلس، أما كان ههنا أحد يتكلم غيرك ؟ وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى (4).

 11 - وقال: (روى أبو إسحاق الهمداني: أن امرأتين أتتا عليا عليه السلام، إحداهما من العرب والاخرى من الموالي، فسألتاه، فدفع إليهما دراهم وطعاما بالسواء، فقالت إحداهما: إني امرأة من العرب وهذه من العجم ؟ فقال: إني والله، لاأجد لبني إسماعيل في هذا الفئ فضلا على بني إسحاق (5).

 


(1) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 116، 122 و118.

 (2) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 116، 122 و118.

 (3) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 116، 122 و118.

 (4) - هاشمى الأصابة، ج 3: ص 49، ط مصر.

 (5) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 137.

 


[669]

12 - قال المولى صالح الكشفي الحنفي: (كان أمير المؤمنين علي عليه السلام دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال، فورد عليه طلحة والزبير، فأطفأ عليه السلام السراج الذي بين يديه، وأمر بإحضار سراج آخر من بيته، فسألاه عن ذلك فقال عليه السلام: كان زيته من بيت المال لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه (1).

 13 - قال أمير المؤمنين عليه السلام: (والله، لقد رأيت عقيلا، وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي، فظن أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقا طريقتي فأحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبربها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثوا كل، يا عقيل ! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى ؟ (2).

 قال عبده في شرحه: (عقيل: أخوه، وأملق: افتقر أشد الفقر، واستماحني: استعطاني، والبر: القمح، وشعث: جمع أشعث وهو من الشعر المتلبد بالوسخ، والغبر - بضم الغين - جمع أغبر: متغير اللون، والعظلم - كزبرج -: سواد يصبغ به، قيل: هو النيلج، أي النيلة، القياد: ما يقاد به كالزمام، الدنف - بالتحريك -: المرض، والميسم - بكسر الميم وفتح السين -: المكواة، وثكل، كفرح: أصاب ثكلا - بالضم - وهو فقدان الحبيب أو خاص بالولد، والثواكل: النساء، دعاء عليه بالموت لتألمه من نار ضعيفة الحرارة، وطلبه عملا وهو تناول شيء من بيت المال زيادة عن المفروض له يوجب الوقوع في نار سجرها - اي أضرمها - الجبار، وهو


(1) - المناقب المرتضوية، ص 365.

 (2) - نهج البلاغة، خ 222.

 


[670]

الله، للانتقام ممن أعطاه، ولظى اسم جهنم).

 أقول: هكذا كان تصلبه عليه السلام في الله تعالى، وأداؤه الأمانة التي استأمن الله الولاة عليها.

 نعم، إن هذا العمل لثقيل على كل إنسان لامسحة له بالعدل فإنه أوسع الأشياء في التناصف، إنه عليه السلام عمل هذه الوتيرة ليحمل الناس، لاسيما الولاة والقضاة على أن يتخذوا طريقه، ويحذوا حذوه في تحقيق العدل والتسوية بين الناس، حتى لا يهملوا قريبا أو بعيدا، صغيرا أو كبيرا.

صلى الأله على جسم تضمنه القبر * فأصبح فيه العدل مدفونا

وهذه السيرة المرضية قد اتخذها من نبيه واسوته صلى الله عليه واله وسلم فقد ورد في الخبر - كما (في من لا يحضره الفقيه) و(صحيح البخاري) ومسلم وسنن أبي داود، واللفظ له -: (عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال لابن أعبد: ألا احدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم - وكانت من أحب أهله إليه - وكانت عندي ؟ قال: بلى، قال: إنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، فأتى النبي خدم - يعني سبي -، فقلت: لو أتيت أباك فسألته خادما، فأتته فوجدت عنده حداثا فرجعت، فأتاها من الغد فقال: ما كان حاجتك ؟ فسكتت، فقلت: أنا احدثك يا رسول الله، جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاء الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادما يقيها حر ماهي فيه.

 قال صلى الله عليه واله وسلم: اتقى الله، يا فاطمة ! وأدى فريضة ربك، اعملي عمل أهلك، وإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين، فتلك مائة، فهو خير لك من خادم، قالت: رضيت عن الله وعن رسوله.

 وزاد في رواية: (ولم يخدمها).

 أقول: وقد أفاد الفاضل المحقق، محشي من لا يحضره الفقيه ما يعجبني ذكره


[671]

وإيراده هنا، وإليك نصه: (فقف، أيها القارئ الكريم ! وتأمل جيدا في هذا الخبر الشريف المجمع عليه، فإن بضعة المصطفى صلى الله عليه واله وسلم وقرة عينه الوحيدة تطلب منه من السبي والغنائم خادما ليعينها في مهام منزلها، ويزيل عنها شيئا من تعبها، وهو سلطان نافذ الكلمة، وراع مسيطر في وقته، بيده الأموال بل النفوس، وله القدرة بأعظم مظاهرها بحيث يقول ناعته: لم أر قبله ولابعده مثله، مع ذلك كله يأمر ابنته الوحيدة، وفلذة كبده الفريدة بالتقوى، والقيام بواجب بيتها، والاكثار من ذكر ربها، ولم يرض أن يعطيها من بيت مال المسلمين خادما، وقال - صلى الله عليه وعليهما -: ألا اعلمكما ما هو خير لكما من الخادم ؟ (كما في الخبر الوارد في متن الفقيه)، فتجيب المعصومة عليها السلام طائعة مشعوفة مختارة: (رضيت عن الله ورضيت عن رسوله)، فخذها مثالا يلمسك الحقيقة جدا في معرفة من حذا حذو الرسول صلى الله عليه واله وسلم ومن مال عن طريقته ونأى بجانبه وحاد عن سنته ممن يدعي الخلافة بعده، فرسول الله صلى الله عليه واله وسلم هو الأمام المتبع فعله، والرئيس المقتفى أثره.

 هذا علي بن أبي طالب عليه السلام ترك التفضيل لنفسه وولده على أحد من أهل الأسلام، دخلت عليه اخته ام هاني بنت أبي طالب فدفع إليها عشرين درهما، فسألت ام هاني مولاتها العجمية، فقالت: كم دفع إليك أمير المؤمنين ؟ فقالت عشرين درهما، فانصرفت مسخطة، فقال لها: انصرفي - رحمك الله - ما وجدنا في كتاب الله فضلا لاسماعيل على إسحاق.

 وبعث إليه من البصرة من غوص البحر بتحفة لا يدرى ما قيمتها، فقالت ابنته ام كلثوم: أتجمل به ويكون في عنقي ؟ فقال: يا أبا رافع ! أدخله إلى بيت المال، ليس إلى ذلك سبيل حتى لا يبقى امرأة من المسلمين إلا ولها مثل ذلك.

 ثم ذكر خطبته على المهاجرين والأنصار، وكلامه مع عقيل، ثم قال: وهذا ابن عفان أعطى سعد بن أبي سرح أخاه من الرضاعة جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب، وهي طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحدا من


[672]

المسلمين، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف، وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني امية - ذلك كله في شرح ابن أبي الحديد (1) وسعد بن أبي سرح هذا هو الذي أباح رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دمه يوم الفتح كما في (سنن أبي داود) و(أنساب الأشراف للبلاذري)، وفي بعض المصادر عبد الله بن أبي سرح، وبالجملة هاتان السيرتان مقياسان لمن يروم معرفة المحق والمبطل ممن كان بيده بيت المال (2).

 أقول: وإذا بلغ الكلام إلى المقايسة - وإن كان قياسا بغير قياس - فلا بأس بنقل بعض مظالم الخلفاء وتعديهم في بيت مال المسلمين مما نقله رواتهم ومحدثوهم، قال ابن أبي الحديد: (عثمان بن عفان بن أبي العاص بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف، كنيته أبو عمرو، وامه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حنين بن عبد شمس، بايعه الناس بعد انقضاء الشورى واستقرار الأمر له، وصحت فيه فراسة عمر فإنه أو طألبني امية رقاب الناس، وولاهم الولايات، وأقطعهم القطائع، وافتتحت إفريقية في أيامه، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان، فقال عبد الرحمن بن حنبل الحملى:

أحلف بالله رب الأنام * ما ترك الله شيئا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلى بك أو تبتلى

فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غلية * ولا جعلا درهما في هوى

وأعطيت مروان خمس البلاد * فهيهات سعيك ممن سعى

الأمينان: أبو بكر وعمر، وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعة


(1) - ابن ابى الحديد: شرح النهج، ج 1: ص 67 - من طبعه الذي كمل في أربعة مجلد.

 (2) - هامش من لا يحضره الفقيه، ج 1: صص 324 - 322، طبع مكتبة الصدوق.

 


[673]

آلاف درهم، وأعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قد سيره ثم لم يرده أبو بكر ولاعمر، وأعطاه مائة ألف درهم، وتصدق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور (1) على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم، وأقطع مروان فدك وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها - صلوات الله عليهما - تارة بالميراث، وتارة بالنحلة فدفعت عنها، وحمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني امية، وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحدا من المسلمين، وأعطى أبا سفيان بن الحرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوجه ابنته ام أبان وجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي ؟ قال: لا، ولكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، والله، لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا ! فقال: ألق المفاتيح يا ابن أرقم ! فإنا سنجد غيرك.

 وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني امية، وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال... (2).

 


(1) - كذا في (شرح النهج)، وفي (معجم الادباء) للحموي: (وادى مهزور) وقال: بفتح أوله وسكون ثانيه ثم زاء وواو ساكنة وراء.

 ومهزور ومذينب واديان يسيلان بماء المطر خاصة، وقال: قال أبو عبيد: مهزور وادى قريظة.

 (2) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: ص 198.

 


[674]

صحيفة من نماذج الفوضي في مال الله صورة متخذة من أعطيات الخليفة والكنوز العامرة ببركته الدينار * الاعلام 000، 500 * مروان 000، 100 * ابن ابى سرح 000، 200 * طلحة 000، 560، 2 * عبد الرحمن 000، 500 * يعلى بن امية 00، 100 * زيد بن ثابت 000، 150 * اختص به نفسه 000، 200 اختص به نفسه 000، 310، 4 * الجمع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة الاف دينار اقرأ ولا تنس قول مولانا أمير المؤمنين فيه: قام نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الأبل نبتة الربيع.

 وقوله الآتي بعيد هذا (1): ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال (2).

 


(1) - قد تقدم آنفا من كتابنا هذا.

 (2) - الاميني: الغدير، ج 8: ص 286.

 


[675]

الدرهم * الاعلام 000، 300 * الحكم 000، 020، 2 آل الحكم 000، 300 * الحارث 000، 100 * سعيد 000، 100 * الوليد 000، 300 * عبد الله 000، 600 * عبد الله 000، 200 * أبو سفيان 000، 100 * مروان 000، 200، 2 * طلحة 000، 000، 30 * طلحة 000، 800، 59 * الزبير 000، 250 * سعد بن ابى وقاص 000، 500، 30 اختص به نفسه 000، 770، 126 * المجموع مائة وستة وعشرون ميليونا وسبعمائة وسبعون ألف درهم.

 قال الشيخ المفيد رحمه الله: (قدم أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام من البصرة إلى الكوفة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب فأقبل حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فالحمد لله الذي نصر وليه، وخذل عدوه، وأعز الصادق المحق، وأذل الكاذب المبطل، عليكم يا أهل هذا المصر بتقوى الله،


[676]

وطاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم [صلى الله عليه واله وسلم]، الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المنتحلين المدعين المقابلين إلينا، يتفضلون بفضلنا ويجاحدونا، وينازعونا حقنا ويدفعونا عنه، وقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا، إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم فأنا عليهم عاتب زار (1)، فاهجروهم، أسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا أو نرى منهم ما نرضى.

 فقام إليه مالك بن حبيب التميمي اليربوعي - وكان صاحب شرطته - فقال: والله، إني لأرى الهجر وإسماع المكروه لهم قليلا، والله، لئن أمرتنا لنقتلنهم.

 فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يا مالك ! جزت المدى، وعدوت الحد، وأغرق في النزع (2).

 فقال: يا أمير المؤمنين.

لبعض الغشم أبلغ في أمور * تنوبك (3) من مهادنة الأعادي

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس هكذا قضى الله يا مال، قال الله تعالى: النفس بالنفس (4) فما بال بعض الغشم ؟ وقال الله سبحانه: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا (5).

 


(1) - عتب عليه: وجد عليه موجدة وأنكر منه شيئا من فعله، وزرى عمله عليه: عابه عليه وعاتبه.

 (2) - المدى: الغاية، وفي بعض النسخ: (وعدوت الحق).

 وأغرق الناز ع في القوس: استوفى مدها، والنزع: الرمى، والكلام يقال لمن بالغ في الشئ.

 (3) - من ناية الامر أي أصابه.

 والمراد أن اعمال بعض الظلم على الاعداء والمخالفين في امور تصيبك وتزلزل اركان حكومتك ويصدك عن النيل بالمقصود الحق أبلغ الى المراد من المهادنة والرفق وكف التضييق عليهم.

 (4) - وفي بعض نسخ الحديث: (فما بال ذكر الغشم) أجاب عليه السلام بأن المقصود مهما عظم وتقدس لا يسوغ الظلم والتعدى في سبيل نيله ولا يوجهه مهما قل وصغر، بل يكون خلاف المقصود وانما لنا المشي على مهيع الحق فان نلنا فهو والإلم يكن بنا بأس وما على الرسول إلا البلاغ المبين والآية في المائدة 5: 45.

 5 - الاسراء 17: 33.

 زاد في (شرح النهج) الحديدي هنا نقلا عن نصر بن مزاحم: (والاسراف في القتل إن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه وذلك هو الغشم).

 


[677]

فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي - وكان عثمانيا تخلف عنه يوم الجمل وحضر معه صفين على ضعف نية في نصرته - فقال: يا أمير المؤمنين ! أرأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير بم قتلوا ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: بما قتلوا شيعتي وعمالي، وبقتلهم أخا ربيعة العبدي رحمه الله في عصابة من المسلمين، قالوا: لا ننكث البيعة (كما نكثتم)، ولا نغدر كما غدرتم، فوثبوا عليهم فقتلوهم ظلما وعدوانا، فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني منهم أقتلهم بهم، ثم كتاب الله حكم بيني وبينهم، فأبوا علي وقاتلوني وفي أعناقهم بيعتي ودماء نحو ألف من شيعتي فقتلتهم بذلك، أفي شك أنت من ذلك ؟ فقال: قد كنت في شك، فأما الان فقد عرفت، واستبان لي خطأ القوم، فإنك أنت المهتدي المصيب.

 ثم إن عليا عليه السلام تهيأ لينزل، فقام رجال ليتكلموا، فلما رأوه قد نزل جلسوا ولم يتكلموا.

 قال أبوالكنود: وكان أبو بردة مع حضوره صفين ينافق أمير المؤمنين عليه السلام ويكاتب معاوية سرا، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة (1)، وكان عليه كريما.

 ذكرها الشيخ المفيد في أماليه ونقلنا منه.

 


(1) - أقطع الأمير فلانا قطيعة: جعل له غلة أرض رزقا له.

 والفلوجة كما في (المراصد الأطلاع) - بالفتح ثم التشديد وواو ساكنة وجيم - قال الليث: فلاليج السواد: قراها.

 والفلوجة الكبرى والفلوجة الصغرى: قريتان كبيرتان من سواد بغداد والكوفة قرب عين التمر.

 قلت: والمشهور هي هذه التي على شاطئ الفرات، عندها فم نهر الملك من الجانب الشرقي).

 


[678]

 

الفصل 24

الإمام علي عليه السلام وعدالته في القاضي والقضاء والحكومة، وشيء من قضائه

1 - قال ابن أبي الحديد: (واستعدى رجل على علي بن أبي طالب عليه السلام عمر بن الخطاب وعلي جالس، فالتفت عمر إليه فقال: قم، يا أبا الحسن ! فاجلس مع خصمك، فقام فجلس معه وتناظرا، ثم انصرف الرجل ورجع علي عليه السلام إلى مجلسه، فتبين عمر التغير في وجهه فقال: يا أبا الحسن ! مالي أراك متغيرا ؟ أكرهت ما كان ؟ قال: نعم، قال: وماذاك ؟ قال: كنيتني بحضرة خصمي، هلا قلت: قم، يا علي ! فاجلس مع خصمك (1).

 2 - عن الشعبي قال: (وجد علي عليه السلام درعا له عند نصراني فجاء به إلى شريح يخاصمه إليه... ثم قال علي عليه السلام: أن هذه درعي لم أبع ولم أهب، فقال (شريح) للنصراني: ما يقول أمير المؤمنين ؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين ! هل من بينة ؟ قال: لا، فقضى بها للنصراني، فمشى هنيئة ثم أقبل فقال: أما أنا


(1) - ابن ابى الحديد: شرح النهج، ج 17: ص 65 / ذيل عهده عليه السلام الى الأشتر النخعي.

 


[679]

فأشهد أن هذه أحكام النبيين، أمير المؤمنين يمشي بي إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه ! أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، الدرع - والله - درعك يا أمير المؤمنين، انبعث الجيش وأنت منطلق إلى صفين، فخرت من بعيرك الأورق، فقال: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس (1).

 3 - (إن أمير المؤمنين عليه السلام ولى أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله، فقال له: لم عزلتني وما خنت وما جنيت ؟ فقال: إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك (2).

 4 - عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الاشارة وفي النظر وفي المجلس (3).

 5 - وقال عليه السلام في عهده لمحمد بن أبي بكر: (وآس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفا من عدلك عليهم (4).

 6 - وقال عليه السلام في عهده للأشتر: (فلا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) (5).

 7 - قال روكس بن زائد: (فالأمام علي عليه السلام اعجوبة من أعاجيب القضاء، لأنه أول قاض فرق بين الشهود لئلا يتواطأ اثنان منها على شهادة تشوه جمال الحق أو تطمس معالمه، فسن بهذه السنة الحميدة البارعة للقضاء ما يجعل سبيل الحق لهم واضحا، وينزه أحكامهم عن الشبهات، ويحول بين الذين يتلاعبون بضمائر الناس... وهو أول من سجل شهادة الشهود حتى لا تبدل شهادة بإغراء من رشوة أو تدليس من طمع أو ميل مع عاطفة، فكان بذلك مبتكرا من أعظم


(1) - الثقفي: الغارات، ج 1: ص 124.

 (2) - النوري: مستدرك الوسائل، ج 3: ص 197.

 (3) - الحر العاملي: مسائل الشيعة: ج 18، ص 157 ط عبد الرحيم.

 (4) - الرضي (المجمع): نهج البلاغة، ر 27.

 (5) - نهج البلاغة، ر 53.

 


[680]

المبتكرين، لأن صيانة حقوق الناس من العبث والغش أثمن من حياة الناس نفسها، فجاءت الأجيال والامم والحكومات والدول تسير على الاسلوب الذي رسمه الأمام الأعظم....

).

 وقال - أيضا: وهو أول مكتشف أو مبتكر للتفريق مابين لبن ام الانثى وام الذكر (1).

 أقول: وإنه عليه السلام هو الذي استفاد في مقام القضاء من عاطفة عميقة بين الام وولدها، وهو عليه السلام اول من استفاد من ضمير الباطن كما يظهر لك، إن شاء الله تعالى.

 8 - عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: (إن شابا قال لأمير المؤمنين عليه السلام: إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك مالا، فقد متهم إلى شريح فاستحلفهم، وقد علمت أن أبي خرج ومعه مال كثير، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله، لأحكمن بينهم بحكم ماحكم به خلق قبلي إلا داود النبي صلى الله عليه واله وسلم.

 يا قنبر ! ادع لي شرطة الخميس، فدعاهم، فوكل بكل رجل منهم رجلا من الشرطة، ثم نظر إلى وجوههم فقال: ماذا تقولون ؟ تقولون إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتي ؟ إنى إذا لجاهل، ثم قال: فرقوهم وغطوا رؤوسهم.

 قال: ففرق بينهم واقيم كل رجل منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم، ثم دعا بعبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال: هات صحفة ودواة، وجلس أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس القضاء وجلس الناس إليه، فقال لهم: إذا أنا كبرت فكبروا، ثم قال للناس: اخرجوا، ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه ثم قال لعبيدالله: اكتب إقراره وما يقول.

 ثم أقبل عليه بالسؤال، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: في أي يوم خرجتم من


(1) - الإمام علي أسد الأسلام وقديسه.

 


[681]

منازلكم وأبو هذا الفتى معكم ؟ فقال الرجل: في يوم كذا وكذا، فقال: وفي أي شهر ؟ فقال: في شهر كذا وكذا، قال: في أي سنة ؟ فقال: في سنة كذا وكذا، فقال: وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى ؟ قال: إلى موضع كذا وكذا، قال: وفي منزل من مات ؟ قال: في منزل فلان بن فلان، قال: وما كان مرضه ؟ قال: كذا وكذا، قال: وكم يوما مرض ؟ قال: كذا وكذا، وفي أي يوم مات، ومن غسله، ومن كفنه وبما كفنتموه، ومن صلى عليه، ومن نزل قبره ؟ فلما سأله عن جميع ما يريد كبر أمير المؤمنين عليه السلام وكبر الناس جميعا، فارتاب اولئك الباقون ولم يشكوا أن صاحبهم قد اقر عليه وعلى نفسه، فأمر أن يغطى رأسه وينطلق به إلى السجن، ثم دعا بآخر فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه وقال: كلا، زعمتم أني لا أعلم ما صنعتم ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ! ما أنا إلا واحد من القوم، ولقد كنت كارها لقتله، فأقر، ثم دعا بواحد بعد واحد كلهم يقر بالقتل وأخذ المال، ثم رد.

 الذي كان أمر به إلى السجن فأقر - أيضا -، فألزمهم المال والدم - الحديث (1).

 9 - عن أبي جعفر عليه السلام قال: (كان لرجل على عهد علي عليه السلام جاريتان، فولدت إحداهما ابنا والاخرى بنتا، فعمدت صاحبة البنت فوضعت بنتها في المهد الذي فيه الابن وأخذت ابنها، فقالت صاحبة البنت: الابن ابني، وقالت صاحبة الأبن: الابن ابني، فتحاكمتا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر أن يوزن لبنهما وقال: أيتهما كانت أثقل لبنا فالابن لها (2).

 10 - روى المفيد رحمه الله: (إن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل، ادعته كل واحدة منهما ولدا لها بغير بينة ولم ينازعهما فيه غيرهما، فالتبس الحكم في ذلك على عمر، ففزع فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فاستدعى المرأتين ووعظهما و


(1) - الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 18: صص 204، ط عبد الرحيم.

 (2) - الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 18: صص 210، ط عبد الرحيم.

 


[682]

خوفهما، فأقامتا على التنازع، فقال علي عليه السلام: ايتوني بمنشار، فقالت المرأتان: فما تصنع به ؟ فقال: أقده نصفين لكل واحد منكما نصفه، فسكتت إحداهما، وقالت الاخرى: الله، الله، يا أبا الحسن ! إن كان لابد من ذلك فقد سمحت به لها، فقال: الله أكبر، هذا ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت، واعترفت الاخرى أن الحق لصاحبتها وأن الولد لها دونها (1).

 11 - قال أبو جعفر عليه السلام: (توفي رجل على عهد أمير المؤمنين عليه السلام وخلف ابنا وعبدا فادعى كل واحد منها أنه الابن وأن الآخر عبد له، فأتيا أمير المؤمنين عليه السلام فتحا كما إليه، فأمر عليه السلام أن يثقب في حائط المسجد ثقبتين، ثم أمر كل واحد منهما أن يدخل رأسه في ثقب، ففعلا، ثم قال: يا قنبر ! جرد السيف، وأشار إليه لا تفعل ما آمرك به، ثم قال: اضرب عنق العبد، فنحى العبد رأسه، فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام وقال للآخر: أنت الابن وقد أعتقت هذا وجعلته مولى لك (2).

 12 - عن جابر الجعفي، عن تميم بن حزام الاسدي: (أنه رفع إلى عمر منازعة جاريتين تنازعتا في ابن وبنت، فقال: أين أبو الحسن مفرج الكرب ؟ فدعي له به، فقص عليه القصة، فدعا بقارورتين فوزنهما، ثم أمر كل واحدة فحلبت في قارورة، ووزن القارورتين فرجحت إحداهما على الاخرى، فقال: الابن للتي لبنها أرجح، والبنت للتي لبنها أخف، فقال عمر: من أين قلت ذلك يا أبا الحسن ؟ فقال: لان الله جعل للذكر مثل حظ الانثيين، وقد جعلت الأطباء ذلك أساسا في الاستدلال على الذكر والانثى (3).

 13 - أخرج الحافظ عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن المنذر بأسانيدهم عن الدؤلي، قال: (رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها،


(1) - الحر العاملي: الوسائل، ج 18: ص 212.

 (2) - الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 18: ص 211.

 (3) - ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، ج 2: ص 367.

 


[683]

فجائت اختها إلى علي بن أبي طالب، فقالت: إن عمر يرجم اختي، فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذرأ لما أخبرتني به، فقال علي: إن لها عذرأ، فكبرت تكبيرة سمعها عمر ومن عنده، فانطلقت إلى عمر فقالت: إن عليا زعم أن لاختي عذرا، فأرسل عمر إلى علي: ما عذرها ؟ قال: إن الله يقول: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين (1)، فقال: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا (2) وقال: وفصاله في عامين (3)، وكان الحمل هنا ستة أشهر، فتركهما عمر، قال ثم بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر (4).

 14 - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: اتي أمير المؤمنين عليه السلام برجل وجد في خربة وبيده سكين ملطخ بالدم، وإذا رجل مذبوح يتشحط في دمه، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ما تقول ؟ قال: يا أمير المؤمنين ! أنا قتلته، قال: اذهبوا به وأقيدوه به، فلما ذهبوا به ليقتلوه به أقبل رجل مسرع فقال: لا تعجلوه وردوه إلى أمير المؤمنين، فردوه فقال: والله، يا أمير المؤمنين ! ما هذا صاحبه، أنا قتلته، فقال أمير المؤمنين عليه السلام للأول: ما حملك على إقرارك على نفسك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ! وما كنت أستطيع أن أقول وقد شهد علي أمثال هؤلاء الرجال فأخذوني وبيدي سكين ملطخة بالدم والرجل يتشحط في دمه وأنا قائم عليه، وخفت الضرب فأقررت، وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاة فأخذني البول، فدخلت الخربة فرأيت الرجل يتشحط في دمه، فقمت معجبا فدخل علي هؤلاء فأخذوني.

 فقال أمير المؤمنين عليه السلام: خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسن عليه السلام، وقولوا له: ما الحكم فيهما ؟ قال: فذهبوا إلى الحسن عليه السلام وقصوا عليه قصتهما، فقال الحسن عليه السلام:


(1) - البقرة، 2: 233.

 (2) - الاحقاف، 46: 15.

 (3) - لقمان، 31: 14.

 (4) - الاميني: الغدير، ج 6: ص 93.

 


[684]

قولوا لأمير المؤمنين عليه السلام: إن هذا إن كان ذبح ذاك فقد أحيى هذا، وقد قال الله عز وجل: ومن أحياها فكأنما أحي: الناس جميعا (1) يخلي عنهما وتخرج دية المذبوح من بيت المال (2).

 15 - جاء رجل إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين ! اني كنت أعزل عن امرأتي وإنها جاءت بولد، فقال عليه السلام: واناشدك الله، هل وطئتها ثم عاودتها قبل أن تبول ؟ قال: نعم، قال: فالولد لك (3).

 قال الاستاذ الشيخ محمد تقي الفلسفي: (من هذه الجملة يعلم أن الرجل كان يعزل (يقذف السائل المنوي خارج مهبل زوجته) لمنع الحمل، ومع ذلك فقد حدث أن حملت المرأة، فأدى الأمر إلى أن يشك الرجل في زوجته، فجاء يسأل عليا عليه السلام وإلا فإنه لم يكن يرضى بأن يفشي سره، فنجد الأمام عليه السلام حين يسمع بالقصة يسأله هل اتفق له أن جامع زوجته مرتين من دون أن يبول في الأثناء ؟ فأجابه بوقوع ذلك، فصرح الأمام بأن الولد له، والسر في ذلك واضح، لأنه عليه السلام كان يعلم أن ذرة صغيرة من النطفة كافية لأن تلقح بويضة المرأة فتحمل، فبما أن الرجل جامع زوجته في المرة الاولى ثم قذف السائل خارجا، وبقي مدة لم يبل فيها فبقيت الحيامن في المجرى، وحين جامعها للمرة الثانية خرجا في المرة الثانية إلا أن الحيا من المبتقية في المجرى كانت قادرة على الاحتفاظ بنشاطها لمدة 48 ساعة، وكذلك فعلت (4).

 وقال - أيضا: (لم يكن بإمكان البشر قبل أربعة عشر قرنا أن يتصوروا أن منشأ


(1) - المائدة، 5: 32.

 (2) - الحويزى: تفسير نور الثقلين، ج 1: ص 620.

 (3) - البحار، ج 104، ص 64.

 (4) - محمد تقى الفلسفي: الطفل بين الوراثة والتربية / التعريب والتعليق: فاضل الحسيني الميلاني، ج 1: صص 84 و83.

 


[685]

ظهور الأنسان هو موجود صغير وضئيل يوجد منه في نطفة الرجل مئات الملايين في كل مرة، وهذه الذرة الصغيرة كافية في أن تلقح امرأة (1).

 و- ايضا - نقل عن الدكتور الكسيس كارل: (إن الحيامن المنوية قادرة على الاحتفاظ بقابليتها على التلقح لمدة 48 ساعة بعد الخروج من الرجل، وذلك في وسط قلوي (قاعدي) وتحت درجة حرارة 37 منوية (2).

 


(1) - محمد تقى الفلسفي: الطفل بين الوراثة والتربية / التعريب والتعليق: فاضل الحسيني الميلاني، ج 1: صص 84 و83.

 (2) المصدر.