الفصل 25

الإمام علي عليه السلام وحقوق الرعية

1 - (مر شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما هذا ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ! نصراني، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: استعملتموه حتى إذا كبر، وعجز منعتموه ؟ ألفقوا عليه من بيت المال (1).

 2 - عن الحسن عليه السلام، قال: (إن عليا عليه السلام لما هزم طلحة والزبير أقبل الناس منهزمين، فمروا بامرأة حامل على الطريق ففزعت منهم فطرحت ما في بط 4 نها حيا، فاضطرب حتى مات، ثم ماتت امه من بعده، فمر بها علي عليه السلام وأصحابه وهي مطروحة على الطريق وولدها على الطريق، فسألهم عن أمرها، فقالوا: إنها كانت حبلى ففزعت حين رأت القتال والهزيمة، قال: فسألهم أيهما مات قبل صاحبه ؟ فقيل: إن ابنها مات قبلها.

 قال: فدعا بزوجها أبي الغلام الميت فورثه ثلثي الدية، وورث امه ثلث الدية، ثم ورث الزوج من المرأة الميتة نصف ثلث الدية التي ورثتها من ابنها، وورث قرابة المرأة الميتة الباقي، ثم ورث الزوج - أيضا - من دية امرأته الميتة نصف


(1) - الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 11: ص 49، ط عبد الرحيم.

 


[687]

الدية وهو ألفان، خمسمائة درهم، وورث قرابة المرأة الميتة نصف الدية وهو ألفان وخمسمائة درهم، وذلك أنه لم يكن لها ولد غير الذي رمت به حين فزعت، قال: وأدى ذلك كله من بيت مال البصرة (1).

 3 - روى الطبري بإسناده، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حسين افتتح مكة خالد بن الوليد داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب سليم ومدلج وقبائل من غيرهم، فلما نزلوا على الغميصاء وهي ماء من مياه بني جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكة بن المغيرة، وكانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما، وأخذوا أموالهما، فلما كان الأسلام وبعث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خالد بن الوليد سار حتى نزل ذلك الماء، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا.

 حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني بعض أهل العلم، عن رجل من بني جذيمة، قال: لما أمرنا خالد بوضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم، يا بني جذيمة ! إنه خالد، والله، ما بعد السلاح إلا الأسار ثم ما يعد الاسار إلا ضرب الأعناق، والله، لا أضع سلاحي أبدا، قال: أخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم ! أتريد أن تسفك دماءنا ؟ إن الناس قد أسلموا، ووضعت الحرب، وأمن الناس، فلم يزالوبه حتى نزعوا سلاحه، ووضع القول السلاح لقوم خالد، فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك، فكتفوا ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم.

 فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم إني أبرء إليك مما صنع خالد بن الوليد، ثم دعا علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا علي !


(1) - الحر العاملي: وسائل الشيعة، ج 7، ص 393، ط عبد الرحيم.

 


[688]

اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدمك، فخرح حتى جاءهم، ومعه مال قد بعثه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم به فودى لهم الدماء وما اصيب من الأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب (1)، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم ؟ قالوا: لا، قال: وأني اعطيكم هذه بقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون.

 ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت، ثم قام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبه وهو يقول: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد - ثلاث مرات (2) -).

 4 - خبر خالد بن الوليد حين بعثه النبي صلى الله عليه واله وسلم على صدقات بني جذيمة من بني المصطلق فأوقع بهم خالد فترة كانت بينه وبينهم فقتل منهم واستاق أموالهم، فلما انتهى الخبر إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم رفع يده إلى السماء، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، وبكى، ثم دعا عليا عليه السلام فبعثه إليهم بمال وأمره أن يؤدي إليهم ديات رجالهم وما ذهب لهم من أموالهم، فأعطاهم أمير المؤمنين عليه السلام جميع ذلك، فأعطاهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وبقيت معه عليه السلام من المال فأعطاهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم ولما لا يعلمون وليرضوا عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم (1).

 5 - في (مصباح الأنوار) قال: (بلغنا أن أمير المؤمنين عليه السلام اشتهى كبدا مشوية على خبزة لينة، فأقام حولا يشتهيها، ثم ذكر ذلك للحسن عليه السلام وهو صائم يوما من الأيام فصنعها له، فلما أراد أن يفطر قربها إليه، فوقف سائل بالباب، فقال: يا بني ! احملها


(1) - الميلغة: الاناء يلغ فيه الكلب أو يسقى فيه.

 (2) - طبري: تاريخ الرسل والملوك، ج 3: ص 66، ط مصر.

 (3) - القمي: سفينة البحار ج 1: ص 406 (خلد).

 


[689]

إليه لا نقرأ صحيفتنا غدا أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها (1).

 (2) 6 - (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من لهذا الرجل الليلة ؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا له، يا رسول الله ! وأتى فاطمة عليها السلام فقال لها: ما عندك يا بنت رسول الله ؟ فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية نؤثر ضيفنا، فقال علي عليه السلام: يا ابنة محمد ! نومي الصبية وأطفئي المصباح، فلما أصبح علي عليه السلام غدا على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأخبره الخبر، فلم يبرح حتى أنزل الله عز وجل: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون (3).

 (4) 7 - وقال عليه السلام في عهده إلى الأشتر رحمه الله: (واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول في غير موطن: لن تقدس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع.

 ثم احتمل الخرق منهم والعي، ونح عنهم الضيق والأنف يبسط الله عليك بذلك أكناف رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته، وأعط ما أعطيت هنيئا، وامنع في إجمال وإعذار (5).

 


(1) - الأحقاف، 46: 2.

 (2) - القمي: سفينة البحار، ج 2: ص 458، (كبد).

 (3) - الحشر، 59: 9.

 (4) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 34.

 (5) - السيد الرضى (المجمع): نهج البلاغة، / 53.

 


[690]

 

الفصل 26

الإمام علي عليه السلام والسياسة والتدبير

في (لسان العرب) للعلامة ابن منظور، قال: (السياسة: القيام على الشئ بما يصلحه (1)، وفي (مجمع البحرين): (وفي وصف الأئمة عليهم السلام: أنتم ساسة العباد) وفيه: (الأمام عارف بالسياسة) وفيه: (ثم فوض إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم أمر الدين، والامة ليسوس عباده) وفي الخبر: (كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم) أي تتولى أمرهم كالامراء والولاة بالرعية من السياسة وهو القيام على الشئ بما يصلحه (2).

 هذا كلام أئمة اللغة فهم يصرحون بأن السياسة القيام على الشئ بما يصلحه، فإذا لم يكن في القيام على الشئ إصلاح، وإجراء عدل، وإحقاق حق، وإبطال باطل، فهو سياسة مكيا فيلية غدرية، وهذا هو الفرق الأساسي والميز الجوهري بين سياسته عليه السلام وبين سياسة غيره، وقد أشار عليه السلام إلى هذا الفرق في خطب عديدة، فمنها: (ولقد أصحبنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا، ونسبهم أهل الجهل


(1) - ابن منظور: لسان العرب، مادة (سوس).

 (2) - الطريحي: مجمع البحرين، مادة (سوس).

 


[691]

فيه إلى حسن الحيلة، مالهم - قاتلهم الله - قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (1).

 ومنها: (والله، ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة، والله، ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة (2).

 ومنها: (لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع (3).

 ومنها: (لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر العرب (4).

 ومنها: (لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: إن المكرو الخديعة والخيانة في النار، لكنت أمكر العرب (5).

 ومنها: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه (6).

 ومنها: (وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لاأرى إصلاحكم بإفساد نفسي، أضرع الله خدودكم (7).

 أقول: الكيس: العقل.

 والحول: البصير بتحويل الامور.

 والقلب: الخبير بتقلبها.

 وينتهز: يبادر.

 والحريجة: التحرز.

 وغدرة وفجرة وكفرة - بضم الأول - للمبالغة أي غدور وفجور وكفور، وما استغفل بالمكيدة: لا تجوز المكيدة علي كما تجوز


(3) - السيد الرضي (المجمع): نهج البلاغة، خ 41.

 (2) - السيد الرضي: (المجمع): نهج البلاغه، خ 109.

 (3) - المصدر.

 (4) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 109.

 (5) - المجلسي: بحار الأنوار، ج 41: ص 110.

 (6) - السيد الرضي (المجمع): نهج البلاغة، خ 124.

 (7) - السيد الرضي (المجمع): نهج البلاغة، خ 68.

 


[692]

على الغافلين، ولا استغمز بالشديدة: لا أضعف للخطوب وإن اشتدت.

 ولا يصانع: لا يداري.

 ولا يضارع: لا يشبه المبطلين في شيء من أحكامه، وقيل: لا يخضع ولا يضرع.

 والمستفاد من هذه الكلمات الشريفة أن عليا عليه السلام يعرف الفرص والوسائل والأسباب إلى بلوغ الملك والسلطان ولكنه لا يستعملها على حساب دينه، فإنه عليه السلام لا يعلم من النجاح والظفر إلا مرضاة الله، والعمل بالحق والعدل، وهو عليه السلام مستعد لأن يضحي بالنفس والملك وبكل عزيز ليبلغ هذه الغاية.

 وقال ابن أبي الحديد: إن فاطمة عليها السلام حرضته يوما على النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال لها: أيسرك زوال هذا النداء من الأرض ؟ قالت: لا، قال: فإنه ما أقول لك (1).

 وقال - أيضا: (اعلم أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة، إلا إذا كان يعمل برأيه وبما يرى فيه صلاح ملكه وتمهيد أمره وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة أولم يوافقها، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوثق حاله، وأمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة، مدفوعا إلى اتباعها ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير إذا لم يكن للشرع موافقا، فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك.

 ولسنا بهذا القول زارين على عمربن الخطاب، ولاناسبين إليه ما هو منزه عنه، ولكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويؤمي تخصيص عمومات النص بالاراء وبالاستنباط من اصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، ويكيد خصمه، ويأمر امراء بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة والسوط - إلى أن قال - ولم يكن أمير المؤمنين عليه السلام يرى ذلك، وكان يقف مع


(61) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 11: ص 123.

 


[693]

النصوص والظواهر ولا يتعداها إلى الاجتهاد والاقيسة، ويطبق امور الدنيا على امور الدين، ويسوق الكل مساقا واحدا، ولا يضع ولا يرفع إلا بالكتاب والنص، فختلف طريقتا هما في الخلافة والسياسة، وكان عمر مع ذلك شديد الغلطة والسياسة، وكان علي عليه السلام كثير الحلم والصفح والتجاوز... (1).

 وقال - أيضا: (وكان أبو جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه في هذا يقول: إنه لافرق عند من قرء السيرتين سيرة النبي صلى الله عليه واله وسلم وسياسة أصحابه أيام حياته وبين سيرة أمير المؤمنين عليه السلام وسياسة أصحابه أيام حياته، فكما أن عليا عليه السلام لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه، وكثرة الفتن والحروب فكذلك كان النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين وأذاهم وخلاف أصحابه عليه، وهرب بعضهم إلى أعدائه وكثرة الحروب والفتن... ومن العجب أن أول حروب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كانت بدرا، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب علي عليه السلام الجمل وكان هو المنصور فيها، ثم كان من صحيفة الصلح والحكومة يوم صفين نظير ماكان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية، ثم دعا معاوية في آخر أيام علي عليه السلام إلى نفسه وتسمى بالخلافة كما أن مسيلمة والأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وتسميا بالنبوة، واشتد على علي عليه السلام ذلك كما اشتد على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أمر الأسود ومسيلمة، وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي صلى الله عليه واله وسلم وكذلك ابطل أمر معاوية وبني امية بعد وفاة على عليه السلام، ولم يحارب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أحد من ما عدا يوم حنين، ولم يحارب عليا عليه السلام من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم


(1) - ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 10: ص 212.

 ومن المحال اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ولا محالة اثبات أحدهما، فالثابت الحق منهما ما يوافق كتاب الله ونصوص السنة وهو طريق أمير المؤمنين عليه السلام كما أذعن به الشارح.

 (2) كذا.

 


[694]

النهروان، ومات علي عليه السلام شهيدا بالسيف، ومات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم شهيدا بالسم، وهذا لم يتزوج على خديجة ام أولاده حتى ماتت، وهذا لم يتزوج على فاطمة ام أشرف أولاده حتى ماتت، ومات رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن ثلاث وستين سنة، ومات علي عليه السلام عن مثلها.

 وكان يقول: انظروا إلى أخلاقهما وخصائصهما، هذا شجاع، وهذا شجاع، وهذا فصيح، وهذا فصيح، وهذا سخي جواد، وهذا سخي جواد، وهذا عالم بالشرائع والامور الالهية، وهذا عالم بالفقه والشريعة والامور الالهية الدقيقة الغامضة، وهذا زاهد في الدنيا غيرنهم عليها ولا مستكثر منها، وهذا زاهد في الدنيا تارك لها غير متمتع بلذاتها، وهذا مذيب نفسه في الصلاة والعبادة، وهذا مثله، وهذا غير محبب إليه شيء من الامور العاجلة إلا النساء، وهذا مثله، وهذا ابن ابن عبد المطلب بن هاشم، وهذا في قعدده (1) وأبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب، وربي محمد صلى الله عليه واله وسلم في حجر والد هذا وهو أبو طالب فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده، ثم لما شب صلى الله عليه واله وسلم وكبر استخلصه من بني أبي طالب وهو غلام فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبي طالب به، فامتزج الخلقان وتماثلت السجيتان....

 (2).

 ونقل - أيضا - ابن أبي الحديد عن أبي جعفر النقيب اختصاص علي عليه السلام برسول الله صلى الله عليه واله وسلم، ثم قال: (قال أبو جعفر النقيب: لأنهما نفس واحدة في جسمين، الأب واحد، والدار واحدة، والأخلاق متناسبة، فإذا عظمه أي النبي صلى الله عليه واله وسلم عليا عليه السلام فقد عظم نفسه (3).

 


(1) - التعدد: القريب الاباء من الجد الاعلى.

 (2) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 10: ص 214.

 (3) المصدر چ 8: ص 175.

 


[695]

الفرق بين سياسة علي عليه السلام وغيره 1 - قال الفاضل المصري، الدكتور طه حسين: (إن الفرق بين علي ومعاوية في السيرة والسياسة كان عظيما بعيد المدى، عرفت أن معاوية كان ينتظر عليا في ثبات وثقة واطمينان، كأن الفرق بين الرجلين عظيما في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمنا بالخلافة... يرى أن من الحق عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس لا يؤثر منهم أحدا على أحد، ويرى أن من الحق عليه أن يحفظ على المسلمين مالهم لا ينفقه إلا بحقه، فهو لا يستبيح لنفسه أن يصل الناس من بيت المال، بل هو لا يستبيح لنفسه أن يأخذ من بيت المال لنفسه وأهله إلا ما يقيم الأود، لا يزيد عليه... فأما معاوية... لا يجد في ذلك بأسا ولا جناحا، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يحبون، وما رأيك في رجل جاء أخوه عقيل بن أبي طالب مسترفدا، فقال لابنه الحسن: إذا خرج عطائي فسر مع عمك إلى السوق فاشتر له ثوبا جديدا ونعلين جديدتين، ثم لم يزد ذلك شيئا ! وما رأيك في رجل آخر يأتيه عقيل هذا نفسه بعد أن لم يرض صلة أخيه فيعطيه من بيت المال مائة ألف....

 وعلي لا يدهن في الدين، ولم يكن يبغض شيئا كما يبغض وضع درهم من بيت مال المسلمين في غير موضعه أو إنفاقه في غير حقه، كما كان يبغض المكر والكيد وكل ما يتصل بسبب من أسباب الجاهلية الأولى... (1) 2 - وقال: (مفتاح سياسة الأمام قوله عليه السلام: لا اداهن في ديني، ولا اعطي الدنية في أمري (2).

 


(1) - على وبنوه، ص 59، ط دار المعارف بمصر.

 (2) - الإمام علي أسد الاسلام وقديسه، ص 92، ط بيروت.

 


[696]

3 - وقال جرج جرداق: (إن الذين قالوا: علي لا يعرف السياسة يريدون من علي أن يكون معاوية بن أبي سفيان، ويأبى علي إلا أن يكون ابن أبي طالب (1).

 وقال - أيضا: (والذي يمعن النظر في سياسة معاوية يهوله هذا المقدار من قوى الشر والاحتيال التي تألف منها اسلوبه في أخذ الناس... فهو اسلوب مكيافيلي خالص لا ينقصه شيء من تفاصيل المكيافيلية المجرمة والنهب والترويع والتقتيل (2).

 وقال - أيضا -، من قول معاوية: (فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن له دخل في طاعتنا).

 وقال - أيضا: (أقول: صدق رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباد الله خولا (3).

 وقال - أيضا: (نعم، إن معاوية لم يكن على شيء من الأسلام، وقد شهد على نفسه بذلك فإنه كان يلبس الحرير، ويشرب في آنية من الذهب والفضة حتى أنكر عليه أبو الدرداء فقال له: إني سمعت رسول الله، يقول: إن الشارب فيهما لتجرجر في جوفه نار جهنم... فقال معاوية بلا مبالاة: أما أنا فلا أرى بذلك بأسا (4).

 4 - وقال عبد الكريم الخطيب: (... تركوا عليا (يعني أصحابه) خوفا من حسابه أو يأسا من عطائه، ولحقوا بمعاوية حيث هناك لاخوف من حساب ولا يأس من عطاه، فإن بيت مال المسلمين هو بيت مال معاوية يضعه حيث يشاء، ويفتح به لنفسه إلى الناس طرقا، وفي عقيل بن أبي طالب وفي موقف على منه ما


(1) - المغنية: في ظلال نهج البلاغة، ج 1: ص 258.

 (2) - علي صوت العدالة الانسانية، ج 4: ص 775.

 (3) - علي صوت العدالة الانسانية، ج 4: ص 779.

 (4) - علي صوت العدالة الانسانية، ج 4: ص 766.

 


[697]

يغني عن كل مثل يورد وعن كل قول يقال في هذا المقام... وطبيعي أن سياسة علي هذه كان يمكن أن تمسك عليه أهله وأصحابه وأنصاره لو كانت سياسة معاوية مماثلة لتلك السياسة أو مقاربة لها، وأما سياسة معاوية تذهب المياسرة حينا والممالأة حينا آخر والأغراء والأغراق في أكثر الأحيان، فإن ذلك جدير به أن يقلب القلوب ويدير الرؤوس، وقد تحول كثير من أنصار علي إلى جبهة معاوية بفعل هذه السياسة...).

 وقال - أيضا: نجد المال في يد علي حربا عليه يكثر من أعدائه، ويفسد عليه أصحابه وأنصاره، بينما نجد المال في يد معاوية جيشا عاملا يؤلف له العدو، ويدني إليه البعيد، ويبسط له سلطانا قائما على الرغبة والأمل... (1).

 وقال: (روى أبو جعفر الأسكافي: أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يحدث بأن هذه الاية نزلت في علي بن أبي طالب: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * (2) فلم يرض، فبذل له مثنى ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل (3).

 ما طعن في سياسته عليه السلام والجواب عنه قال ابن أبي الحديد: (وقد تعلق من طعن في سياسته بامور... منها قولهم: (إنه قصر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر، وقد كان اجتمع له من بني هاشم وبني امية وغيرهم من أفناء الناس من يتمكن بهم من المنازعة وطلب الخلافة،


(1) - الإمام علي بقية النبوة وخاتم الخلافة، ص 439.

 (2) - البقرة، 2: 204 و205.

 (3) - الإمام علي بقية النبوة وخاتم الخلافة، ص 164.

 


[698]

فقصر عن ذلك لاجبنا، لأنه كان أشجع البشر ولكن قصور تدبير وضعف رأي (1).

 والجواب (2) ما أشار عليه السلام إليه في مواضع مختلفته، فقال في موضع: (وايم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه... (3).

 وفي موضع قال: (فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالاسلام والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف (4).

 وفي موضع قال في جواب الأشعث بن قيس - لما قال له: ما منعك، يا ابن أبي طالب ! حين بويع أخو بني تميم وأخو بني عدي وأخو بني امية أن تقاتل وتضرب بسيفك، وأنت لم تخطبنا مذكنت قدمت العراق، إلا قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر: (والله، إني لأولى الناس، وما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم)، فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟ يا ابن قيس ! اسمع الجواب، لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهية لقاء ربي، ولكن منعني من ذلك أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم وعهده إلى، أخبرني بما الامة صانعة بعده... فقلت: يا رسول الله ! فما تعهد إلى إذا كان ذلك ؟ قال: إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعوانا فكف يدك، واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتى أعوانا... (5).

 


(1) - شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد، ج 10: ص 254.

 (2) - هذا الجواب منى، والجواب عن الامور الاخر من ابن أبى الحديد.

 (3) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: ص 307.

 (4) - ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة ج 1: ص 308.

 والوطب: سقاء اللبن خاصة.

 وسنورد هذا الكلام بتمامه.

 (5) - العلامة التستري: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 4: ص 519.

 


[699]

وفي موضع حين خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: (والله، لو أن لي رجالا ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه قال: فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلا على الموت، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين، وحلق أمير المؤمنين عليه السلام، فما وافى من القوم محلقا إلا أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وجاء سلمان في آخر القوم، فع يده إلى السماء، فقال: اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون، اللهم فإنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شيء في الأرض ولافي السماء، توفني مسلما وألحقني بالصالحين.

 أما والبيت والمفضي إلى البيت (والمزدلفة - نسخة) والخفاف إلى التجمير، لولا عهد عهده إلي النبي الامي صلى الله عليه واله وسلم لأوردت المخالفين خليج المنية ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت، وعن قليل سيعلمون (1).

 أقول: الصيرة: حظيرة تتخذ من الحجارة وأغصان الشجرة للغنم والبقر.

 والذبان - بالكسر والتشديد -: جمع ذباب، وكنى ابن بابن آكلتها عن سلطان الوقت، فإنهم كانوا في الجاهلية يأكلون من كل خبيث نالوه.

 وأحجار الزيت موضع داخل المدينة، والمفضي إلى البيت: ماسه بيده، والخفاف: سرعة الحركة، ولعل المراد بالتجمير رمي الجمار، والخليج: النهر، وشآبيب: جمع شؤبوب - بالضم مهموزا - وهو الدفعة من المطر، كما في هامش الروضة.

 ومنها قولهم: (لو كان حين بويع له بالخلافة في المدينة أقر معاوية على الشام إلى أن يستقر الأمر له ويتوطد ويبايعه معاوية وأهل الشام، ثم يعزله بعد ذلك لكان قد كفي ما جرى بينهما من الحرب).

 والجواب:... أن قرائن الأحوال حينئذ كان قد علم أمير المؤمنين عليه السلام منها أن


(1) - الكليني: الروضة من روضة الكافي، ص 33، ط الاخوندي.

 


[700]

معاوية لا يبايع له وإن أقره على ولاية الشام، بل كان إقراره له على إمرة الشام أقوى لحال معاوية وآكد في الامتناع من البيعة، ليمكن أن يقولوا: لولا أنه أهل لذلك لما اعتمده علي عليه السلام معه...).

 ومنها قولهم: (إنه ترك الطلحة والزبير حتى خرجا إلى مكة، وأذن لهما في العمرة، وذهب عنه الرأي في ارتباطهما قبله...).

 والجواب:... ومن قال: إنهما استأذناه في العمرة وأذن لهما فقد روي أنه قال: والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان الغدرة، وخوفهما بالله من التسرع إلى الفتنة، وما كان يجوز له في الشرع ولا في السياسة أن يجلسهما، أما في الشرع فلأنه محظور أن يعاقب الأنسان بما لم يفعل، وعلى ما يظن به ويجوز أن لا يقع.

 وأما في السياسة فلانه لو أظهر التهمة لهما وهما من أفاضل السابقين وجلة المهاجرين لكان في ذلك من التنفير ما لا يخفى...).

 ومنها قولهم: (هلا إذا ملك شريعة الفرات على معاوية - بعد أن كان معاوية ملكها عليه ومنعه وأهل العراق - منع معاوية وأهل الشام منها، فكان يأخذهم قبضا بالأيدي ؟ فإنه لم يصبر على منعهم عن الماء بل فسح لهم في الورود، وهذا يخالف ما يقتضيه تدبير الحرب).

 والجواب أنه عليه السلام لم يكن يستحل ما استحله معاوية من تعذيب البشر بالعطش، فإن الله تعالى ما أمر في أحد من العصاة الذين أباح دماءهم بذلك ولا فسح فيه في نحو القصاص، أو حد الزاني المحصن، أو قتل قاطع الطريق، أو قتال البغاة والخوارج، وما كان أمير المؤمنين ممن يترك حكم الله وشريعته ويعتمد ما هو محرم فيها لأجل الغلبة والقهر والظفر بالعدو، ولذلك لم يكن يستحل البيات (1) ولا الغدر ولا النكث.

 


(1) - أي الهجوم على العدو ليلا.

 


[701]

ومنها قولهم: (أخطا حيث محا اسمه بالخلافة من صحيفة الحكومة، فإن ذلك مما وهنه عند أهل العراق، وقوى الشبهة في نفوس أهل الشام).

 والجواب: أنه عليه السلام احتذى في ذلك - لما دعي إليه واقترحه الخصم عليه - فعل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في صحيفة الحديبية حيث محا اسمه من النبوة لما قال له سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول الله لما حاربناك ولامنعناك عن البيت.

 وقد قال صلى الله عليه واله وسلم له عليه السلام - وهو يومئذ كاتب تلك الصحيفة -: ستدعى إلى مثلها فتجيب.

 وهذا من أعلام نبوته - صلوات الله عليه - ومن دلائل صدقه، ومثله جرى له حذو القذة بالقذة.

 ومنهم قولهم: (إن جماعة من أصحابه عليه السلام فارقوه وصاروا إلى معاوية كعقيل بن أبي طالب أخيه، والنجاشي شاعره، ورقبة بن مصقلة أحد الوجوه من أصحابه، ولولا أنه كان يوحشهم ولا يستميلهم لم يفارقوه ويصيروا إلى عدوه، وهذا يخالف حكم السياسة وما يجب من تألف قلوب الأصحاب والرعية).

 والجواب: أنا أولا لا ننكر أن يكون كل من رغب في حطام الدنيا وزخرفها، وأحب العاجل من ملاذها وزينتها يميل إلى معاوية الذي يبذل منها كل مطلوب، ويسمح بكل مأمول، ويطعم خراج مصر عمرو بن العاص، ويضمن لذي الكلاع وحبيب بن مسلمة ما يوفي على الرجاء والاقتراق، وعلي عليه السلام لا يعدل فيما هو أمين عليه من مال المسلمين عن قضية الشريعة وحكم الملة حتى يقول خالد بن معمر السدوسي لعلباء بن الهيثم - وهو يحمله على مفارقة علي عليه السلام واللحاق بمعاوية -: اتق الله، يا علباء ! في عشيرتك، وانظر لنفسك ولرحمك، ماذا تؤمل عند رجل أردته على أن يزيد في عطاء الحسن والحسين دريهمات يسيرة ريثما يرأبان بها ظلف عيشهما، فأبى وغضب فلم يفعل.

 فأما عقيل فالصحيح الذي اجتمع ثقات الرواة عليه أنه لم يجتمع مع معاوية إلا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام.

 ومنها قولهم: (إنه غير مصيب في ترك الاحتراس، فقد كان يعلم كثرة أعدائه ولم يكن يحترس منهم، وكان يخرج ليلا في قميص ورداء وحده حتى كمن له


[702]

ابن ملجم في المسجد فقتله...) والجواب: إن هذا إن كان قادحا في السياسة وصحة التدبير... فليكن قادحا في صحة تدبير رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فقد كان يخرج وحده في المدينة ليلا ونهارا مع كثرة أعدائه... ولأن عليا عليه السلام كانت هيبته قد تمكنت في صدور الناس، فلم يكن يظن أن أحدا يقدم عليه غيلة... (1).

 أقول: وهذا كله مع أنه عليه السلام يقدم في سياسته وتدبيره مصلحة الأسلام على حق نفسه، وكان يضحي بنفسه في سبيل مصلحة الأسلام ورقاه وقامه على اصوله.

 قال ابن أبى الحديد: (روى الكلبي قال: لما أراد علي عليه السلام المسير إلى البصرة قام فخطب الناس فقال بعد أن حمدالله وصلى على رسوله صلى الله عليه واله وسلم: إن الله لما قبض نبيه صلى الله عليه واله وسلم استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالأسلام، والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء والله ولى تمحيص سيئاتهم والعفو عن هفواتهم (2)، فما بال طلحة والزبير وليسا من هذا الأمر بسبيل، لم يصبرا علي حولا ولا أشهرا حتى وثبا ومرقا ونازعانى أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا، بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين، يرتضعان اما قد فطمت، ويحييان بدعة قد اميتت، أدم عثمان زعفا ؟ والله مالاتبعة إلا عندهم وفيهم، وإن أعظم ححتهم لعلى أنفسهم، وأنا راض بحجة الله عليهم وعلمه فيهم، فإن فاءا وأنا بافحظهما أحرزا، وأنفسهما غنما، وأعظم بهما غنيمة ! وإن أبيا اعطيهما حد السيف وكفى به ناصرا لحق، وشافيا


(1) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 10: ص 259.

 (2) - هذا - على تقدير صحة الصدور - تقية من الناس ومماشاة معهم لما قد مضى الامر كيف ما كان، وإنما هو عليه السلام في فتنة جديدة ينبغى استفراغ البال لها.

 


[703]

لباطل (1).

 وقال - أيضا: (عن عبد الله بن جنادة، قال: قدمت من الحجاز اريد العراق في أول إمارة علي عليه السلام فمررت بمكة فاعتمرت، ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذ نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس وخرج علي متقلدا سيفه، فشخصت الأبصار نحوه، فحمد الله وصلى على رسوله، ثم قال: أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه صلى الله عليه واله وسلم قلنا نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا، فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الامرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل، فبكت الأعين منا بذلك، وخشنت الصدور، وجزعت النفوس.

 وايم الله، لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه....

 (2).

 وقال عليه السلام: (إياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئبة، ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه (3).

 وقال عليه السلام: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله، لأسلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة (4).

 وفي كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر، قال: (فوالله، ما كان يلقي في روعي (5)، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه واله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه،


(1) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: صص 308 و307.

 (2) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 1: صص 308 و307.

 (3) - السيد الرضي (المجمع) نهج البلاغة، خ 125 و.

 (4) - السيد الرضي (المجمع): نهج البلاغة، خ 71.

 (5) - بالضم: القلب.

 


[704]

فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الأسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه واله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الأسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه (1).

 قال ابن أبي الحديد: (وكأنه (نصر علي عليه السلام) جواب عن قول قائل: إنه عمل لابي بكر وجاهد بين يدي أبي بكر، فبين عليه السلام عذره في ذلك، وقال: إنه لم يكن كما ظنه القائل، ولكنه من باب دفع الضرر عن النفس وعن الدين فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن (2).

 


(1) - السيد الرضي (المجمع): نهج البلاغة، ر 62.

 (2) - ابن ابى الحديد: شرح نهج البلاغة، ج 17: ص 154.