الفصل 28

الإمام علي عليه السلام عند أصحابه ومواليه

إن أصحابه عليه السلام كثيرون، ونحن نذكر هنا - إن شاء الله تعالى - من وفد منهم على معاوية بن أبي سفيان بعد شهادته عليه السلام ذكورا وإناثا لاشتمال أحوالهم وقصصهم على جلالته عليه السلام عندهم وموقعيته لديهم وما وصفوا من سيرته وعدله ثم على وفائهم له عليه السلام.

 1 - قال العلامة الشيخ جعفر النقدز رحمه الله: (لما اجتمع الناس إلى معاوية بن أبي سفيان كتب إلى زياد بن سمية وكان عامله بالكوفة: أوفد علي أشراف أصحاب علي بن أبي طالب ولهم الأمان، وليكونوا عشرة نفر، خمسة من أهل الكوفة وخمسة من أهل البصرة، فلما ورد عليه الكتاب بعث إلى حجر ابن عدي، وعدي بن حاتم الطائي، وعمرو بن الحمق الخزاعي وهانئ بن عروة المرادي، وعامر بن واثلة الكناني - وكان يكنى بأبي الطفيل - ودعاهم تجهزوا إلى أمير المؤمنين فقد جعل لكم الأمان وأحب رؤيتكم.

 وكتب إلى خليفته بالبصرة أن أوفد إلي الاحنف بن قيس وصعصعة ابن صوحان، وحارثة بن قدامة السعدي، وخالد بن معمر السدوسي، وشريك ابن الأعور.

 فلما قدموا عليه أشخصهم جميعا إلى معاوية، فلما قدموا على معاوية


[760]

حجبهم يومهم وليلتهم، وبعث إلى رؤساء الشام، فلما جاؤوا وأخذوا مجالسهم قال معاوية لصاحب إذنه: أدخل علي حجر بن عدي.

 فلما دخل وسلم، قال له معاوية: يا ابن الأدبر القبيح المنظر أنت القاطع منا الأسباب، والملتمس بحربنا الثواب، والمساعد علينا أبا تراب ؟ فقال حجر: صه يا معاوية لاتذكر رجلا كان لله خائفا، ولما يسخطه عائفا، وبما يرضى الله عارفا، خميص الضلوع، طويل الركوع، كثير السجود، ظاهر الخشوع، قليل الهجوع، قائما بالحدود، طاهر السريرة، محمود السيرة، نافذ البصيرة، ملك أمرنا فكان كبعضنا، لم يبطل حقا، ولم يظلم أحدا... ثم بكى حتى نشج، ثم رفع رأسه فقال: أما توبيخك إياي فيما كان من نفسي، فاعلم يا معاوية أني غير معتذر إليك مما فعلت، ولا مكترث مما صنعت، فأعلن بسرك، وأظهر أمرك.

 فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عني وأدخل علي عمرو بن الحمق الخزاعي.

 فلما دخل عليه قال له معاوية: يا أبا خزاعة فارقت الطاعة، وأشهرت علينا سيفك، وأهديت إلينا حيفك، فأطلت الأعراض، وشتمت الأعراض، ودلاك بغرور جهلك المحذور، فكيف رأيت صنع الله بصاحبك ؟ قال: فبكى عمرو حتى سقط لوجهه، فرفعه الشرطي فقال: يا معاوية بأبي وامي من ذكرت وتنقصت، كان - والله - العالم بحكم الله - المجد في طاعة الله، المحدود في غيظ الله، الزاهد في الفانية، الراعب في الباقية، لا يظهر منكرا، ولا يظهر تجبرا، يعمل بما يرضى الله عنه....

 فقد مزقنا فقده، وتمنينا الموت بعده.

 فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عني وأدخل علي عدي بن حاتم الطائي.

 فلما دخل عليه قال له معاوية: ما أبقى الدهر من ذكر علي بن أبي طالب ؟ فقال عدي: فهل رعي إلا ذكره ؟ قال: وكيف حبك له ؟ فتنفس الصعداء وقال: حبي والله، جديد لا يبيد، وقد تمكن من شغاف الفؤاد إلى يوم المعاد.

 وقد امتلا من حبه صدري، وفاض في جسدي وفكري فقال الامويون: يا أمير المؤمنين أصبح


[761]

عدي بعد صفين ذليلا، فبكى عدي -، وأنشأ يقول:

يجادلني معاوية بن حرب * وليس إلى الذي يبغي سبيل

يذكرني أبا الحسن عليا * وخطبي في أبي حسن جليل

فكان جوابه مني شديدا * ويكفى مثله مني القليل

وقد قال الوليد وقال عمرو: * عدي بعد صفين ذليل

فقلت: قد صدقتم هدركني * وفارقني الذين بهم أصول

سيخسر من يوادده ابن هند * ويربح من يوادده الرسول

فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه وأدخل علي عامر بن واثلة - وكان يكنى أبا الطفيل -، فلما دخل عليه رحب معاوية، فقال أصحابه: من هذا الذي رحبت به يا أمير المؤمنين ؟ فقال: هذا خليل أبي تراب، وفارس أهل العراق، وشاعرهم يوم صفين، فقالوا: الام فارس، وأفحش شاعر، ونالوا منه، فغضب أبو الطفيل وقال: أما والله يا معاوية ما هؤلاء سبوني، ولا أدري من هم، وإنما أنت شتمتني، فأخبرني من هم ؟ وإلا - وحق علي - شتمتك فقال معاوية: هذا عمرو بن العاص، وهذا مروان بن الحكم، وهذا سعيد بن العاص، وهذا ابن اختي.

 فقال أبو الطفيل: أما عمرو فأنطقته جباية مصر، وأما مروان وسعيد فأنطقتهما جباية الحجاز، وأما ابن اختك فقد وهبته لك، فقال معاوية: يا أبا الطفيل ما أبقى الدهر لك من حب علي ؟ قال: والله حب ام موسى لموسى، وأشكو إلى الله التقصير.

 قال: فما أبقى لك الدهر من وجدك عليه ؟ قال: وجد العجوز المقلاة والشيخ الرؤوف.

 قال: فما ابقي من بغضك لنا ؟ قال: بغض آدم لأبليس لعنه الله.

 فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عني وأدخل علي هانئ بن عروة المرادي، فلما دخل قال له معاوية: يا هانئ أنت المائل مع على بن أبي طالب، والمحارب للمسلمين مع علي يوم صفين ؟ فقال له هانئ: أني لك يا معاوية بالشرف الشامخ،


[762]

والمجد الباذخ ؟ وما كنتم إلا شظية كذا يخطفها العرب حتى بعث محمد صلى الله عليه واله وسلم فلان له العباد في جميع البلاد، وأما خروجي عليك يا ابن هند فغير متعذر إليك منه، ولو كنت رأيتك ذلك اليوم لنفذت رمحي بين حضنيك، والله ما أحببناك مذ أبغضناك، ولا بعنا السيوف التي بها ضربناك.

 فقال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عني وأدخل علي صعصعة بن صوحان، فلما دخل عليه نظر فإذا الرجال عليهم السلاح وقوف، ومعاوية جالس على سريره، فقال صعصعة: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر يرفع بها صوته -، فالتفت معاوية يمنة ويسرة فلم ير شيئا يفزعه، فقال: يا صعصعة أظنك تدري ما الله ؟ فقال: بلى والله يا معاوية ربنا ورب آبائنا الأولين، وإنه لبالمرصاد من وراء العباد، فقال معاوية: يا صعصعة ! ما كنت أحب أن تقوم هذا المقام حتى يصيبك ظفر من أظفاري، قال: وأنا يا معاوية لقد أحببت أن لااحييك بتحية الخلافة حتى تجري مقادير الله فيك.

 فالتفت معاوية إلى عمرو بن العاص وقال: أوسع لصعصعة ليجلس إلى جانبك، فقال عمرو: لا، والله، لا أوسعت له على ترابيته، فقال صعصعة: نعم، والله، يا عمرو ! إني لترابي ومن عبيد أبي تراب، ولكنك مارج من نار، منها خلقت، وإليها تعود، ومنها تبعث إن شاء الله، فقال معاوية: يا صعصعة والله إني هممت أن أحبس عطايا أهل العراق في هذه السنة، فقال صعصعة: والله، يا معاوية ! لو رمت ذلك منهم لدهمك مائة ألف أمرد على مائة ألف أجرد، وصيروا بطنك ميادين لخيولهم، وقطعوك بسيوفهم ورماحهم، قال: فامتلا معاوية غيظا، وأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال: لقد أكرمنا الله حيث يقول لنبيه (وإنه لذكرى لك ولقومك (1) ونحن قومه، و


(1) - الزخرف، 43: 44، وفي المصحف: (لذكر لك).

 


[763]

قال تعالى: (لأيلاف قريش - إلى قوله - وآمنهم من خوف (1) ونحن قريش، وقال تعالى لنببيه: (وأنذر عشيرتك الأقربين (2) ونحن عشيرته الأقربون، فقال صعصعة: على رسلك يا معاوية فإن الله تعالى يقول: (فكذب به قومك وهو الحق (3)، وأنتم قومه، وقال تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (4) ولو زدت زدناك يا معاوية، فأفحمه.

 قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عني وأدخل علي خالد بن معمر السدوسي.

 فلما دخل قال له معاوية: يا خالد ! لقد رأيتك تضرب أهل الشام بسيفك على فرسك الملهوب.

 فقال خالد: يا معاوية والله، ماندمت على ما كان مني، ولازلت على عزيمتي اثني، ومع ذلك إني عند نفسي مقصر، والله المستعان والمدبر.

 فقال له معاوية: ما علمت يا خالد، ما نذرت عند قدومك في قومك ؟ قال: لا، فقال: نذرت أن انذر مقاتلهم، وأسبي نساءهم، ثم أفرق بين الامهات والأولاد فيبايعون.

 فقال خالد: وما تدري ما قلت في ذلك ؟ قال: لا، قال: فاسمعه مني، فأنشأ يقول:

يروم ابن هند نذره من نسائنا * ودون الذي يبغي سيوف قواضب

قال معاوية لصاحب إذنه: أخرجه عني وأدخل علي جارية بن قدامة السعدي - وكان قصيرا -.

 فلما دخل قال له معاوية: أركضت علينا الخيل يوم صفين في بني سعد تمنيهم الفتن، وتحملهم على قديمات الأحن مع قتلة أمير المؤمنين عثمان، وقاتلت ام المؤمنين عائشة، وما أنت إلا جارية ! فقال جارية: إن الله فضل على اسمك اسمي، قال: وكيف ذلك ؟ قال: لأن الجارية لا تكون إلا من أحياء العرب،


(1) - قريش، 106: 1 - 4.

 (2) - الشعراء، 26: 214.

 (3) - الانعام، 6: 66.

 وفي المصحف: (وكذب).

 (4) - الفرقان، 254: 30.

 


[764]

والمعاوية لا تكون إلا من إناث الكلاب.

 وأما ما ذكرت من أمير المؤمنين عثمان فأنتم خذلتموه وقتلتموه، والدار عند نازحة.

 وأما ام المؤمنين عائشة فلما نظرنا في كتاب الله عز وجل ولم نجد لها علينا حقا يلزمنا إلا أن تطيع ربها وتقر بيتها، فلما ألقت الجلابيب عن وجهها بطل ما كان لها علينا من حق.

 وأما ركضي الخيل عليك يوم صفين فإنما ذلك حيث أردت أن تقطع أعناقنا عطشا فلم ننظر في عاقبة، ولم نخف جائحة فثنينا الخيل مع أقدم الناس اسلاما، وأحسنهم كلاما، وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه، حين أراد جهادك على بصيرة، وأنت على الحمية الجاهلية، فإن أردت نريك مثل ذلك اليوم، فخيلنا معدة، ورماحنا محدة.

 قال معاوية لصاحب إذنه، أخرجه وأدخل علي شريكا الحارثي، فلما دخل - وكان دميم المنظر - فقال له معاوية: إنك شريك وما لله شريك، وإنك الأعور، والصحيح خير من الأعور، وإنك لابن الأصفر، والأبيض خير من الأصفر، وإنك مخالف، والمستقيم خير من المخالف، وإنك لدميم، والجميل خير من الدميم، فكيف سدت قومك ؟ فقال شريك: إنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت، فاستنبحتها الكلاب فسميت معاوية، وانك لابن صخر، والسهل خير من الصخر، وابن حرب، والسلم خير من الحرب، وابن امية، وما امية إلا أمة صغرتها العرب، فكيف صرت أمير المؤمنين علينا ؟ فأمر معاوية بإخراجه، فخرج وهو يقول:

أيشتمني معاوية بن حرب * وسيفي صارم ومعي لساني

وحولي من بني عمي رجال * ضراغمة نهش إلى الطعان

يعير بالدمامة من سفاه * وربات الجمال من الغواني

قال: ثم نهض معاوية من مجلسه ودخل داره، وفي اليوم الثاني دعي بهم


[765]

فاحضروا، وأكرمهم وردهم إلى أهليهم مكرمين (1).

 

ضرارة بن ضمرة :

2 - إن معاوية وفد عليه ضرارة بن ضمرة - وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ومن خواصه - وأراد أن يفتك به، فلما رأى زهده وتقوا واشتغاله بالاخرة عن دنيا، عدل عن ذلك وأراد امتحانه، فقال: صف لي عليا، فقال: اعفني، فقال: أقسمت عليك بحقه إلا ما وصفته، قال: أما إذا كان ولابد فإنه - والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ينفجر العلم من جوانبه، وتنفلق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، كان - صلوات الله عليه - غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن - والله - مع تقربه لنا وقربه منا لانكاد نكلمه هيبة له، كان - صلوات الله عليه - يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وإنى أشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه - وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه - قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت ؟ أم إلى تشوقت ؟ هيهات ! قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.

 فبكى معاوية وقال: رحم الله، أبا الحسن ! قد كان - والله - كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها، فهي لا يرقأ دمعتها، ولا تخفى فجعتها.

 فأمر له بمال جزيل، فلم يقبل منه شيئا وانصرف، وهو يندب


(1) - أشعة الأنوار في فضل الحيدر الكرار، ص 314، ط نجف.

 


[766]

أمير المؤمنين عليه السلام (1).

 بكارة الهلالية 3 - قال عمر رضا كحالة: (كانت من نساء العرب الموصوفات بالشجاعة، والأقدام، والفصاحة، والشعر، والنثر، والخطابة، وكانت من أنصار علي بن أبي طاب في حرب صفين، فخطبت بها خطبا حماسية حضت بها القوم أن يخوضوا غمارات الحرب بدون خوف ولاوجل، وقد وفدت على معاوية بن ابي سفيان بعد أن كبرت سنها ودق عظمها ومعها خادمان لها وهي متكئة عليهما وبيدها عكاز، فسلمت على معاوية بالخلافة فأحسن عليها الرد وأذن لها في الجلوس، وكان عنده مروان بن الحكم وعمرو بن العاص، فابتدأ مروان فقال: أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين ؟ قال: ومن هي ؟ قال: هي التي كانت تعين علينا يوم صفين، وهي القائلة:

يا زيد دونك فاستشر من دارنا * سيفا حساما في التراب دفينا

كان مذخورا لكل عظيمة * فاليوم أبرزه الزمان مصونا

فقال عمرو بن العاص: وهى القائلة يا أمير المؤمنين:

أترى ابن هند للخلافة مالكا * هيهات ذاك وما أراد بعيد

منتك نفسك في الخلاء ضلالة * أغراك عمرو للشقا وسعيد

فارجع بأنكد طائر بنحوسها * لاقت عليا أسعد وسعود

فقال سعيد: يا أمير المؤمنين وهي القائلة:

لقد كنت آمل أن أموت ولا أرى * فوق المنابر من امية خاطبا

والله، أخر مدتي فتطاولت * حتى رأيت من الزمان عجائبا


(1) - أشعة الانوار في فضل الحيدر الكرار، ص 326، القمي: سفينة البحار، ج 2: ص 657، مادة (وصف).

 


[767]

في كل يوم لا يزال خطيبهم * وسط الجموع لآلى أحمد عاتبا

ثم سكت القوم، فقالت بكارة: نبحتني كلابك يا أمير المؤمنين ! واعتورتني، فقصر محجني، وكسر عجي، وغشي بصري، وأنا - والله - قائلة ما قالوا، لا أدفع بتكذيب، فامض شأنك، فلا خير في العيش بعد أمير المؤمنين.

 قال معاوية: إنه لا يضعك شيء فاذكري حاجتك تقضى، فقضى حوائجها وردها إلى بلدها (1).

 

 دارمية الحجونية

4 - قال ابن عبد البر: (سهل بن ابى سهل التميمي، عن أبيه قال: حج معاوية فسأل عن امرأة يقال لها: دارمية الحجونية - وكانت سوداء كثيرة اللحم - فاخبر بسلامتها، فبعث إليها فجئ بها، فقال: ما حالك يا بنت حام ؟ فقالت.

 لست لحام إن عبتني، أنا امرأة من بني كنانة، قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك ؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: قال: بعثت إليك لاسألك علام أحببت عليا وأبغضتني، وواليته وعاديتني ؟ قالت: أو تعفيني ؟ قال: لا أعفيك، قالت: أما إن أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق، وواليت عليا على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من الولاء، وحبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى.

 قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك.

 قالت: يا هذا، بهند - والله - كان يضرب المثل في ذلك لابي.

 قال معاوية: يا هذه اربعي فإنا لم نقل إلا خيرا، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها.

 فرجعت وسكنت.

 


(1) - الكحالة: أعلام النساء، ج 1: ص 137، ابن عبد ربه العقد الفريد، ج 1: ص 346.

 والمحجن: العصا: المعوجة.

 والعج: رفع الصوت.

 


[768]

قال لها: يا هذه هل رأيت عليا ؟ قالت: إى والله، قال: فكيف رأيته ؟ قالت: رأيته - والله - لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.

 قال: فهل سمعت كلامه ؟ قالت: نعم - والله - يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدا الطست.

 قال: نعم، قال: صدقت، فهل لك من حاجة ؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك ؟ قال: نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.

 قال: تصنعين بها ماذا ؟ قالت: أغدو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر، قال: أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب ؟ قالت: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك، يا سبحان الله ! أو دونه.

 فأنشأ معاوية يقول:

إذا لم أعد بالحلم مني عليكم * فمن الذي بعدي يؤمل للحلم

خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد * جزاك على حرب العداوة بالسلم

ثم قال: أما والله، لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا، قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين (1).

 

سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية

5 - قال عمر رضا كحالة: (شاعرة من شواعر العرب، ذات فصاحة وبيان، وفدت على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها، فلما دخلت عليه سلمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر: قالت: بخير، يا أمير المؤمنين ! قال لها: أنت القائلة لأخيك:

شهر لفعل أبيك يا ابن عمارة * يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر عليا والحسين ورهطه * واقصد لهند وابنها بهوان


(1) - ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 1: ص 352.

 والصداء: عين لم يكن عندهم أعذب منها.

 والسعدان: نبت ذو شوك، وهو أفضل مراعى الابل.

 واربعى: انتظري.

 


[769]

إن الأمام أخا النبي محمد * علم الهدى ومنارة الأيمان

فقد الجيوش وسر أمام لوائه * قدما بأبيض صارم وسنان

قالت: إي والله، ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب، قال لها: فما حملك على ذلك ؟ قالت: حب علي واتباع الحق.

 قال: فوالله ما أرى عليك من أثر علي شيئا.

 قالت: يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي، وإعادة ما مضى، قال: هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى وما لقيت من قومك وأخيك.

 قالت: صدقت - والله - يا أمير المؤمنين ! ما كان أخي خفى المقام ذليل المكان ولكن كما قالت الخنساء:

وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار

وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه، قال: قد فعلت، فقولي ما حاجتك ؟ قالت: يا أمير المؤمنين ! إنك أصحبت للناس سيدا، ولأمرهم متقلدا، والله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقوم علينا من ينوء بعزك، ويبطش بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة، هذا بسربن أرطاة قدم علينا من قبلك.

 فقتل رجالى، وأخذ مالى، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فاما عزلته عنا فشكرناك، لا فعرفناك.

 فقال معاوية: أتهددني بقومك ؟ لقد هممت أن أحملك من قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه، فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول:

صلى الأله على جسم تضمنه قبر * فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا * فصار بالحق والأيمان مقرونا

قال معاوية: ومن ذلك ؟ فقالت: علي بن أبي طالب، قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك ؟ قالت: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا، فكان بيني وبينه ما


[770]

بين الغث والسمين، فأتيت عليا عليه السلام لأشكوا إليه، فوجدته قائما يصلي، فلما نظر إلى انفتل من صلاته ثم قال لي برأفة وتعطف: ألك حاجة ؟ فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: اللهم إنك أنت الشاهد علي وعليهم أني لم امرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك.

 ثم أخرج من جيبه قطعة كهيئة طرف الجراب فكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ (1) إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام). فعزله يا أمير المؤمنين، ما خزمه بخزام، ولاختمه بختام.

 فقال معاوية: اكتبوا لها بالانصاف لها والعدل عليها، فقالت: ألي خاصة أم قومي عامة ؟ قال: وما أنت وغيرك ؟ قالت: هي - والله - إذن الفحشاء واللوم إن لم يكن عدلا شاملا، وإلا أنا كسائر قوي، قال: هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة، وغركم قوله:

فلو كنت بوابا على باب جنة * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

ثم قال: اكتبوا لها ولقومها بحاجتها (2).

 

ام الخير بنت الحريش الباقية

6 - قال عمر رضا كحالة: (من ربات الفصاحة والبلاغة، قدمت على معاوية بن أبي سفيان بعد أن كتب إلى واليه بالكوفة أن أوفد علي ام الخير بنت الحريش... فقال (معاوية لأصحابه): أيكم حفظ كلام ام الخير ؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه


(1) - اقتباس من الأعراف (7:) 85 وهود والشعراء: (26:) 183.

 (2) - الكحالة: أعلام النساء، ج 2: ص 270، ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 1: ص 344.

 والغث: الردى الفاسد.

 ولمظكم: أي علمكم وعودكم.

 


[771]

يا أمير المؤمنين، وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد احيط حولها، وبيدها سوط منتشر الضفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقة تقول: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم (1)، إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله ؟ أفرارا من الزحف ؟ أم رغبة عن الأسلام ؟ أم ارتدادا عن الحق ؟ أما سمعتم الله عز وجل يقول: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (2).

 ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهم قدعيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، ورد الحق إلى أهله، هلموا - رحمكم الله - إلى الأمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر، إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن احدية، وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارت بني عبد شمس... فإلى أن تريدون - رحمكم الله - عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خلق من طينته، وتضرع من نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزل يؤيده الله بمعونته، ويمضي على سنن استقامته، لا يعرج لراحة اللذات، وهو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، إذ صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل احد، وفرق جمع هوازن، فيالها وقايع زرعت في قلوب قوم نفاقا وردة وشقاقا ؟ وقد اجتهدت في القول وبالغت في النصحية، وبالله التوفيق، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته (3).

 


(1) - الحج، 22: 1.

 (2) - محمد (ص)، 47: 31.

 (3) - الكحالة: أعلام النساء، ج 1: ص 389.

 


[772]

أروى بنت عبد المطلب 7 - قال ابن عبد البر: (إن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب دخلت على معاوية وهي عجوز كبيرة، فلما راها معاوية قال: مرحبا بك وأهلا يا عمة ! فكيف كنت بعدنا ؟ فقالت: يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك فكيف كنت بعدنا ؟ فقالت: يا ابن أخي لقد كفرت يد النعمة، وأسأ ت لابن عمك الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك من غير دين كان منك ولا من ابائك، ولا سابقة في الأسلام بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأتعس الله منكم الجدود، وأضرع الله منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي العليا، ونبينا صلى الله عليه واله وسلم هو المنصور، فوليتم علينا بعده، تحتجون بقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في ال فرعون، وكان علي بن أبي طالب -، بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة، وغايتكم النار.

 فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوزة الضالة واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك.

 فقال لها عمرو بن العاص: كفي أيتها العجوزة الضالة واقصري عن قولك مع ذهاب عقلك إذ لا تجوز شهادتك وحدك.

 فقالت له: وأنت يا ابن النباغة ! تتكلم وامك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لاجرة، اربع على ظلعك، واعن بشأن نفسك، فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها، ولا كريم منصبها، ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك، فسئلت امك عنهم فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به.

 فقال مروان: كفي أيتها العجوز، واقصدي لما جئت له، فقالت: وأنت - أيضا -


[773]

يا ابن الزرقاء ! تتكلم ؟ ثم التفتت إلى معاوية فقالت: والله، ما جرأ علي هؤلاء غيرك، وإن امك القائلة في قتل حمزة:

نحن جزينا كم بيوم بدر * والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان لي عن عتبة من صبر * فشكر وحشي علي دهري

حتى ترم أعظمي في قبري (1)

وقال عمر رضا كحالة: (فقال معاوية لمروان وعمرو: ويلكما، أنتما عرضتماني لها، وأسمعتماني ما أكره، ثم قال لها: يا عمة ! اقصدي قصد حاجتك، ودعي عنك أساطير النساء.

 قالت: تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار وألفى دينار، قال: ما تصنعين يا عمة ! بألفي دينار ؟ قالت: أشتري بها عينا خر خارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن عبد المطلب، قال: نعم، الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار ؟ قالت: ازوج بهار فتيان عبد المطلب من أكفائهم، قال: نعم، الموضع وضعتها، فما تصنعين بألفي دينار ؟ قالت: أستعين بها عسر المدينة، وزيارة بيت الله الحرام.

 قال: نعم، الموضع وضعتها، هي لك نعم وكرامة.

 ثم قال: أما والله، لو كان علي ما أمر لك بها، قالت: صدقت، إن عليا أدى الأمانة، وعمل بأمر الله، وأخذ به، وأنت ضيعت أمانتك، وخنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبينها فلم تأخذ بها، ودعانا علي إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا، فشغل بحربك عن وضع الامور مواضعها، وما سألتك مالك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا، ولا نرى اخذ شيء غير حقنا، أتذكر عليا فض الله فاك وأجهد بلاغك ؟ ثم علا بكاؤها وقالت:


(1) - ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج 1: ص 457.

 والتعس: الأنحطاط.

 والجدود: الحظوظ.

 وأضرع: أذل.

 وترم: تبلى.

 


[774]

ألا يا عين ويحك أسعدينا * ألا وابكي أمير المؤمنين رزينا

خير من ركب المطايا * وفارسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال أو احتذاها * ومن قرأ المثاني والمئينا

إذ استقبلت وجه أبي حسين * رأيت البدر راع الناظرينا

ولا والله لا أنسى عليا * وحسن صلاته في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فجعتمونا * بخير الناس طرا أجمعينا

فأمر معاوية لها بستة الاف دينار، وقال لها: يا عمة أنفقي هذه فيما تحبين... وفي رواية قال لها: يا عمة ! عفا الله عما سلف، يا خاله هات حاجتك، قالت: ما لي إليك حاجة، وخرجت عنه، فقال معاوية لأصحابه: والله لو كلمها من في مجلسي جميعا لأجابت كل واحد بغير ما تجيب به الاخر، وإن نساء بني هاشم لأفصح من رجال غيرهم (1).

 


(1) - الكحالة: أعلام النساء، ج 1: ص 30.